المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌صفحة جديدة في سفر حياتي - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌صفحة جديدة في سفر حياتي

-22 -

‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

دخل علينا شعبان سنة 1343 ونحن في الدار الثالثة التي استأجرها والدي في الصالحية، وكانت أعلى من نهر «يزيد» فلا يصل ماؤه إليها، ومياه «الفيجة» في السُّبُل العامّة فقط لم تكُن قد جُرَّت إلى البيوت، فكانت البيوت تستقي من آبار يصل إليها الماء من نهر «يزيد» والناس يسحبون المياه من الآبار بالمضخات، وكان في ضخّها تقوية لعضلات اليد ورياضة ونشاط للبدن. ولكن أبي كان يريد الراحة لأسرته، فما كاد يسمع بوصول المحرّكات الكهربائية إلى دمشق حتى كان أول محرّك (موتور) مركّباً في دارنا، اشتراه من السيد جمال القاري. وكان مَن يزورنا من الرجال والنساء يتعجبون منه لأنهم لم يكونوا قد رأوا مثله.

وكنا نستعد لرمضان لأن الضيوف يزدادون في رمضان، ونحن لا نكاد نخلو منهم سائر أيام السنة. وقلما كان والدي يأكل وحده أو يأكل مع أهله، لا في الفطور ولا في العشاء، وما كان يمرّ يوم لا يزورنا فيه عمّاي (أعني خالَي أبي، وكنت أناديهما بالعمّين)، وأبناء أحدهما وبعض تلاميذ أبي أو بعض أصحابه، فلا ترى إلا «صواني» الطعام داخلة إلى المجلس في وقت الطعام وفي غير وقت الطعام

ص: 227

وكانوا يمدّون السّماط ويأكلون على الأرض. أما الشاي فلا ينقطع فيُنصَب «السّماوَر» ويقوم أحد الضيوف بإعداده. وكان عمّي الشيخ عبد القادر رحمه الله «يلقّم» الشاي الأخضر (وما كنا نشرب غيره) ثم يذوقه، فيعدّله ثم يذوقه، حتى إذا ذهب نصف «البرّاد» زاده ماء وقدّمه للحاضرين!

وكانت الدار مفروشة فرشاً دون فرش الأغنياء ولكنه فوق فرش الأوساط من أمثالنا، والخير كثير والمؤونة والفاكهة و «النقل» لا تأتي إلا بالأكياس أو الصناديق.

فما مضت من شعبان إلا أيام حتى مرض أبي، وكان ضعيف الجسد. أما صحتنا أنا وإخوتي فجيّدة بفضل من الله أولاً وأخيراً، ثم بالإرث من جدّي (إن صحّ قانون ماندل في الوراثة)، وقد كان قوياً بالغ القوة متين البنيان، ومن أمي وكانت -بحمد الله- صحيحة الجسم، ما رأيتها مرضت يوماً.

وما كان في دارنا تلك على سعتها غرفة تملؤها أشعة الشمس، وهو محتاج في مرضه إليها، فجاء أحد تلاميذه وهو السيد كامل بكر فأخذه إلى داره، وهي قريبة منا، يمرّضه فيها. وكان تلاميذه: الشيخ هاشم الخطيب وأخوه الشيخ عبد الرحمن، والشيخ محمود العقاد، والشيخ محمود الحفار وأخوه الشيخ عبد الرزّاق، والشيخ عبد الوهاب دبس وزيت، وبعض من إخوانه كالشيخ موسى الطويل، وبعض تلاميذه في التجارية من الأطباء: ابن خاله الدكتور طاهر الطنطاوي والدكتور سهيل الخياط والدكتور محمد سالم، وبعض من كان معه في ديوان المحكمة

ص: 228

كالأساتذة صبحي القوّتلي ومحمد علي الطيبي وعارف حمزة وإبراهيم السيوفي

كل هؤلاء (ومن نسيت أكثر ممّن ذكرت) لم يكونوا يتركونه، بل كانوا يوالون عيادته وكانوا يسارعون -عن حبّ ووفاء- إلى إجابة طلباته ويتسابقون إلى تحقيق رغباته. وكذلك كان طلبة العلم مع مشايخهم، فجزاهم الله (وقد مضوا جميعاً إلى رحمته) أفضل الجزاء.

* * *

وجاء يوم العشرين من شعبان، جاء اليوم الذي بدّل مسار حياتي.

كنت أمشي في طريق ممهّد إلى غاية واضحة، فتفجّرَت قنبلة فطمست معالم الطريق، فإذا أنا في قَفرة لا أدري من أين أمشي فيها ولا إلى أين. كنا في خيمة تسترنا عن العيون وتظللنا من الشمس وتدفع عنا لفح الحر ولذع البرد وعَصف الرياح، فكُسر عمود الخيمة فانحطّت فوق رؤوسنا، فلما خلصنا منها إذا نحن مكشوفون معرّضون للأخطار تأكلنا الأنظار، فلا تحمينا درع ولا يسترنا ستار.

في اليوم العشرين من شعبان سنة 1343 مات أبي.

كلكم يعرف معنى كلمة «مات» لأن كل حيّ إلى ممات، وما من أحد إلاّ شهد موت عزيز أو فَقْد حبيب. أما جملة «مات أبي» فلا تعرفون ماذا كان معناها عندي. كان معناها أن هذه الدار الفسيحة لم تعُد دارنا، أن هذا الفرش كله وكل ما في الدار لم يَعُد

ص: 229

من حقنا؛ ذلك لأن تركة أبي رحمه الله كانت رقماً كبيراً كان يُعَدّ في ذلك اليوم ثروة، ولكنه رقم علينا لا لنا، إنه رقم الديون التي كانت عليه لا المال الذي كان له.

كان رحمه الله مرة ثانية، ورحمه ألف مرة) يستدين ليوسع على عياله. ما كان يظنّ، ولا نحن نظنّ، أنه سيموت شاباً لم يجاوز عمره ستاً وأربعين سنة. وكان قادراً على وفاء الدين من مرتّبه الكبير لو مدّ الله في أجله، ولكن حكمة الله أعلى وحُكمَه أمضى.

* * *

يقال إن المصيبة تبدأ كبيرة ثم تصغر.

وهذا صحيح من وجه واحد وغير صحيح من تسعة وجوه. إنها تصغر بالنسيان، والنسيان من أعظم نعم الله على الإنسان، ولكنها تكبر كلما ظهر أثر من آثارها. والآثار لا تظهر دفعة واحدة بل تظهر تباعاً، وكلما بدا أثر جديد جدّد وقع المصيبة.

لم أدرك أول يوم مقدار ما ألَمّ بنا ولم أفكّر فيه لأني لم أجد وقتاً للتفكير. كنت كالضائع في الزحمة، لا أحس بنفسي ولا يكاد يحسّ بي مَن كان حولي. من أين اجتمع هؤلاء الناس كلهم؟ لقد ضاقت بهم الدار وضاقت دور الجيران التي فتحوها لهم. وكذلك كنا في الأفراح وفي الأتراح، كانت أخوّة وكانت اشتراكية صادقة، لا اشتراكية المذهب أو الحزب بل اشتراكية الفطرة السليمة التي يوجّهها الإسلام.

ص: 230

وكنت يومئذٍ كالذي تصيبه ضربة على رأسه فيفقد شعوره، كنت أنظر ولكن لا أرى وأتحرك ولكن لا أفكر. لم أعلم كيف غسّلوه ولا كيف كفّنوه، ما دعاني أحدٌ لأرى ولا حاولت أن أرى مِن غير أن أُدعى. كنت أمشي من هنا إلى هناك ثم أعود إلى حيث كنت، لا أهدأ ولكني لا أعمل شيئاً، حتى سمعت النداء بـ «لا إله إلاّ الله» ، وكانت تلك علامة سير الجنازة.

مشيت مع الناس. كان الناس يملؤون الطريق كله فلا أعرف أول الموكب من آخره، مشى الناس على أقدامهم من الصالحية إلى مقبرة الدحداح في حيّنا القديم في طرف العُقَيبة، وكانت آخرَ البلد ما بعدها إلاّ البساتين فصارت اليوم في وسطه.

من الصالحية إلى المقبرة أربعة أكيال امتلأت كلها بالناس، وكلما تقدمت قليلاً انضمّ إليها ناس جدد. يسألون: من الميت؟ فإذا قيل: الشيخ مصطفى الطنطاوي، قالوا: رحمه الله، ومشوا فيها.

ما كان من رجال السياسة ولا من أهل الرياسة، ولا من ذوي الجاه والسلطان ولا من الأكابر والأعيان، ولا من الأدباء ولا من الخطباء، ما كان إلا عالِماً ومعلّماً، ولكنها محبّة وضعها الله له في قلوب الناس. وما كنت أعلم أن له في قلوبهم هذه المحبّة حتى مات.

* * *

رجعنا من المقبرة وأنا لا أزال في دهشة المفاجأة. ثم بدأ

ص: 231

توافد الناس علينا، الباب مفتوح والغرف كلها مُعَدّة، وصحن الدار الواسع صُفّت فيه الكراسي، لا أدري من أين جاءت. كل ذلك ممتلئ بالناس، يخرج قوم فيدخل مثلهم، أعرف منهم واحداً وأجهل التسعة.

حتى انتهت أيام التعزية وخُتم موسم الكلام، والكلام ولو كان حلواً ولو كان بليغاً لا يكلّف مالاً. وذهب كل من المعزّين إلى داره وبقينا وحدنا نواجه أول آثار الحادث.

كنت في أول السنة السابعة عشرة من عمري ولكن لا مال لي ورثته ولا مورد لي أنفق منه، وأنا أكبر إخوتي. أمّا عمّاي (أعني خالَي أبي) فما كانا -رحمهما الله- ممّن يمدّ يده إلى كيسه يُخرِج منه ما يقدمه إلينا، وإن كان في الكيس ما يخرجان منه لو شاءا. أمّا عمّي الأكبر فما زاد على حلو الكلام، دفعه إلينا ومضى. وأمّا الأصغر فقد أعاننا -جزاه الله خيراً- بجهده لا بماله؛ استخرج لأبي معاشاً تقاعدياً كان ضئيلاً لأن مدّة خدمته الحكومية (أميناً للفتوى ومفتياً في السويداء، ثم رئيس ديوان محكمة التمييز) لم تكُن طويلة، وتولّى بيع كلّ ما كان في الدار من فرش وأثاث وبيع المحرك (الموتور)، ولم يبقَ إلاّ المكتبة فقد وقفتُ دونها. واستأجر لنا داراً صغيرة في الحارة التي وُلدت فيها مقابل الدار القديمة.

هل قلت دار؟ لا، بل هي دُويرة، وما أظن هذه التسمية صحيحة لأنها كانت أقرب إلى الإصطبل، بل إنها لا تصلح أن تكون إصطبلاً ولا يوجد طبيب بيطري يوافق على ربط الدوابّ

ص: 232

فيها، لأن الشمس لا تدخلها أبداً، والدار التي لا تدخلها الشمس في الشام لا يخرج منها الطبيب.

أمّا ماؤها فمن نهر «تورا» ، ثاني أبناء بردى، ولكنه يأتي في ساقية مكشوفة تمشي ستة أكيال قبل أن تصل إليها، يُلقي فيها مَن شاء ما شاء. لا أقول إن ماءها ملوَّث لأن كلمة ملوّث أنظف من مائها، فماذا أقول عنه؟

تدخل من الباب إلى ساحة صغيرة أرضها من «العدَسة» لا من البلاط ولا الحجارة، فيها غرفتان إذا دخلتَهما في ساعة الظهيرة من تموز (يوليو) أحسست بالرطوبة وشممت ريح العفن، جدرانها من الطين مملوءة بالبقّ. وقد باد البقّ الآن ولم يبقَ له أثر، وهو حيوان صغير، حشرة حمراء كأنها كيس صغير لها رأس وأرجل تمشي عليها، إذا كانت جائعة رأيتها قشرة رقيقة بسُمْك ورق الكتابة، فإذا مسّت جسدَ الإنسان مصّت دمه فتمتلئ بالدم الأحمر.

هذه هي الدار التي استأجرها لنا عمي (1). لم نحمل إليها من الفرش إلاّ شيئاً لا يستغني أحد عن مثله، ممّا لم يشترِه أحد من فرش دارنا التي بيعت لوفاء الديون. فكنا نفرش حصيراً على الأرض وفوقه بساط وفراش رقيق، وكان إخوتي ينامون على هذا

(1) اقرؤوا -إن شئتم- المقالة البليغة المؤثّرة «جواب على كتاب» في كتاب «من حديث النفس» ، وفيها وصف تلك الدار وحياة جدي وأمه وإخوته فيها، ثم لا يتردّدْ منكم أحدٌ أن يُخرج من جيبه منديلَه فيمسح ما انساب من دمعه على وجنتيه (مجاهد).

ص: 233

الفراش وأمي تسهر عليهم تذود البقّ عنهم، تمسكه ثم تلقيه في كوب فيه الماء أو تُدني منه مصباح الكاز (إذ لم يكُن في الدار كهرباء) فترميه في بلورة المصباح، وكانت اللّحُف لا تكفي فكانت تغطّيهم بالبساط. تسهر الليل كله تذكر ما كانت فيه وما صارت إليه، تقطع الليل بآهاتها وتذيب آلامها في دموعها، لا يرى بكاءها ولا يسمع شكواها إلاّ ربها. وكانت مؤمنة راضية عن الله صابرة على ما قضاه.

افترقَت أسرتنا. أما عمتي فقد سكنت عند ابنة خال لها، هي أم حلمي حبّاب (الخطاط) ومعها جدتي. وأما نحن أنا وأمي وإخوتي فهنا، وكان عمر أخي سعيد ثلاثة أشهر فقط، فنشأ لا يعرف أباه. بل إن أخي عبد الغني لا يعرفه تماماً، وكذلك أخته الصغرى. وكان بيني وبين أخي ناجي أقلّ من ست سنوات، ولكنها في تلك السنّ تبدو كبيرة، فأنا شابّ وهو ولد، لذلك شعرت من أول يوم أن العبء أُلقيَ عليّ.

ولم يكُن لنا مورد إلاّ معاش التقاعد الذي عُيّن لأبي، وهو قليل، ومعاش الإمامة التي كانت لأبي في جامع رستم، وهو مسجد صغير إلى جنب هذه الدار، فوُلّيت إمامته مكان أبي، وكان راتب الإمامة مئة وخمسين قرشاً في الشهر. وكانت له تلاوة جزء من القرآن في جامع سنان باشا في باب الجابية، فوُلّيتها بعده وراتبها خمسون قرشاً في الشهر.

ولم نجد مَن يَمدّ إلينا يداً بمساعدة إلاّ خالي الأستاذ محب الدين الخطيب، صاحب «الفتح» و «الزهراء» والمطبعة السلفية في مصر، فجعل لشقيقته (أمي) جنيهين مصريّين في الشهر. وكان

ص: 234

الجنيه المصري يُصرَف بخمسة مجيديات عثمانية وبضعة قروش، على حين تُصرف الليرة الذهبية الرشادية بخمسة مجيديات فقط. وقد رددنا إليه بعد أربع سنوات كل ما دفعه إلينا، بل أكثر منه، من حصة في أرض في صَحْنايا في الغوطة الجنوبية ورثتها أمي عن أخوالها من آل الجلاّد، دفعتُها أنا إليه لمّا كنت في مصر. لكن يبقى له الفضل، فله منا الشكر ومن الله حسن الأجر، رحمه الله.

والذي أعاننا وكان يحمل الأثقال عنا ويمدّ يده في كل ضيق إلينا، بجهده لا بماله، هو ابن خالتي الشيخ طه الخطيب. وقد فرّقَت الأيام ما بيننا، فمن قرأ هذا الذي أكتبه عنه فليبلغه إياه ليعلم أن المعروف لا يُنسى.

وانقطعنا عن الناس؛ أعني أن الناس انقطعوا عنا، الذين كانوا كل يوم في زيارتنا والذين كانوا يُمضون شطر نهارهم في دارنا، حتى إن عمَّيّ -رحمهما الله وسامحهما- جاءا في يوم عيد فزارا جاراً لنا غنياً داره لصق دارنا، وهي التي تسدّ مطلع الشمس علينا، وما طرقا بابنا. لا أقول هذا تشهيراً ولا تشفّياً، بل شكراً لله على أنْ أغنانا عنهما وعن غيرهما، وكتب علينا أياماً عِجافاً لتكون تدريباً لنا وتمريناً، ونزداد بها علماً بالأيام وطاقة على خوض غمرات الحياة.

* * *

لقد فتحت الآن صفحة جديدة في سِفْر حياتي: كنت لا أعرف حمل التبعات فحملتها قبل أن يقوى عاتقي على حملها، وكنت أحسّ أني فرع من أصل فصرت أصلاً (أو كالأصل) لفروع.

ص: 235

كنت أخطُر على الشاطئ أتفرّج بالنظر إلى موج البحر، فرُميت في مائه وأنا لا أحسن السباحة.

فماذا صنعت؟ وماذا وجدت؟ الجواب في الحلقة القادمة إن شاء الله.

* * *

من أوراق أبي (1):

وجدت بخطّه رحمه الله مسوَّدات عمل عظيم، لم أعلم متى كتبها ولا كيف قدر عليها، هي أنه أحصى زيادات «القاموس المحيط» على «لسان العرب» فبلغَت نحو ألف مادّة، ويبدو أنه أكمل العمل وبيّض هذه المسوَّدات، ولكني لم أجد إلاّ مقدّمتها، مكتوبة على طريقة العلماء لا بأسلوب الأدباء، وهاكم صورة الصفحة الأولى منها مكتوبة بخطه (2).

ومن شاء أن يتصور ما بذل -رحمة الله عليه- من جهد فليقرأ القاموس المحيط كله ولسان العرب كله، ثم لينظر ما زاد في أحدهما على الآخر. كم ترون هذه القراءة وهذه المقابلة تقتضيه من وقت مع استنفاد أكثر وقته في التدريس وفي العمل وفي لقاء الأصدقاء؟!

* * *

(1) كانت هذه الفقرة في الأصل في ذيل الحلقة الرابعة والعشرين، وقد اجتهدت في نقلها إلى هذا الموضع للمناسَبة (مجاهد).

(2)

الصورة في الجزء الأخير الخاص بالصور والفهارس (مجاهد).

ص: 236