الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهو يرى أن السّتر واحد من أسباب هذه الكنايات، ويبدو في كلامه أثر العصر جليا، لكنه يقدم تعريفا وافيا هو بمنزلة تنظير فني، ويتجلى هذا الأثر في ذكر مصطلحات مثل الإلغاز والتعمية التي طالما أولع بها علماء عصره، لذلك نجده يفسّر هذه الجمالية من خلال صيغة التبويب والاقتضاب ونقرأ شواهد متوالية من غير تعليق أحيانا، وكأن الهدف تعليمي محض.
ومن المواضع التي أحسن فيها ودقّق النظر ما جاء حول الآية:
وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ «1» ، إذ يقول:«الرّكون إلى الظلم دون فعل الظّالم نفسه، ومسّ النار دون إحراقها والدخول فيها، والعدل يقتضي أن يكون العقاب على قدر الذنب» «2» .
وهو ينطلق من خلال الحسّ اللغوي بالفروق، فمقتضى الحال يتطلّب المسّ، لأن المخاطبين مؤمنون، وقرين هذا قوله عز وجل في سورة الأنفال:
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «3» ، وذلك لقبول الصّحابة بفداء الأسرى، وتخصّص مفردات الإحراق التام والصديد، والنار في البطون، والمقامع، والملائكة الغلاظ للكافرين والمجرمين، فالمسّ يدلّ على الملاطفة في التنبيه، ويعدّ ما ذكره ابن أبي الإصبع بادرة فنية تستند إلى مقياس العدل في العقاب.
-
مع المحدثين:
لقد دعا القرآن إلى تطهير الجسد، كما دعا إلى تطهير الروح من درن الدنيا وخبائثها، يقول تعالى: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ «4» ، فكلمة «رجس» تنم على إبعاد المؤمن عن أخلاقية دنيئة منشؤها معاقرة الخمر، واتباع الأصنام، ولعب القمار، وهذه الكلمة من المفردات التي لم يذكرها القدامى.
(1) سورة هود، الآية:113.
(2)
ابن أبي الإصبع، تحرير التحبير، ص/ 418.
(3)
سورة الأنفال، الآية:68.
(4)
سورة المائدة، الآية:90.
وعلى سبيل المثال لا الحصر كان التعبير عن فظائع الكافرين بكلمة «آسفونا» في قوله عز وجل: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ «1» وهي لا تتصل بالكناية أو التّعريض أو الإلغاز مما ذكر البلاغيون، وإنما هي كلمة تردّ على كلّ شنائع الكفار من استكبار واستهزاء وعبادة أصنام وقتل وشذوذ، وهي كلمة أليق بالذات الإلهية التي تقدم الرحمة على الغضب.
ومن هذا قوله تعالى في تعليم المؤمنين آداب الزيارة: وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ، ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ «2» ، لقد اختصر البيان القرآني كلّ ما يمكن أن يحدث في عدم الاستئذان من قبائح ومنكرات بكلمة «أزكى» ، ومن اشتقاقات المادة «الزكاة» التي تطهّر النفوس، وتحدّ من جبروتها.
إن ما نقع عليه في كتب المحدثين يختلف عن منهج القدامى، لأن المحدثين لا يعنون بجلاء المصطلح البلاغي في سياق تأملهم الفني، بل يعمّقون الإحساس في تملّي الجمال القرآني، ولا بأس أن نورد نبذة مما لدى المحدثين، ومن هؤلاء محمد عبد الله درّاز الذي تأمل بعض آيات سورة البقرة، وراح يفسّرها تفسيرا أدبيا، وكانت الآيات تتحدث عن بني إسرائيل، فتذكر النّعمة، ثم تذكر سفاهتهم مع موسى عليه السلام، وعبادتهم العجل يقول دراز: انظر إليه بعد أن سجّل على بني إسرائيل أفحش الفحش، وهو وضعهم البقر الذي هو مثل في البلادة موضع المعبود الأقدس، وبعد أن وصف قسوة قلوبهم في تأبّيهم على أوامر الله، فتراه لا يزيد على أن يقول في الأولى إن هذا ظلم، وفي الثانية بِئْسَمَا «3» ، أذلك كلّ ما قابل به هذه الشّناعات، نعم إنهما كلمتان وافيتان بمقدار الجريمة لو فهمتا» «4» .
ولا يصل بنا إجلالنا لمثل هذا التحليل إلى الإجحاف بالقدامى، فإننا على الأقل نحسّ نفس الزمخشري في نظرة درّاز.
(1) سورة الزّخرف، الآية:55.
(2)
سورة النور، الآية:28.
(3)
سورة البقرة، الآية:90.
(4)
دراز، د. محمد عبد الله، النبأ العظيم، ص/ 121.
ويمكن أن نضيف من هذه الكلمات على شاهده في الآيات نفسها أَفَلا تَعْقِلُونَ «1» وعَفَوْنا عَنْكُمْ «2» مما يدل على لطف الخطاب ورفعة مستواه، وعلى رحمة الربوبية.
وقد حاولت الباحثة عائشة عبد الرحمن في كتابيها «التفسير البياني» و «الإعجاز البياني للقرآن» أن تثبت أن حصول الفواصل على الشكل الموجود ليس مراعاة موسيقية فحسب، بل موافقة للمعنى المطلوب قبل حلاوة النّغمة، وتقف عند الآية الكريمة: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى «3» فتقول: «ويبقى القول بأن الحذف- في فعل قلى- لدلالة ما قبله من المحذوف، وتقتضيه حساسية معنوية بالغة الدقة في اللّطف والإيناس، هي تحاشي خطابه تعالى لحبيبه المصطفى في مقام الإيناس: ما قلاك، لما في القلى من الطرد والإبعاد، وشدّة البغض، أما التّوديع فلا شيء فيه من ذلك، ولعلّ الحسّ اللغوي فيه يؤذن بالفراق على كره مع رجاء العودة» «4» .
فهي ترى أن «قلى» لم تنزل هكذا مراعاة للفواصل الأخرى: «ضحى، سجى، الأولى» ، فتحذف كاف الخطاب، والحق أنها توصلت إلى كشف ميزات فنية متنوعة نتيجة محاولتها الأدبية في مسألة تمكن الفاصلة من المعنى، بيد أنها لم تتحدث إلا عن بعض السور القصار، وهي تنطلق من المعين العربي، أي إن معيارها لغوي بشكل أكبر، ولولا جزئية فكرتنا لوجدنا عندها مادة وفيرة.
وقد قدم أحمد موسى سالم كما أسلفنا دراسة فريدة لشخصيات القصة القرآنية، فحلّل الشخصيات، وقسّمها إلى خيّرة وشرّيرة، ورجال ونساء، وأصيلة وثانوية، ورأى أن من دواعي الأدب أن يسكت القرآن عن ذكر أسماء الطّغاة، ويقول: «كيف يكون لهؤلاء الأشرار الذين ليسوا في هذه الحياة إلا الظّلّ المنحسر، والوهم الزائل، خلود بأسمائهم في كتاب الله، لم نعرف اسم
(1) سورة البقرة، الآية:44.
(2)
سورة البقرة، الآية:52.
(3)
سورة الضحى، الآية:3.
(4)
عبد الرحمن د. عائشة، التفسير البياني: 1/ 35 - 36.
فرعون موسى الذي لم يحمل أكثر من لقب طغيانه، وهكذا لم نعرف اسم ذلك الملك الذي رأى في مصر سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ «1» ، في قصة يوسف، كما لم نعرف اسم ذلك الملك الذي كان يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً «2» في قصة موسى وصاحبه «3» .
ولم يقتصر هذا على القصة، فقد ذكر أبو لهب بلقبه، واسمه عبد العزّى وهو طاغية، وكانت سورة المسد إثباتا لاستمراره في الكفر، واللّقب يذكّر بالنار التي تنتظره يوم القيامة.
والقرآن يتجاوز أشياء لا فائدة من سردها في القصة التي كان منهجها تربويا في كتابنا العظيم، فقد كفّ عن ذكر أسماء الصالحين، فلا نعرف اسم صاحب موسى عليه الصلاة والسلام، ولا اسم من دافع عنه كما جاء في الآية: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى «4» .
فيبدو أنّ الأمر أعلق بالجانب الفني منه بالسمة الخلقية، فالقصد من القصة القرآنية الموعظة، وعلى المؤمن أن يتّخذ نماذج منها تكون بمنزلة مرشد له في الحياة، ففرعون نموذج الشّر والطغيان، وكلّ شرّير فرعون زمانه، وكلّ مؤمن هو يوسف في عفّته، وأيوب في صبره، وسليمان في حكمته.
ويمكن أن نقع على سلبية ذكر الأسماء في الأساطير اليونانية الواردة في الإلياذة مثلا، فهناك حشد من الأسماء، إضافة إلى حشد من الحوادث تمثّل حشوا فارغا.
وأخيرا على الرغم من جهود القدامى التي كانت مفاتيح لنظرات المحدثين رغم ثقافتهم المتقدمة في الأدب والفنّ يظلّ القرآن معينا لا ينضب لمن يرهف الحسّ، ويتسلّح بالذوق الرفيع والتدبر العميق.
وقد نزل القرآن لينهض بالإنسان إلى أسمى المراتب، فليس من الغريب أن
(1) سورة يوسف، الآية:43.
(2)
سورة الكهف، الآية:79.
(3)
سالم، أحمد موسى، قصص القرآن، ص/ 218 - 219.
(4)
سورة القصص، الآية:20.
يشارك الأسلوب في إبراز هذه الفكرة، فجاء الخطاب الإلهي ساميا يدعو إلى التهذيب، ويتّسم بالاحتشام والرّفعة، وقد تبين لنا في المفردات التي مررنا بها، أنّ البيان الإلهي يدلّ على خبرة الصانع بما صنع، أي اطلاع الخالق على طبيعة النفس البشرية ومواءمتها في الخطاب.