الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَصْلٌ: فِي الْهِبَةِ
تُقَالُ لِمَا يَعُمُّ الصَّدَقَةَ وَالْهَدِيَّةَ وَلِمَا يُقَابِلُهُمَا وَاسْتُعْمِلَ الْأَوَّلُ فِي تَعْرِيفِهَا وَالثَّانِي فِي أَرْكَانِهَا وَسَيَأْتِي ذَلِكَ وَالْأَصْلُ فِيهَا عَلَى الْأَوَّلِ قَبْلَ الْإِجْمَاعِ آيَاتٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وَالْهِبَةُ بِرٌّ وقَوْله تَعَالَى {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] الْآيَةَ وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ «لَا تُحَقِّرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ» أَيْ ظِلْفَهَا وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْهِبَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا أَسْبَابٌ تُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ مِنْهَا الْهِبَةُ لِأَرْبَابِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
خَاتِمَةٌ: فِي الدَّمِيرِيِّ فِي آخِرِ كِتَابِ الْوَقْفِ: قَالَ الشَّيْخُ السُّبْكِيُّ: قَالَ: لِي ابْنُ الرِّفْعَةِ: أَفْتَيْت بِبُطْلَانِ وَقْفِ خِزَانَةِ كُتُبٍ وَقَفَهَا وَاقِفُهَا لِتَكُونَ فِي مَكَان مُعَيَّنٍ فِي مَدْرَسَةِ الصَّلَاحِيَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَكَانَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ، قَالَ الشَّيْخُ: وَنَظِيرُهُ إحْدَاثُ مِنْبَرٍ فِي مَسْجِدٍ لَمْ يَكُنْ فِيهِ جُمُعَةٌ فَلَا يَجُوزُ، وَكَذَا إحْدَاثُ كُرْسِيِّ مُصْحَفٍ مُؤَبَّدٍ يُقْرَأُ فِيهِ كَمَا يُفْعَلُ بِالْجَامِعِ الْأَزْهَرِ فَلَا يَصِحُّ وَقْفُهُ وَيَجِبُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْمَسْجِدِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ لِغَيْرِ هَذِهِ الْجِهَةِ؛ وَالْعَجَبُ مِنْ قُضَاةٍ يُثْبِتُونَ وَقْفَ ذَلِكَ شَرْعًا (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)
[فَصْلٌ فِي الْهِبَةِ]
ِ ذَكَرَهَا عَقِبَ الْوَقْفِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا تَبَرُّعٌ وَتَمْلِيكٌ كَمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ يَمْلِكُ الْمَنَافِعَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَكَرَهَا عَقِبَ الْوَقْفِ لِأَنَّ فِيهَا تَمْلِيكَ الْمَنَافِعِ مَعَ الْعَيْنِ كَمَا أَنَّ الْوَقْفَ كَذَلِكَ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ هَبَّ إذَا مَرَّ لِمُرُورِهَا مِنْ يَدٍ إلَى أُخْرَى أَوْ اسْتَيْقَظَ لِتَيَقُّظِ فَاعِلِهَا لِلْإِحْسَانِ.
قَوْلُهُ: (لِمَا يَعُمُّ إلَخْ) . فَتَجْتَمِعُ الثَّلَاثَةُ فِيمَا إذَا نَقَلَ إلَيْهِ شَيْئًا إكْرَامًا وَقَصَدَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ اهـ خ ض.
قَوْلُهُ: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] أَيْ حُبِّ اللَّهِ. " وَعَلَى " لِلتَّعْلِيلِ أَيْ لِأَجْلِ حُبِّ اللَّهِ، أَوْ الضَّمِيرُ يَعُودُ لِلْمَالِ وَتَكُونُ " عَلَى " بِمَعْنَى " مَعَ ".
قَوْلُهُ: (لَا تُحَقِّرَن) قَالَ الْكَرْمَانِيُّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ لِلْمُعْطِيَةِ وَأَنْ يَكُونَ لِلْمَهْدِيِّ إلَيْهَا. قُلْت: وَلَا يَتِمُّ حَمْلُهُ إلَيْهَا إلَّا بِجَعْلِ اللَّامِ فِي قَوْلِهِ لِجَارَتِهَا بِمَعْنَى مِنْ وَلَا يَمْتَنِعُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ اهـ فَتْحُ الْبَارِي شَوْبَرِيٌّ. وَعِبَارَةُ الْمَرْحُومِيِّ: وَالنَّهْيُ لِلْمُهْدِيَةِ وَالْمُهْدَى إلَيْهَا؛ وَالْمَعْنَى لَا تَمْتَنِعُ جَارَةٌ مِنْ إهْدَاءِ شَيْءٍ قَلِيلٍ بَلْ تَجُودُ بِمَا تَيَسَّرَ لَهَا وَلَا تَمْتَنِعُ جَارَةٌ مِنْ قَبُولِهَا مَا أُهْدِيَ لَهَا وَإِنْ قَلَّ، وَأُشِيرُ بِذَلِكَ إلَى الْمُبَالَغَةِ فِي إهْدَاءِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ وَقَبُولِهِ لَا إلَى حَقِيقَةِ الْفِرْسِنِ إذْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِإِهْدَائِهِ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْطَتْ سَائِلًا حَبَّةَ عِنَبٍ فَأَخَذَ يُقَلِّبُهَا بِيَدِهِ اسْتِحْقَارًا لَهَا فَقَالَتْ لَهُ زَجْرًا: كَمْ فِي هَذِهِ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ وَاَللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] . اهـ. قِ ل.
قَوْلُهُ: (فِرْسِن) بِكَسْرِ الْفَاءِ وَالسِّينِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَقِيلَ بِفَتْحِ السِّينِ قَوْلُهُ (أَيْ ظِلْفَهَا) فَسَّرَ الْفِرْسِنَ بِهِ لِإِضَافَتِهِ فِي الْحَدِيثِ لِلشَّاةِ فَإِنَّ الَّذِي لِلشَّاةِ هُوَ الظِّلْفُ لَا الْفِرْسِنُ لِأَنَّهُ لِلْإِبِلِ خَاصَّةً فَإِطْلَاقُهُ عَلَى الظِّلْفِ فِي الْحَدِيثِ مَجَازٌ قَالَ فِي النِّهَايَةِ الْفِرْسِنُ عَظْمٌ قَلِيلُ اللَّحْمِ وَهُوَ مِنْ الْبَعِيرِ كَالْحَافِرِ لِلدَّابَّةِ وَقَدْ يُسْتَعَارُ لِلشَّاةِ فَيُقَالُ فِرْسِنُ شَاةٍ وَاَلَّذِي لِلشَّاةِ هُوَ الظِّلْفُ وَالنُّونُ زَائِدَةٌ وَقِيلَ أَصْلِيَّةٌ وَالْمُرَادُ الظِّلْفُ الْمَشْوِيُّ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِالْمُحْرِقِ إذْ لَوْ حُمِلَ الْمُحْرِقُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَمْ يَصِحَّ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الظِّلْفَ يَكُونُ لِلْبَقَرِ أَيْضًا وَاَلَّذِي لِنَحْوِ الْحِمَارِ فِي مَحَلِّهِ حَافِرٌ وَلِلطَّيْرِ ظُفْرٌ.
قَوْلُهُ: (تُخْرِجُهَا عَنْ ذَلِكَ) أَيْ عَنْ الِاسْتِحْبَابِ إمَّا لِلْحُرْمَةِ أَوْ لِلْوُجُوبِ أَوْ الْكَرَاهَةِ، وَلَا تُبَاحُ لِأَنَّ وَضْعَهَا النَّدْبُ
الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالِ وَمِنْهَا مَا لَوْ كَانَ الْمُتَّهَبُ يَسْتَعِينُ بِذَلِكَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَهِيَ بِالْمَعْنَى الْأَوَّلِ تَمْلِيكُ تَطَوُّعٍ فِي حَيَاةٍ فَخَرَجَ بِالتَّمْلِيكِ الْعَارِيَّةُ وَالضِّيَافَةُ وَالْوَقْفُ وَبِالتَّطَوُّعِ غَيْرُهُ كَالْبَيْعِ وَالزَّكَاةِ فَإِنْ مَلَكَ لِاحْتِيَاجٍ أَوْ لِثَوَابِ آخِرَةٍ فَصَدَقَةٌ أَيْضًا أَوْ نَقَلَهُ لِلْمُتَّهَبِ إكْرَامًا لَهُ فَهَدِيَّةٌ
(وَأَرْكَانُهَا) بِالْمَعْنَى الثَّانِي الْمُرَادُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ثَلَاثَةٌ: صِيغَةٌ وَعَاقِدٌ وَمَوْهُوبٌ، وَعَرَّفَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ:(وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ جَازَ هِبَتُهُ) بِالْأَوْلَى لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ حَذَفَ الْمُصَنِّفُ التَّاءَ مِنْ جَازَ هِبَتُهُ؟ أُجِيبُ بِأَنَّ تَأْنِيثَ الْهِبَةِ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ أَوْ لِمُشَاكَلَةٍ جَازَ بَيْعُهُ.
ــ
[حاشية البجيرمي]
ق ل. قَوْلُهُ: (مِنْهَا الْهِبَةُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ وَالْعُمَّالِ) لِأَنَّهَا رِشْوَةٌ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ إذَا كَانَتْ وَسِيلَةً لِمُحَرَّمٍ، كَإِقَامَةِ بَاطِلٍ أَوْ تَرْكِ حَقٍّ، وَإِلَّا فَلَا تَحْرُمُ، وَقَدْ وَرَدَ:«هَدَايَا الْعُمَّالِ سُحْتٌ» لِأَنَّهَا تُذْهِبُ الْبَرَكَةَ، أَوْ لِأَنَّهَا تُسْحِتُ فِي النَّارِ أَيْ تُلْقِيهِ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (عَلَى مَعْصِيَةٍ) أَيْ إنْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ أَوْ ظُنَّ وَإِلَّا فَهِيَ مَكْرُوهَةٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ مِثَالًا لِلْوَاجِبَةِ كَمَا لَوْ نَذَرَهَا.
قَوْلُهُ: (تَمْلِيكُ تَطَوُّعٍ فِي حَيَاةٍ) يُؤْخَذُ مِنْهُ امْتِنَاعُ الْهِبَةِ لِلْحَمْلِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَمْلِيكُهُ وَلَا تَمَلُّكُ الْوَلِيِّ لَهُ لِعَدَمِ تَحَقُّقِهِ ع ش عَلَى م ر.
قَوْلُهُ: (الْعَارِيَّةُ) أَيْ فَإِنَّهُ لَا تَمْلِيكَ فِيهَا وَلَا مِلْكَ أَيْضًا بَلْ إبَاحَةٌ. قَوْلُهُ: (وَالضِّيَافَةُ) فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مِلْكٌ لَكِنْ لَا بِالتَّمْلِيكِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ الْمِلْكَ يَحْصُلُ بِالْوَضْعِ فِي الْفَمِ. وَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَ لِزَيْدٍ طَعَامًا فَأَكَلَ ضَيْفًا فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِمُجَرَّدِ وَضْعِهِ فِي فَمِهِ، فَصَدَقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَأْكُلْ إلَّا طَعَامَ نَفْسِهِ أج. وَقَوْلُهُ " بِالْوَضْعِ فِي الْفَمِ " لَكِنَّهُ يَكُونُ مُرَاعًى وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِازْدِرَادٍ فَلَوْ لَفَظَهُ بَطَلَ مِلْكُهُ لَهُ. قَوْلُهُ:(وَالْوَقْفُ) فَإِنَّ الْأَوْجَهَ أَنَّهُ لَا تَمْلِيكَ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِبَاحَةِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ السُّبْكِيُّ، فَقَالَ: الْأَوْجَهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَقْفِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَمْ يَتَمَلَّكْهَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْوَقْفِ بَلْ مِنْ جِهَةِ اللَّهِ. وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ " فِي حَيَاةٍ " الْوَصِيَّةُ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ فِيهَا إنَّمَا يَتِمُّ بِالْقَبُولِ وَهُوَ بَعْدَ الْمَوْتِ شَرْحِ الْمَنْهَجِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ مَلَكَ لِاحْتِيَاجٍ) أَيْ احْتِيَاجِ الْآخِذِ. قَوْلُهُ: (فَصَدَقَةٌ أَيْضًا) أَيْ كَمَا أَنَّهَا هِبَةٌ فَكُلٌّ مِنْ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ هِبَةٌ وَلَا عَكْسَ، وَكُلُّهَا مَسْنُونَةٌ وَأَفْضَلُهَا الصَّدَقَةُ؛ شَرْحُ الْمَنْهَجِ. وَقَوْلُهُ " وَلَا عَكْسَ " أَيْ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، فَلَيْسَ كُلُّ هِبَةٍ صَدَقَةً وَهَدِيَّةً. وَتَظْهَرُ فَائِدَتُهُ فِي الْحَلِفِ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَصَدَّقُ لَمْ يَحْنَثْ بِهِبَةٍ وَلَا بِهَدِيَّةٍ أَيْضًا أَوْ حَلَفَ لَا يُهْدِي لَمْ يَحْنَثْ بِهِبَةٍ وَلَا بِصَدَقَةٍ أَيْضًا أَوْ لَا يَهَبُ حَنِثَ بِهِمَا وَعَتَقَ عَبْدُهُ وَإِبْرَاءُ مَدِينِهِ مِنْ الصَّدَقَةِ اهـ ق ل. وَتُعْرَفُ بِنَاءً عَلَى إطْلَاقِهَا عَلَى مَا يُقَابِلُ الصَّدَقَةَ وَالْهَدِيَّةَ بِأَنَّهَا تَمْلِيكُ الشَّيْءِ لَا لِطَلَبِ الثَّوَابِ وَلَا لِلنَّقْلِ عَلَى وَجْهِ الْإِكْرَامِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الْأَرْكَانُ لِلْهِبَةِ الْمُقَابِلَةِ لَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِمَا إيجَابٌ وَقَبُولٌ.
قَوْلُهُ: (إكْرَامًا لَهُ) خَرَجَ بِذَلِكَ الْهَدِيَّةُ لِلظُّلْمَةِ وَرِشْوَةُ الْقَاضِي وَمَا يُعْطَى لِلشَّاعِرِ خَوْفًا مِنْ هَجْوِهِ، فَانْدَفَعَ قَوْلُ السُّبْكِيّ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِكْرَامَ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالشَّرْطُ هُوَ النَّقْلُ. اهـ. ز ي.
قَوْلُهُ: (فَهَدِيَّةٌ) أَيْضًا فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَمَا فِي شَرْحِ الْمَنْهَجِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ مَلَكَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ مَعَ صِيغَةٍ كَانَ هِبَةً وَصَدَقَةً، وَإِنْ مَلَكَ بِقَصْدِ الْإِكْرَامِ مَعَ صِيغَةٍ كَانَ هِبَةً وَهَدِيَّةً، وَإِنْ مَلَكَ لَا لِأَجْلِ الثَّوَابِ وَلَا الْإِكْرَامِ بِصِيغَةٍ كَانَ هِبَةً فَقَطْ، وَإِنْ مَلَكَ لِأَجْلِ الثَّوَابِ مِنْ غَيْرِ صِيغَةٍ كَانَ صَدَقَةً فَقَطْ، وَإِنْ مَلَكَ لِأَجْلِ الْإِكْرَامِ مِنْ غَيْرِ صِيغَةٍ كَانَ هَدِيَّةً فَقَطْ فَبَيْنَ الثَّلَاثَةِ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ وَالْكِتَابُ هَدِيَّةٌ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ إلَّا إنْ شَرَطَ كِتَابَةَ الْجَوَابِ عَلَى ظَهْرِهِ اهـ. قَالَ بَعْضُهُمْ: سِتُّ كَلِمَاتٍ جَوْهَرِيَّةٍ لَا يَحْوِيهَا إلَّا الْعُقُولُ الزَّكِيَّةُ: أَصْلُ الْمَحَبَّةِ الْهَدِيَّةُ وَأَصْلُ الْبُغْضَةِ الْأَسِيَّةُ وَأَصْلُ الْقُرْبِ الْأَمَانَةُ وَأَصْلُ الْبَعْدِ الْخِيَانَةُ وَأَصْلُ زَوَالِ النِّعْمَةِ الْبَطَرُ وَأَصْلُ الْعِفَّةِ غَضُّ الْبَصَرِ.
قَوْلُهُ: (وَعَرَّفَهُ) أَيْ الْمَوْهُوبُ الْمُصَنِّفُ، نُوزِعَ فِيهِ بِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِهَا لَا تَعْرِيفٌ، وَقَدْ يَدَّعِي أَنَّهُ رَسْمٌ لِأَنَّهُ يُمَيِّزُهَا فِي الْجُمْلَةِ.
قَوْلُهُ: (وَكُلُّ مَا جَازَ بَيْعُهُ إلَخْ) أَفْهَمَ كَلَامُهُ امْتِنَاعَ هِبَةِ الِاخْتِصَاصِ كَجِلْدِ الْمَيْتَةِ وَالْخَمْرِ الْمُحْتَرَمَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ، أَمَّا بِمَعْنَى نَقْلِ الْيَدِ فَجَائِزٌ. اهـ. سم. وَقَوْلُهُ " بِمَعْنَى التَّمْلِيكِ إلَخْ " أَيْ فَإِذَا قَالَ: وَهَبْتُك هَذَا الْخَمْرَ مَثَلًا فَإِنْ أَرَادَ مَلَّكْتُك لَا يَصِحُّ، وَإِنْ أَرَادَ نَقَلْت يَدَيْ عَنْهُ صَحَّ اهـ. قَوْلُهُ:(لِأَنَّ بَابَهَا أَوْسَعُ) إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ يَجُوزُ هِبَةُ أَشْيَاءَ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا فَالْبَيْعُ كَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَشْيَاءِ وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ مِنْ جِهَةِ أَنَّ بَعْضَ أَفْرَادِ الْهِبَةِ لَا يَحْتَاجُ إلَى صِيغَةٍ وَهُوَ الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِمَا صِيغَةٌ بَلْ يَكْفِي فِيهِمَا بَعْثٌ وَقَبْضٌ.
قَوْلُهُ: (مِنْ هِبَتِهِ)
تَنْبِيهٌ: يُسْتَثْنَى مِنْ هَذَا الضَّابِطِ مَسَائِلُ مِنْهَا: الْجَارِيَةُ الْمَرْهُونَةُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا الرَّاهِنُ أَوْ أَعْتَقَهَا وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا لِلضَّرُورَةِ وَلَا تَجُوزُ هِبَتُهَا لَا مِنْ الْمُرْتَهِنِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ. وَمِنْهَا الْمُكَاتَبُ يَصِحُّ بَيْعُ مَا فِي يَدِهِ وَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ.
وَمِنْهَا: هِبَةُ الْمَنَافِعِ فَإِنَّهَا تُبَاعُ بِالْأُجْرَةِ، وَفِي هِبَتِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وُهِبَتْ مَنَافِعُهُ عَارِيَّةٌ وَهُوَ مَا جَزَمَ بِهِ الْمَاوَرْدِيُّ. وَغَيْرُهُ وَرَجَّحَهُ الزَّرْكَشِيّ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا تَمْلِيكٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وُهِبَتْ مَنَافِعُهُ أَمَانَةٌ، وَهُوَ مَا رَجَّحَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَالسُّبْكِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَاسْتَثْنَى مَسَائِلَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَكَرْتُهَا فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ وَغَيْرِهِ.
وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَمَجْهُولٍ وَمَغْصُوبٍ لِغَيْرِ قَادِرٍ عَلَى انْتِزَاعِهِ وَضَالٍّ وَآبِقٍ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ بِجَامِعِ أَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ. وَاسْتَثْنَى أَيْضًا مِنْ هَذَا مَسَائِلَ مِنْهَا: حَبَّتَا الْحِنْطَةِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ الْمُحَقَّرَاتِ كَشَعِيرٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا وَتَجُوزُ هِبَتُهُمَا كَمَا جَرَى عَلَيْهِ فِي الْمِنْهَاجِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لِانْتِفَاءِ الْمُقَابِلِ لَهُمَا وَإِنْ قَالَ ابْنُ النَّقِيبِ إنَّ هَذَا سَبْقُ قَلَمٍ. وَمِنْهَا: حَقُّ التَّحْجِيرِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ هِبَتُهُ وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَمِنْهَا صُوفُ الشَّاةِ الْمَجْعُولَةِ أُضْحِيَّةً وَلَبَنُهَا، وَمِنْهَا: الثِّمَارُ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ يَجُوزُ هِبَتُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْقَطْعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَاسْتَثْنَى مَسَائِلَ غَيْرَ ذَلِكَ ذَكَرْتهَا فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ وَغَيْرِهِ.
وَشَرَطَ فِي الْعَاقِدِ وَهُوَ الرُّكْنُ الثَّانِي مَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ، فَيُشْتَرَطُ فِي الْوَاهِبِ الْمِلْكُ وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ، فَلَا يَصِحُّ مِنْ وَلِيٍّ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ، وَلَا مِنْ مُكَاتَبٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْمِلْكِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
أَيْ مِنْ فِعْلِهَا الَّذِي هُوَ جَازَ.
قَوْلُهُ: (أَوْ لِمُشَاكَلَةٍ) أَيْ مُنَاسَبَةٍ.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ مُعْسِرٌ) رَاجِعٌ لِكُلِّ مِمَّا قَبْلَهُ، أَمَّا إذَا كَانَ مُوسِرًا نَفَذَ وَلَا يَجُوزُ كُلٌّ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ.
قَوْلُهُ: (لِلضَّرُورَةِ) وَهِيَ وَفَاءُ الدَّيْنِ. قَوْلُهُ: (هِبَةُ الْمَنَافِعِ) الْأَوْلَى حَذْفُ " هِبَةُ " بِأَنْ يَقُولَ: وَمِنْهَا الْمَنَافِعُ لِيُنَاسِبَ الْخِلَافَ الَّذِي بَعْدَهُ. وَقَوْلُهُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ أَيْ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهَا، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: أَحَدُهُمَا لَا تَصِحُّ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ إلَخْ، وَالثَّانِي: تَصِحُّ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ إلَخْ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَمْلِيكٍ) الْمُنَاسِبُ أَنَّ إبَاحَتَهَا، وَهَذَا يَقْتَضِي التَّلَازُمَ بَيْنَ عَارِيَّةِ الْمَحَلِّ وَإِبَاحَةِ الْمَحَلِّ لِأَنَّهُ اسْتَدَلَّ بِالْعَارِيَّةِ لِلْعَيْنِ عَلَى مَنَافِعِهَا لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً، أَيْ وَشَأْنُ الْعَارِيَّةِ أَنَّ مَنَافِعَهَا لَا يَمْلِكُهَا الْمُسْتَعِيرُ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ. وَقَضِيَّةُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ فِيهَا مَتَى شَاءَ لِأَنَّهُ فَرَضَ أَنَّهَا عَارِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (أَنَّهَا تَمْلِيكٌ) مُعْتَمَدٌ. قَوْلُهُ: (بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا وُهِبَتْ مَنَافِعُهُ) أُطْلِقَ عَلَيْهِ هِبَةً بِالنَّظَرِ لِلصُّورَةِ، أَوْ بِالنَّظَرِ لِلْقَوْلِ الثَّانِي، وَإِلَّا فَهِيَ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهَا عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَا أُبِيحَتْ مَنَافِعُهُ عَارِيَّةٌ.
قَوْلُهُ: (عَارِيَّةٌ) فَإِذَا تَلِفَ ضَمِنَهُ الْمُتَّهَبُ بِخِلَافِهِ عَلَى الثَّانِي.
قَوْلُهُ: (وَهُوَ الظَّاهِرُ) وَعَلَيْهِ فَلَا اسْتِثْنَاءَ، قَالَ م ر: وَأَفْتَى بِهِ الْوَالِدُ، وَعَلَيْهِ فَلَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَهُوَ بِالِاسْتِيفَاءِ لَا بِقَبْضِ الْعَيْنِ اهـ فَلَوْ بَقِيَ بَعْضُ الْمُدَّةِ فَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ عَلَى الْمُتَّهَبِ فِيمَا بَقِيَ.
قَوْلُهُ: (حَقُّ التَّحْجِيرِ) أَيْ فِي إحْيَاءِ الْمَوَاتِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَصِحُّ بَيْعُهُ) لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ بِتَمَامِ الْإِحْيَاءِ؛ لَكِنْ يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ شَرْطَ الْهِبَةِ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ.
قَوْلُهُ: (صُوفُ الشَّاةِ إلَخْ) أَيْ فَتَصِحُّ هِبَتُهُمَا لَا بَيْعُهُمَا.
قَوْلُهُ: (يَجُوزُ هِبَتُهَا) وَهَلْ يَجِبُ الْقَطْعُ أَوْ الْإِبْقَاءُ إلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ؟ الظَّاهِرُ الثَّانِي، وَتَكُونُ هِبَتُهَا رِضًا بِإِبْقَائِهَا إلَيْهِ أَيْ إلَى بُدُوِّ الصَّلَاحِ اهـ د م.
قَوْلُهُ: (فَيُشْتَرَطُ فِي الْوَاهِبِ الْمِلْكُ) أَوْرَدَ عَلَيْهِ حَقَّ التَّحْجِيرِ الْمُتَقَدِّمَ وَصُوفَ الشَّاةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ هِبَتُهُمَا مَعَ عَدَمِ الْمِلْكِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّهُ مَمْلُوكٌ مِلْكًا مُرَاعًى، أَيْ وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الصُّوفَ جُبَّةً وَفُرُشًا وَغَيْرَهُمَا، وَحَقُّ التَّحَجُّرِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ، فَصَحَّ كَلَامُ الشَّارِحِ بِاعْتِبَارِ مَا ذُكِرَ اهـ أج.
قَوْلُهُ: (وَإِطْلَاقُ التَّصَرُّفِ) كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَزِيدَ: وَأَهْلِيَّةُ تَبَرُّعٍ، لِيَصِحَّ إخْرَاجُ الْوَلِيِّ فِي مَالِ مَحْجُورِهِ وَالْمُكَاتَبِ مَعَ أَنَّهُمَا مُطْلَقَا التَّصَرُّفِ أَيْ غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِمَا؛ وَلَكِنْ لَيْسَا مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي كُلٍّ مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةٌ الْمِلْكِ) أَيْ التَّمَلُّكِ، وَهَذَا قَدْ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَّهَبِ الرُّشْدُ بَلْ يَقْتَضِي صِحَّةَ قَبُولِ الْهِبَةِ مِنْ وَلِيِّ الطِّفْلِ. وَفِي حَاشِيَتِهِ سم عَلَى ابْنِ حَجَرٍ: فَرْعٌ: سُئِلَ شَيْخُنَا م ر. عَنْ شَخْصٍ بَالِغٍ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدٍ مُمَيِّزٍ وَوَقَعَتْ الصَّدَقَةُ فِي يَدِهِ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ فَهَلْ يَمْلِكُهَا الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ بِوُقُوعِهَا فِي يَدِهِ كَمَا لَوْ احْتَطَبَ أَوْ
لِمَا يُوهَبُ لَهُ مِنْ مُكَلَّفٍ وَغَيْرِهِ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ يَقْبَلُ لَهُ وَلِيُّهُ فَلَا تَصِحُّ لِحَمْلٍ وَلَا لِبَهِيمَةٍ وَلَا لِرَقِيقٍ نَفْسِهِ، فَإِنْ أَطْلَقَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
احْتَشَّ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ أَمْ لَا لِأَنَّ الْقَبْضَ غَيْرُ صَحِيحٍ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الصَّبِيُّ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِقَبْضِ وَلِيِّهِ اهـ.
وَعَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ فَهَلْ يَحْرُمُ الدَّفْعُ لَهُ كَمَا يَحْرُمُ تَعَاطِي الْعَقْدِ الْفَاسِدِ مِنْهُ أَمْ لَا لِانْتِقَاءِ الْعَقْدِ الْمَذْكُورِ؟ فِيهِ نَظَرٌ، وَالْأَقْرَبُ عَدَمُ الْحُرْمَةِ. وَيُحْمَلُ ذَلِكَ مِنْ الْبَالِغِ عَلَى الْإِبَاحَةِ كَتَقْدِيمِ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ، فَلِلْمُبِيحِ الرُّجُوعُ فِيهِ مَا دَامَ بَاقِيًا هَذَا، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ حَيْثُ لَمْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ فِي عَدَمِ رِضَا الْوَلِيِّ بِالدَّفْعِ لَهُ سِيَّمَا إنْ كَانَ ذَلِكَ يُعَوِّدُهُمْ عَلَى دَنَاءَةِ النَّفْسِ وَالرَّذَالَةِ فَيَحْرُمُ الْإِعْطَاءُ لَهُمْ لَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ بَلْ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَفَاسِدِ الظَّاهِرَةِ اهـ بِحُرُوفِهِ. قَوْلُهُ:(وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ) يَشْمَلُ ذَلِكَ الْهِبَةَ لِلْعَبْدِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ إذَا قَصَدَ الْوَاهِبُ سَيِّدَهُ وَأَطْلَقَ، فَإِنَّ الْقَبُولَ مِنْ السَّيِّدِ وَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلِيِّ.
قَوْلُهُ: (يَقْبَلُ لَهُ وَلِيُّهُ) فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ انْعَزَلَ الْوَصِيُّ وَالْقَيِّمُ دُونَ الْأَبِ وَالْجَدِّ، فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ الْوَلِيَّ قَبِلَ لَهُ الْحَاكِمُ إلَّا إنْ كَانَ أَبًا أَوْ جَدًّا فَيَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ غَرَسَ شَجَرًا وَقَالَ عِنْدَ غِرَاسِهِ: أَغْرِسهُ لِطِفْلِي أَوْ جَعَلْته لَهُ أَوْ اشْتَرَى حُلِيًّا أَوْ غَيْرَهُ لِزَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ وَزَيَّنَهُمَا بِهِ أَوْ جَهَّزَ بِنْتَه بِأَمْتِعَةٍ، لَمْ يَحْصُلْ الْمِلْكُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِانْتِفَاءِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَوْ ادَّعَتْ بِنْتُهُ أَنَّهُ مَلَّكَهَا إيَّاهُ وَأَنْكَرَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ. وَفِي فَتَاوَى الْقَاضِي حُسَيْنٍ: أَنَّهُ لَوْ نَقَلَ ابْنَتَهُ وَجَهَازَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَإِنْ قَالَ: هَذَا جَهَازُ بِنْتِي فَهُوَ مِلْكٌ لَهَا مُؤَاخَذَةً لَهُ بِإِقْرَارِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ فَهُوَ إعَارَةٌ وَيُصَدَّقُ بِيَمِينِهِ سم.
قَوْلُهُ: (فَلَا تَصِحُّ لِحَمْلٍ) وَفَارَقَتْ مِلْكَهُ لِلْإِرْثِ لِأَنَّ ذَلِكَ قَهْرِيٌّ، وَفَارَقَتْ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ لِأَنَّهَا أَوْسَعُ بَابًا مِنْ الْهِبَةِ لِأَنَّهَا تَصِحُّ بِالْمَوْجُودِ وَالْمَعْدُومِ.
قَوْلُهُ: (وَلَا لِرَقِيقٍ نَفْسِهِ) بِتَنْوِينِ رَقِيقٍ وَإِبْدَالِ نَفْسِهِ مِنْهُ بِدَلِيلِ مَا بَعْدَهُ وَلِأَنَّهَا لَا تَصِحُّ لِرَقِيقِ الْوَاهِبِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ قَصَدَهُ أَمْ السَّيِّدَ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُكَاتَبِ وَإِلَّا فَالْهِبَةُ لَهُ وَلَوْ مِنْ سَيِّدِهِ صَحِيحَةً وَلَمْ يَجْعَلْ نَفْسَهُ تَوْكِيدًا لِأَنَّ رَقِيقَ نَكِرَةٌ وَالتَّوْكِيدُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْمَعْرِفَةِ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ فَيَجُوزُ تَوْكِيدُ النَّكِرَةِ إنْ أَفَادَ وَعَلَيْهِ ابْنُ مَالِكٍ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ يَفِدْ تَوْكِيدُ مَنْكُورٍ قُبِلْ.
وَفِي نُسْخَةٍ " لِنَفْسِهِ " وَهُوَ بَدَلٌ مِمَّا قَبْلَهُ. وَأَمَّا الْهِبَةُ لِلْمُكَاتَبِ فَصَحِيحَةٌ وَيَمْلِكُهَا لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ مُسْتَقِلٌّ، وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَإِنْ كَانَتْ مُهَايَأَةً فَلِمَنْ وُجِدَتْ فِي نَوْبَتِهِ فَإِنْ وُجِدَتْ فِي نَوْبَةِ الْمُبَعَّضِ فَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ وَإِنْ وُجِدَتْ فِي نَوْبَةِ السَّيِّدِ فَإِنْ أَطْلَقَ الْوَاهِبُ أَوْ قَصَدَ السَّيِّدُ صَحَّ وَكَانَ الْقَبُولُ مِنْ الْمُبَعَّضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُهَايَأَةً، فَمَا خَصَّ الْبَعْضَ الْحُرَّ تَصِحُّ فِيهِ وَمَا قَابَلَ الْبَعْضَ الرَّقِيقَ يَجْرِي فِيهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَصْدِ السَّيِّدِ أَوْ الْإِطْلَاقِ فَيَصِحُّ أَوْ قَصَدَ الْعَبْدُ نَفْسَهُ فَلَا تَصِحُّ. تَنْبِيهٌ: كَانَ الْأَوْلَى لِلشَّارِحِ أَنْ يَذْكُرَ هُنَا مَا سَيَذْكُرُهُ بَعْدُ مِنْ قَوْلِهِ " وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْوَهْبِ مِنْ صِيغَةٍ إلَخْ " لِيَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى الْأَرْكَانِ مُنْضَمًّا بَعْضَهُ إلَى بَعْضٍ وَالصِّيغَةُ إيجَابٌ: كَوَهَبْتُكَ وَمَلَّكْتُك وَمَنَحْتُك وَأَكْرَمْتُك وَعَظَّمْتُك وَنَحَلْتُك وَكَذَا أَطْعَمْتُك وَلَوْ فِي غَيْرِ طَعَامٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، وَقَبُولٌ: كَقَبِلْتُ وَرَضِيت وَاتَّهَبْت لَفْظًا فِي حَقِّ النَّاطِقِ وَإِشَارَةً مِنْ الْأَخْرَسِ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهَا تَمْلِيكٌ فِي الْحَيَاةِ كَالْبَيْعِ؛ وَلِهَذَا انْعَقَدَتْ بِالْكِنَايَةِ مَعَ النِّيَّةِ: " لَك هَذَا " كَذَا " وَكَسَوْتُك هَذَا " وَبِالْمُعَاطَاةِ عَلَى الْقَوْلِ بِهَا، فَاشْتَرَطَ هُنَا فِي الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ جَمِيعَ مَا مَرَّ فِيهَا فِي الْبَيْعِ، وَمِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ مُطَابِقًا لِلْإِيجَابِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ هُنَا، وَمِنْهُ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْفَوْرِيَّةِ فِي الصِّيغَةِ فَشَرْطُ الصِّيغَةِ عُلِمَ مِنْ الْبَيْعِ، وَمِنْهُ الْقَبُولُ عَلَى وَفْقِ الْإِيجَابِ فَلَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئَيْنِ فَقَبِلَ أَحَدَهُمَا أَوْ شَيْئًا فَقَبِلَ بَعْضَهُ لَمْ يَصِحَّ بَيْعٌ فِيهِمَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ.
وَعُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ مِنْ الْأَعْمَى وَلَا لَهُ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْهِبَةِ الْمُقَيَّدَةِ لِأَنَّهَا بَيْعٌ وَأَمَّا الْهِبَةُ الْمُطْلَقَةُ فَفِيهَا نَظَرٌ لِاقْتِضَائِهِ عَدَمَ صِحَّةِ الصَّدَقَةِ وَالْهَدِيَّةِ مِنْ الْأَعْمَى أَوْ عَلَيْهِ إلَّا إنْ وَكَّلَ بَصِيرًا فِي الْإِقْبَاضِ وَالْقَبْضِ، وَشَيْخُنَا قَالَ بِهَذَا وَاعْتَمَدَهُ أَخْذًا مِنْ إطْلَاقِهِمْ. وَاَلَّذِي يُتَّجَهُ وِفَاقًا لِبَعْضِ مَشَايِخِنَا خِلَافُهُ لِإِطْبَاقِ الْأُمَّةِ فِي جَمِيعِ الْأَعْصَارِ عَلَى خِلَافِهِ، قَالَهُ قِ ل وَنَقَلَهُ م د عَلَى التَّحْرِيرِ. قَالَ م ر فِي شَرْحِهِ:
الْهِبَةَ لَهُ فَهِيَ لِسَيِّدِهِ.
(وَلَا تَلْزَمُ) أَيْ لَا تُمْلَكُ (الْهِبَةُ) الصَّحِيحَةُ غَيْرُ الضِّمْنِيَّةِ وَذَاتُ الثَّوَابِ الشَّامِلَةِ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ (إلَّا بِالْقَبْضِ) فَلَا تُمْلَكُ، بِالْعَقْدِ لِمَا رَوَى الْحَاكِمُ فِي صَحِيحِهِ:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم أَهْدَى إلَى النَّجَاشِيِّ ثَلَاثِينَ أُوقِيَّةً مِسْكًا، ثُمَّ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ: إنِّي لَأُرَى النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ وَلَا أَرَى الْهَدِيَّةَ الَّتِي أَهْدَيْتُ إلَيْهِ إلَّا سَتُرَدُّ فَإِذَا رُدَّتْ إلَيَّ فَهِيَ لَكِ» فَكَانَ كَذَلِكَ.
ــ
[حاشية البجيرمي]
وَهِبَةُ الدَّيْنِ الْمُسْتَقِرِّ لِلْمَدِينِ أَوْ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَيْهِ إبْرَاءٌ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولٍ نَظَرًا لِلْمَعْنَى، وَهَذَا صَرِيحٌ فِيهِ خِلَافًا لِمَا فِي الذَّخَائِرِ مِنْ أَنَّهُ كِنَايَةٌ، نَعَمْ تَرْكُ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ أَيْ بِلَفْظِ التَّرْكِ كِنَايَةُ إبْرَاءٍ وَهِبَتُهُ لِغَيْرِهِ أَيْ الْمَدِينِ بَاطِلَةٌ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ؛ لِأَنَّ مَا يُقْبَضُ مِنْ الْمَدِينِ عَيْنٌ فَهِيَ غَيْرُ مَا وَهَبَ لَا دَيْنٌ وَظَاهِرُ كَلَامِ جَمَاعَةٍ وَاعْتَمَدَهُ الْوَالِدُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بُطْلَانُ ذَلِكَ وَإِنْ قُلْنَا بِمَا مَرَّ مِنْ صِحَّةِ بَيْعِهِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِشُرُوطِهِ السَّابِقَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ. اهـ. .
قَوْلُهُ: (وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ) عِبَارَةُ سم: وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ الشَّامِلَةُ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ، وَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ مِنْ الْوَاهِبِ أَوْ نَائِبِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ فِيهِ فَتَلْزَمُ وَيَحْصُلُ الْمِلْكُ، فَإِنْ اسْتَقَلَّ بِهِ لَمْ يَمْلِكْهَا وَدَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ أَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ جُزْءًا شَائِعًا فَقَبَضَ الْجُمْلَةَ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ دُونَ الشَّرِيكِ صَحَّ وَأَثِمَ وَضَمِنَ نَصِيبَ الشَّرِيكِ، وَلَوْ حَصَلَتْ زِيَادَةٌ قَبْلَهُ مُنْفَصِلَةٌ فَهِيَ لِلْوَاهِبِ لِحُدُوثِهَا عَلَى مِلْكِهِ أَوْ تَصَرَّفَ قَبْلَهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَكَانَ رُجُوعًا وَإِنْ ظَنَّ لُزُومَ الْهِبَةِ بِالْعَقْدِ اهـ بِحُرُوفِهِ. قَوْلُهُ:(أَيْ لَا تُمْلَكُ) هُوَ تَفْسِيرٌ بِاللَّازِمِ وَالْمُرَادُ بِالْهِبَةِ الْعَيْنُ الْمَوْهُوبَةُ لِأَنَّهَا الَّتِي تُمْلَكُ، وَقَوْلُهُ " الصَّحِيحَةُ " أَيْ الصَّحِيحُ عَقْدُهَا أَوْ الضَّمِيرُ لَهَا بِمَعْنَى عَقْدِهَا فَيَكُونُ فِيهِ اسْتِخْدَامٌ، وَلَوْ قَالَ: وَلَا تُمْلَكُ كَمَا فَعَلَ سم لَكَانَ أَوْلَى مُفِيدًا لِفَائِدَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى الْمَتْنِ وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ أَيْضًا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبْضِ. وَاعْلَمْ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمَتْنِ أَنَّ الْهِبَةَ تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ؛ لَكِنْ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالْقَبْضِ. وَقَوْلُ الشَّارِحِ " أَيْ لَا تُمْلَكُ " يَقْتَضِي أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يُفِدْ مِلْكًا أَصْلًا، وَهَذَا مَا حَلَّ بِهِ ابْنُ قَاسِمٍ كَلَامَ الْمَتْنِ، إلَّا أَنْ يُقَدِّرَ أَيْ مِلْكًا تَامًّا وَإِلَّا فَأَصْلُ الْمِلْكِ حَصَلَ بِالْعَقْدِ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ شَيْخِنَا ح ف: قَوْلُهُ " وَلَا تَلْزَمُ الْهِبَةُ " أَيْ لَا تَصِيرُ مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ وَهِيَ الَّتِي يَمْتَنِعُ فَسْخُهَا شَرْعًا لِغَيْرِ مُوجِبٍ شَرْعِيٍّ إلَّا بِالْقَبْضِ اهـ.
قَوْلُهُ: (غَيْرُ الضِّمْنِيَّةِ) سَيَأْتِي مُحْتَرِزُهُ بِقَوْلِهِ كَأَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي مَجَّانًا فَأَعْتَقَهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضٍ.
قَوْلُهُ: (الشَّامِلَةُ إلَخْ) صِفَةٌ لِلْهِبَةِ، فَكَانَ مِنْ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ أَيْ مِمَّنْ يَصِحُّ عَقْدُهُ لِذَلِكَ، فَلَوْ قَبَضَ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ أَوْ سَفِيهٌ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ هَدِيَّةً فَلَا يَمْلِكُهَا وَلِمَالِكِهَا الرُّجُوعُ فِيهَا، وَإِنْ تَلِفَتْ لَا ضَمَانَ إنْ كَانَ الدَّافِعُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ الْمَذْكُورُ إذَا قَبَضَ الْوَلِيُّ، وَإِمَّا إذَا كَانَ الدَّافِعُ لِذَلِكَ غَيْرُ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ فَإِنَّهَا لَا تُمْلَكُ وَلَوْ قُبِضَتْ، وَلَوْ كَانَ الْقَابِضُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فَلِوَلِيِّ مَنْ ذُكِرَ الرُّجُوعُ إنْ كَانَتْ بَاقِيَةً، فَإِنْ تَلِفَتْ ضَمِنَهَا مَنْ أَخَذَهَا وَلَوْ تَلِفَتْ بِنَفْسِهَا. قَوْلُهُ:(إلَّا بِالْقَبْضِ) أَيْ الَّذِي فِي الْبَيْعِ إمَّا لَهَا فِي الْأَعْيَانِ أَوْ لِمَحَلِّهَا فِي الْمَنَافِعِ؛ لِأَنَّ هِبَتَهَا صَحِيحَةٌ فَلَا يَمْلِكُهَا بِالْعَقْدِ.
قَوْلُهُ: (أَهْدَى إلَى النَّجَّاشِي) بِفَتْحِ النُّونِ وَنُقِلَ كَسْرُهَا وَآخِرُهُ يَاءٌ سَاكِنَةٌ وَهُوَ الْأَكْثَرُ رِوَايَةً، وَنَقَلَ ابْنُ الْأَثِيرِ تَشْدِيدَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَهُ غَلَطًا؛ وَهُوَ لَقَبٌ لِكُلِّ مَنْ مَلَكَ الْحَبَشَةَ وَاسْمُهُ أَصْحَمَةُ وَمَعْنَاهُ بِالْعَرَبِيَّةِ عَطِيَّةُ وَهُوَ الَّذِي هَاجَرَ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فِي رَجَبٍ سَنَةَ خَمْسٍ مِنْ النُّبُوَّةِ فَآمَنَ وَأَسْلَمَ بِكِتَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَتُوُفِّيَ سَنَةَ تِسْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ وَنَعَاهُ، أَيْ أَخْبَرَ بِمَوْتِهِ، وَذَكَرَ مَحَاسِنَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَصُورَةُ الْكِتَابِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ إلَى النَّجَّاشِي مَلِكِ الْحَبَشَةِ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي أَحْمَدُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ وَأَشْهَدُ أَنَّ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رُوحُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلَى مَرْيَمَ الْبَتُولِ الطَّيِّبَةِ الْحَصِينَةِ فَحَمَلَتْ بِعِيسَى فَخَلَقَهُ مِنْ رُوحِهِ وَنَفَخَهُ كَمَا خَلَقَ آدَمَ بِيَدِهِ، وَإِنِّي أَدْعُوَك إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْمُوَالَاةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَنْ تَتَّبِعَنِي وَتَرْضَى بِاَلَّذِي جَاءَنِي فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ؛ وَإِنِّي أَدْعُوَك وَجُنْدَك إلَى اللَّهِ تَعَالَى. وَقَدْ بَلَّغْتُ وَنَصَحْتُ فَاقْبَلُوا نَصِيحَتِي، وَقَدْ بَعَثْتُ إلَيْكُمْ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرًا وَمَعَهُ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ. وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. وَبَعَثَ الْكِتَابَ مَعَ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ اهـ.
قَوْلُهُ: (أُوقِيَّةً) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ أَفْصَحُ مِنْ تَخْفِيفِهَا وَهِيَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ) اسْمُهَا هِنْدٌ، فَلَمَّا مَاتَ
وَلِأَنَّهُ عَقْدُ إرْفَاقٍ كَالْقِرَاضِ فَلَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ، وَخَرَجَ بِالصَّحِيحَةِ الْفَاسِدَةُ فَلَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ. وَبِغَيْرِ الضِّمْنِيَّةِ الضِّمْنِيَّةُ كَمَا لَوْ قَالَ: أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي مَجَّانًا فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَنْهُ وَيَسْقُطُ الْقَبْضُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ كَمَا يَسْقُطُ الْقَبُولُ إذَا كَانَ الْتِمَاسُ الْعِتْقِ بِعِوَضٍ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ، وَبِغَيْرِ ذَاتِ الثَّوَابِ ذَاتُهُ فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الثَّوَابَ اسْتَقَلَّ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهُ بَيْعٌ. تَنْبِيهٌ: شَمَلَ كَلَامُهُ هِبَةَ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِمْ فِي الْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، خِلَافًا لِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ. وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فِيهِ إنْ لَمْ يَقْبِضْهُ الْوَاهِبُ، سَوَاءٌ أَكَانَ فِي يَدِ الْمُتَّهَبِ أَمْ لَا فَلَوْ قَبَضَ بِلَا إذْنٍ وَلَا إقْبَاضٍ لَمْ يَمْلِكْهُ، وَدَخَلَ فِي ضَمَانِهِ سَوَاءٌ أَقَبَضَهُ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَمْ بَعْدَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ السَّيْرِ إلَيْهِ إنْ كَانَ غَائِبًا، وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْقَبْضِ إلَّا أَنَّهُ هُنَا لَا يَكْفِي الْإِتْلَافُ وَلَا الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
أَبُو سَلَمَةَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه فَأَبَتْ ثُمَّ عُمَرُ فَأَبَتْ ثُمَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: مَرْحَبًا بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَشَكَتْ إلَيْهِ شِدَّةَ الْغَيْرَةِ، فَدَعَا لَهَا أَنْ يُذْهِبَهَا اللَّهُ عَنْهَا فَكَانَتْ فِي نِسَائِهِ كَالْأَجْنَبِيَّةِ لَا تَجِدُ مَا يَجِدُونَ مِنْ الْغَيْرَةِ اهـ مِنْ بُسْتَانِ الْفُقَرَاءِ.
قَوْلُهُ: (إنِّي لَأُرَى) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ فِي هَذِهِ وَاَلَّتِي بَعْدَهَا مِنْ الرُّؤْيَةِ بِمَعْنَى الظَّنِّ. اهـ. م د. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالْفَتْحِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كُتُبُ الْحَدِيثِ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا رُدَّتْ إلَخْ) فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُمْلَكُ بِالصِّيغَةِ. قَوْلُهُ: (فَكَانَ كَذَلِكَ) أَيْ مَوْتُ النَّجَّاشِي وَرَدُّ الْهَدِيَّةِ، لَكِنْ مَا رُدَّتْ قَسَمَهَا صلى الله عليه وسلم بَيْنَ نِسَائِهِ وَلَمْ يَخُصَّ بِهَا أُمَّ سَلَمَةَ م ر، وَذَلِكَ لِأَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ لَمْ تَقْبِضْهَا وَهِيَ هِبَةٌ. فَقَدْ اُسْتُفِيدَ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ لَا بِالْعَقْدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ رَدَّ الْهَدِيَّةِ لِمَوْتِ النَّجَّاشِي قَبْلَ قَبْضِهِ لَهَا، فَرَدُّهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالْقَبْضِ وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الشَّارِحِ بَلْ هُوَ مُتَعَيِّنٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ وَعْدٌ لَا عَقْدُ هِبَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَعْلِيقُهَا.
قَوْلُهُ: (الْفَاسِدَةُ) أَيْ بِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِ الْمَوْهُوبِ مَثَلًا فَلَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ وَلَا ضَمَانَ لَوْ تَلِفَتْ، وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ بِفَوَاتِ شَرْطٍ فِي الْوَاهِبِ أَوْ الْمُتَّهَبِ فَقَدْ عَرَفْت حُكْمَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ. قَوْلُهُ:(فَلَا تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ) نَعَمْ لَوْ تَلِفَتْ بَعْدَ قَبْضِهَا لَا يَضْمَنُهَا لِأَنَّ فَاسِدَ كُلِّ عَقْدٍ كَصَحِيحِهِ فِي الضَّمَانِ وَعَدَمِهِ.
قَوْلُهُ: (أَعْتِقْ عَبْدَك إلَخْ) أَيْ فَفَعَلَ.
قَوْلُهُ: (إذَا كَانَ الْتِمَاسٌ إلَخْ) وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَكُونُ بَيْعًا ضِمْنِيًّا فِي هَذِهِ الصُّورَةِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنَّهُ إذَا سَلَّمَ الثَّوَابَ) أَيْ الْعِوَضَ، وَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ: فَإِنَّهَا تُمْلَكُ قَبْلَ الْقَبْضِ.
قَوْلُهُ: (اسْتَقَلَّ بِالْقَبْضِ) مُقْتَضَى مُقَابَلَتِهِ لِكَلَامِ الْمَتْنِ أَنْ يَقُولَ: فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبْضٍ. وَيُجَابُ بِأَنَّهُ خَارِجٌ بِقَيْدٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ بِقَبْضٍ مَعَ إذْنٍ، أَمَّا ذَاتُ الثَّوَابِ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى الْإِذْنِ إذَا سَلَّمَ الْمُقَابِلَ.
قَوْلُهُ: (خِلَافًا لِمَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ) أَيْ مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ يَكْفِي الْإِشْهَادُ بِالْمِلْكِ فِي هِبَةِ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَمَا فِي م ر، وَحِينَئِذٍ فَيَحْتَاجُ إلَى النَّقْلِ فِي الْمَنْقُولِ وَإِمْكَانِ السَّيْرِ إلَى الْغَالِبِ.
قَوْلُهُ: (بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فِيهِ) أَيْ الْقَبْضِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْقَبْضُ عَنْ جِهَةِ الْهِبَةِ أَيْضًا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْإِذْنُ بَعْدَ تَمَامِ الصِّيغَةِ، فَلَوْ قَالَ: وَهَبْتُكَ هَذَا وَأَذِنْتُ لَك فِي قَبْضِهِ فَقَالَ قَبِلْتُ لَمْ يَكْفِ. اهـ. عَبْدُ الْبَرِّ. وَمِثْلُ الْقَبْضِ بِالْإِذْنِ الْإِقْبَاضُ، فَلَا تُمْلَكُ بِدُونِهِمَا. وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ صَدَقَ الْوَاهِبُ كَمَا قَالَهُ الدَّارِمِيُّ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِذْنِ لَكِنْ قَالَ الْوَاهِبُ رَجَعْت قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْمَوْهُوبَ، وَقَالَ الْمُتَّهَبُ: بَلْ بَعْدَهُ، صَدَقَ الْمُتَّهَبُ ز ي؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ حَادِثٍ تَقْدِيرُهُ بِأَقْرَبِ زَمَنٍ.
قَوْلُهُ: (سَوَاءٌ) تَعْمِيمٌ فِي قَوْلِهِ: دَخَلَ فِي ضَمَانِهِ. قَوْلُهُ: (إنْ كَانَ غَائِبًا) وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ مُدَّةِ إمْكَانِ السَّيْرِ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ.
قَوْلُهُ: (وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ الْقَبْضِ) أَيْ أَنَّ الْمَنْقُولَ لَا بُدَّ مِنْ نَقْلِهِ، وَالْعَقَارُ يَكْفِي فِيهِ التَّخْلِيَةُ وَتَفْرِيغُهُ مِنْ أَمْتِعَةِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي وَالْغَائِبُ لَا بُدَّ مِنْ إمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، فَيَجْرِي ذَلِكَ فِي قَبْضِ الْمَوْهُوبِ.
قَوْلُهُ: (إلَّا أَنَّهُ هُنَا لَا يَكْفِي الْإِتْلَافُ) إلَّا إنْ كَانَ الْإِتْلَافُ بِالْأَكْلِ أَوْ الْعِتْقِ وَأَذِنَ فِيهِ الْوَاهِبُ فَيَكُونُ قَبْضًا وَيُقَدَّرُ انْتِقَالُهُ إلَيْهِ قُبَيْلَ الِازْدِرَادِ وَالْعِتْقِ ز ي.
قَوْلُهُ: (وَلَا الْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ) عِبَارَةُ الْعُبَابِ: وَتُمْلَكُ الْهَدِيَّةُ بِوَضْعِهَا بَيْنَ يَدَيْ الْمُهْدَى إلَيْهِ الْبَالِغِ لَا الصَّبِيِّ وَإِنْ أَخَذَهَا اهـ. بَقِيَ مَا لَوْ أَتْلَفَهَا الصَّبِيُّ وَالْحَالُ مَا ذَكَرَ فَهَلْ يَضْمَنُهَا، وَيَنْبَغِي عَدَمُ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهَا بِإِهْدَائِهَا لَهُ وَوَضَعَهَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا سَيَأْتِي فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ لِلصَّبِيِّ شَيْئًا وَسَلَّمَهُ لَهُ فَأَتْلَفَهُ لَمْ
مُسْتَحِقٍّ الْقَبْضَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، فَلَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَامَ وَارِثُ الْوَاهِبِ مَقَامَهُ فِي الْإِقْبَاضِ وَالْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَوَارِثُ الْمُتَّهَبِ فِي الْقَبْضِ، وَلَا تَنْفَسِخُ بِالْمَوْتِ وَلَا بِالْجُنُونِ وَلَا بِالْإِغْمَاءِ لِأَنَّهَا تَئُولُ إلَى اللُّزُومِ كَالْبَيْعِ فِي زَمَنِ الْخِيَارِ.
(وَإِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ) أَيْ الْهِبَةَ الشَّامِلَةَ لِلْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ (لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ) حِينَئِذٍ (الرُّجُوعُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ) الْوَاهِبُ (وَالِدًا) وَكَذَا سَائِرُ الْأُصُولِ مِنْ الْجِهَتَيْنِ وَلَوْ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى الْمَشْهُورِ، سَوَاءٌ أَقَبَضَهَا الْوَلَدُ أَمْ لَا، غَنِيًّا كَانَ أَمْ فَقِيرًا، صَغِيرًا أَمْ كَبِيرًا لِخَبَرِ:«لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَاهُ وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ كُلَّ الْأُصُولِ إنْ حُمِلَ اللَّفْظُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَإِلَّا
ــ
[حاشية البجيرمي]
يَضْمَنْهُ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَيْهِ، وَالْهِبَةُ كَالْبَيْعِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ وَالْوَضْعُ بَيْنَ يَدَيْهِ إقْبَاضٌ كَمَا تَقَرَّرَ سم عَلَى حَجّ. وَقَضِيَّةُ التَّعْبِيرِ بِالْبَالِغِ أَنَّهُ يَكْفِي الْقَبُولُ مِنْ السَّفِيهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِ وَلِيِّهِ وَلَا قَبْضِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُرَادٍ. اهـ. عِ ش عَلَى م ر.
قَوْلُهُ: (بِغَيْرِ إذْنِهِ) أَيْ إذْنِ الْمُتَّهَبِ فِي الْقَبْضِ.
قَوْلُهُ: (لِأَنَّهُ) أَيْ الْمَوْهُوبُ. وَقَوْلُهُ " غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ " بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَيُحْتَمَلُ رُجُوعُ الضَّمِيرِ لِلْمُتَّهِبِ " وَمُسْتَحِقٌّ " يَكُونُ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا تَقَدَّمَ عَلَى كَلَامِ ابْنِ قَاسِمٍ. وَعِبَارَةُ شَرْحِ الرَّوْضِ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ فَاعْتُبِرَ تَحْقِيقُهُ، بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَجَعَلَ التَّمْكِينَ مِنْهُ قَبْضًا.
قَوْلُهُ: (قَامَ وَارِثُ الْوَاهِبِ إلَخْ) فَلَوْ لَمْ يَرِثْ الْوَاهِبَ إلَّا بَيْتُ الْمَالِ فَهَلْ يَقُومُ الْإِمَامُ مَقَامَهُ فِي الْإِقْبَاضِ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَنْقَدِحُ أَنْ يُقَالَ إنْ كَانَتْ تِلْكَ الْعَيْنُ لَوْ كَانَتْ مِلْكًا لِبَيْتِ الْمَالِ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثٌ غَيْرُهُ كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُمَلِّكُهَا لِلْمُتَّهِبِ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ إقْبَاضَهُ إيَّاهَا وَإِلَّا فَلَا. اهـ. سم.
قَوْلُهُ: (وَلَا تَتَفَسَّخُ بِالْمَوْتِ) هُوَ مُسْتَدْرَكٌ مَعَ مَا قَبْلَهُ، فَكَانَ الْأَوْلَى التَّفْرِيعَ، وَيَقُومُ وَلِيُّ الْمَجْنُونِ وَلَوْ حَاكِمًا مَقَامَهُ وَلَا وَلِيٌّ لِلْمُغْمَى عَلَيْهِ أَيْ فَتُنْتَظَرُ إفَاقَتُهُ، فَإِنْ أَيِسَ مِنْهَا فَكَمَا لِمَجْنُونٍ ق ل. قَوْلُهُ:(كَالْبَيْعِ) فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِذَلِكَ بَلْ يَنْتَقِلُ الْخِيَارُ لِلْوَارِثِ.
قَوْلُهُ: (أَيْ الْهِبَةُ) الَّتِي هِيَ الْعَيْنُ، أَمَّا الدَّيْنُ فَلَا مَعْنَى لِلْقَبْضِ فِيهِ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ مُطْلَقًا عَشْمَاوِيٌّ.
قَوْلُهُ: (وَالصَّدَقَةُ) ظَاهِرُهُ أَنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ بِشَيْءٍ يَكُونُ لَهُ رُجُوعٌ فِيهِ، وَصَحَّحَهُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ هُنَا؛ لَكِنْ صَحَّحَ فِي الشَّرْحِ الصَّغِيرِ وَفِي الْكَبِيرِ فِي بَابِ الْعَارِيَّةِ خِلَافُهُ كَمَا ذَكَرَ الدِّمْيَاطِيُّ فِي شَرْحِهِ فَلْيُحَرَّرْ. وَقَوْلُهُ عليه الصلاة والسلام:«لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً» إلَخْ يَدُلُّ لِلْأَوَّلِ، وَمَحَلُّ الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ فِي الْمُتَطَوَّعِ بِهَا غَيْرِ لَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ، وَأَمَّا الْوَاجِبُ فِي زَكَاةٍ أَوْ كَفَّارَةٍ أَوْ فِدْيَةٍ فَلَا رُجُوعَ لِلْوَالِدِ، وَكَذَا لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ لَحْمَ أُضْحِيَّةٍ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ لِيَسْتَفِيدَ التَّصَرُّفَ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ فِي مِثْلِ ذَلِكَ اهـ قَوْلُهُ:(إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدًا) أَيْ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا. نَعَمْ إنْ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ امْتَنَعَ. قَوْلُهُ: (وَكَذَا سَائِرُ الْأُصُولِ) أَيْ مَا عَدَا الْأَبِ وَالْأُمِّ، فَمُرَادُهُ بِالْوَالِدِ مَا يَشْمَلُ الْأُمَّ. وَحَمَلَ الشَّارِحُ الْوَالِدَ عَلَى الْحَقِيقِيِّ فَأَتَى بِذَلِكَ، وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لَشَمِلَ سَائِرَ الْأُصُولِ. قَوْلُهُ:(مِنْ الْجِهَتَيْنِ) أَيْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ. قَوْلُهُ: (سَوَاءٌ أَقَبَضَهَا) هَذَا التَّعْمِيمُ سَرَى إلَيْهِ مِنْ قَوْلِ الْمِنْهَاجِ: وَلِلْوَالِدِ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ إلَخْ، وَهُوَ لَا يُنَاسِبُ كَلَامَ الْمَتْنِ لِأَنَّهُ فَرَضَ كَلَامَهُ فِي الْقَبْضِ، وَمِنْ ثَمَّ قَالَ ق ل: هَذَا التَّعْمِيمُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ اهـ وَأَيْضًا كُلُّ أَحَدٍ لَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَدَمُ الْقَبْضِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ.
قَوْلُهُ: (إلَّا الْوَالِدُ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ) يُرْفَعُ الْوَالِدُ بَدَلٌ مِنْ فَاعِلِ يَرْجِعُ أَوْ بِجَرِّهِ بَدَلٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ بِنَصْبِهِ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ، وَالْمُخْتَارُ الْإِتْبَاعُ. وَذِكْرُ الرَّجُلِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، وَاخْتَصَّ الْوَالِدُ بِذَلِكَ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيهِ إذْ مَا طُبِعَ عَلَيْهِ مِنْ إيثَارِهِ وَلَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ لِحَاجَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ وَيُكْرَهُ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ وُجِدَ كَكَوْنِ الْوَلَدِ عَاقًّا أَوْ يَصْرِفُهُ فِي مَعْصِيَةٍ أَنْذَرَهُ بِهِ، فَإِنْ أَصَرَّ لَمْ يُكْرَهْ كَمَا قَالَا. وَبَحَثَ الْإِسْنَوِيُّ نَدْبَهُ فِي الْعَاصِي وَكَرَاهَتَهُ فِي الْعَاقِّ إنْ زَادَ عُقُوقُهُ بِهِ وَنَدْبُهُ إنْ أَزَالَهُ وَإِبَاحَتُهُ إنْ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا، وَالْأَذْرَعِيُّ عَدَمَ كَرَاهَتِهِ إنْ احْتَاجَ الْأَبُ لِنَفَقَتِهِ أَوْ دَيْنٍ بَلْ نَدْبُهُ حَيْثُ كَانَ الْوَلَدُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ لَهُ وَوُجُوبُهُ فِي الْعَاصِي إنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ تَعَيُّنُهُ طَرِيقًا إلَى كَفِّهِ عَنْ
أُلْحِقَ بِهِ بَقِيَّةُ الْأُصُولِ بِجَامِعِ أَنَّ لِكُلٍّ وِلَادَةً كَمَا فِي النَّفَقَةِ وَحُصُولِ الْعِتْقِ وَسُقُوطِ الْقَوَدِ. تَنْبِيهٌ: مَحَلُّ الرُّجُوعِ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا، أَمَّا الْهِبَةُ لِوَلَدِهِ الرَّقِيقِ فَهِبَةٌ لِسَيِّدِهِ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي هِبَةِ الْأَعْيَانِ.
أَمَّا لَوْ وَهَبْ وَلَدَهُ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فَلَا رُجُوعَ سَوَاءٌ أَقُلْنَا إنَّهُ تَمْلِيكٌ أَمْ إسْقَاطٌ إذْ لَا بَقَاءَ لِلدَّيْنِ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ وَهَبَهُ شَيْئًا فَتَلِفَ، وَشَرْطُ رُجُوعِ الْأَبِ أَوْ أَحَدِ سَائِرِ الْأُصُولِ بَقَاءُ الْمَوْهُوبِ فِي سَلْطَنَةِ الْوَلَدِ. وَيَدْخُلُ فِي السَّلْطَنَةِ مَا لَوْ أَبَقَ الْمَوْهُوبُ أَوْ غُصِبَ فَيَثْبُتُ الرُّجُوعُ فِيهِمَا، وَخَرَجَ بِهِمَا مَا لَوْ جَنَى الْمَوْهُوبُ أَوْ أَفْلَسَ الْمُتَّهَبُ وَحُجِرَ عَلَيْهِ فَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ، نَعَمْ لَوْ قَالَ: أَنَا أُؤَدِّي أَرْشَ الْجِنَايَةِ وَأَرْجِعُ. مُكِّنَ فِي الْأَصَحِّ، وَيَمْتَنِعُ الرُّجُوعُ أَيْضًا بِبَيْعِ الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ أَوْ وَقْفِهِ أَوْ عِتْقِهِ أَوْ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْمَعْصِيَةِ؛ شَرْحِ م ر شَوْبَرِيٌّ. وَمَذْهَبُ الْحَنَفِيَّةِ عَكْسُ مَذْهَبِنَا وَهُوَ الرُّجُوعُ فِيمَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ دُونَ مَا وَهَبَهُ الْأَصْلُ لِفَرْعِهِ، وَأَجَابُوا عَنْ الْحَدِيثِ الْآتِي بِعَدَمِ صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ؛ شَيْخُنَا. قَالَ الشَّعْرَانِيُّ فِي الْمِيزَانِ: قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ بِحَالٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إنَّ لَهُ الرُّجُوعَ بِكُلِّ حَالٍ، وَقَالَ مَالِكٌ: إنَّ لَهُ الرُّجُوعَ وَلَوْ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي كُلِّ مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ عَلَى جِهَةِ الصِّلَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا وَهَبَهُ عَلَى جِهَةِ الصَّدَقَةِ، قَالَ: وَإِنَّمَا يَسُوغُ الرُّجُوعُ إذَا لَمْ تَتَغَيَّرْ الْهِبَةُ فِي يَدِ الْوَلَدِ أَوْ يُسْتَحْدَثُ دَيْنًا بَعْدَ الْهِبَةِ أَوْ تَتَزَوَّجُ الْبِنْتُ أَوْ يَخْتَلِطُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِمَالٍ مِنْ جِنْسِهِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ. وَقَالَ أَحْمَدُ فِي إحْدَى رِوَايَاتِهِ: وَأَظْهَرِهَا أَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ بِكُلِّ حَالٍ كَمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَوَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ الْأَوْلَادِ قَدْ يَكُونُ مَعَ أَبِيهِ كَالْأَجَانِبِ بَلْ كَالْأَعْدَاءِ، وَوَجْهُ الثَّانِي «قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم لِوَلَدٍ أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» اهـ.
قَوْلُهُ: (وَالْوَالِدُ يَشْمَلُ كُلَّ الْأُصُولِ) أَيْ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، فَذِكْرُ الرَّجُلِ فِي الْحَدِيثِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَالْمُرَادُ مِنْ النَّسَبِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ مِنْ النَّسَبِ لَا يَرْجِعُ فِي هِبَةِ الْفَرْعِ إلَّا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْفَرْعُ حُرًّا وَأَنْ يَبْقَى الْمَوْهُوبُ فِي سَلْطَنَتِهِ وَأَنْ يَكُونَ عَيْنًا لَا دَيْنًا فَالشُّرُوطُ ثَلَاثَةٌ اهـ. وَلَوْ وَهَبَهُ، أَيْ الْأَجْنَبِيُّ، وَأَقْبَضَهُ وَمَاتَ فَادَّعَى الْوَارِثُ صُدُورَهُ فِي الْمَرَضِ وَالْمُتَّهَبُ كَوْنُهُ فِي الصِّحَّةِ صُدِّقَ الثَّانِي بِيَمِينِهِ، وَلَوْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ قُدِّمَتْ بَيِّنَةُ الْوَارِثِ لِأَنَّ مَعَهَا زِيَادَةَ عِلْمٍ. اهـ. م ر.
قَوْلُهُ: (كَمَا فِي النَّفَقَةِ) مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ " أَلْحَقَ ".
قَوْلُهُ: (وَسُقُوطُ الْقَوَدِ) كَمَا إذَا قَتَلَ الْجَدُّ وَلَدَ وَلَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ فِيهِ.
قَوْلُهُ: (فَهِبَةٌ لِسَيِّدِهِ) أَيْ فَلَا رُجُوعَ.
قَوْلُهُ: (أَمَّا لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ) أَمَّا هِبَةُ الدَّيْنِ لِغَيْرِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ فَقِيلَ صَحِيحَةٌ نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي بَيْعِهِ، وَصَحَّحَ فِي الْمِنْهَاجِ بُطْلَانَهَا نَظِيرُ مَا مَرَّ فِي الْبَيْعِ. هَذَا وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ صِحَّةِ هِبَتِهِ لِغَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قُلْنَا بِصِحَّةِ بَيْعِهِ أَمْ لَا م ر أج.
قَوْلُهُ: (سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّهُ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ هِبَةِ الدَّيْنِ، وَالْمُنَاسِبُ أَنْ يَقُولَ إنَّهَا أَوْ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْهِبَةِ بِمَعْنَى الْعَقْدِ أَوْ أَنَّهُ ذَكَرَ الضَّمِيرَ بِالنَّظَرِ لِلْخَبَرِ.
قَوْلُهُ: (أَمْ إسْقَاطٌ) أَيْ إبْرَاءٌ.
قَوْلُهُ: (فِي سَلْطَنَةِ الْوَلَدِ) هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ جَوَازِ التَّصَرُّفِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْمِلْكَ بِدَلِيلِ شُمُولِ زَوَالِهَا لِمَا لَوْ جَنَى الْمَوْهُوبُ أَوْ أَفْلَسَ الْمُتَّهَبُ وَحُجِرَ عَلَيْهِ أَوْ رَهَنَ الْمَوْهُوبَ وَأَقْبَضَهُ فَإِنَّ هَذِهِ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ لَكِنَّهَا تُزِيلُ جَوَازَ التَّصَرُّفِ. وَعِبَارَةُ م د عَلَى التَّحْرِيرِ: وَقَوْلُهُ " فِي سَلْطَنَتِهِ " أَيْ اسْتِيلَائِهِ، وَهِيَ أَوْلَى مِنْ التَّعْبِيرِ بِبَقَاءِ الْمِلْكِ لِشُمُولِهَا مَا لَوْ كَانَتْ الْعَطِيَّةُ عَصِيرًا فَتَخَمَّرَ ثُمَّ تَخَلَّلَ فَإِنَّ لَهُ الرُّجُوعَ لِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ الْمِلْكُ خ ض. وَقَالَ ق ل: عَدَلَ إلَيْهَا عَنْ الْمِلْكِ لِصِحَّةِ إخْرَاجِ الْمُكَاتَبِ الْمَذْكُورِ، وَالْمُسْتَوْلَدَةِ أَيْ فَإِنَّ كُلًّا مِنْ الْمُكَاتَبِ، وَالْمُسْتَوْلَدَةِ زَالَتْ عَنْهُمَا السَّلْطَنَةُ دُونَ الْمِلْكِ اهـ.
قَوْلُهُ: (وَخَرَجَ بِهَا إلَخْ) أَيْ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّلْطَنَةِ الِاسْتِيلَاءُ التَّامُّ فَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ اهـ. وَقَوْلُهُ بِهَا الْأَنْسَبُ بِهِ أَيْ الْبَقَاءِ.
قَوْلُهُ: (وَحُجِرَ عَلَيْهِ) أَيْ بِالْفَلَسِ. وَخَرَجَ مَا لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بِالسَّفَهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّ الْحَجْرَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالْعَيْنِ، وَإِذَا انْفَكَّ
نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْهُ، وَقَضِيَّةُ كَلَامِهِمْ امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ مِنْ أَبِيهِ الْوَاهِبِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعُ رَهْنَهُ وَلَا هِبَتَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ؛ وَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ لِزَوَالِ سَلْطَنَتِهِ، وَلَا يَمْنَعُ أَيْضًا تَعْلِيقَ عِتْقِهِ وَلَا تَدْبِيرِهِ وَلَا تَزْوِيجَ الرَّقِيقِ وَلَا زِرَاعَةَ الْأَرْضِ وَلَا إجَارَتَهَا لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ بِحَالِهَا، نَعَمْ يُسْتَثْنَى مِنْ الرُّجُوعِ مَعَ بَقَاءِ السَّلْطَنَةِ صُوَرٌ: مِنْهَا مَا لَوْ جُنَّ الْأَبُ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ حَالَ جُنُونِهِ، وَلَا رُجُوعُ وَلِيِّهِ بَلْ إذَا أَفَاقَ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ ذَكَرَهُ الْقَاضِي أَبُو الطَّيِّبِ. وَمِنْهَا مَا لَوْ أَحْرَمَ وَالْمَوْهُوبُ صَيْدٌ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَى الصَّيْدِ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَمِنْهَا مَا لَوْ ارْتَدَّ الْوَالِدُ، وَفَرَّعْنَا عَلَى وَقْفِ مِلْكِهِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَقْبَلُ الْوَقْفَ كَمَا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيقَ، فَلَوْ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ أَوْ عَادَ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْمَوْهُوبُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْوَلَدِ رَجَعَ. .
فُرُوعٌ: لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ شَيْئًا وَوَهَبَهُ الْوَلَدُ لِوَلَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَوَّلُ فِي الْأَصَحِّ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْهُ، وَلَوْ وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ فَوَهَبَهُ الْوَلَدُ لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَبِ الرُّجُوعُ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فَالْأَبُ أَوْلَى، وَلَوْ وَهَبَهُ الْوَلَدُ لِجَدِّهِ ثُمَّ الْجَدُّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ فَالرُّجُوعُ لِلْجَدِّ فَقَطْ، وَلَوْ زَالَ مِلْكُ الْوَلَدِ عَنْ الْمَوْهُوبِ وَعَادَ إلَيْهِ بِإِرْثٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَصْلُ لِأَنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْهُ حَتَّى يَرْجِعَ فِيهِ. وَلَوْ زَرَعَ الْوَلَدُ الْحَبَّ أَوْ فَرَّخَ الْبَيْضَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَصْلُ فِيهِ كَمَا جَزَمَ بِهِ ابْنُ الْمُقْرِي، وَإِنْ جَزَمَ الْبُلْقِينِيُّ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا، وَلَوْ زَادَ الْمَوْهُوبُ رَجَعَ فِيهِ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْحَجْرُ مُكِّنَ مِنْ الرُّجُوعِ.
قَوْلُهُ: (أَوْ وَقَفَهُ إلَخْ) الْأَوْلَى أَنْ يُخْرِجَ هَذَا بِبَقَاءِ السَّلْطَنَةِ كَمَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ.
قَوْلُهُ: (مِمَّا يُزِيلُ الْمِلْكَ) لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ غَيْرُهُ كَالْكِتَابَةِ وَالْإِيلَادِ وَالرَّهْنِ بَعْدَ قَبْضِهِ كَمَا أَشَارَ بِهِ؛ لَكِنْ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ لِغَيْرِ الْوَالِدِ كَمَا بَحَثَهُ الزَّرْكَشِيّ؛ سم مُلَخَّصًا.
قَوْلُهُ: (مِنْ أَبِيهِ) أَيْ لِأَبِيهِ.
قَوْلُهُ: (قَبْلَ الْقَبْضِ) يَرْجِعُ لِلرَّهْنِ وَالْهِبَةِ. قَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْمِلْكَ) فِيهِ قُصُورٌ.
قَوْلُهُ: (وَلَا يَمْنَعُ أَيْضًا) كَمَا لَوْ انْفَكَّ الرَّهْنُ وَالْكِتَابَةُ سم فَإِنَّ لَهُ الرُّجُوعَ.
قَوْلُهُ: (وَلَا إجَارَتُهَا) لَوْ قَالَ: وَلَا الْإِجَارَةُ لَكَانَ أَعَمَّ، وَلَا يَفْسَخُ الْوَالِدُ الْإِجَارَةَ إنْ رَجَعَ بَلْ تَبْقَى بِحَالِهَا لَكِنْ أُجْرَةُ مَا بَقِيَ بَعْدَ الرُّجُوعِ لِلْوَالِدِ كَالتَّزْوِيجِ فَيَكُونُ الْمَهْرُ لِلْوَلَدِ.
قَوْلُهُ: (عَلَى وَقْفِ مِلْكِهِ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ عَلَى وَقْفِ تَصَرُّفِهِ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مِنْ قِبَلِ التَّصَرُّفِ لَا مِنْ قَبِيلِ الْإِمْلَاكِ، وَالْمُرْتَدُّ تُوقَفُ أَمْلَاكُهُ إنْ عَادَ لِلْإِسْلَامِ تَبَيَّنَ اسْتِمْرَارُهَا، وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا تَبَيَّنَ زَوَالُهَا عَنْ الْمَمْلُوكَاتِ مِنْ حِينِ الرِّدَّةِ، وَتَصَرُّفَاتُهُ الَّتِي تَقَعُ مِنْهُ حَالَ الرِّدَّةِ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا يَقْبَلُ التَّعَالِيقَ كَالْعِتْقِ فَهِيَ مَوْقُوفَةٌ إنْ رَجَعَ إلَى الْإِسْلَامِ تَبَيَّنَ نُفُوذُهَا، وَإِنْ مَاتَ مُرْتَدًّا تَبَيَّنَ فَسَادُهَا وَأَمَّا إذَا لَمْ تَقْبَلْ التَّعْلِيقَ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَهِيَ بَاطِلَةٌ مِنْ وَقْتِهَا وَلَا تُوقَفُ؛ وَسَيَأْتِي هَذَا كُلُّهُ فِي بَابِ الرِّدَّةِ.
قَوْلُهُ: (فُرُوعٌ) أَيْ سِتَّةٌ.
قَوْلُهُ: (لِأَنَّ الْمِلْكَ) أَيْ مِلْكَ وَلَدِ الْوَلَدِ، وَقَوْلُهُ " غَيْرُ مُسْتَفَادٍ مِنْهُ " أَيْ مِنْ الْوَاهِبِ الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ أَصْلًا لِوَلَدِ الْوَلَدِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ أَصْلٌ عَلَى فَرْعِ إلَّا إذَا اسْتَفَادَ الْفَرْعُ الْمِلْكَ مِنْ الرَّاجِعِ.
قَوْلُهُ: (لِأَخِيهِ مِنْ أَبِيهِ) سَوَاءٌ كَانَ شَقِيقًا أَمْ لَا، وَقَيَّدَ بِالْأَبِ لِإِخْرَاجِ الْأَخِ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ فِيهِ الرُّجُوعُ. قَوْلُهُ:(وَلَوْ وَهَبَهُ الْوَلَدُ لِجَدِّهِ) أَيْ وَفَرَضَ الْمَسْأَلَةَ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ وَهَبَهُ لَهُ. وَقَوْلُهُ " ثُمَّ الْجَدُّ لِوَلَدِ وَلَدِهِ " وَهُوَ الْوَاهِبُ لَهُ أَوَّلًا فَكَانَ الْأَوْلَى الْإِضْمَارُ، أَوْ يُقَالُ الْمُرَادُ وَلَدُ وَلَدٍ آخَرُ غَيْرُ الْوَاهِبِ. اهـ. م د.
قَوْلُهُ: (فَالرُّجُوعُ لِلْجَدِّ فَقَطْ) أَيْ دُونَ الْأَبِ الْوَاهِبِ لِوَلَدِهِ أَوَّلًا الَّذِي وَهَبَ لِجَدِّهِ. وَعِلَّةُ عَدَمِ رُجُوعِ الْأَبِ خُرُوجُ الْمَوْهُوبِ عَنْ سَلْطَنَةِ الْوَلَدِ الْوَاهِبِ لِلْجَدِّ، لِأَنَّ الْمِلْكَ الْآنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ الْجَدِّ لَا مِنْ الْأَبِ، وَهَذَا خِلَافُ مَا فِي الْمُحَشِّي. قَوْلُهُ:(لَمْ يَرْجِعْ الْأَصْلُ) وَيَكُونُ الزَّائِلُ الْعَائِدُ هُنَا كَاَلَّذِي لَمْ يُعَدَّ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: وَعَائِدٌ كَزَائِلٍ لَمْ يُعَدَّ فِي فَلَسٍ مَعَ هِبَةٍ لِلْوَلَدْ فِي الْبَيْعِ وَالْقَرْضِ وَفِي الصَّدَاقِ بِعَكْسِ ذَاكَ الْحُكْمِ بِاتِّفَاقِ
كَالسِّمَنِ دُونَ الْمُنْفَصِلَةِ كَالْوَلَدِ الْحَادِثِ فَإِنَّهُ يَبْقَى لِلْمُتَّهَبِ لِحُدُوثِهِ عَلَى مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْحَمْلِ الْمُقَارِنِ لِلْهِبَةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِيهِ وَإِنْ انْفَصَلَ، وَيَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِرَجَعْتُ فِيمَا وَهَبْتُ أَوْ اسْتَرْجَعْتُهُ أَوْ رَدَدْتُهُ إلَى مِلْكِي. أَوْ نَقَضْت الْهِبَةَ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ كَأَبْطَلْتُهَا أَوْ فَسَخْتُهَا، وَلَا يَحْصُلُ الرُّجُوعُ بِبَيْعِ مَا وَهَبَهُ الْأَصْلُ لِفَرْعِهِ، وَلَا بِوَقْفِهِ وَلَا بِهِبَتِهِ وَلَا بِإِعْتَاقِهِ، وَلَا بِوَطْءِ الْأَمَةِ.
وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ مِنْ صِيغَةٍ وَهُوَ الرُّكْنُ الرَّابِعُ، وَتَحْصُلُ بِإِيجَابٍ وَقَبُولِ لَفْظٍ مِنْ النَّاطِقِ مَعَ التَّوَاصُلِ الْمُعْتَادِ كَالْبَيْعِ.
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (صَارَ مُسْتَهْلَكًا) أَيْ لِأَنَّهُ أَوْجَدَ فِيهِ فِعْلًا يَسْرِي إلَى التَّلَفِ. وَمِنْهُ يُؤْخَذُ أَنَّ مَنْ اقْتَرَضَ حَبًّا فَبَذَرَهُ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ رُجُوعِ الْمُقْرِضِ، وَقَوْلُهُمْ لِلْمُقْرِضِ الرُّجُوعُ فِي الْعَيْنِ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً عِنْدَ الْمُقْتَرِضِ لَا يَشْمَلُ هَذِهِ الصُّورَةَ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَا دَامَتْ بَاقِيَةً بِحَالِهَا، فَلَا يُقَالُ إنَّ مَا يُوجِدُهُ اللَّهُ مِنْ الزَّرْعِ يَكُونُ مِلْكًا لِلْمُقْرِضِ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ غَصَبَ حَبًّا فَنَبَتَتْ فَإِنَّ الزَّرْعَ كُلَّهُ لِلْمَالِكِ وَعَلَى الْغَاصِبِ أَرْشُ نَقْصِهِ إنْ فُرِضَ أَنَّ الزَّرْعَ أَنْقَصُ مِنْ الْحَبِّ الْمَغْصُوبِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ م ر فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ فِي بَابِ الْغَصْبِ وَنَقَلَهُ أج عَنْ الزِّيَادِيِّ، وَعِبَارَتُهُ: وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَصْبِ فَإِنَّ بَذْرَ الْحَبِّ وَتَفْرِيخَ الْبَيْضِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الرُّجُوعِ، وَإِنْ تَدَاوَلَتْ الْأَيْدِي عَلَى الْمَغْصُوبِ وَالتَّعَلُّقُ بِذَلِكَ أَيْ بِمَا نَشَأَ مِنْ الْبَذْرِ وَالْبَيْضِ أَوْلَى مِنْ التَّعَلُّقِ بِبَدَلِهِ، وَلَا كَذَلِكَ الْهِبَةُ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْبَابَيْنِ.
قَوْلُهُ: (بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ) أَيْ غَيْرِ الْحَمْلِ الْحَادِثِ وَلَوْ قَبْلَ وَضْعِهِ سم.
قَوْلُهُ: (كَالسِّمَنِ) أَيْ وَتَعَلُّمِ صَنْعَةٍ لَا مُعَالَجَةَ لِلسَّيِّدِ فِيهِ، زي. وَالْمُرَادُ بِالسَّيِّدِ الْوَلَدُ الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ التَّعَلُّمَ إنْ كَانَ فِيهِ مُعَالَجَةٌ تُقَابَلُ بِأُجْرَةٍ دَفَعَهَا الْوَاهِبُ لِابْنِهِ إنْ طَلَبَهَا تَأَمَّلْ. قَوْلُهُ:(كَالْوَلَدِ الْحَادِثِ) أَيْ بَعْدَ الْقَبْضِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ لِحُدُوثِهِ، ع ش عَلَى الْمَنْهَجِ.
قَوْلُهُ: (بِبَيْعِ مَا وَهَبَهُ الْأَصْلُ إلَخْ) أَيْ بَيْعَهُ مَعَ كَوْنِهِ فِي يَدِ الْفَرْعِ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْتَقِلُ عَنْهُ بِتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ بَاطِلَةٌ.
قَوْلُهُ: (لِفَرْعِهِ) أَيْ بَعْدَ قَبْضِ الْفَرْعِ لَهُ.
قَوْلُهُ: (وَلَا بِوَقْفِهِ) أَيْ وَلَا بِإِيلَادِهِ وَإِتْلَافِهِ، وَيَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَبِالْإِيلَادِ وَالْإِتْلَافِ الْقِيمَةُ وَتَلْغُو الْبَقِيَّةُ، وَالْوَطْءُ حَرَامٌ وَإِنْ قَصَدَ بِهِ الرُّجُوعَ، وَإِذَا رَجَعَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَوْهُوبَ مِنْ الْوَلَدِ فَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ سم.
قَوْلُهُ: (وَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْهِبَةِ إلَخْ) الْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ هَذَا قَبْلَ قَوْلِ الْمَتْنِ: وَإِذَا قَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ إلَخْ، لِيُتِمَّ الْكَلَامَ عَلَى الْأَرْكَانِ الثَّلَاثَةِ.
قَوْلُهُ: (مِنْ صِيغَةٍ إلَخْ) يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَصِحُّ مِنْ الْأَعْمَى وَلَا لَهُ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي عَيْنٍ مُعَيَّنَةٍ وَهُوَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْأَعْيَانِ، أَمَّا الصَّدَقَةُ وَالْهَدِيَّةُ فَتَصِحُّ مِنْهُ وَلَهُ. وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الْقَبُولُ عَلَى طَبَقِ الْإِيجَابِ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهِ هُنَا، وَمِنْهُ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْفَوْرِيَّةِ فِي الصِّيغَةِ فَيَضُرُّ الْفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ وَالْأَوْجَهُ كَمَا رَجَّحَهُ الْأَذْرَعِيُّ اغْتِفَارُ قَوْلِهِ بَعْدَ وَهَبْتُكَ وَسَلَّطْتُكَ عَلَى قَبْضِهِ، فَلَا يَكُونُ فَاصِلًا مُضِرًّا لِتَعَلُّقِهِ بِالْعَقْدِ؛ نَعَمْ فِي الِاكْتِفَاءِ بِالْإِذْنِ قَبْلَ وُجُودِ الْقَبُولِ نَظَرٌ، وَقِيَاسُ مَا مَرَّ فِي مَزْجِ الرَّهْنِ بِالْبَيْعِ الِاكْتِفَاءُ بِهِ، وَقَدْ لَا يَشْتَرِطُ صِيغَةً كَمَا لَوْ كَانَتْ ضِمْنِيَّةً كَأَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي فَأَعْتَقَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مَجَّانًا، وَمَا قَالَهُ الْقَفَّالُ وَأَقَرَّهُ مِنْ أَنَّهُ لَوْ زَيَّنَ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ بِحُلِيٍّ كَانَ تَمْلِيكًا لَهُ بِخِلَافِ زَوْجَتِهِ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَمْلِيكِهِ بِتَوَلِّي الطَّرَفَيْنِ، مَرْدُودٌ بِأَنَّ كَلَامَهُمَا يُخَالِفُهُ حَيْثُ اشْتَرَطَا فِي هِبَةِ الْأَصْلِ تَوَلِّيَ الطَّرَفَيْنِ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ وَهِبَةُ وَلِيِّ غَيْرِهِ لِمُوَلِّيهِ قَبُولُهَا مِنْ الْحَاكِمِ أَوْ نَائِبِهِ؛ شَرْحِ م ر. نَعَمْ إنْ دَفَعَ ذَلِكَ لِاحْتِيَاجِهِ لَهُ أَوْ قَصَدَ ثَوَابَ الْآخِرَةِ كَانَ صَدَقَةً فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إيجَابٍ وَلَا قَبُولٍ، وَلَا يُعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا مِنْهُ، وَقَدْ تَدُلُّ الْقَرَائِنُ الظَّاهِرَةُ عَلَى شَيْءٍ فَيَعْمَلُ بِهِ ع ش عَلَى م ر. وَلَوْ خَتَنَ وَلَدَهُ وَحَمَلَتْ لَهُ هَدَايَا مَلَكَهَا الْأَبُ وَقَالَ جَمْعٌ لِلِابْنِ فَيَلْزَمُ الْأَبَ قَبُولُهَا، أَيْ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْمَحْذُورِ؛ وَمِنْهُ قَصْدُ التَّقَرُّبِ لِلْأَبِ، وَهُوَ نَحْوُ قَاضٍ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْقَبُولُ وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَمَحَلُّ الْخِلَافِ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ الْمُهْدِي وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَإِلَّا فَهِيَ لِمَنْ قَصَدَهُ بِالِاتِّفَاقِ. وَيَجْرِي ذَلِكَ فِيمَا يُعْطَاهُ خَادِمُ الصُّوفِيَّةِ، فَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ أَوْ قَصْدِهِ وَلَهُمْ عِنْدَ قَصْدِهِمْ وَلَهُ وَلَهُمْ عِنْدَ قَصْدِهِمَا، أَيْ فَيَكُونُ لَهُ النِّصْفُ فِيمَا يَظْهَرُ أَخْذًا مِمَّا يَأْتِي فِي الْوَصِيَّةِ فِيمَا إذَا أَوْصَى لِزَيْدٍ وَالْفُقَرَاءِ مَثَلًا، وَمَا
وَمِنْ صَرَائِحِ الْإِيجَابِ وَهَبْتُكَ وَمَنَحْتُكَ وَمَلَّكْتُكَ بِلَا ثَمَنٍ، وَمِنْ صَرَائِحِ الْقَبُولِ قَبِلْتُ وَرَضِيتُ، وَيَقْبَلُ الْهِبَةَ لِلصَّغِيرِ وَنَحْوَهُ مِمَّنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ الْوَلِيُّ وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ فِي الْهَدِيَّةِ وَلَا فِي الصَّدَقَةِ، بَلْ يَكْفِي الْإِعْطَاءُ مِنْ الْمَالِكِ وَالْأَخْذُ مِنْ الْمَدْفُوعِ لَهُ
(وَ) تَصِحُّ بِعُمْرَى وَرُقْبَى، فَالْعُمْرَى كَمَا إذَا أَعْمَرَ شَيْئًا كَأَنْ قَالَ أَعْمَرْتُكَ هَذَا أَيْ: جَعَلْتُهُ لَك عُمْرَك أَوْ حَيَاتَك أَوْ مَا عِشْتَ وَإِنْ زَادَ فَإِذَا مِتَّ عَادَ لِي لِخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «الْعُمْرَى مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا» وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا: جَعَلْتُهُ لَك عُمْرَك مَا لَوْ قَالَ جَعَلْتُهُ لَك عُمْرِي أَوْ عُمْرَ زَيْدٍ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لِخُرُوجِهِ عَنْ اللَّفْظِ الْمُعْتَادِ لِمَا فِيهِ مِنْ
ــ
[حاشية البجيرمي]
جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ وَضْعِ طَاسَةٍ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْفَرَحِ لِيَضَعَ النَّاسُ فِيهَا دَرَاهِمَ ثُمَّ تُقْسَمُ عَلَى الْمُزَيِّنِ وَنَحْوِهِ يَجْرِي فِيهِ ذَلِكَ التَّفْصِيلُ، فَإِنْ قَصَدَ الْمُزَيِّنَ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ نُظَرَائِهِ الْمُعَاوِنِينَ لَهُ عُمِلَ بِالْقَصْدِ، وَإِنْ أَطْلَقَ كَانَ مِلْكًا لِصَاحِبِ الْفَرَحِ يُعْطِيهِ لِمَنْ شَاءَ، وَبِهَذَا يُعْلَمُ عَدَمُ اعْتِبَارِ الْعُرْفِ هُنَا شَرْحِ م ر. وَلَوْ نَذَرَ لِوَلِيِّ مَيِّتٍ بِمَالٍ فَإِنْ قَصَدَ أَنَّهُ يَمْلِكُهُ لَغَا، وَإِنْ أَطْلَقَ فَإِنْ كَانَ عَلَى قَبْرِهِ مَا يَحْتَاجُ لِلصَّرْفِ فِي مَصَالِحِهِ صُرِفَ لَهَا، وَإِلَّا فَإِنْ كَانَ عِنْدَ قَوْمٍ اُعْتِيدَ قَصْدُهُمْ بِالنَّذْرِ لِلْوَلِيِّ صُرِفَ لَهُمْ اهـ وَلَوْ أَهْدَى لِمَنْ خَلَّصَهُ مِنْ ظَالِمٍ لِئَلَّا يَنْقُضَ مَا فَعَلَهُ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَبُولُهُ وَإِلَّا حَلَّ، أَيْ وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ، بِنَاءً عَلَى الْأَصَحِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ إذَا كَانَ فِيهِ كُلْفَةٌ، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُ الْأَذْرَعِيِّ وَغَيْرِهِ هُنَا. وَلَوْ قَالَ: خُذْ وَاشْتَرِ لَك بِهِ كَذَا، تَعَيَّنَ الشِّرَاءُ بِهِ مَا لَمْ يُرِدْ التَّبَسُّطَ، أَيْ أَوْ تَدُلُّ قَرِينَةُ مَالٍ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقَرِينَةَ مُحَكَّمَةٌ هُنَا، وَمِنْ ثَمَّ قَالُوا: لَوْ أَعْطَى فَقِيرًا دِرْهَمًا بِنِيَّةِ أَنْ يَغْسِلَ بِهِ ثَوْبَهُ، أَيْ وَقَدْ دَلَّتْ الْقَرِينَةُ عَلَى ذَلِكَ، تَعَيَّنَ لَهُ، وَإِنْ أَعْطَاهُ كَفَنًا لِأَبِيهِ فَكَفَّنَهُ فِي غَيْرِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لَهُ إنْ كَانَ قَصَدَ التَّبَرُّكَ بِأَبِيهِ لِفِقْهٍ أَوْ وَرَعٍ، قَالَ فِي الْمُهِمَّاتِ: أَوْ قَصَدَ الْقِيَامَ بِفَرْضِ التَّكْفِينِ وَلَمْ يَقْصِدْ التَّبَرُّعَ عَلَى الْوَارِثِ، قَالَ الْأَذْرَعِيُّ: وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا عَلِمَ قَصْدَهُ. فَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ بَلْ يَتَصَرَّفُ فِيهِ كَيْفَ شَاءَ إنْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَسُّطِ الْمُعْتَادِ، وَإِلَّا فَيَلْزَمُهُ رَدُّهُ أَخْذًا مِمَّا مَرَّ " فِي اشْتَرِ لَك بِهَذَا عِمَامَةً " رَوْضٌ وَشَرْحُهُ. وَلَوْ شَكَا إلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يُوَفِّ أُجْرَتَهُ كَاذِبًا فَأَعْطَاهُ دِرْهَمًا أَوْ أَعْطَى بِظَنِّ صِفَةٍ فِيهِ أَوْ فِي نِسْبَةٍ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ بَاطِنًا، لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَبُولُهُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ وَيَكْتَفِي فِي كَوْنِهِ أَعْطَى لِتِلْكَ الصِّفَةِ بِالْقَرِينَةِ. وَمِثْلُ هَذَا مَنْ دَفَعَ لِمَخْطُوبَتِهِ أَوْ وَكِيلِهَا أَوْ وَلِيِّهَا أَوْ غَيْرِهِ لِيَتَزَوَّجَهَا فَرَدَّ قَبْلَ الْعَقْدِ رَجَعَ عَلَى مَنْ أَقْبَضَهُ، وَحَيْثُ دَلَّتْ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ مَا يُعْطَاهُ إنَّمَا يُعْطَاهُ لِلْحَيَاءِ حَرُمَ الْأَخْذُ وَلَمْ يَمْلِكْهُ، قَالَ الْغَزَالِيُّ: إجْمَاعًا. وَكَذَا لَوْ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ أَوْ تَسْلِيمِ مَا هُوَ عَلَيْهِ إلَّا بِمَالٍ كَتَزْوِيجِ بِنْتِهِ، بِخِلَافِ إمْسَاكِهِ لِزَوْجَتِهِ حَتَّى تُبْرِئَهُ أَوْ تَفْتَدِيَ بِمَالٍ. وَيُفَرَّقُ بِأَنَّهُ هُنَا فِي مُقَابَلَةِ الْبُضْعِ الْمُتَقَوِّمِ عَلَيْهِ بِمَالٍ؛. اهـ. حَجّ. فَرْعٌ: مَا تَقَرَّرَ فِي الرُّجُوعِ فِي النُّقُوطِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا يُسْتَهْلَكُ كَالْأَطْعِمَةِ وَغَيْرِهِ؛ وَمَدَارُ الرُّجُوعِ عَلَى عَادَةِ أَمْثَالِ الدَّافِعِ لِهَذَا الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ، فَحَيْثُ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالرُّجُوعِ رَجَعَ فَلَا. اهـ. ع ش عَلَى م ر.
قَوْلُهُ: (وَمَنَحْتُك) أَيْ أَعْطَيْتُك.
قَوْلُهُ: (بِلَا ثَمَنٍ) أَيْ حَالَ كَوْنِ الثَّلَاثَةِ صَادِرَةً بِلَا ذِكْرِ ثَمَنٍ، فَإِنْ ذَكَرَ فِيهَا الثَّمَنَ فَهِيَ هِبَةٌ بِثَوَابٍ وَلَا كَلَامَ فِيهَا.
قَوْلُهُ: (وَتَصِحُّ) أَيْ الْهِبَةُ وَقَوْلُهُ بِعُمْرَى، أَيْ فَهِيَ صِيغَةُ هِبَةٍ طَوَّلَ فِيهَا الْعِبَارَةَ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا الْقَبُولُ وَتَلْزَمُ بِالْقَبْضِ. وَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى كَانَا عَقْدَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. اهـ. مَرْحُومِيٌّ.
قَوْلُهُ: (كَأَنْ قَالَهُ) أَيْ الْعَارِفُ بِمَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ وَإِلَّا فَلَا يَصِحُّ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَ مَعْنَى الرُّقْبَى وَالْعُمْرَى وَلَوْ بِوَجْهٍ حَتَّى يَقْصِدَهُ، فَلَوْ قَالَ ذَلِكَ جَاهِلًا بِهِ مِنْ جَمِيعِ وُجُوهِهِ لَمْ يَصِحَّ كَمَا انْحَطَّ عَلَى ذَلِكَ كَلَامُ م ر وحج، وَلَوْ ادَّعَى الْجَهْلَ بِمَعْنَاهُ بَعْدَهُ إنْ صُدِّقَ إنْ أَمْكَنَ جَهْلُهُ؛. اهـ. م د عَلَى التَّحْرِيرِ. فَرْعٌ يُشْتَرَطُ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى الْقَبُولُ كَالْهِبَةِ. اهـ. عَبْدُ الْبَرِّ.
قَوْلُهُ: (أَيْ جَعَلْته إلَخْ) عِبَارَةُ شَرْحِ الْبَهْجَةِ: أَوْ جَعَلْته لَك عُمْرَك، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدُ: وَخَرَجَ بِقَوْلِنَا إلَخْ.
قَوْلُهُ: (مِيرَاثٌ لِأَهْلِهَا) أَيْ فَلَا يَعْمَلُ بِقَوْلِهِ: فَإِذَا مِتّ عَادَ لِي، وَمِنْ ثَمَّ عَدَلُوا بِهِ عَنْ قِيَاسِ سَائِرِ الشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ إذْ لَيْسَ لَنَا عَقْدٌ يَصِحُّ مَعَ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ الْمُنَافِي لِمُقْتَضَاهُ وَيَلْغُو إلَّا هَذَا زي.
قَوْلُهُ: (الْمُعْتَادُ) أَيْ الْمُعْتَادُ مَعَ النَّاسِ فِي عَقْدِ
تَأْقِيتِ الْمِلْكِ، فَإِنَّ الْوَاهِبَ أَوْ زَيْدًا قَدْ يَمُوتُ أَوَّلًا بِخِلَافِ الْعَكْسِ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَمْلِكُ إلَّا مُدَّةَ حَيَاتِهِ، وَلَا يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْعُمْرَى كَإِذَا جَاءَ فُلَانٌ أَوْ رَأْسُ الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّيْءُ لَك عُمْرَك. وَالرُّقْبَى كَمَا إذَا قَالَ جَعَلْتُهُ لَك رُقْبَى أَوْ أَرْقُبُهُ كَأَنْ قَالَ أَرْقَبْتُكَهُ أَيْ إنْ مِتَّ قَبْلِي عَادَ إلَيَّ وَإِنْ مِتُّ قَبْلَك اسْتَقَرَّتْ لَك (كَانَ) ذَلِكَ الشَّيْءُ (لِلْمُعْمَرِ) فِي الْأُولَى (أَوْ لِلْمُرْقَبِ) فِي الثَّانِيَةِ بِلَفْظِ اسْمِ الْمَفْعُولِ فِيهِمَا (وَلِوَرَثَتِهِ مِنْ بَعْدِهِ) وَيَلْغُو الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ فِي الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد:«لَا تَعْمُرُوا وَلَا تَرْقُبُوا فَمَنْ أَعْمَرَ شَيْئًا أَوْ أَرْقَبَهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ» أَيْ لَا تَعْمُرُوا وَلَا تَرْقُبُوا طَمَعًا فِي أَنْ يَعُودَ إلَيْكُمْ فَإِنَّ مَصِيرَهُ الْمِيرَاثُ. وَالرُّقْبَى مِنْ الرُّقُوبِ فَكُلٌّ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ الْآخَرِ وَالْهِبَةُ إنْ أُطْلِقَتْ بِأَنْ لَمْ تُقَيَّدْ بِثَوَابٍ وَلَا بِعَدَمِهِ فَلَا ثَوَابَ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ لِأَعْلَى مِنْ الْوَاهِبِ أَوْ قُيِّدَتْ بِثَوَابٍ مَجْهُولٍ كَثَوْبٍ فَبَاطِلَةٌ، أَوْ بِمَعْلُومٍ فَبَيْعٌ نَظَرًا إلَى الْمَعْنَى.
وَظَرْفُ الْهِبَةِ إنْ لَمْ يُعْتَدْ رَدُّهُ كَقَوْصَرَّةِ تَمْرٍ هِبَةً أَيْضًا وَإِلَّا فَلَا، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هِبَةً حَرُمَ اسْتِعْمَالُهُ إلَّا فِي أَكْلِ الْهِبَةِ مِنْهُ إنْ اُعْتِيدَ.
تَتِمَّةٌ: يُسَنُّ لِلْوَالِدِ وَإِنْ عَلَا الْعَدْلُ فِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ بِأَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ: «اتَّقُوا اللَّهَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
الْهِبَةِ بِلَفْظِ الْعُمْرَى.
قَوْلُهُ: (لِمَا فِيهِ) الْأَوْلَى وَلِمَا فِيهِ بِالْوَاوِ كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي شَرْحِ الْبَهْجَةِ.
قَوْلُهُ: (بِخِلَافِ الْعَكْسِ) أَيْ إذَا قَالَ: جَعَلْتُهُ لَك عُمُرَكَ.
قَوْلُهُ: (إلَّا مُدَّةَ حَيَاتِهِ) أَيْ فَلَا تَأْقِيتَ فِي الْحَقِيقَةِ، شَرْحِ الْبَهْجَةِ.
قَوْلُهُ: (وَلِوَرَثَتِهِ) أَيْ الْآخِذِ. وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِهِ ذَكَرَهُ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنَّهَا فِي الْحَالِ لَهُ وَلِمَنْ يَرِثُهُ بِتَقْدِيرِ مَوْتِهِ.
قَوْلُهُ: (الْمَذْكُورُ) لَوْ حَذَفَ الْمَذْكُورَ إلَخْ، لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ فِي الرُّقْبَى شَرْطًا بَلْ فِي الْعُمْرَى فَقَطْ، وَهُوَ: فَإِذَا مِتَّ عَادَ لِي إلَّا أَنْ يُرَادَ وَلَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، فَتَأَمَّلْ ق ل. وَقَوْلُهُ " وَلَوْ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ " وَهُوَ قَوْلُهُ أَرْقَبْتُكَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ مِتّ قَبْلِي عَادَ إلَيَّ وَإِنْ مِتّ قَبْلَك اسْتَقَرَّ لَك كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: (فَمَنْ أُعْمِرَ شَيْئًا أَوْ أُرْقِبَهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ فِيهِمَا شَوْبَرِيٌّ. قَوْلُهُ: (أَيْ لَا تَعْمُرُوا إلَخْ) فَالنَّهْيُ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْقَيْدِ، وَإِلَّا فَالْعُمْرَى وَالرُّقْبَى جَائِزَانِ.
قَوْلُهُ: (بِثَوَابٍ) أَيْ بِذِكْرِ عِوَضٍ.
قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَتْ) غَايَةٌ. قَوْلُهُ: (كَقَوْصَرَّةِ) بِقَافٍ مَفْتُوحَةٍ فَوَاوٍ سَاكِنَةٍ فَصَادٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَرَاءٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ مُشَدَّدَةٍ وَلَا تُسَمَّى بِذَلِكَ إلَّا وَفِيهَا التَّمْرُ وَإِلَّا فَهِيَ مِكْتَلٌ وَزِنْبِيلٌ وَهِيَ الْجِرَابُ الَّذِي يُكْنَزُ فِيهِ التَّمْرُ مِنْ الْبَوَادِي قَالَ الرَّاجِزُ
أَفْلَحَ مَنْ كَانَ لَهُ قَوْصَرَّهْ
…
يَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ يَوْمٍ مَرَّهْ
قَوْلُهُ: (إلَّا فِي أَكْلٍ) أَيْ فَيَجُوزُ أَكْلُهَا مِنْهُ حِينَئِذٍ وَيَكُونُ عَارِيَّةً، شَرْحِ الْمَنْهَجِ. وَحَاصِلُهُ أَنَّ ظَرْفَ الْهَدِيَّةِ هِبَةٌ إنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِرَدِّهِ وَإِلَّا فَعَارِيَّةٌ إنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِأَكْلِهَا مِنْهُ وَإِلَّا فَغَصْبٌ، اهـ وَيَنْدُبُ رَدُّ ظَرْفِ الْهَدِيَّةِ حَالًا بَلْ يَجِبُ إنْ اُعْتِيدَ تَفْرِيغُهُ حَالًا، إذْ الْمُرَاعَى فِي ذَلِكَ الْعَادَةُ. فَالْحَاصِل أَنَّهُ إنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِتَفْرِيغِهِ حَالًا وَالْمُرَادُ عَادَةُ الْمُهْدِي، وَجَبَ وَإِنْ جَرَتْ عَادَتُهُ بِإِبْقَائِهَا فِيهِ مُدَّةً جَازَ؛ وَلَكِنْ الْأَفْضَلُ رَدُّهُ حَالًا. وَيُسَنُّ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْ الْهَدِيَّةِ حَتَّى يَأْمُرَ صَاحِبَهَا بِالْأَكْلِ مِنْهَا وَيَأْكُلَ مِنْهَا، لِمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رضي الله عنه:«أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ لَا يَأْكُلُ هَدِيَّةً حَتَّى يَأْمُرَ صَاحِبَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا لِلشَّاةِ الَّتِي أُهْدِيَتْ إلَيْهِ فِي خَيْبَرَ وَهِيَ مَسْمُومَةٌ» وَهَذَا أَصْلٌ لِمَا يَعْتَادُهُ الْمُلُوكُ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ فِي مَعْنَاهُمْ مِنْ كُبَرَاءِ النَّاسِ. اهـ. م د مَعَ زِيَادَةٍ مِنْ الشَّوْبَرِيِّ.
قَوْلُهُ: (وَفِي عَطِيَّةِ أَوْلَادِهِ) أَيْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْعَطِيَّةُ صَدَقَةً أَمْ هَدِيَّةً أَمْ هِبَةً أَمْ وَقْفًا أَمْ تَبَرُّعًا آخَرَ، فَأَفْهَمَ قَوْلُهُ " كَغَيْرِهِ عَطِيَّةً " أَنَّهُ لَا تُطْلَبُ مِنْهُ التَّسْوِيَةُ فِي غَيْرِهَا كَالتَّوَدُّدِ بِالْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، لَكِنْ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الدَّمِيرِيِّ لَا خِلَافَ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ مَطْلُوبَةٌ حَتَّى فِي التَّقْبِيلِ وَلَهُ وَجْهٌ،. اهـ. ابْنُ حَجَرٍ زي. وَمَحَلُّ ذَلِكَ فِي الْمُمَيِّزِينَ. وَفِي ق ل عَلَى التَّحْرِيرِ: فَرْعٌ: يَنْدُبُ لِلْأَصْلِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَ أَوْلَادِهِ فِي الْعَطِيَّةِ وَغَيْرِهَا وَلَوْ بِنَحْوِ قُبْلَةٍ، نَعَمْ إنْ تَمَيَّزَ أَحَدُهُمْ بِنَحْوِ فَضِيلَةٍ فَلَهُ تَمْيِيزُهُ أَوْ بِنَحْوِ عُقُوقٍ فَلَهُ مَنْعُهُ مِنْ الْإِعْطَاءِ، بَلْ يَجِبُ إنْ لَزِمَ عَلَى إعْطَائِهِ مَعْصِيَةً اهـ.
قَوْلُهُ: (يُسَوِّي إلَخْ) خَصَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى بِالذِّكْرِ لِمَا قِيلَ إنَّ
وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ لِهَذَا الْخَبَرِ. وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْحَاجَةِ وَعَدَمِهَا وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ، وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ تَفْضِيلُ الصَّحَابَةِ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ فَضَّلَ السَّيِّدَةَ عَائِشَةَ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَوْلَادِهِ، وَفَضَّلَ عُمَرُ ابْنَهُ عَاصِمًا بِشَيْءٍ، وَفَضَّلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ بَعْضَ أَوْلَادِهِ عَلَى بَعْضِهِمْ رضي الله عنهم أَجْمَعِينَ -. وَيُسَنُّ أَيْضًا أَنْ يُسَوِّيَ الْوَلَدُ إذَا وَهَبَ لِوَالِدَيْهِ شَيْئًا، وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ التَّسْوِيَةِ كَمَا مَرَّ فِي الْأَوْلَادِ، فَإِنْ فَضَّلَ أَحَدَهُمَا فَالْأُمُّ أَوْلَى لِخَبَرِ:«إنَّ لَهَا ثُلُثَيْ الْبِرِّ» وَالْإِخْوَةُ وَنَحْوُهُمْ لَا يَجْرِي فِيهِمْ هَذَا الْحُكْمُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ مَطْلُوبَةٌ لَكِنْ دُونَ طَلَبِهَا فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ
وَأَفْضَلُ الْبِرِّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا وَفِعْلِ مَا يَسُرُّهُمَا مِنْ الطَّاعَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَغَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَعُقُوقُ
ــ
[حاشية البجيرمي]
مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى أَنْ يُعْطِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلَيْ الْأُنْثَى كَالْإِرْثِ، بَلْ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعْطَاءِ وَقَدْرِ الْمُعْطَى اهـ.
قَوْلُهُ: (وَاعْدِلُوا) بِوَصْلِ الْهَمْزَةِ. قَوْلُهُ: (وَيُكْرَهُ تَرْكُهُ) أَيْ الْعَدْلِ.
قَوْلُهُ: (عِنْدَ الِاسْتِوَاءِ فِي الْحَاجَةِ) أَيْ وَفِي الْبِرِّ وَعَدَمِهِ وَالدِّينِ وَقِلَّتِهِ.
قَوْلُهُ: (فَإِنْ فَضَّلَ أَحَدَهُمَا) أَيْ أَرَادَ أَنْ يُفَضِّلَ أَحَدَهُمَا أج.
قَوْلُهُ: (هَذَا الْحُكْمُ) وَهُوَ كَرَاهَةُ تَرْكِ التَّسْوِيَةِ.
قَوْلُهُ: (إنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ) أَيْ لَكِنْ تَرْكُ ذَلِكَ خِلَافُ الْأَوْلَى فَقَطْ لَا مَكْرُوهٌ، فَقَوْلُهُ " مَطْلُوبَةٌ " أَيْ فِيهَا أَصْلُ الطَّلَبِ وَلَا يَتَأَكَّدُ.
قَوْلُهُ: (بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا) مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْوَالِدِ أَنْ يَسْتَمِعَ كَلَامَهُ وَأَنْ يَقُومَ لِقِيَامِهِ وَيَمْتَثِلَ أَمْرَهُ وَلَا يَمْشِيَ أَمَامَهُ وَلَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ فَوْقَ صَوْتِهِ وَيُلَبِّيَ دَعْوَتَهُ وَيَحْرِصَ عَلَى طَلَبِ مَرْضَاتِهِ وَيَخْفِضَ لَهُ جَنَاحَهُ بِالصَّبْرِ وَلَا يَمَلَّ بِالْبِرِّ لَهُ وَلَا بِالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَلَا يَنْظُرَ إلَيْهِ شَزْرًا أَيْ عَبُوسًا. وَفِي خَبَرٍ مَرْفُوعٍ: «لَعَنَ اللَّهُ الْعَاقَّ لِوَالِدَيْهِ» قَالَ الذَّهَبِيُّ: وَإِسْنَادُهُ حَسَنٌ: وَقَالَ وَهْبٌ: «أَوْحَى اللَّهُ إلَى مُوسَى: وَقِّرْ وَالِدَيْك فَإِنَّ مَنْ وَقَّرَ وَالِدَيْهِ مَدَدْتُ لَهُ فِي عُمْرِهِ وَوَهَبْتُ لَهُ وَلَدًا يَبَرُّهُ» وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «رَأَيْت أَقْوَامًا مُعَلَّقِينَ فِي جُذُوعِ النَّارِ فَقُلْت: مَالِكُ، مَا كَانَ ذَنْبُهُمْ؟ قَالَ كَانُوا عَاقِّينَ لِوَالِدَيْهِمْ فَيَقُولُ اللَّهُ جَلَّ وَعَلَا: لَا أُخْرِجُهُمْ إلَّا بِرِضَا وَالِدَيْهِمْ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَخْرِجْهُمْ مَعِي يَنْظُرُونَ عَذَابَهُمْ لَعَلَّ أَنْ يَرْحَمُوهُمْ. فَيَأْمُرُ اللَّهُ بِخُرُوجِ عَشْرِ رِجَالٍ فَيَمْشُونَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَأْتُونَ إلَى جَهَنَّمَ فَيَأْمُرُ اللَّهُ مَالِكًا يَفْتَحُ لَهُمْ فَإِذَا رَأَوْا أَوْلَادَهُمْ يُعَذَّبُونَ فَيَبْكُونَ وَيَقُولُونَ: مَا عَلِمْنَا أَنَّهُمْ فِي هَذَا الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، فَيَصِيحُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِوَلَدِهِ فَإِذَا سَمِعُوا صَوْتَ آبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ بَكَوْا وَقَالُوا: النَّارُ أَحْرَقَتْ أَكْبَادَنَا وَالْعُقُوبَةُ أَهْلَكَتْنَا. فَيَبْكِي الْآبَاءُ وَالْأُمَّهَاتُ وَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ اشْفَعْ فِيهِمْ: فَيَقُولُ: لَهُمْ: لَا يَخْرُجُونَ إلَّا بِشَفَاعَتِكُمْ. فَيَقُولُونَ: إلَهَنَا وَسَيِّدَنَا تَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِخُرُوجِهِمْ مِنْ النَّارِ إلَى الْجَنَّةِ. فَيَقُولُ لَهُمْ اللَّهُ: أَنْتُمْ رَضِيتُمْ عَنْ أَوْلَادِكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيَقُولُ اللَّهُ لِمَالِكٍ: أَخْرِجْ كُلَّ مَنْ طَلَبَهُ أَبَوَاهُ وَأَخِّرْ مَنْ لَمْ يَطْلُبَاهُ، فَيُخْرِجُهُمْ فَحْمًا فَيُغْمَسُونَ فِي مَاءِ الْحَيَاةِ فَيَنْبُتُ عَلَيْهِمْ اللَّحْمُ وَالشَّعْرُ وَالْجِلْدُ وَيَدْخُلُونَ بِهِمْ الْجَنَّةَ» . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ عَقَّ وَالِدَيْهِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَإِنَّهُ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ ضَمَّهُ الْقَبْرُ ضَمَّةً حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلَاعُهُ. وَأَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا فِي جَهَنَّمَ عَاقٌّ لِوَالِدَيْهِ وَالزَّانِي وَالْمُشْرِكُ بِاَللَّهِ سبحانه وتعالى» وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ» . وَعَنْ «ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَ: الصَّلَاةُ لِأَوَّلِ وَقْتِهَا قُلْت: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قُلْت: ثُمَّ أَيْ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» وَرُوِيَ «أَنَّ رَجُلًا شَكَا إلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَبَاهُ وَأَنَّهُ يَأْخُذُ مَالَهُ، فَدَعَاهُ فَإِذَا هُوَ بِشَيْخٍ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا، فَسَأَلَهُ فَقَالَ: إنَّهُ كَانَ ضَعِيفًا وَأَنَا قَوِيٌّ وَفَقِيرًا وَأَنَا غَنِيٌّ فَكُنْت لَا أَمْنَعُهُ شَيْئًا مِنْ مَالِي وَالْيَوْمَ أَنَا ضَعِيفٌ وَهُوَ قَوِيٌّ وَأَنَا فَقِيرٌ وَهُوَ غَنِيٌّ وَيَبْخَلُ عَلَيَّ بِمَالِهِ. فَبَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: مَا مِنْ حَجَرٍ وَلَا مَدَرٍ يَسْمَعُ بِهَذَا إلَّا بَكَى قَالَ لِلْوَلَدِ: أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ» . «وَشَكَا إلَيْهِ آخَرُ سُوءَ خُلُقِ أُمِّهِ فَقَالَ: لِمَ لَمْ تَكُنْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ حِينَ حَمَلَتْكَ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ؟ قَالَ: إنَّهَا سَيِّئَةُ الْخُلُقِ. قَالَ: لِمَ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ حِينَ أَرْضَعَتْك حَوْلَيْنِ؟ قَالَ إنَّهَا سَيِّئَةُ الْخُلُقِ. قَالَ: لِمَ لَمْ تَكُنْ كَذَلِكَ حِينَ أَسْهَرَتْ لَك لَيْلَهَا وَأَظْمَأَتْ لَك نَهَارَهَا؟ قَالَ: لَقَدْ جَازَيْتُهَا. قَالَ: مَاذَا فَعَلْتَ؟ قَالَ: حَجَجْتُ بِهَا عَلَى عُنُقِي. قَالَ: مَا جَازَيْتَهَا» . «وَقَالَ صلى الله عليه وسلم إيَّاكُمْ وَعُقُوقَ الْوَالِدَيْنِ، فَإِنَّ الْجَنَّةَ يُوجَدُ رِيحُهَا مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ وَلَا شَيْخٌ عَاصٍ وَلَا جَارٌّ إزَارَهُ خُيَلَاءَ إنَّ الْكِبْرِيَاءَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» اهـ مِنْ تَفْسِيرِ الْخَطِيبِ.
كُلٍّ مِنْهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ وَهُوَ أَنْ يُؤْذِيَهُ أَذًى لَيْسَ بِالْهَيِّنِ مَا لَمْ يَكُنْ مَا آذَاهُ بِهِ وَاجِبًا
وَصِلَةُ الْقَرَابَةِ وَهِيَ فِعْلُكَ مَعَ قَرِيبِكَ
ــ
[حاشية البجيرمي]
قَوْلُهُ: (مَا لَمْ يَكُنْ إلَخْ) أَيْ كَأَنْ يَكُونَ تَارِكًا لِلصَّلَاةِ وَلَا يَفْعَلُهَا إلَّا بِإِيذَاءٍ لَيْسَ بِالْهَيِّنِ أَوْ ذَا غِيبَةٍ فَنَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ.
قَوْلُهُ: (مَأْمُورٌ بِهَا) أَيْ أَمْرَ نَدْبٍ وَقَطِيعَتُهَا بِتَرْكِ الْمُوَاصَلَةِ الْمَأْلُوفَةِ بَيْنَهُمَا مِنْ الْكَبَائِرِ. وَبِهِ يُلْغَزُ وَيُقَالُ: لَنَا مَنْدُوبٌ يَكُونُ تَرْكُهُ مِنْ الْكَبَائِرِ، قَرَّرَهُ شَيْخُنَا الْعَزِيزِيُّ. وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الرَّحِمُ حَجْنَةٌ مُتَمَسِّكَةٌ بِالْعَرْشِ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ ذَلْقٍ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي، فَيَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: أَنَا الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ وَإِنِّي شَقَقْتُ لِلرَّحِمِ اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ وَمَنْ بَتَكَهَا بَتَكْتُهُ» اهـ. وَالْحَجْنَةُ بِفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالْجِيمِ مَعًا بَعْدَهُمَا نُونٌ هِيَ سِنَّارَةُ الْمِغْزَلِ، وَقَوْلُهُ " بَتَكَهَا بِبَاءٍ مُوَحَّدَةٍ ثُمَّ تَاءٍ مُثَنَّاةٍ مُحَرَّكًا أَيْ قَطَعَهَا اهـ وَالْمُرَادُ أَنَّ حَالَهَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَوْ أَنَّهَا تَتَجَسَّمُ وَتَقُولُ إذْ لَا مَانِعَ مِنْهُ فَلَا يُقَالُ الرَّحِمُ الْعَلَقَةُ الَّتِي بَيْنَك وَبَيْنَ قَرِيبِك فَكَيْفَ تَقُولُ. وَعَنْ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ " إنَّ أَحَدَكُمْ لَيَكُونَ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَيَصِلُ رَحِمَهُ فَيُبَارَك لَهُ فِيهِ فَيَصِيرُ ثَلَاثِينَ سَنَةً، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَكُونَ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ثَلَاثُونَ سَنَةً فَيَقْطَعُ رَحِمَهُ فَيَصِيرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ؛ قَالَ اللَّهُ تبارك وتعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: " مَنْ اتَّقَى رَبَّهُ وَوَصَلَ رَحِمَهُ أُنْسِئَ لَهُ فِي عُمُرِهِ " يَعْنِي يُزَادُ فِي عُمُرِهِ. وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «بِرُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلَامِ» . وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِصِلَةِ الرَّحِمِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ تبارك وتعالى:{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] يَعْنِي اتَّقُوا الْأَرْحَامَ فَصِلُوهَا وَلَا تَقْطَعُوهَا، وَقَالَ تَعَالَى. {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] يَعْنِي أَعْطِهِ حَقَّهُ مِنْ الصِّلَةِ وَالْبِرِّ، وَقَالَ تَعَالَى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] يَعْنِي التَّوْحِيدَ وَشَهَادَةَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيَأْمُرُ بِالْإِحْسَانِ إلَى النَّاسِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ {وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] يَعْنِي يَأْمُرُ بِصِلَةِ الرَّحِمِ: قَالَ يَحْيَى بْنُ سُلَيْمٍ: كَانَ عِنْدَنَا بِمَكَّةَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَكَانَ صَالِحًا وَكَانَ النَّاسُ يُودِعُونَهُ الْوَدَائِعَ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَأَوْدَعَهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَخَرَجَ الرَّجُلُ فِي حَاجَتِهِ وَقَدِمَ مَكَّةَ وَقَدْ مَاتَ الْخُرَاسَانِيُّ، فَسَأَلَ أَهْلَ مَكَّةَ: أَوْدَعْتُ فُلَانًا عَشَرَةَ آلَافِ دِينَارٍ وَقَدْ مَاتَ وَقَدْ سَأَلْت وَلَدَهُ وَأَهْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عِلْمٌ فَمَا تَأْمُرُونِي؟ فَقَالُوا: نَرْجُو أَنْ يَكُونَ الْخُرَاسَانِيُّ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِذَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ ائْتِ زَمْزَمَ فَتَطَلَّعْ فِيهَا وَنَادِ يَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ أَنَا صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، فَأَخْبَرَهُمْ بِذَلِكَ فَقَالُوا:{إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] ، يُخْشَى أَنْ يَكُونَ صَاحِبُك مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَائْتِ الْيَمَنَ فَإِنَّ بِهَا وَادِيًا يُقَالُ لَهُ بَرَهُوتُ وَفِيهِ بِئْرٌ فَتَطَلَّعْ فِيهَا؛ فَإِذَا مَضَى مِنْ اللَّيْلِ ثُلُثُهُ أَوْ نِصْفُهُ فَنَادِ يَا فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ أَنَا صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ، فَفَعَلَ، فَأَجَابَهُ مِنْ أَوَّلِ صَوْتٍ فَقَالَ: وَيْحَك مَا أَنْزَلَك هَهُنَا وَقَدْ كُنْت صَاحِبَ خَيْرٍ؟ قَالَ: كَانَ لِي أَهْلُ بَيْتٍ بِخُرَاسَانَ فَقَطَعْتُهُمْ حَتَّى مِتُّ فَآخَذَنِي اللَّهُ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَنِي هَذَا الْمَنْزِلَ وَأَمَّا مَالَك فَهُوَ عَلَى حَالِهِ وَقَدْ دَفَنْتُهُ فِي بَيْتِ كَذَا فَقُلْ لِوَلَدِي يُدْخِلُك دَارِي وَاحْفِرْ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَإِنَّك تَجِدُ مَالَك. فَوَجَدَ مَالَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَصَفَهُ. فَالْوَاجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ بِالزِّيَارَةِ وَالْهَدِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الصِّلَةِ بِالْمَالِ فَلْيَصِلْهُمْ بِالزِّيَارَةِ وَبِالْإِعَانَةِ فِي أَعْمَالِهِمْ إنْ احْتَاجُوا إلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا يَصِلُهُمْ بِالْكِتَابِ، فَإِنْ قَدَرَ عَلَى السَّيْرِ إلَيْهِمْ كَانَ أَفْضَلَ. وَفِي صِلَةِ الرَّحِمِ عَشْرُ خِصَالٍ مَحْمُودَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ فِيهَا رِضَا اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ أَمَرَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ: الثَّانِي: إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْخَبَرِ:«إنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ إدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ» . الثَّالِثُ: أَنَّ فِيهَا فَرَحَ الْمَلَائِكَةِ لِأَنَّهُمْ يَفْرَحُونَ بِصِلَةِ الرَّحِمِ. الرَّابِعُ: أَنَّ فِيهَا حُسْنَ الثَّنَاءِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ. الْخَامِسُ: أَنَّ فِيهَا إدْخَالَ الْهَمِّ عَلَى إبْلِيسَ.
السَّادِسُ: أَنَّ فِيهَا زِيَادَةً فِي الْعُمْرِ. السَّابِعُ: أَنَّ فِيهَا بَرَكَةً فِي الرِّزْقِ. الثَّامِنُ: أَنَّ فِيهَا سُرُورَ الْأَمْوَاتِ لِأَنَّ الْآبَاءَ وَالْأَجْدَادَ يُسَرُّونَ بِصِلَةِ الْقَرَابَةِ. التَّاسِعُ: أَنَّ فِيهَا زِيَادَةً فِي الْمُرُوءَةِ. الْعَاشِرُ: زِيَادَةُ الْأَجْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كُلَّمَا ذَكَرُوا إحْسَانَهُ. وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «ثَلَاثَةٌ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: وَاصِلُ