الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-19 -
عود للحديث عن مكتب عنبر
أعود إلى الحديث عن مكتب عنبر. ولعلي لا أخطئ إن قلت إن الحديث عنه وعن أساتذتي فيه أشهى إلى النفس من الحديث عن داري وأهلي فيها. ولقد فكّرت أن لماذا أحنّ إلى الماضي؟ لماذا أجد كلّما سمعت في الإذاعة أو قرأت في الصحف حديثاً مع شيخ مثلي عالي السن، لماذا أجده يفضّل أيامه الخوالي على الحواضر من أيام الناس؟
هل كان الأمس دائماً خيراً من اليوم؟ هل كانت الأخلاق كلها أفضل، والناس جميعاً أكمل، والحياة بكل ما فيها أجمل؟ هل كان الطلاّب كلهم أكثر جداً واجتهاداً، وكانت المناهج أغنى بالعلوم وأحفل؟ هل كان المدرّسون جميعاً أعلم بما يدرّسون من مواد، وكانوا أشد إخلاصاً وأكثر عناية بالطلاب وحرصاً على نفعهم؟
وهذا يجرّني إلى سؤال، لا أجيب عنه الآن بل أدع جوابه لحلقات آتيات من هذه الذكريات، هو: هل كان علماء القرن الذي ودّعناه من قريب خيراً من علماء اليوم؟
أمّا الحنين إلى الماضي فهو شيء طبيعي؛ لأن الإنسان لا يعرف قيمة النعمة إلاّ عند فقدها: الطعام الآن أمامك والشراب البارد تحت يدك، فهل تقدّرهما كما تقدرهما وأنت صائم في نهار الصيف الطويل؟ هل تعرف نعمة الأمن إلاّ عند الخوف، والصحة إلاّ عند المرض، والإقامة إلاّ عند السفر؟ كذلك الشيخ لا يعرف قيمة الشباب إلاّ عند فقده.
الشباب في الشام والعراق لهم نشيد مشهور هو «نحن الشبابُ لنا الغدُ» ، فما لنا نحن الشيوخ غير الأمس؟ لذلك نأسى عليه ونحنّ إليه. ومن هنا سَمّى العربُ الشيخَ الكبير «الكُنْتيّ» ، لأنه يكثر أن يقول: كنت وكنت
…
* * *
أما المناهج فلقد درسنا في الثانوية من المواد ما يدرسه الطلاب اليوم، ودرسنا ما لا يدرسه الطلاب اليوم، كعلم آداب البحث والمناظرة والطبوغرافيا (أي علم التخطيط ووضع الخرائط) والحساب التجاري (وكنا نسميه علم «مَسك الدفاتر»، أي المحاسبة)، ودرسنا في الكيمياء والفيزياء والفلك آخر ما وصل العلم إليه في أيامنا. ولكن العلم تَقدّم واتّسع، ولقد شاهدت من سنين درس كيمياء في الرائي فرأيت شيئاً جديداً، ولقد سألت صاحبه أن يعلّمنيه أو أن يدلّني على كتاب مفهوم أتعلّم منه، فحَسِب أني أمزح وأخذها على أنها نكتة! وما كنت مازحاً بل كنت جاداً كلّ الجدّ، فأنا أحب أن أتعلم كلّ شيء.
أما إقبالنا على العلم فقد كان أكبر من إقبال الطلاب الآن
من غير شك. وسبب ذلك أمران. الأول: أننا كنا في بداية يقظة فكرية جاءت بعد نوم طويل، والثاني: أنه لم تكُن عندنا هذه الصوارف التي تصرف الطلاب عن العلم والمعلّمين عن حسن الاستعداد للتعليم. ما كانت إذاعات، ولا كان هذا الرائي ولا كان شريط التسجيل، ولا كانت هذه المجلات، ولا كانت الأسفار بالطيارات ولا الجَولات في السيارات
…
نعم، كان عندنا داران للسينما الصامتة لا يدخلهما إلاّ من سفه نفسه. وكانت دمشق -عدا المرجة وما حولها، وباب توما والقصّاع وهما مسكن النصارى- كانت تنام من بعد صلاة العشاء. حتى المقاهي الشعبية لم يكُن يسهر روادها إلى أكثر من الساعة الثالثة أو الرابعة (بعد غروب الشمس) يستمعون إلى الحكواتي أو يشاهدون «كراكوز» (1) وهو خيال الظل، ثم يمضون إلى بيوتهم. وما وراء ذلك من اللهو لم أكُن أعرفه.
وأما المدرّسون فكان منهم أئمة في المواد التي يدرّسونها؛ كالمبارك الذي سقت طرفاً من حديثه والجندي الذي جئت أتحدث عنه، ومنهم أساتذة ما بلغوا هذه المنزلة، ومنهم من هو أقرب إلى العامية، ومنهم السيّئ، وحسبكم مثالاً على ذلك: مدرّس رسم جاءنا به الفرنسيون، وهو ولد خليع ماجن أبوه صاحب خمّارة، ولكن الطلاب أصلَوه من هزئهم به واحتقارهم
(1) ومعنى الكلمة بالتركية العين السوداء، أي صاحب العين السوداء. ولخيال الظل في كتب الأدب والتاريخ حديث طويل، وقد عرض لذكره الإمام الغزالي. وأشهر من كان يؤلّف رواياته وينظم أناشيدها ويلحّنها ابن دانيال طبيب العيون.
إياه ناراً دفعه لهيبُها إلى باب المدرسة فولّى هارباً.
أما مدرس الرسم الذي لا يُنسى فهو الأستاذ عبد الوهابأبوالسعود. وما كنا نبالي الرسم ولا نُقيم له وزناً، ولا كان القائمون على التعليم يعدلونه بالعلوم الأخرى. ولكن عبد الوهاب يضطرّ جليسه أن يباليه وأن يلتفت إليه، فكيف بمن هو تلميذه؟
لقد كان أحد روّاد التمثيل الأوائل، وكانت له فرقة للمسرح والموسيقى أخوه يتولّى الجانب الموسيقي منها. وكانت تنازعه فرقة العطري، وما كان أطرفَ ما يأتي منه حين يُذكَر له هذا المنافس! فقد كان يمثّل كأنه على المسرح ويأتي بمبالغات وعجائب. ولقد رأيناه في روايات كثيرة مترجَمة عن الأدب الفرنسي ممثّلاً مجوداً على طريقة يوسف وهبي.
أمّا في الرسم فأشهد أنه فنان بارع، وهو أول من رسم (من خياله) صورة المعرّي وأبي نواس، وطُبعت وتداولها الناس، وله لوحة بارعة لسوق عكاظ كما تخيّلها. وكانت في دمشق مجلة هزلية لصحفي (حقيقي) اسمه حبيب كحالة، هي مجلة «المضحك المبكي» ينشر في كل عدد منها صورة كاريكاتورية في الموضوع الذي يشغل الناس، تبقى الأسبوع كله حديث البلد، وبطلها تاجر وجيه اسمه «أبو درويش سويد» ، عبقري في ابتكار النكتة، ما رأيت له مماثلاً ولا في مصر، بلد النكتة كما يقولون.
أما اللغة الفرنسية فقد درسناها كما يدرسها الطلبة الفرنسيون في فرنسا، المناهج هي المناهج والكتب هي الكتب. وكان يعلّمنا الفرنسيةَ أول عهدنا بمكتب عنبر رجل فرنسي عجوز له لحية
بيضاء طويلة، وهو أحمق لا يضبط صفاً (أي فصلاً) ولا يُصغي إلى درسه أحد، وكان يسكن الدار المواجهة للمدرسة، يؤذيه الطلاب فيتحمّل الأذى صابراً، اسمه المسيو ميشيل.
ثم جاءنا مدرّس لبناني نصراني، قصير القامة غريب الشكل، له شاربان دقيقان مفتولان يأتيان من تحت منخرَيه ويمتدّان إلى الأمام كأنهما رِجْلا عنكبوت، يخرج صوته من أنفه ويمرّ على شاربَيه، بالكلمة الفرنسية يلحق بها ترجمتها العربية بصوت ثاقب كأنه صوت دجاجة جاءت تبيض فعلقت البيضة بـ
…
أعني بمخرجها منها، ولم يطُل -بحمد الله- مقامه بيننا، وصرف الله غلاظته عنا.
ثم جاءنا الرجل الديّن المهذّب الأنيق الذي يُضرَب بأناقته المثل، الذي يُحسِن الفرنسية كأحسن أهلها، والذي كان ضابطاً في الجيش العثماني ثم في جيش الشريف الحسين بن عليّ، وبقي معنا حتى خرجنا من المدرسة. وقد تُوفّي من سنتين، هو شكري الشربجي. وجاءنا بعده فرنسي استعماري جاهل بلسان قومه يبدو أنه من أجلاف الريفيّين في فرنسا هو تريس.
وكان يدرّس في الفصول الأخرى أستاذ جزائري ندعوه المسيو علي، درست عليه أيام حكم الشريف فيصل قبل ميسلون. وهو رجل رقيق الحاشية حييّ الطبع مهذّب اللفظ، تُوفّي من عشرين سنة. وأستاذ تونسي ندعوه المسيو صالَح (بفتح اللام)، بدين نبيل عظيم الشاربَين جهير الصوت ناريّ الطبع، يؤلّف الجملة الواحدة من كلمات عربية وكلمات فرنسية، يقول "شاكان
يقعد في بلاسه واللي يحكي نعمل له البونيسيون" (1). وكانت لهجته تونسية، أخرج طالباً مرة إلى اللوح ليترجم فقال له: "مْلك عْطش ملقاما"، أي "ملك عطش ما لقي ماءً"، سكّن حروفها كلها ودمج كلماتها دمجاً ووصل أوائل تواليها بأواخر أواليها (2)، فما فهم الطالب، فغضب وقال: نكلموك بالعربي ما تفهمش؟!
وقد درسنا قواعد الفرنسية (الكرامير) ولا أزال أحفظ أكثر ما درست، وفقه اللغة (philologie) والصوتيات (phonetique)، ودرسنا أدبها دراسة عميقة: الأدب الإتباعي (الكلاسيكي) وحفظنا طائفة صالحة من كورناي وراسين وموليير ولافونتين وبوالو، وخطب بوسويه وأقوال لاروشفوكلد ولابرويير. ثم درسنا مونتسكيو وفولتير وديدرو وبوفون، ثم درسنا روسو وشاتوبريان ولامارتين وموسه وصاحبته جورج صاند (3) وهوغو، ولا أزال أحفظ قصيدته «نابليون الثاني» وكلماته الرائعة لنابليون عن المستقبل. ودرسنا دوماس وبلزاك وفلوبير وموباسان، ودرسنا مذاهب سانت بوف وتين وبرونتيير في النقد. لكن لا تسألوني اليوم عنها ولا تمتحنوني فيها، فقد مرّ عليّ مُذْ ودّعت الدراسة الثانوية وطويت كتب الفرنسية ثلاثٌ وخمسون سنة (4).
(1) شاكان «chacun» أي كل واحد، بلاسه أي محله، البونيسيون «punition» أي العقوبة.
(2)
الأوالي: الأوائل.
(3)
هي أديبة معروفة تسمّت باسم رجل هو جورج صاند، وكانت صاحبة موسه كتب عنها وكتبت عنه.
(4)
من سنة 1928 إلى الآن.
وأنا من الأصل لم أُحسِن النطق بها لأني كنت أضنّ بكرامتي أن أخطئ فيسخر السامعون مني، لذلك أقمت في مصر سنوات (متفرقات) وفي العراق سنوات وفي لبنان سنة، ولي في السعودية الآن نحو عشرين سنة متصلة، وما تعلّمْت في ذلك كله شيئاً من لهجات هذه البلاد ولا بدّلت من لهجتي شيئاً، أما السبب فهو الذي ذكرت.
* * *
أما أجلّ ما استفدته من مكتب عنبر فهو التمكّن من العربية وعلومها، والعفو منكم فما أقول هذا ادّعاءً ولا فخراً، ولكن تحدّثاً بنعمة الله عليّ. وأكبر الفضل في ذلك بعد الله للمبارك والجندي.
أُقيمَت حفلة تأبين للجندي في جامعة دمشق سنة 1955، ألقَيتُ فيها كلمة طويلة كان ممّا قلت فيها:"فهمت أنه قد مضى الرجل الذي لم يبقَ تحت أديم السماء -فيمن أعرفه أو أسمع به من الناس- مَن هو أعلم منه بلسان العرب اشتقاقاً ونحواً وبلاغة وعَروضاً ورواية وضبطاً، ولا مَن هو أوفى لها وأغيَر عليها. وأنه لم يَعُد في ديار الشام من أذهب إليه أنا والأفغاني والعطار كلما دهمتنا عِظام المشكلات في العربية، نحملها إليه ليحلّ لنا عُقَدها. وأن علينا بعد اليوم أن نعتمد على أنفسنا، كما يعتمد الضابط على نفسه حين يفتقد القائد العبقري وسط المعمعة الحمراء. وهيهات أن يسدّ أحدٌ مكان قائد المعركة بين العربية والعجمة، حجّة العرب سليم الجندي".
الثلاثة الذين منّ الله بهم عليّ في مكتب عنبر، فقبست منهم وأخذت عنهم: سلام، والمبارك، والجندي.
أما الشيخ عبد الرحمن سلام فهو الذي "جرّأني على امتطاء صهوات المنابر ومقارعة الفرسان في ميادين البيان. والذي كان عجباً من العجب؛ إذا احتاج أن يتكلم في موضوع لم يكُن عليه إلاّ أن يفتح فمه ويحرك لسانه، فإذا المعاني في ذهنه والألفاظ على شفتيه والسحر من حوله، والأنظار متعلقة به والأسماع ملقاة إليه والقلوب مربوطة بحركات يديه. وكان يرتجل الشعر كما يرتجل الخطب، شعراً دون أشعار المطبوعين المجوّدين وفوق شعر الفقهاء. وكان يرمي الكتاب (كتاب النحو) لا يحفل به، ويتكلم من أول الساعة إلى آخرها في اللغة وفي الأدب وفي كل شيء، كأنه كان يريد أن يربّينا على السليقة العربية بالمحاكاة والمران وينفخ فينا من سحره ليجعلنا أدباء قبل الأوان. وأما المبارك فما رأيت (وما أظن أني سأرى) مدرّساً له مثل أسلوبه في الشرح والبيان، وفي امتلاك انتباه الطلاب، وفي نقش الحقائق في صفحات نفوسهم بهذه الضوابط المُحكَمة العجيبة التي تلخّص في جملة واحدة فصلاً من فصول العلم"(1).
وفي يوم من أيام سنة 1923 دخل علينا الشيخ سلام ولكن لا كما كان يدخل كل يوم، وألقى خطبته ولكن لا كما يُلقي؛ دخل حزيناً وألقى خطبة الوداع، ثم ذهب وذهبَت معه قلوبنا.
(1) هذا المقطع والذي مرّ قبله في الصفحة السابقة جزء من مقالة «أستاذنا الجندي» ، وهي في كتاب «من حديث النفس» (مجاهد).
وجاءنا مدرّس جديد فقعد على الكرسي، وما كان الشيخ سلام ولا الشيخ المبارك يقعدان أبداً، وفتح كتابه وجعل يقرّر الدرس بصوت خافت لا يكاد يُسمَع. وكان هو الأستاذ سليم الجندي.
وكانت صدمة، وكانت خيبة للآمال، وكانت فجيعة. ووصل إليّ «الدور» فأقامني على اللوح، وأملى عليّ بيتين للمعرّي وقال: اقرأ، وفسّر، وأعرب.
وانطلقت أخطب في موضوع البيتين خطبة حماسية مجلجلة كما علّمَنا الشيخ سلام، وإذا بالأستاذ الجديد يبتسم ابتسامة أحسَسْتُ كأنها كوب ماء على نار حماستي، بل كأنها سِكّين غُرست في قلبي. وقال بهدوئه الساخر ولهجته التي لها نعومة السكّين وحدّها، قال: بعد، بعد. فسّر أوّلاً معاني الكلمات الغريبة. فوقفت. ثم سألني عن دقائق الإعراب فوقفت وقفة أخرى، فقال لي: أرأيت؟ أتبني الدار قبل نحت الحجارة؟
ورأيتني -حقاً- أبني الدار قبل نحت الحجارة؛ أي أبني دوراً في الهواء! وصغُرت عليّ نفسي بمقدار ما كبُر الأستاذ في نظري. وعدت أبدأ قراءة النحو والصرف من جديد، وكان الكتاب الذي نقرؤه هو «قواعد اللغة العربية» ، وهو الجزء الرابع من الدروس النحوية لحفني ناصف وإخوانه، وقد قرأت الأجزاء الثلاثة من قبل. وهذا الكتاب يغني الطالب (بل المدرّس، بل الأديب) عن النظر في غيره، وهو أعجوبة في جمعه وترتيبه وإيجاز عبارته واختياره الصحيح من القواعد، وهو أصح وأوسع من شذور الذهب ومن ابن عقيل!
وعكفنا عليه وملأنا حواشيه البيض بتعليقات الأستاذ وفوائده، ثم ضاقت عنها فألحقنا بين كل صفحتين من الكتاب صفحتين أو أكثر نملؤها بما نستفيده منه، وعرفنا يوماً بعد يوم مقدار النعمة التي أنعم الله بها علينا حين جعلنا تلاميذ سليم الجندي. وكنا نفاخر إخواننا الذين يُقرِئُهم الشيخ الداودي ونأتي بالصعاب والمعضلات، نتصيدها من كتب الأدب وأفواه العلماء فنطرحها عليهم، فنحظى نحن من الجندي بأجمع الجواب بلا مراجعة ولا كتاب، ويرجعون هم بلا جواب.
وما أنتقصُ الداودي رحمه الله، فلقد كان معلماً فاضلاً، وكانت له أخلاق أعطر من زنبق الحقل وأطهر من ثلج الجبل وله قلب أثمن من الذهب، ولكنه ليس من بابَة الجندي. والذهب ذهب، ولكنك إن قابلته بالجوهرة المفردة وارى بريقَه حياء.
وأحببت الأستاذ الجندي حب الولد أباه، وعرفت قدره فكنت لا أكفّ عن سؤاله، أسأله في الصف، وألحقه في الفرصة، وأدخل معه غرفة المدرّسين؛ أشرب من معين علمه ولا أرتوي، أتزوّد من هذا المنهل العذب لسفري الطويل في بيداء الحياة. أسأله عن الغريب فلا تغيب عنه كلمة منه، كأنه وعى المعاجم وغيّبها في صدره. وأسأله عن التصريف والاشتقاق فيجيب على البديهة بما يُعيي العلماءَ جوابُه بعد البحث والتنقيب. وأسأله عن النحو فإذا هو إمامه وحجته. وألقي إليه بالبيت اليتيم أجده في كتاب، فإذا هو ينشد القصيدة التي ينتمي إليها (أو أكثرها) ويعرّف بالشاعر الذي قالها.
لقد كان مدرّساً للعربية ولكنه كان أكثر من مدرس، وكان عالِماً من علماء البلد بل كان أكثر من عالِم، ورُبّ مدرّس لا يكون عالِماً، ورب عالِم لا يكون عالِماً إلا في بلده وبين أقرانه، ورب عالِم لا يكون عالِماً إلاّ بالنسبة إلى عصره وزمانه. أما الجندي فكان من أعلم علماء العربية في هذا العصر، وكان واحداً من علماء العربية الأوّلين، ولكنه ضلّ طريقه في بيداء الزمان فجاء في القرن الرابع عشر لا في القرن الرابع!
أقرّر هذا بعدما مشيت في البلاد وجالست العلماء، فما ثَمّ عالم مشهور في العربية في الشام ومصر والعراق والحجاز والهند وماليزيا وأندونيسيا إلاّ عرفته، لقاءً به أو قراءة له أو سماعاً به. عرفت في مصر علماء الجامع الأزهر والجامعة والأدباء والكتاب، أعني الكثير منهم، وأنا أؤكد القول -صادقاً إن شاء الله- أنّي لم أجد فيهم من يفوق في حفظه وضبطه وأمانته وملَكته وإحاطته الأستاذ سليم الجندي.
وكشفت فيه يوماً بحر علم لم أكُن أعرفه من قبل. سألته عن مسألة أصولية فإذا هو أصولي، وإذا هو عارف بالفقه راوٍ للحديث عارف بالتفسير
…
ومن هنا جاء علمه بالعربية. إن العربية لا تنفصل عن الإسلام.
أذكر أنه لما قدم علينا حفّظنا قصيدة المتنبي: «وا حَرَّ قلباهُ ممّن قلبُهُ شبِمُ» ، فلما كان الدرس التالي قال لنا: المتنبي شاعر مولّد لا يُحتجّ بعربيته، فأعرِضوا عن هذه القصيدة. وحفّظنا (ولا زلت أحفظ الكثير منه) المنتقَى المختار من شعر الشعراء
الجاهليين والإسلاميين ممّن يُحتَجّ به في اللغة. وكان ينهانا عن قراءة الصحف والمجلاّت خشية أن تفسد ملكاتنا وتدخل اللحن علينا.
جزى الله عنّي الشيخَين المبارك والجندي خيراً، وجزى الخيرَ كل من علمني قبلهما أو بعدهما، فمنهما أخذت جل بضاعتي في العربية.
* * *