الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-27 -
كيف انطلقت الثورة
كان عهد ما بين الحربين عهدَ نضال للاستقلال. وكانت قمّة هذا النضال وكانت ذروة أمجاده ورأسَ مفاخره الثورة السورية.
ولئن طهّر الله الجزيرة العربية من أوضار الاستعمار المباشر فلقد منّ على الشام أن كانت أولَ قُطر عربي حظي بالاستقلال التامّ والجلاء الكامل لجيوش الواغلين عليه المتسلطين على شعبه. ولئن كانت مكة أم الإسلام والمدينةُ الظئرَ التي أرضعته طفلاً، فدمشق هي الحاضنة التي حضنته صبياً. وما قوي الإسلام بها ولكنها هي قويت به، وما احتاج إليها وشرف بها ولا بغيرها، بل هو الذي شرّفها وشرّف غيرها. ولئن كانت الجزيرة دار العروبة فالشام البستان الذي يطيف بالدار، والذخر الذي لا يفنى لأهل الدار. ولئن كانت المدينةُ عاصمةَ الدولة الإسلامية الأولى فدمشق عاصمة الدولة الثانية.
على أن الإسلام دولة واحدة، ولو تعدّدت العواصم واختلف الحكّام، دولة واحدة: ربها واحد، ونبيها واحد، ودستورها واحد، وكل أبنائها إخوة في الإيمان؛ نصّ على هذا
الدستور الخالد الذي هو القرآن.
* * *
إن الثورة لم تخرج من جبل الدروز كما شاع في الناس حتى أخذوه حقيقة مسلَّمة، وما هو بالحقيقة المسلّمة، بل خرجت الثورة من غوطة دمشق. ولقد كان الممهّد لها المظاهرات التي بعثتها زيارة كراين الذي جاء صديقاً، وبلفور الذي كان أول المسؤولين عن سرقة فلسطين.
أما السبب المباشر فهو جولة الشيخ بدر الدين في مدن سوريا، أي أنها متصلة بنهضة المشايخ التي لم تلقَ من المؤرّخين ولا من الباحثين الاجتماعيين العناية التي تستحقّها. ولقد كانت بحسناتها وبعيوبها «حادثاً» ينبغي أن يُدرَس، ومن يدرسه فسيرى أنه لم يكُن أثراً (أو ردّ فعل كما يقولون) لدخول الفرنسيين الشام بمقدار ما كان أثراً ونتيجة للمواجهة الكاملة بيننا وبين هذه الحضارة الجديدة (1) التي كانت قبل الحرب ترانا ونراها من شقّ الباب ومن طاقة الجدار، فدخلَت علينا هذه المرة الدار كما يدخل الزوّار.
لقد أخلّت لما دخلت بموازيننا وبدّلت مقاييسنا وغيّرت أساليب تفكيرنا ومعيشتنا، فكنا معها أصنافاً ثلاثة: قليل من شبابنا قبلوها بكل ما جاءت به حتى المفاسد والشرور، وكثير من مشايخنا رفضوها بكل ما جاءت به حتى الحقائق العلمية كدوران
(1) لي محاضرة طويلة عن موقفنا من هذه الحضارة أُلقيَت في الرياض في ندوة الشباب العالمية سنة 1393 هجرية.
الأرض حول الشمس، والجمهور منا ما أحسّ بها وبقي يعيش بعد دخولها كما كان يعيش قبله. ولكن الجمهور عندنا كان يسير دائماً وراء المشايخ حيثما ساروا، يأتمر بأمرهم ويسمع منهم.
الشبان حجّتهم أن أصحاب هذه الحضارة أقوى منا وأرقى، فكل ما عندهم إذن خير ممّا عندنا. والمشايخ حجّتهم أنهم كفرة لا يدينون دين الحق، والكفر شرّ فكل ما يأتي من عندهم إذن شر. وكلا القولين خطأ وما لأحد منهما حجّة فيما احتجّ به؛ فما يُقاس الحُسن والقبح بمصدره الذي صدر عنه، ولا يُعرف الخير من الشرّ بمنبعه الذي جاء منه، بل يُعرف حُسنه وقبحه وخيره وشرّه من ذاته ومن صفاته، فقد نرث عن آبائنا رأياً أو عادة ويكون فيها الضرر، وقد نستورد رأياً أو عادة من عند غيرنا ويكون فيها النفع.
فكيف -إذن- نميّز الحسن من القبح والخير من الشر؟
الجواب: نميز بما أودعه الله فينا من عقول، فإن أخطأت العقول الطريقَ نفتّش عن النور الذي يدلّها عليه ويسيّرها فيه، ويكفل لها بلوغ الغاية فلا تضلّ عنها. وهذا النور هو الشرع. فالميزان هو العقل المهتدي بهدي الشرع.
* * *
الشيخ بدر الدين الحسني كان شيخ العلماء وكان يُدعى المحدّث الأكبر، كتبت عنه في «الرسالة» حين وفاته (سنة 1935) وكتبت عنه بعد ذلك (في مجلة رابطة العالَم الإسلامي سنة 1965)، فلن أفيض الآن في الكلام عنه، لكن أقول: إن دنياه
كلها كانت داره والجامع الأموي ودار الحديث التي انتهت إليه مشيختها، وما كان من أصحاب الحركة والتجوال. فلما قام الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب بما دُعي بنهضة المشايخ، ورأى إقبال الناس عليهما وانتفاعهم بهما، لا سيما أهل حوران والبلقاء (في شرقي الأردن) سرّه ذلك منهما وشجّعهما، فسألاه أن يجول معهما في مدن سوريا يعظون الناس، يدلّون على الله، يأمرون بالمعروف، ينهون عن المنكر. فمشى معهم، وكانوا إذا شارفوا البلد خرج الناس لاستقبالهم وساروا وراءهم، فيبدؤون بالمسجد فيعظون ويعلّمون ويحثّون على الجهاد، يبيّنون أحكامه وحالات وجوبه.
وكانت هذه الجولة هي الشرارة التي أشعلت الثورة. لا أقول هذا من عندي ولا نقلاً عن الثقات العارفين من مشايخي وصحبي، كلهم يعرف هذا ويعرفه كل من أدرك تلك الأيام، ولكن أنقله عن تقرير رسمي لمندوب المفوّض السامي الفرنسي، نشرته جريدة «الأحرار» في بيروت العدد 678 الصادر في الثاني من شعبان سنة 1354 هجرية.
وهذه المذكّرات التي بين يدي كتبها بطلب منّي الشيخ محمد إسماعيل الخطيب، وكان مع نفر من إخوانه أولَ من خرج إلى الغوطة. وكان عزمي على تنقيحها لأنها مكتوبة بلغة عامية لا يكاد يفهمها إلاّ الشامي، ثم نشرها. وأحببت أن أتحقّق منها قبل النشر، فاتصلت بأكثر من استطعت الاتصال بهم ممّن ذُكر اسمه فيها، وسألته عما جاء من خبره في هذه المذكّرات، فما اختلف قول واحد منهم. فوثقت من صدقها، ولكني لم أنشرها؛ بسبب
لغتها أولاً، فقد قلت إنه لا يفهمها إلاّ الشامي، لا بل إن الشامي اليوم لا يكاد يفهمها لأنها بعامية الشام قبل خمسين سنة. ثم إنها ممتلئة بأسماء رجال لا يعرفهم اليوم أحد منهم من ذمّ فعاله، فإذا أعلنت الذمّ آذيت ذريته وآله.
لذلك ألخّص منها ما يناسب المقام، مترجَماً إلى لغتي مكتوباً بأسلوبي.
* * *
يذكر رحمه الله زيارة كراين الأميركي الذي حضر للوقوف على رغبات السوريين (أو لتقصّي الحقائق على التعبير الجديد)، وكان الحزب الوحيد هو «حزب الشعب» فاجتمع برجاله وبغيرهم من الزعماء، اجتمع بالدكتور عبد الرحمن شهبندر والأستاذ حسن الحكيم (الذي لا يزال حياً وقد قارب المئة، قوّاه الله وجنبه الأمراض) وزكي الخطيب وسعيد حيدر. وهؤلاء الأربعة من أنظف الوطنيين يداً وأقومهم سبيلاً، وحدثت أحداث كانت عاقبتها أن نفى الفرنسيون هؤلاء جميعاً وكثيراً من غيرهم إلى جزيرة أَرْواد، مقابل الساحل السوري، فحبسوهم فيها.
وكان ذلك في السنة الأولى لدخول الفرنسيين، والمظاهرات التي قامت نتيجة ذلك هي أول المظاهرات في عهد الانتداب، وقد كنت نسيتها لما تكلمت عن تظاهرة الناس يوم زيارة بلفور.
ويقول رحمه الله إن نفيهم كان يوم الأربعاء، وكانت الأحداث كلها والتظاهرات تبدأ من الجامع الأموي بعد صلاة
الجمعة، فلما كانت الجمعة وقُضيَت الصلاة قام الدكتور خالد الخطيب فخطب مطالباً بالاستقلال وإطلاق المعتقَلين، وخطب غيره، وخرج المصلّون متظاهرين فقابلهم رجال الشرطة، ثم جاء الدّرَك، ثم جاءت «السباهيّة» من جنود المغاربة والجزائريين الذين ساقوهم إلى نزالنا مرغَمين، ونصبوا مضخّات الحرائق على كتف بردى وواجهوا الناس بالماء من خراطيمها، فأقدم الناس فقطعوا خراطيم الماء وألقوا بالمضخات ومَن معها في النهر، عندئذٍ أطلق الجند الرصاص فأردَوا خمسة من الشباب، وكان هؤلاء أول فوج من الشهداء بعد ميسلون.
قال الشيخ محمد في مذكّراته (وقد وضعت كلامه كما كتبه بين قوسين): "وصار تشكيل جماعات جماعات لأجل أن تقوم البلاد بمساعدة بعضها البعض على الفرنسيين، وأنا العبد الفقير كانت وظيفتي أن أحمل مصحف وخنجر ونحلّف الناس، والله حلّفت مقدار أربعة آلاف من صنف الزكرتيّة والرجال المشهورة، مثل ديب الشيخ وأبو شاكر القلعجي من «العِمارة»، ومن «الشاغور» حسن الخراط وأبو حامد الفحل وأبو عنتر وأبو محمد سلوم وأبو فارس الحرش، إلخ. ومن «الميدان» أبو كمال عرار وأبو سليمان المهايني وصادق الرجّال وأولاد سكر وأولاد رحمون، إلخ. ومن «سوق ساروجة» (صاروجا) عبد الوهاب الرجلة والأغواني، إلخ. ومن «حارة الأكراد» أبو داود الشيخاني وأبو عمر ديبو، إلخ".
وهؤلاء الذين سمّاهم وأمثالهم هم فتوّات الأحياء كما يُقال في مصر، أو القبضايات، وندعوهم نحن «الزكرتية» . والأولون
منهم كانت لهم مزايا الفرسان، يُنجِدون الضعيف ويمنعون الظلم ويحمون أعراض النساء، ثم خَلَف من بعدهم خَلْف ليسوا مثلهم، ولا أحب الآن الكلام عنهم.
* * *
عاد الشيخ وصاحباه من رحلة الشمال، وكان قد اقترب يوم المولد. وكان أهل الشام (كغيرهم في أكثر البلاد) يجتمعون لقراءة قصة المولد وتوزيع قراطيس السكر الملبّس. ولا أعرض للمسألة التي شغلوا بها الآن الأذهانَ وجعلوها قضية الإسلام الأولى، وهي حكم الاحتفال بالمولد، فأنا أدوّن ها هنا تاريخاً لا أصدر فتاوى، وإن كنت قلت وكتبت من أيام شبابي منبّهاً إلى أن هذه الموالد التي يقرؤونها أكثرها فيه ما لا تصحّ نسبته إلى رسول الله عليه صلاة الله (1).
فجدّ جديدٌ تلك السنة؛ هو أن الاحتفال بالمولد تحوّل من اجتماع على قراءة قصة المولد وإنشاد الأناشيد وأكل السكاكر، إلى مهرجان وطنيّ شعبي، إلى مباراة بين أحياء دمشق في نصب أقواس النصر وتغطيتها بفروع شجر الغوطة، وتزيينها بالورد والزهر وصور عنتر وأبي زيد الهلالي وأبطال القصص الشعبية، ورفع الأعلام عليها واللوحات الداعية إلى النضال التي تمجد
(1) لمعرفة رأي الشيخ رحمه الله في هذه المسألة يمكن مراجعة مقدمة كتاب «سيد رجال التاريخ محمد ‘» ومقالة «محمد رسول الله» في ذلك الكتاب. وتجدون تفصيلاً للموضوع أيضاً في الحلقة الثالثة والثلاثين من هذه الذكريات (مجاهد).
الاستقلال وتنكر الاحتلال. ما كانوا يرفعون العلم الرسمي بل العلم العربي المربع الألوان، وكانت مسابقة إلى إقامة الحفلات الوطنية، كل يوم من الأيام لحيّ من الأحياء، يقيم أهل الحيّ العراضات ويهزجون بالأهازيج، ثم يحضر موكب الوطنيين فيخطب الدكتور عبد الرحمن شهبندر، وهو من أقدر من سمعت من الخطباء، وزكي الخطيب وخالد الخطيب، وتشتد الحماسة، وربما مشوا بمظاهرة فاصطدموا بقوى الحكومة. وكانت الحكومة حكومتين: المحلية وأعضاؤها كدُمى مسرح العرائس، لا يتحركون حتى تحركهم أيدٍ لا نراها، والحكومة المنتدِبة، أي الفرنسيين.
هنا خرج كاتب المذكرات وصحبه إلى الغوطة. قال: "وفي منتصف الليل خرجنا من عند بستان عرنوس وحطينا عنده (أي وضعنا) لفّاتنا (أي عمائمنا) وقَنابزنا (أثوابنا)، ولبسنا لباس الثورة وخرجنا مع إخواننا عبد الرحمن الرهوان وحريص المرجة وأبو رشيد الخباز، وهؤلاء من قرية عربين، ومن دمشق العبدلله محمد إسماعيل الخطيب وعبد الوهاب الرجلة وشفيق السكري وعبد الوهاب الدوجي ونديم شهاب. وحين وصلنا جسر تورا اعترضَنا اثنان من الفرنسيين فقتلنا الواحد وشلّحنا الثاني، وقعدنا في الزور عند جسر الغيضة".
والزور موضع من الغوطة كالغابة، كثيف الشجر متقارب الأغصان، وهو قرب سقبا (وكنت معلم مدرستها سنة 1931) وجسرين وكفر بطنا. قال: "بقينا أربعة أيام، وما كان أحد يطلع من الشام ممن حلّفناهم، فصرنا في حيرة و
…
"، ففكروا بخطة
عجيبة. كتبوا كتاباً للفرنسيين بأن الذي قتل الجنديّ عند جسر تورا هم فلان وفلان، ممن حلفوا اليمين وما خرجوا للجهاد، ومنهم ممّن لم أسمِّ أبو شكري الطباع وأبو شكري فيصل (1)، وسعود اللحام وأبو صلاح العرجا، إلخ.
وأرسلوا إليهم صورة منه مع نديم شهاب ليخبرهم أن الكتاب أُرسل إلى الفرنسيين بالبريد، فإما أن يخرجوا إلى ميدان الجهاد وإما أن يسلموا رؤوسهم إلى الجلاد (2)
…
فخرج أكثرهم وابتدأت الثورة.
* * *
أما أحداث الجبل التي ابتدأت قبل ذلك بقليل فكانت حدثاً فردياً: جاء لبناني اسمه أدهم خنجر، محكوم عليه بالإعدام، يستجير بسلطان الأطرش، فلم يجده فلجأ إلى داره.
وحقّ الجوار باقٍ عندنا من أيام العرب الأولى، يحمي السيد جاره ولو مات في سبيله، وما كانت حرب البسوس إلاّ بسبب الجوار. وقانون الجوار وسجيّة الكرم اضطرهم إليها أنهم يعيشون في صحراء ليس فيها حكومة تحمي الضعيف ولا فندق يؤوي الغريب.
وعلم الفرنسيون بمجيئه فقبضوا عليه، فلما قدم سلطان
(1) أبو صديقنا الدكتور شكري فيصل، وكان هو وأخوه من زعماء حيّنا (العقيبة).
(2)
والعجيب أن مدير الشرطة يومئذ هو حمدي الجلاد.
غلى في رأسه الدم وجمع بعض بني عمّه من الطرشان (وكان بعض منهم مع الحكومة) وهجم على المخفر، وبدأ الصدام وخرجت الحملات. فلما وصل الخبر إلى دمشق عُقد اجتماع عاجل لحزب الشعب وبعثوا زكي الدروبي، أوصله إليهم وحماه في طريقه سعود اللحام من الشام. وتحوّلَت حركة الجبل إلى ثورة رسمية، أُعلنَ عنها ونُصّبَ سلطان الأطرش قائداً عاماً لها وانضوى الثوار تحت لوائها، وإن كانت هذه القيادة اسميّة رسمية وكان كل رئيس جماعة يعمل وحده.
والحديث طويل وذيوله كثيرة، ولا أستطيع إن فتحته أن أغلقه. فحسبي ما ذكرت، والعفو إن أجملت أو أبهمت أو قصّرت.
* * *