الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بين يَدَي الذّكريات
كان تدوين هذه «الذكريات» ونَشْرُها حُلماً حمله علي الطنطاوي في قلبه وأملاً ظلّ يراوده سنين طِوالاً، حتى قال -في بعض سطور مقدمته لكتاب «تعريف عام» - إنه يرضى أن يتنازل عن كل ما كتبه ويوفق الله إلى إكمال ذلك الكتاب (تعريف عام) وكتاب الذكريات. وتأخّرَ الأمر، وأجّل جدي الشروعَ فيه ثم ما زال يؤجّل، ومرت السنون بإثر السنين، حتى كان يومٌ من أيام سنة 1981 جاءه فيه زهير الأيوبي، يسعى إلى إقناعه بنشر ذكرياته في مجلة «المسلمون» التي كان قد ابتدأ صدورها في ذلك الحين، فما زال يُلحّ عليه حتى وافق على نشرها فيها.
لقد استجاب لهذا الإلحاح وهو لا يتصور ما هو مُقْدم عليه، وأكاد أجزم أنه لو كان يعلم لأحجم وما أقدم، فقد هوّنوا عليه الأمر في البداية حتى راح يتحدث وهم يكتبون ما يقول، وظهرت في مجلة «المسلمون» حلقتان كذلك، ولكنه ما لبث أن استُثيرت همّته ودَبَّت فيه الحماسة فتحول إلى كتابة الحلقات بنفسه، ومضى فيها تجرّ كلُّ حلقةٍ حلقةً بعدها حتى قاربَت ربعَ ألف حلقة. وأحسب أنه لو لم يوافق -في ذلك اليوم- على الشروع بهذا المشروع لما رأينا هذه الذكريات بين أيدينا قط.
ما سبق هو الذي قلته منذ سنوات في الكتاب الذي كتبته عن جدي رحمه الله (علي الطنطاوي: أديب الفقهاء وفقيه الأدباء)، واليومَ أقول عن نفسي المقالَةَ ذاتَها، وأعترف بأنني كنت سأُحْجم كما كان سيُحْجِم لو عرفتُ ما سأنفقه في مراجعة هذه الذكريات من جهد ووقت. لقد تهيّبت الإقدامَ على «الذكريات» منذ البداية ودافعت هذه المهمةَ ما استطعت، وكان من خطتي أن أراجع الكتب جميعَها قبل أن أقحم نفسي في بحر الذكريات اللُّجَاج، لكنني -على ما بالغت في الحساب والتقدير- لم أقدّر أن يبلغ العمل في مراجعتها الصعوبةَ التي لقيتُها فيه ولا أن يستهلك الوقتَ الذي أنفقتُه.
وهأنذا اليوم أخط كلمات هذه المقدمة ويكاد عامٌ بأكمله ينصرم منذ بدأت بمراجعة السطور الأولى من الذكريات، لا أقول إني أنفقته كلَّه فيها، لكنني أجرؤ أن أقول غيرَ مبالغ ولا متزيّد إنني قد أنفقت فيها نصف أيام العام كاملة أو تزيد!
* * *
لقد كان العمل صعباً لطول هذا الكتاب وتنوّع موضوعاته، وأنا زدته على نفسي صعوبةً حين أردت أن أقترب من الكمال؛ أعني أنني سعيت إلى غاية الإتقان الممكن، أما الكمال الحقيقي فلا يقدر عليه الناس، إنما هو من عمل ربّ الناس.
اجتهدت -أولاً- في تصحيح أخطاء الطبعات السابقة، وهي كثيرة، ولا سيما في الأجزاء المتأخرة. فقد استغنى جدي رحمه الله حين صدرت تلك الأجزاء عن المصحِّحين واعتمد
على تصحيحه. على أنه من المقرَّر في صناعة النشر أن المؤلف لا ينبغي له مراجعة تجارب طباعة ما يكتب، ذلك أنه يقرأ بعقله لا يقرأ بعينيه، أي أنه يمرّ بالكلمات فيرى ما كتبه ابتداءً ويُغفل -لاشعورياً- الاضطرابَ والخطأ الناشئ من عمل طابعي النَّص. ذلك فضلاً عن أنه كان قد كَبُر وكلَّ وملَّ حينما نُشرت الأجزاء الأخيرة، فكان عاقبة ذلك أن ازدحمت تلك الأجزاء بالأخطاء ازدحاماً عجيباً، حتى لا أكاد أبالغ لو قلت إن الجزأين السابع والثامن خاصة قد زادت أخطاء الطباعة في كل منهما على ألف خطأ. بل لقد بلغ الأمر في واحدة من الحالات أن انتقلت صفحات كاملة من حلقة من الحلقات إلى موضع قَصِيّ، فصار يفصل بين جزء من المقالة والجزء الآخر عشراتٌ من الصفحات!
ولم يقتصر الأمر على الخطأ المطبعي بل كَثُرَ السَّقْط (الحذف)، فسقطت أحياناً كلمات منفردة وأحياناً أخرى جُمَل كاملة وسطور عدّة، واضطربت أبيات كثيرة من الشعر واختلّ ميزانها بسبب نقص كلمات فيها أو طباعة بعضها خطَأً. وما أكثرَ الكلمات التي طُبعت خطَأً حتى صار المعنى الذي يفهمه القارئ عَجَباً من العجب، وحتى صار البحث لتصحيحها -في بعض الأحيان- أقربَ إلى حل لغز من الألغاز أو فكّ أسرار أُحْجِيّة من الأُحجيّات.
كان عليّ أن أقرأ النصّين، نصّ الكتاب ونصّ المقالة المنشورة في الجريدة، لكي أقع على مواطن الخطأ والخلل، واضطررت غيرَ مرة إلى مراجعة الأصل المخطوط أو المادة المسجَّلة بحثاً عن تصويب خطأ خفي أو خلل غامض. فكان
من جملة ما وجدته أن الطبعات السابقة من الذكريات قد فقدت نصفَ إحدى الحلقات بسبب خطأ وقع فيه الذين جمعوا مادة الطبعة الأولى من الكتاب، فأعدتها إلى موضعها (1)(وهي في الجزء الثالث). وفي الجزء ذاته أضفت حلقة لم يسبق نشرها من قبل، وهي الحلقة السابعة والتسعون (2)، فتغيّر بإدراج هذه الحلقة ترتيبُ سائر الحلقات الآتية بعدها في الذكريات.
وقد اجتهدت في ضبط أكثر أسماء الأعلام والأماكن الواردة في هذا الكتاب بالشَّكْل، ولا سيما حيثما أحسست أنها أسماء بعيدة عن مألوف عامة القرّاء، رجاءَ أن يلفظوها لفظاً صحيحاً. وكذلك ضبطت بالشَّكْل كلَّ لفظ غريب قدّرتُ أن يستصعب النطقَ به بعضُ القرّاء، ثم شكّلت كل ما ورد من الشعر (ولم يكن شيءٌ منه مشكولاً في الطبعة السابقة)، فالشعر يفقد وزنه إذا اختلّت قراءته، وغريبُ اللفظ فيه أكثر من سواه.
ووحّدت رَسْمَ الكلمات التي وردت في الطبعة السابقة في صور شتى، إذ لا يجوز أن يتعدد رسم الاسم الواحد في الكتاب الواحد، فقد وجدت -مثلاً- «سوريا» و «سورية» عَلَماً على البلد، فجعلتها «سوريا» بالألف حيثما وردت، لأن مذهب كتابة أسماء البلدان بتاء مربوطة قد اندثر اليوم بعدما كان شائعاً في أخريات
(1) ذلك هو شطر الحلقة السادسة والسبعين؛ انظر صفحة 107 في الجزء الثالث من هذه الطبعة الجديدة.
(2)
انظر تعليقي عليها في الصفحة 379 من الجزء الثالث لمعرفة سبب خلوّ الطبعات السابقة منها.
القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فلم تعد تجد اليوم «فرنسة» و «إيطالية» مثلاً بل «فرنسا» و «إيطاليا» . وكذلك وجدت في الذكريات «أمريكا» و «أميركا» و «أوروبا» بواو ثانية و «أوربا» بلا واو، فجعلت ذلك كله «أميركا» و «أوربا» لأنه هو مذهب جدي رحمه الله في كتابة هذه الأسماء. وقل مثل ذلك في اختلاف رسم اسم العلَم (العمودي والعامودي مثلاً)، وعشرات من أمثال ذلك. وقد وقعَت أخطاء الرسم هذه كلها وكثيرٌ من أخطاء الإملاء (التي صحّحتها) وبعضُ الأخطاء المضحكة في تبديل كلمة بأخرى، كل ذلك وقع حينما توقف جدي عن كتابة الحلقات بخط يده وتحوّل إلى إملائها بصوته، فصارت تُسَجَّل على شريط يذهب إلى الجريدة فيَطبع طابِعُها الحديثَ الذي يسمعه كما يسمعه، فما أكثرَ الأعاجيب التي كنتَ تجدها مطبوعة عندئذ، أكثرُها صحّحه جدي في وقته وأقلها وجد طريقه إلى الكتاب المنشور!
أما الحواشي التي أضفتها إلى الكتاب فقد سرت فيها على خطتي المألوفة التي اتّبعتها في كل ما راجعته من كتب جدي من قبل؛ فأنا أوضح فيها ما أجده غامضاً غموضاً أقدّر حاجة عامة القراء إلى إيضاحه (وهو في هذه الذكريات أكثر من سواه فيسائر الكتب بسبب خصوصية الزمان والمكان) أو موجَزاً إيجازاً يصلح معه بعض التفصيل والبيان، وإذا أشار إلى مقالة له أو كتاب ذكرتُ المقالة أو ذكرت الكتاب، وربما وجدته قد طرح المسألة في صيغة الشكّ أو التساؤل، فعندئذ أتابعه فيها بقدر ما أملك من التدقيق والتوثيق، كضبط بيت من الشعر أو نسبته إلى قائله، أو تحقيق معلومة تاريخية، وأمثال ذلك مما ستجدونه في مواضعه.
وسوف يجد قارئ هذه الذكريات أن في بعض مواضعها تكراراً، فيقرأ في حلقة وصفاً لأحداث قرأ عنها في حلقة مضت أو حديثاً عن أعلام سبق الحديث عنهم فيما مرّ من حلقات (وهو أمر اعتذر منه المؤلف غيرَ مرّة في ثنايا الذكريات)(1)، وكل ذلك تركته لم أمسّ منه شيئاً ولم أعلق عليه مشيراً إلى تكراره، لأن المناسبة جرّت إليه هنا كما جرّت إليه هناك، ولأن الحديث -وإن تكرر- قد جاء بصورة غير الصورة أو بكلمات غير الكلمات. الموضعُ الوحيد الذي تدخّلتُ فيه بالحذف كان حين حذفت قطعة طويلة مكررة بكلماتها وحروفها جميعاً، وهي نحو خمس صفحات كانت في الحلقتين 207 و208 من الطبعة القديمة (وهما اليوم الحلقتان 208 و209 في الجزء السابع)؛ فقد أفرد جدي رحمه الله الحلقة الخامسة والسبعين من ذكرياته للحديث عن الخط الحديدي الحجازي، ثم عاد بعد سنتين فكرر عنه الحديثَ في هاتين الحلقتين، فلم أشكّ في أنه قد سها ونسي وتابعه الناشر في سهوه ونسيانه.
* * *
بقي أن أوضّح أمراً ربما كان قد أثار تساؤل بعض القراء الذين قرؤوا الكتاب في طبعته القديمة: لماذا بدأ علي الطنطاوي الحلقات الأولى من هذه الذكريات بالحديث عن مدرسته، ثم
(1) قال في أول الحلقة 175: "لمّا اقترحوا عليّ كتابة هذه الذكريات لم يكن لها في ذهني صورة، ولم يكن تحت يدي أوراق مكتوبة أعتمد عليها، وكنت أغبط من يكتب ذكرياته ويرجع إلى مذكرات كتبها في حينها
…
أكتب والله الحلقة ولا أكاد أذكر ما قلت قبلها، ولا أدري شيئاً عمّا سأكتب بعدها".
عاد بعد خمسَ عشرةَ حلقة ليتحدث عن جدّه وأصل أسرته، وبعد عشرين حلقة ليحدثنا عن أبيه، وأربع وأربعين حلقة ليحدثنا عن أمه؟ نعم، لقد عوّدَنا أن يقفز من موضوع إلى آخر وأن يقطع موضوعاً فيَصِلَه بعد عشر حلقات أو عشرين، أو لا يصله أبداً، لكن المنطق أن يبدأ المرءُ حديثَه عن نفسه بالحديث عن منشأ أسرته وعن أجداده وآبائه، وذلك قبل أن يتفرّع مشرّقاً ومغرّباً.
والجواب هو أن ما ترونه أمامكم بعد هذه الصفحات وفي رأسه رقم (1) ليس هو الفصل الأول في الحكاية ولا هو أولى حلقات الذكريات، بل هو الحلقة الثالثة، أما الحلقتان الأولى والثانية فلم تظهرا في الكتاب قط.
لقد جاء الأستاذ زهير الأيوبي يطلب من جدي ابتداءً أن يكتب ذكرياته في «المسلمون» ، فلما فشل في حمله على الكتابة هوّن له الأمر فعرض عليه أن يتحدث على سجيته فيسجَّل حديثُه ثم يُحرَّر ويُنشَر، فاستسهل المسألة فوافق على العرض. قال في المقدمة التي تقرؤونها في الصفحات الآتيات:"ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحداً من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، فسمع مني ونقل عني وكتب حلقتين كانتا من براعة الاستهلال لهذا الكتاب. وما قصّر أحسن الله إليه، ولكن لا يَحُكّ جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله عليّ أن أعاد بعضَ نشاطي إليّ، فبدأت أكتب".
وهكذا ظهرت الحلقة الأولى في الصفحة الأولى من العدد الرابع من أعداد مجلة «المسلمون» (الوليدة يومئذ) في الرابع والعشرين من محرم عام 1402 (20/ 11/1981)، وتلتها الحلقة
الثانية في الأسبوع الذي بعده، وفي هاتين الحلقتينتحدث جدي رحمه الله عن أصل أسرته وعن جده وأبويه وبيته الذي نشأ فيه صغيراً والكُتّاب الذي دخله ثم المدراس التي تنقّل بينها، كل ذلك حدّث به حديثاً مختصَراً لا تفصيل فيه ولا تطويل، لأنه لم يكن قد اختطّ خطة لكتابة هذه الذكريات ولا درى أنه سيتوسع فيها بالقَدْر الذي صنع من بعد (1). فلما رأى حديثه منشوراً في المجلة بقلم المحرر وأسلوبه اتّقَدت حماسته وشمّر عن ساعده، واستلّ من غمده قلماً كان قد طواه وشرع يكتب ذكرياته بنفسه، فثَمّ كان مبتدَأ الذكريات المنشورة وكانت أولى حلقات هذا الكتاب.
* * *
هذا مُجمَل عملي في هذه الطبعة الجديدة من «الذكريات» ، لعلّي أفي به صاحبَها بعضَ الفضل الذي أنا مَدين له به، وإنه لكثير. وأرجو أن أشاركه في أجر الانتفاع بما فيها، فأكسب أجراً أجده في صحيفتي يوم الحساب، وإني إليه يومئذ لمحتاج.
مجاهد مأمون ديرانية
جُدّة: جُمادى الأولى 1427
(1) فلما مضى يحدثنا ذلك الحديث الممتع المطوَّل عن طفولته وذكريات المدرسة وأخبار الرِّفاق والمدرّسين، لما صنع ذلك لم يكن بدٌّ من أن يعود بتفصيل مشابه إلى أصله وأسرته، وأن يقف الوقفة الطويلة مع أمه وأبيه، فصنع ذلك بعدما سار في الذكريات الشوط الطويل.