الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
6-
درجات تغيير المنكر:
الداعية طبيعة عمله ميداني يصول ويجول، ويغشى الناس في أنديتهم وأماكن تجمعاتهم، حتى في أسواقهم، وأماكن أفراحهم وأتراحهم وأحيانًا في بيوتهم، يقدم لهم الخير والهداية الربانية بالحكمة والموعظة الحسنة، بكل رفق ولين، وهو بهذا العمل العظيم يحسن به أن يكون على درجة عالية من العلم والمعرفة، وخاصة بدرجات تغيير المنكر الوارد في الحديث الصحيح:"من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" 1، هذا حديث عظيم يرسم لك أيها الداعية الطريق، ويضع عليه المعالم في درجات تغيير المنكر على حسب قدرات الدعاة، وإمكاناتهم ومناصبهم ومسئولياتهم، فمن الدعاة من يستطيع أن يغير بيده كالحاكم، والأمير ومن ينوب عنهم في هذا الأمر فكلهم مكلفون بالدعوة، ومسئولون مسئولية كبيرة في -هذا الباب- تغيير المنكر الظاهر باليد إذ هم الذين يستطيعون تغييره باليد وبيدهم السلطة.
فعلى هذا فالدعوة إلى الخير وأعلاها الدعوة إلى الله، واجبة على الجميع على قدر استطاعة الداعية وقدرته؛ لأن هذه الدعوة من صفات المؤمنين والحديث الشريف قد أمر كل مسلم، ومسلمة بإزالة المنكر حسب استطاعته وقدرته، والشأن في المسلم المبادرة إلى الدعوة إلى الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون انتظار غيره، فقد لا يقوم به الغير فيقع في الإثم، كما أن رب البيت راع في أهل
1 صحيح الإمام مسلم، الإمان:"2/ 70".
بيته ويستطيع تغيير المنكر الذي في بيته بيده، وعليه مسئولية عظمى أمام الله إذا هو ترك المنكر في بيته، أو ساهم فيه أو جلبه إلى بيته أو رضي به، بل تنطبق عليه الدياثة1 الوارد ذكرها في أحاديث كثيرة.
فالواجب على كل مسلم أن يتفقد بيته، وأحوال أسرته من أولاد وبنات وزوج، فهو راع ومسئول عن رعيته، ويعتبر بهذه الصفة التفقدية لبيته من الدعاة إلى الله.
كما أن الوزير وأمير المنطقة والمحافظ، والوالي مسئول أمام الله يوم القيامة عما يجري في هذا المحيط الذي تحت سلطته كما أن الرئيس المباشر، ومدير الدائرة والمدير العام، ورئيس المصلحة أو الشركة أو مدير المدرسة، أو عميد الكلية أو مدير الجامعة، أو المعلم داخل الفصل، لهم تأثير مباشر على من تحتهم، فالواحد منهم يستطيع أن يأمر وينهى ويسمع كلامه ويدخل حيز التنفيذ، فكل من هؤلاء راع ومسئول عن رعيته بحكم سلطته، ورئاسته فهو مسئول عن تغيير ما يراه منكرًا بيده، وواجب عليه أن يأمر المعروف، وينهى عن المنكر من كان تحت يده وفي دائرة مسئوليته فحري به أن يستجاب له فهو راع ومسئول عن رعيته، وكثير من الناس بل من الدعاة إلى الله يستطيعون تغيير المنكر باللسان بالضوابط الشرعية، والآداب المرعية ولكنه لا يغير ساكنا، والساكت عن الحق شيطان أخرس، وآخر درجة من درجات تغيير المنكر، التغيير بالقلب بأن يحترق قلبه ويتألم لما يرى من المعاصي والمنكرات، وهو غير قادر على تغييرها حتى باللسان فيبقى التغيير بالقلب وذلك أضعف الإيمان، وحديث الملائكة الذين
1 الديوث: هو الذي يقر ويرضى المنكر والفاحشة في أهله.
بعثهم الله إلى القرية للخسف بها، وكان فيها رجل عابد في صومعته فقال الله تعالى: به ابدءوا فإنه لم يتمعر وجهه في قط.
فالداعية مطلوب منه أن يكون على درجة عالية من معرفة درجات تغيير المنكر، وأن يكون على دراية واعية بهذا الباب من جميع جوانبه حتى لا يقع في المحذور وهو لا يعلم، فيريد أن يغير منكرًا فيقع في منكر أشد منه وقد قال سبحانه:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1، وليس معنى هذا السكوت على المنكر، لكن الأمر يحتاج إلى حكمة ومعرفة ودراية بالمنكر أنه منكر، ومن الأمور التي لا بد من معرفتها في تغيير المنكر أن يكون الناصح رفيقًا حكيمًا، فاعلًا لما يأمر به منتهيًا عما ينهى عنه، فمن الخطأ أن يقع الداعية في فعل ما ينهى عنه، أو ترك ما يأمر به أو يتبع سبيل العنف والغلظة والطيش والتهور، بينما الأصل في النصيحة الرفق واللين، والحكمة وفي الحديث المتفق عليه:"إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله" 2 إذًا الرفق مطلوب من الداعية فيكون الداعية رفيقًا حكيمًا فيما يأمر به، وفيما ينهى عنه ويبتعد كل البعد عن الشدة، والغلظة والعنف والإثارة، وقد قال سبحانه وتعالى لصفوة خلقه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 3.
والذي نحب أن نصل إليه لرفع اللبس والحيرة، نقول: المنكر لا بد من السعي والعمل على تغييره، والمعروف لا بد من الأمر به،
1 سورة الأنعام: من الآية 108.
2 في الصحيحين البخاري ومسلم. تقدم تخريجه: ص21.
3 سورة آل عمران: الآية 159.
لكن الخلاف بين الدعاة والمصلحين، والعلماء في مشارق الأرض ومغاربها في طريقة تغيير المنكر، والأسلوب المتبع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فمن الدعاة من يأخذه الحماس ويريد أن يغير بسرعة ولأول وهلة يرى فيها المنكر، ومنهم من يتأنى ويفكر كيف يتم تغيير هذا المنكر دون أن ينتج عنه منكر آخر أو مضاعفات أشد، وفريق آخر من الدعاة إذا أراد أن يغير استشار العلماء وأهل الرأي والصلاح قبل ذلك، فلا يندم على ما عمل بعد ذلك؛ لأن من استشار الناس شاركهم في عقولهم، وهذا هو الطريق الصحيح والخط السليم للدعوة إلى الله على بصيرة وبرهان.