الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: علاقة الداعية بمسئوليه
التغير بالتي هي أحسن
…
الفصل الرابع: علاقة الداعية بمسئوليه:
1-
التغيير بالتي هي أحسن:
قال الله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} 1، ففي هذه الآية أمر الله نبيه عليه الصلاة والسلام بالقيام بالدعوة بعدة طرق كما هو واضح من الآية الكريمة حيث أشارت الآية إلى ثلاث طرق وهي:
الحكمة، والموعظة الحسنة، المجادلة بالتي هي أحسن.
تستخدم مع كل صنف طريقة تناسبه. قال ابن القيم في تفسيره للآية: "جعل الله سبحانه مراتب الدعوة بحسب مراتب الخلق، فعلى الداعية امتثال الشرع في ذلك، بالتيسير وعدم التعسير ولا ما يدعو إلى التعسر، فقد كان هديه صلى الله عليه وسلم أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما، والمسلم وخاصة من حمل لواء الدعوة عليه أن يسلك أيسر الطرق في دعوته وأن يبشر ولا ينفر، "والتبشير شعار رفعه المنصورن وتسمو به وسلكو طرقه وأساليبه"، وكثيرًا ما نرى أساليبهم يستبشر بها المتعاملون معهم، بينما كان تعامل بعض الدعاة هداهم الله فيه شيء من القوة، والغلظة وتنفير المدعوين، أوليس الداعية إلى الله أحق أن يكون مبشرًا ميسرًا، وأن يكون هذا خلقا وسجيه فيه لا
1 انظر: "ص69".
تنفك عنه بحال؛ لأن ذلك وسيلة للوصول إلى المقصود وسجية التيسير تعني قابلية الداعية للتنازل، والأخذ بالأيسر طالما أن التيسير ممكن، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم:"أنه ما خير بين أمرين إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثمًا، فإن كان إثمًا كان أبعد الناس منه"1.
"ولم تكن دعوته صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام وسيلة إلى قهر الناس وإذلالهم ولا العدوان عليهن، طلبًا لمغنم، أو تمكينًا لأتباعه على من خالف الدعوة، وإظهارًا لنصرتهم على أعدائهم فقط، لم تكن الدعوة كذلك حين بلغها النبي صلى الله عليه وسلم فمن آمن به، واتبعه لم يزدد إلا عزا وقربًا من الله ورسوله، وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ هؤلاء باللين والرحمة {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 2 "3.
وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 4.
فالأمة التي تعد أبناء مجاهدين تعدهم أيضًا ميسيرين. عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله، وأطاع الإمام وأنفق الكريمة وياسر الشريك واجتنب الفساد، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من غزا فخرًا ورياءً وسمعة وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكفاف" 5، ولم يكن صلوات ربي وسلامه
1 صحيح الإمام البخاري، انظر تخريج الحديث ص78.
2 عن كتاب مسئولية الدول الإسلامية عن الدعوة، د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، "ص19".
3 سورة الشعراء: من الآية 215.
4 انظر ص94.
5 سنن أبي داود، كتاب الجهاد:"2515".
عليه يقبل من أصحابه أي نوع من الغلظة والجفاء والإحراج، اقتداؤنا برسول الله صلى الله عليه وسلم يقتضي منا أن نختار الأيسر للناس ونقبله منهم، وإن كان فيه تنازل عن حق من حقوقنا، فتلك المياسرة في الدنيا طريق لتحصيل التيسير، والمغفرة من الله في الآخرة، وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ما لم يكن إثمًا، فإن عارض الكتاب أو السنة لم يتعدوه إلى غيره اقتدء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن لزوم التيسير على الناس ورفع الحرج عنهم، فقد تكفل الله له بالوقاية من النار، وغفران الذنوب كما جاء ذلك في الحديث الشريف: عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بمن حرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار كل قريب سهل" 1، وعنه صلى الله عليه وسلم قال:"حرم على النار كل هين لين سهل قريب من الناس" 2 وقال الحق: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} 3، وفي الحديث الصحيح:"إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه" 4، "إن الرفق ما يكون في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه" 4، والتيسير خير وثماره بركة، حتى في الزوجة:"فإن الخيرية والبركة في المرأة التي اتصفت بتيسير خطبتها، وتيسير صداقها"، قال صلى الله عليه وسلم:"خير النكاح أيسره" 5،
1 مسند الإمام أحمد وصححه الألباني، وسنن الترمذي، كتا صفة القيامة والرقائق والورع "2488".
2 مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين من الصحابة رقم "3928".
3 سورة البقرة: من الآية 185.
4 من حديث عائشة رضي الله عنها، أخرجهما الإمام مسلم وكلاهما في كتاب البر:"2593، 2594".
5 صحيح سنن أبي داود، كتاب النكاح "2117".
لكي يميل الناس إلى البساطة، وعدم المبالغة في المهور والأفراح بما يرهق الراغبين في العفة، ويسد أبواب التحصين ويفتح أبواب الإنحراف، والتيسير مطلوب من المسلم في النكاح، والدعوة ومن أمثلة التيسير في الدعوة بالتي هي أحسن ما حصل من الأعرابي عند ما بال في المسجد عزم الصحابة على نهره، وزجره فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. مثال آخر جاء حصين ومعه قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى جلسوا قريبا من باب النبي صلى الله عليه وسلم، ودخل حصين فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أوسعوا للشيخ"، فقال حصين: ما هذا الذي بلغنا عنك؟ أنك تشتم آلهتنا فقال: "يا حصن كم تعبد من آلهة"؟ قال: أعبد سبعا في الأرض وواحدا في السماء، فقال:"فإذا أصابك الضر فمن تدعو"؟ قال: الذي في السماء، قال:"فإذا هلك المال من تدعو"؟ قال: الذي في السماء قال: "فيستحيب لك وحده وتشرك معه غيره، يا حصين أسلم تسلم"، فأسلم فقام إله ولده عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه. فلما أراد الخروج قال: شيعوه إلى منزله.
فالتيسير مطلوب في كل شيء، وخاصة في الدعوة التي فيها هداية الناس، وإخراجهم مما هم فيه من كفر، وفسوق وعصيان، مطلوب منك أيها الداعية الكثير من الصبر، والمصابرة والرفق، واللين بعباد الله، وليس معنى الصبر والتيسير التفريط في أوامر الله ونواهيه أو التنازل عن شء منها، فعلى الداعية أن يعلم علم اليقين أن الدين دين الله ليس فيه تنازل ولا مداهنة {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} 1.
"ولا يفهم مما ذكر أن الدعوة باللين والرفق، والدعوة بالشدة والقسوة كفتان، أو طرفان متساويان للدعوة بل دلت نصوص الكتاب
1 سورة القلم: الآية 9.
والسنة على أن الأصل في الدعوة إلى الله تعالى أن تكون بلين ورفق، ولا يلجأ إلى الشدة، والقسوة إلا عند الضرورة
…
في مثل الأحوال التالية:
أ- عند انهاك حرمات الله تعالى وإقامة الحدود.
ب- عند ظهور العناد والاستهزاء بالدين.
ج- عند بدور مخالفة الشرع لدى من لا يتوقع منه ذلك.
مع ضرورة مراعاة ما يترتب على ذلك، ولا يظن أحد أنه إذا وجدت تلك الأحوال، أو بعضها شرع في استخدام الشدة، والقسوة في الدعوة من غير النظر إلى العواقب والنتائج. ليس الأمر هكذا، بل يجب عليه مراعاة ما يتوقع حدوثه عند استخدام الشدة والقسوة، فإن تأكد لديه أن لجوءه إلى الشدة سيكون سبب حدوث منكر أعظم من المنكر الذي أراد إزالته، أو ترك معروف أهم منه فليس له أن يلجأ إليا آنذاك"1.
1 من كتاب مراعاة أحوال المخاطبين، د. فضل إلهي ظهير "ص180".