المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌من مصر إلى الشام

-17 -

‌من مصر إلى الشام

أما ترون الإذاعات تقطع برامجها أحياناً لتذيع خبراً طارئاً؟ إني أتبع اليوم سُنّة الإذاعات فأقطع سلسلة ذكرياتي، لا لخبر طارئ فما عندي أخبار أذيعها، ولكنْ أقطعها لأن هذه الأيام تعيد إلى ذكرياتي حادثاً أحبّ أن أقف عنده قليلاً. ففي يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى حدث حادث كان له الأثر الأكبر في حياتي، ولكنه لا يدخل في ذكرياتي.

حادث تسعة أعشار القرّاء لم يعرفوه لأنهم لم يدركوه، والذين أدركوه لم يعرفوه لأنهم لم يسمعوا به، والذين سمعوا به لم يبالوا أن يعرفوه لأنه حادث عادي يقع مثله كل يوم وفي كل بلد، وقد وقع لقوم عاديّين لم يكونوا من ذوي الشأن ولا من أهل الغنى والسلطان، ووقع في طرف حيّ صغير من أحياء دمشق، في دار فقيرة ولكنها ليست حقيرة، لأنها دار شابّ عالِم يكرّمه الناس ويقصده طلبة العلم فيعقد لهم حلقات دروس مجّانية في الصباح وفي المساء، في هذه الدار وفي مسجد الحيّ، يعطيهم الكثير من علمه ولا يأخذ لا كثيراً ولا قليلاً من أموالهم.

هذا الحادث هو أن زوجة هذا العالِم وضعت غلاماً، ففرح

ص: 173

به أبوه وجدّه وعمّته وجدّته، وكانوا هم والأمّ سكّانَ هذه الدار. ولّدَتها قابلة (داية) الحيّ، ولم يكُن في دمشق يومئذٍ قابلات كثيرات يحملن شهادة، ولم يكُن يُولّد النساءَ طبيبٌ، ولا يجوز في دين الله إلاّ أن تكون «ضرورة» أو «حاجة» تشبه الضرورة ولا يكون ثمة طبيب أنثى.

والعجيب حقاً أني لا أذكر عن هذا الحادث شيئاً.

بل أنا -لضعف ذاكرتي- لا أعرف كيف كان شعوري لمّا خرجت من عالَمي الصغير، وهو بطن أمي، إلى هذه الدنيا الواسعة. ولا أعرف كيف سيكون شعوري عندما «أولَد» مرة ثانية فأخرج من «بطن» هذا العالَم الأرضي إلى سعة عالَم الآخرة.

تلك الولادة يسمّيها الناس موتاً لأنهم لا يعرفون من الوجود إلاّ هذه الدنيا. ولو كان في البطن توأمان، فسبق أحدهما بالخروج وسُئل الثاني عنه لقال -أيضاً- إنه مات ودُفن في أعماق الأحشاء! فهل تتشابه الولادة والوفاة، أم هي خيالات أديب؟

قلت لكم إني لا أذكر هذا الحادث، ولكن رأيت خبره على باطن جلدة «المصباح المنير» ، وهذا نصّ الخبر:"رزقنا الله فجرَ يوم الجمعة الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 1327 غلاماً سمّيناه علياً. كتب ذلك مصطفى بن أحمد سبط الطنطاوي".

فمَن هذا «الطنطاوي» الذي نُنسَب إليه ونحمل لقبه؟ إنه جَدّ أبي لأمّه، وهو عمّ جدّي. وهاكم قصتَه من أولها.

* * *

ص: 174

في سنة 1255هـ وصل إلى دمشق شاب مصري لم يُسجّل اسمه على الحدود ولم يُطلَب منه جواز سفر، لأنها لم تكُن بين مصر والشام حدود على الأرض ولا فروق بين السكان، ولم تكُن الأسفار تحتاج إلى «جواز» ، بل كانت كلها بلداً واحداً ترفّ عليه راية واحدة، هي الراية الحمراء ذات النجم والهلال، راية بني عثمان. وكان بنو عثمان حكّاماً بشراً لهم حسنات ولهم سيئات، وما حسناتهم -في جملتها- بأقلّ من حسنات مَن حكموا ديار الإسلام على سعة رقعتها وامتداد زمانها، ولا سيئاتهم بأكثر من سيئاتهم، ولكن اليهود (وأصل كلّ بلية في الدنيا إبليس واليهود) لمّا صدّهم السلطان عبد الحميد وضرب وجوهَهم بأموالهم التي جاؤوا يساومونه بها على دينه افترَوا عليه وبهتوه، والافتراء والبُهتان من خلائقهم. لمّا كان ذلك ذهبوا يشوّهون تاريخه وتاريخ قومه، وصدّق ذلك ناس منا، بل من أفاضلنا.

هذا الشاب الذي وصل دمشق سنة 1255هـ وُلد في طنطا (التي كان اسمها طندتا)، وأنا لم أدركه، وكيف وقد مات سنة 1306، أي قبل أن أولَد بإحدى وعشرين سنة؟

ما أدركته ولكن سمعت خبره من شيوخ أسرتي، من ولدَيه الشيخ عبد القادر والشيخ عبد الوهاب (وهما خالا أبي)، وممّن أدركت من تلاميذه كالشيخ عبد المحسن الأسطواني والشيخ محمّد شكري الأسطواني مفتي سوريا، ومن ترجمته في الكتاب القيّم «روض البشر» للشيخ عبد الرزاق البيطار (1) جدّ شيخنا

ص: 175

الشيخ محمد بهجة البيطار وكتاب «الحدائق» (1) للشيخ عبد المجيد الخاني (وهما تلميذاه) وكتاب الشيخ تقيّ الدين (2)، وممّا كتبه عنه الأستاذ محمد كرد علي. ومَن نظر في تراجم علماء الشام في القرن الماضي، في هذه الكتب وغيرها، وجد الكثير منهم قد قرأ عليه وقعد بين يديه.

قالوا في ترجمته: هو محمد بن مصطفى الطنطاوي مولداً، الدمشقي موطناً، الشافعي مذهباً. لُقِّب «الطندتائي» كما كان يكتب عن نفسه أو «الطنطاوي» كما سار على ألسنة الناس، لقّبوه به في الشام. فماذا كان لقب أسرته في بلده؟ لا أدري، ولكن الذي سمعته في صغري (ولا أتبينه ولا أحقّق الآن مصدره) أن اسم أسرته كلمة فيه شين ونون. لا تضحكوا، إني أقول الحقّ. لعلها الشناوي أو المنشاوي أو الشنواني

لا يعرف ذلك أحد، وكيف وقد مضى على نزوحه منها قرن ونصف القرن، وما كان عَلَماً من الأعلام حتى يُهتَمّ بحِلّه وترحاله، ما هو إلاّ رجل من أوساط الناس.

ولو بحثتم عن المصريين الذين سكنوا الشام وعُدّوا من أهلها، والشاميين الذين سكنوا مصر، والمغاربة الذين هاجروا إلى المشرق، لوجدتم الكثير. ذلك لمّا كانت بلاد المسلمين

= محمد جميل الشطي مفتي الحنابلة في دمشق في زمانه، وفي كلا الكتابين ترجمة للشيخ محمد بن مصطفى الطنطاوي (مجاهد).

(1)

«الحدائق الورديّة في حقائق أجلاّء النقشبندية» (مجاهد).

(2)

كتاب «منتخبات التواريخ لدمشق» للشيخ محمد أديب تقي الدين الحصني (مجاهد).

ص: 176

داراً واحدة يسافر من شاء إلى حيث شاء. أما الآن فيا أسفي! لقد فرقت السياسةُ الأسرةَ الواحدة، فأنا سوري، وبنتي أردنية، وبناتي الأخريات سعوديات!

ولقد سافرت نصف ساعة في القطار من آخن (إكس لاشابيل)(1) في ألمانيا إلى لييج في بلجيكا فتغيّر عليّ كل شيء: اللغة ومناظر البلد ووضع الشوارع وقواعد السير، لقد شعرت أني انتقلت من بلد إلى بلد. وأسافر من الرياض إلى بغداد، أو إلى الكويت، أو إلى عمّان، أو إلى دمشق، أو إلى مصر، فلا أكاد أشعر بتغيّر حقيقي، إلاّ التغير الذي يشعر به من يسافر من مدينة إلى مدينة في الدولة الواحدة.

* * *

قالوا إنه ولد في طنطا (من أعمال مصر القاهرة)، ونشأ يتيماً في حِجر أخيه الأكبر (وكان اسمه علياً). فمَن أبوه؟ وما عمله؟ وما خبره؟ الله أعلم.

أما عليّ هذا، عليّ بن مصطفى الذي سُمّيتُ باسمه وسُمّي أبي باسم أبيه، والذي هو أبو جدّي، فلا أعرف عنه إلاّ أطراف أخبار لم أستقصِها ولم أتحقّقها. منها أنه كان (والله أعلم) في جيش إبراهيم باشا، وأنه لمّا سكن دمشق فتح دكاناً في خان الجمرك؛ وهو سوق مسقوف قريب من الأموي على شكل زاوية قائمة في وسطه مخزن واسع، لمّا أراد أبو خليل القبّاني أن يقيم مسرحه (وكان أول مسرح في الشام) جعله في هذا المخزن، فلما

(1) عاصمة شارلمان وفيها آثاره.

ص: 177

أبى أهل دمشق أن يُفتَح فيها هذا الباب للفساد واضطرّوه إلى إغلاقه رحل إلى مصر عام 1884، وفيها راجت سوقه وعلا نجمه واشتهر اسمه. وكان يقتبس الرواية أو يؤلّفها، ويلحّنها ويمثّلها، فكان مؤلّفاً وملحّناً وممثّلاً.

كان في خان الجمرك سوق القماش، وكان يرتاده النساء، لذلك كانوا يدعونه أحياناً «سوق النسوان» . فكان جدنا هذا (الذي لا أعرفه) إذا جاءته امرأة فكشفت وجهها لترى القماش أو مدّت يدها لتلمسه زجرها وأمرها بالستر، فتركه النساء، فاضطُرّ إلى ترك الدكان وعاد إلى مصر.

ويظهر أنه كان فقيراً لأن أخاه (الشيخ محمد الذي أتكلم عنه) كان يعيش في الجامع الأحمدي في طنطا على خبز الجراية ومرق المخلَّل، لا يجد غيرهما. وقد "حفظ هنالك القرآن وحصّل بعض العلوم النقلية والعقلية، ثم سافر إلى حلب"(1).

(1) في هذه الفقرة لبس يؤدي إلى اضطراب المعنى؛ فالذي ينصرف الحديث إليه في أولها (الذي كان فقيراً) هو الشيخ علي الذي قدم دمشق مع جيش إبراهيم باشا وفتح دكاناً في خان الجمرك ثم تركه وعاد إلى مصر، أما الذي "حفظ هنالك القرآن" فهو الشيخ محمد الذي بدأت المقالة بالحديث عنه (الذي وصل إلى دمشق سنة 1255)، والإشارة في قوله "حفظ هنالك القرآن" تعود إلى طنطا التي وُلد فيها، وهذه هي ترجمته التي أُخذت منها النصوص التي وضعها جدي بين أقواس: "محمد بن مصطفى الطنطاوي مولداً الدمشقي موطناً الشافعي مذهباً، ولد سنة إحدى وأربعين ومئتين وألف في بلدة طنطا من أعمال مصر القاهرة، ونشأ يتيماً في حِجر أخيه الأكبر، وحفظ القرآن المجيد وحصل بعض العلوم العقلية والنقلية في =

ص: 178

ويظهر أن حلب كانت مثابة للعلم والفن؛ فهذا الرجل قد قصدها لتلقّي العلم عن علمائها، وبعضُ كبار أهل الفنّ أمّوها لأخذ الفن عن موسيقيّيها، ومن هؤلاء محمّد عبد الوهاب كما ذكر عن نفسه. ومصادرُ الغناء اليوم -فيما أعلم أنا- هي الموشحات الأندلسية، والأدوار والأغاني المصرية، والقدود الحلبية، والمقامات العراقية، والعتابا والمواويل السورية واللبنانية.

كيف ذهب إلى حلب؟ ولماذا؟ لا أعلم وقد "قرأ في حلب على الشيخ أحمد الترمانيني وغيره وأجازوه". وهذه الإجازات كانت بمثابة الشهادات الجامعية اليوم، "وكان من طريقتهم أن الشيخ يمتحن الطالب فيما قرأ ثم يجيزه به. والإجازات على درجات: منها الإجازة العامّة ومنها الإجازة الخاصّة، وليس للإجازة العامّة اعتبار الإجازة الخاصّة، بل كان العلماء يستنكفون عن العمل بها" (1). ثم قدم دمشق سنة 1255 "فأقام بها خمس سنين، وتلقى الطريقة النقشبندية عن الشيخ محمد الخاني الكبير، وبقي نزيله هذه المدّة". وكذلك كان يصنع العلماء الأغنياء؛ يُنزِلون

= جامع السيد البدوي، ثم سافر إلى حلب وقرأ على الشيخ أحمد الترمانيني وغيره وأجازوه، ثم قدم دمشق سنة 1255 فأقام بها خمس سنين وتلقى الطريقة النقشبندية عن الشيخ محمد الخاني الكبير وبقي نزيله هذه المدة، وحضر كثيراً من دروس محدّث الشامالشيخ عبدالرحمن الكزبري والعلامة الشيخ سعيد الحلبي والعلامة الشيخ عبد الرحمن الطيبي، ثم عاد إلى مصر سنة 1260 واشتغل في الجامع الأزهر خمس سنين أيضاً، ثم رجع إلى دمشق سنة 1265 وقد أتقن كافة الفنون وصار آية باهرة في المعقول والمنقول" (مجاهد).

(1)

من كتابي «الإمام النووي» في سلسلة «أعلام التاريخ» .

ص: 179

الطالب ويعلّمونه وينفقون عليه، كما كان يصنع الإمام محمد بن الحسن (صاحب أبي حنيفة) مع أسد بن الفرات وغيره.

وقرأ على محدث الشام في تلك الأيام الشيخ عبد الرحمن الكزبري، أستاذ الأساتذة، والشيخ سعيد الحلبي، والشيخ عبدالرحمن الطيبي، وهؤلاء كلهم أعلام يعرفهم أهل الشام. ثم عاد إلى مصر ولزم الجامع الأزهر خمس سنين قرأ فيها على الشيخ إبراهيم الباجوري، شيخ الجامع الأزهر صاحب الحواشي المشهورة، والشيخ إبراهيم السقا خطيب الجامع الأزهر، والشيخ محمد الخضري الكبير، وهو فقيه عالِم بالعربية والفلسفة والعلوم، وهو رجل عبقري أصابه الصمم فاخترع طريقة للكلام بإشارات اليد وعلّمها مَن حوله، فكان يخاطبهم ويخاطبونه بها، وقد تلقّى جدنا عنه العلوم الرياضية والفلك.

ثم رجع إلى دمشق واتخذ له حجرة في مسجد «سيدي صُهَيب» في أول حيّ الميدان، فكان يعلّم فيها نهاره كله. واستمر في ذلك سنين حتى دعاه الأمير عبد القادر الجزائري، فدخل البلد واستأجر له داراً واسعة (وهي الدار التي آلت فيما بعد إلى المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني وتُوفّي فيها)، وعيّن له معاشاً وأرسل إليه أولاده ليُقرِئَهم، فاتخذ حجرة في المدرسة البادرائية (ولإنشاء هذه المدرسة قصّة طريفة ليس هذا موضعها) فكان يعلّم فيها أولادَ الأمير وغيرَهم من طلبة العلم. قالوا:"وكان مشاركاً في كل علم وله فيه تدقيقات وتحقيقات، ومن آثاره «البسيط» الموضوع في منارة العروس، وهي المنارة الرئيسية في الجامع الأموي".

ص: 180

وكان هذا البسيط من صنع ابن الشاطر، وهو فلكي رياضي كان رئيسَ المؤذّنين في الجامع الأموي وله مؤلفات في الفلك معروفة ومشهورة، وكان مولده في سنة 704هـ في دمشق وتُوُفّي فيها سنة 777هـ. وبقي هذا البسيط صالحاً إلى سنة 1292هـ، فطرأ عليه خلل فكلّفوا جدنا بإصلاحه فانكسر في يده، فشنّع عليه ناس من أهل الشام وهجاه الشيخ عبد السلام الشطي رحمه الله بقصيدة مطلعها:«كسَرَ البسيطَ برأيِهِ المعكوسِ» .

وكان الأمير عبد القادر يتصرّف كأنه حاكم، فأمر به فأقيم عليه حدّ القذف (أو ما يشبه هذا، فما أروي إلاّ ما سمعتُه)، ولا أتّهم في هذا بريئاً ولا أدافع عن معتدٍ، وقد ذهب الجميع إلى لقاء ربهم، والأمير معروفٌ جهاده ومعلومةٌ مناقبه، والشيخ عبد السلام عالِم من أسرة علم، فغفر الله لمن أساء وعوّض مَن أُسيء إليه.

وقد صنع جدنا بسيطاً آخر أجود من الأول، حسبه على الأفق الحقيقي وزاد فيه قوسَ الباقي للفجر، ووُضع في مكانه في يوم مشهود. وقد نظم الشيخ الخاني قصيدة عارض فيها قصيدة الشطي مطلعها:

صنَعَ البسيطَ بغايةِ التأسيسِ

شيخُ الشآمِ رئيسُ كلِّ رئيسِ

وأرّخ لذلك على طريقة حساب الجُمّل، في آخر بيت فيها، فقال:

ما قالَ أهلُ الشامِ في تاريخِهِ

تمَّ البسيطُ بنفحةِ القُدّوسِ

أي سنة 1293. ثم صَنع بسيطاً آخر لجامع الدقّاق الذي يؤم

ص: 181

فيه ويخطب شيخُنا الشيخ بهجة البيطار.

وكان يعيش على الراتب الذي يأخذه من الأمير، فلما مات الأمير جعلت له الحكومة راتباً فلم يأخذه ونهى ولديه عن أخذه. ولست أدري لماذا، ولا أعرف لرفضه وجهاً شرعياً، ولا من باب الورع، فالحديث صريح بجواز أخذه، بل بالحثّ عليه.

وجعل يبيع كتبه (وهي أعز شيء عليه) ويعيش منها، حتى توفّاه الله آخر ربيع الثاني سنة 1306هـ "وصُلّيَ عليه في الجامع الأموي بمشهد عظيم، ودُفن في مقبرة الباب الصغير". وترك كتباً صغيرة أكثرها في الفلك والرياضيات منها «حساب البسيط ورسمه» ، «حساب الربع ورسمه» ، «كشف القناع عن معرفة الوقت من الارتفاع» . وله -كما قالوا- "تقريرات على كافة الكتب التي أقرأها مشتملة على حلّ مشكلات وإيضاح مبهَمات"، رحمه الله.

* * *

وأنا أكتب هنا للحق وللتاريخ، فلا أستطيع أن أختم الكلام عن جدنا من غير أن أعرض إلى أمرٍ صَنعه، ما أدري: هل أحسن فيه أم أساء؟ هو أن الأمير عبد القادر العالِم المجاهد كان (وليته لم يكُن) ممن يقول بوحدة الوجود، وشيخُ القائلين بها ابن عربي (1) وأكبر كتبه «الفتوحات المكّية» ، وكان منه نسخة كاملة في قونية بخطّ المؤلّف، فبعث الأميرُ جدَّنا الشيخ محمداً وتلميذه

(1) قالوا في المشرق «ابن عربي» ليميَّز من «ابن العربي» الإمام الفقيه المحقق المعروف.

ص: 182

الشيخ محمد الطيب (المدفون في المزّة في أجمل بقعة منها) إلى قونية لنسخ صورة عنها وطبعها.

هذا هو الذي صنعه. وللأمير عبد القادر الجزائري كتاب اسمه «المواقف» مملوء بمذهب وحدة الوجود، ألزمت وأنا صغير بالمشاركة بتصحيح تجارِب طبعه، فلما رأيت ما فيه استعذت بالله وتركتُه.

ولقد كتبت في «الرسالة» من أكثر من أربعين سنة أن كُفْر كفّار قريش ليس أكثر ممّا في هذه الكتب، فقام عليّ مشايخ من مشايخي وكانت بيني وبينهم مناظرات، ثم اقترحت اقتراحاً أعيد ذكره الآن:

إن ابن عربي واحد من الكتّاب الخمسة الذين هم أعظم كتّاب العربية: هو والجاحظ وأبو حيّان التوحيدي والغزالي وابن خلدون. وهو فيلسوف لا يبلغ سبينوزا إلا أن يكون تلميذاً له، وكتابه «الفتوحات» كتاب عظيم، ولكن يفسده ويذهب بخيره ويمحو جماله ما فيه من كلام لا يُشَكّ في أنه كفر، وأنه أخذ الأفلاطونية الجديدة لأفلوطين فجعلها من الدين.

والاقتراح هو أن نأخذ الفتوحات، فنمحو منها هذا كله (وهذا كله لا يبلغ عُشْرَ الكتاب) ثم نطبعه طبعة جديدة ونكتب على غلافها «مهذَّب الفتوحات» فنستفيد منه ونستمتع بالخير فيه ونسلم ممّا فيه من الشر. فما رأيكم دام فضلكم؟

* * *

ص: 183