الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-34 -
تقلّبات على الطريق
الذي يريد أن يشتري بيتاً أو يستأجره يقلّب بيوتاً كثيرة، يبصر مزاياها وعيوبها ثم يختار ما هو أصلح له منها. ولقد كانت سنة 1929 والتي بعدها إلى سنة 1931، كانت لي مرحلة اختبار واختيار، ما كانت بصنعي بل بصنع الله لي: خالطت المشايخ حتى صار لي في ميدان الدعوة صوت مسموع، وإن لم يكُن أعلى الأصوات. وصرت من قادة الطلاب، وإن لم أكُن أكبر القُوّاد. وصرت من فرسان المنابر ومن حَمَلة الأقلام، وإن لم أكُن سابق الفرسان ولا من أكبر الكتّاب. وأصبحت معلّماً ولكن في مدرسة أهلية، واشتغلت بالمسرح تأليفاً ومعاونة في الإخراج ومعلّماً للتمثيل، ونلت الشهادة وكتبت تحت اسمي «بكالوريوس آداب وفلسفة»
…
وكانت كلها بدايات: في الربيع تخضرّ الأرض وتنشقّ عن نبتات صغيرة، منها زهور برّية أو حشائش خلقت لتعيش شهور الصيف فقط، ومنها ما يعيش سنين، ومنها خوط شجرة زيتون ربما بلغ عمرها القرون.
كانت كلها بدايات. منها ما وقف وانقضى عهده فصار من
الذكريات، ومنها ما استمر إلى الآن. استمرّ -والحمد لله- عملي في الدعوة، وفي التعليم، وفي الكتابة، وفي الخطابة، وانتهى عهد المسرح وقيادة الجماهير كما انتهى من قبله عهدي بالتجارة، والحمد لله أيضاً، فما ندمت على ما انصرفت عنه ولا على ما بقيت فيه.
ولما انتهت السنة الدراسية عدت إلى مصر ناوياً الإقامة فيها، وقدّمت أوراقي للجامعة، وقابلت الدكتور طه حسين عميد كلية الآداب والدكتور عبد الوهاب عزام، فكان اللقاء الوحيد مع الأول، وكان اللقاء مع الثاني بداية مودّة وصداقة ومحبّة استمرت حتى توفّاه الله: في مصر وفي دمشق وفي كراتشي، وسيأتي إن شاء الله الكلام عنه.
اخترت الجامعة ولكن الله ما اختارها لي، فقد كان خالي محبّ الدين على رأس من يردّ على طه حسين كتابه «في الشعر الجاهلي» وكانت «المطبعة السلفية» مركز الحملة عليه ودفع ما جاء به، ودخولي الجامعة يباعد ما بيني وبينه، وأنا إنما جئت مصر لأكون معه لا عليه. فدخلت دار العلوم العليا، وليس عندي شيء مكتوب يذكّرني بأيامها، وما كان في ذاكرتي ذهبَت به الأيام والليالي، فلست أذكر إلاّ أني كنت أركب الترام من باب الخلق إلى المنيرة، يمشي بي في شارع ضيّق ملتوٍ هو شارع الخليج الذي لم يعُد اليوم ضيّقاً ولا ملتوياً، وكان على جانبيه أبنية عتيقة تكاد تكون خرِبة فصار على جانبيه اليوم عمارات ضخمة عالية.
ولا أذكر من أساتذتها إلاّ الشيخ أحمد الإسكندري، مؤلف «الوسيط» الذي كنا نقرأ فيه تاريخ الأدب العربي، ووكيل المدرسة
الشيخ حسن منصور، وكان بارعاً في التفسير وكان مهيباً يخشاه الطلاب، وأننا كنا نتغدى الظهر في المدرسة ثم نخرج.
وممّا أذكره أنهم أرادوا أن يؤلفوا فرقة للتمثيل فجاؤونا بشابّ له اسم غريب لا أزال أحفظه هو فتوح نشاطي، أعدّ عبارات جعل يختبر بها الطلاب ليرى مَن يحسن منهم الإلقاء ومن يصلح منهم للتمثيل، فلما وصل الدور إليّ دهش ودُهش الطلاب جميعاً، والتفتوا إليّ بعد أن كانوا لا يحسّون بوجودي، وصرت المقدَّم عنده وعندهم، وصار هذا «الجدع الشامي» (1) مضرب المثل في إجادة الإلقاء والمقدرة على التمثيل، ولم يعلموا أني كنت «أستاذاً» في دمشق لهذا الفن قبل أن أكون «طالباً» مبتدئاً فيه في مصر.
ما أعجب الإنسان، وما أعجب حياة الإنسان! لقد سألوني عشرين مرة في درس الإنشاء: ماذا تريد أن تكون في المستقبل؟ فكتبت: أريد أن أكون طبيباً، وأن أكون محامياً، وأن أكون وأن أكون، فما كان شيء ممّا أردت أن أكونه ولكن كان ما أراد الله أن أكون.
لا، لا أقول مقالة الجاهلين «أن الإنسان مسيَّر» . إنه ليس مسيَّراً بل هو مخيَّر، لم يُجبِر الله كافراً على الكفر ولا عاصياً على العصيان، بل أعطاه العقل الذي يفكّر والإرادة التي تقرّر والأعضاء التي تُنفّذ، وفتح أمامه الطريقَين وقال: هذا طريق الجنة
(1) وأصل الكلمة جذع، وهي فصيحة:
يا ليتَني فيها جذَعْ
…
أخِبّ فِيها وأضَعْ
وهذا طريق النار. من خرج من بيته وكان سليم الرّجلَين يستطيع أن يمشي إلى المسجد ويستطيع أن يمشي إلى الخمارة، فأين الإكراه؟
يقول جول سيمون: "أنا مخيَّر وأنا أريد أن أرفع يدي، فمن يراهنني على أني لا أستطيع رفعها؟ "، فإذا قدرت على رفعها أقدر أن أرفعها لأنقذ غريقاً أو لأغرق بريئاً، فهل العملان سواء؟ لا، ليس الإنسان مسيَّراً بل هو حرّ مختار يصنع ما يشاء، ولكن في حدود البشرية. السيارة تمشي، ليست كالصخرة الراسية، ولكنها تمشي في الطريق المعبَّد وبالسرعة المحدّدة، لا تصعد درَج العمارة ولا تسابق «البوينغ» . وأنا مخيَّر ولكن لا أقدر أن أجعل أنفي أجمل ولا قامتي أطول ولا أن أجعل أمسي يعود (1).
الإنسان مثل الزورق في البحر، يسيّره راكبه، يحدّد وجهته ويعيّن غايته، ولكن قد تأتي موجة عالية أو ريح عاتية، فتوجهه جهة لا يريدها إلى غاية لا يقصدها.
في يدي الآن ورقة مصفرّة من القِدَم مكتوب فيها: «المملكة المصرية، دار العلوم العليا، نادي التمثيل والموسيقى، نمرة مسلسلة (70)، وصل من حضرة العضو محمد علي طنطاوي مبلغ 10 قروش صاغ قيمة اشتراكه عن شهر أكتوبر سنة 1929، تحريراً في 15 أكتوبر سنة 1929. الخاتم الرسمي، أمين الصندوق محمد علي الضبع» .
(1) راجع كتابي «تعريف عام بين الإسلام» (فصل الإيمان بالقدر).
علي الطنطاوي ممثّل أو موسيقي! وتصورت ماذا تكون خاتمة هذه القصة التي بدأت بهذا «الوصل» لو هي اكتملت فصولاً. إلى أين كان يصل بي هذا الطريق الذي وضعت رجلي في أوله يوم صرت عضواً في نادي التمثيل والموسيقى لو أني تابعت السير فيه؟ كنت أبدأ فأمثّل في المدرسة، ثم أشارك في رواية على المسرح، ثم أدخل فرقة من الفرق، ثم يُسجّل اسمي في القائمة التي تبدأ بجورج أبيض لتنتهي بإسماعيل ياسين، فيكون علي الطنطاوي اليوم ممثّلاً عجوزاً متقاعداً، يعاشر النساء ويشهد الرقص، ويسهر الليل وينام النهار، ويعود بلا صحّة ولا مال ولا دنيا ولا آخرة. ولم يكُن يحول بيني وبين هذه النهاية شيء، فالاستعداد له في نفسي كبير والرغبة فيه قوية، ولكن الله صرفني عنه.
أصبحت يوماً فإذا خاطر قويّ لم أملك له دفعاً يدفعني لترك دار العلوم ونادي التمثيل فيها، والعودة إلى دمشق. وكان هذا الخاطر هو الموجة التي حوّلَت زورقي إلى ما هو خير لي، فاللهُمّ لك الحمد.
* * *
عُدت إلى دمشق فإذا موعد القبول في الجامعة قد مضى، وكان في نفسي طاقة هائلة إذا لم تصادف عملاً تذهب فيه تذهب بي أنا، وكنت مكلَّفاً بنفسي وبأمي وإخوتي، فإذا لم أجد كسباً حلالاً ضعت وأضعتهم. فلا بدّ لي إذن من عمل أوجّه إليه طاقتي ومورد أنفق منه على أهلي. ومن أين المورد؟ هل أعود إلى التجارة التي جرّبتها فما أطقتُها ولا صدّقت أني نجوت منها؟ هل أقبل وظيفة
وأنا أنكر على من يكون موظفاً في حكومة يوجّهها المستعمرون كما يشاؤون؟ لم يبقَ أمامي إلاّ التعليم.
حياتي كلها موجات يبعثها الله فتوجّه زورقي إلى حيث يريد؛ منعطفات ما كان شيء منها بتدبيري واختياري بل باختيار الله لي. وأعود فأكرّر أني لست مسيَّراً، وأن من يزعُم أن الإنسان مسيَّر يُقِرّ في نفسه بأنه أحمق. الإنسان مخيَّر ولكن دائرة اختياره ضيّقة ومدى حرّيته في الانطلاق قصير، لذلك كان علينا التفكير، وعلينا أن نستشير ثم نستخير، فنسأل الله أن يبلغنا من الخير ما نعجز عن بلوغه إلاّ بعونه.
من ذلك أنه كان في دمشق مدرسة أهلية أثرية اسمها «المدرسة الأمينية» ، قريبة من الأموي، كانت أقدم مدرسة للشافعية في دمشق، عمرها قريب من عمر الأزهر، مديرها ابن خالتي الشيخ شريف الخطيب. وكان يعلّم فيها أخوه الشيخ طه، فجئت أزوره يوماً من أيام سنة 1345هـ فيها فعلقت رجلي بالفخّ.
وكانت هذه الزيارة «منعطَفاً» كبيراً في طريق حياتي (1)؛
(1) هذه الزيارة كانت قبل الذهاب إلى مصر لا بعد العودة منها؛ فقد ذهب جدي إلى مصر سنة 1928، أي سنة 1348 هجرية، وهذه الواقعة (كما هو مذكور هنا) كانت سنة 1345، فهو يذكرها في هذا الموضع ليقول لنا بعد قليل إنه عاد إلى التدريس في هذه المدرسة حين احتاج إلى عمل يعمله يكسب منه معاشَه ومعاشَ مَن يعول (مجاهد).
إذ دخلت على التلاميذ فألقيت عليهم درساً، فأحببت التدريس فاشتغلت به. ثم أقام «الحفلة» السنوية، وكان يدعو إليها وجوه الشاميين من علماء وموظفين وتجار، وكلّفني أن أكون خطيبها. وكنت أكتب خطبي، فأعددت خطبة قال مَن سمعها (ما قال لي ولكن قال عني فبلغني) بأنها كانت شيئاً جديداً ما ألِف الناس يومئذٍ مثله ولا عرفوه، في موضوعها وأفكارها، وفي أسلوبها وإنشائها، وفي طريقة إلقائها. وكان ذلك سنة 1345 هجرية وأنا شاب في زهرة الشباب، حسن الوقفة، جهير الصوت، صحيح النطق، ولولا الحياء لقلت إني جميل الصورة أيضاً!
تلك كانت بدايتي في التعليم وفي الخطابة، وفي هذه المدرسة (ثم في غيرها) كانت بداية اتصالي بعالَم المسرح والتمثيل، وفيها اخترعت فنّ الإلقاء (1).
تدفّق في نفسي ينبوع من النشاط ومن الابتكار. جئت بالمحراث القوي وبالبذر الجيّد وبالسماد الصالح، ولكني أعملت محراثي ونثرت بِذاري في أرض لا تصلح للزراعة، فحملت المشاقّ وكثرة الإنفاق، ولم أخرج بطائل. ولو كان هذا الجهد في الجامعة أو في مدرسة ثانوية، عند من يقدّره قدره ويهتم به، لجاء بأطيب الثمر وأكثره ولم يذهب هدراً مع تلاميذ صغار لا قدّروه في حينه ولا حفظوه بعده، بل إن أكثرهم لم يكمل دراسته، بل انصرف إلى أعمال الدنيا فلم تعُد تربطه رابطة بالعلم والأدب.
* * *
(1) لهذا الإيجاز تفصيل في الحلقة الثامنة والثمانين (مجاهد).
فلما اضطُررت الآن إلى العمل رجعت إلى «الأمينية» أعلّم فيها بالأجر. وما الأجر؟ أربعة قروش إلاّ ربعاً على الساعة، والقرش هللة (هلالة) هنا أو مليم في مصر. هذا هو الأجر! وهذا شيء لا يشتري خبزاً ولا يُشبع أسرة، فعملت في مدارس أُخَر:
في «الجوهرية» عند الشيخ عيد السفرجلاني، أستاذي في «الجقمقية» الذي مرّ بكم ذكره. وكان من تلاميذي فيها واحد نبغ حتى صار من شيوخ التعليم ومن العلماء، وأمضى شطراً من عمره موجّهاً للمدرّسين، مشرفاً على وضع المناهج وتأليف الكتب في العلوم الدينية لأنه كان مفتّش التربية الدينية في وزارة المعارف، وهو أحد تسعة كانوا أوفى مَن مرّ بي من الطلاب، وقد مرّ بي آلاف وآلاف وآلاف من سنة 1345 إلى الآن، هو الأستاذ عبدالرحمن الباني.
وفي «المدرسة التجارية» التي عملت فيها من ستّ سنين (1) ثم تركتها لما قدّموا عليّ الشيخ أحمد الدقر فأعطوه الدرس.
وفي «الكامليّة» ، المدرسة التي كانت يوماً من أعظم مدارس دمشق فصارت مدرسة ابتدائية، أنشأها الشيخ كامل القصاب العالِم المعلّم الوطني المصلح، وكان يعلّم فيها ألمع رجال دمشق كالدكتور عبد الرحمن شهبندر، وتخرّج فيها جلّة من الأساتذة كالدكتور أحمد حمدي الخيّاط أستاذ أطباء دمشق، والدكتور أسعد الحكيم. كان يديرها لمّا جئت أدرّس فيها الصديق
(1) أي قبل هذا التاريخ بست سنوات، في سنة 1923 أو نحوها. وقد مرّ الخبر في الحلقة الثالثة والعشرين من هذا الجزء (مجاهد).
الخطيب الأستاذ جودة المارديني، وكان أوّل شيخ يلبس الحلة الإفرنجية (البنطال والجاكيت) ويعقد العقدة (الكرافات) ويحلق لحيته، فكنّا ونحن صغار نعجب منه وقليل منا يُعجَب به. ثم جاء مديراً لها ابن الشيخ كامل.
ولهذه المدارس وأيامي فيها أخبار طوال، إذا جرّت المناسبة إليها ذكرتها. وكان من المدارس الأهلية «الكلية العلمية الوطنية» التي كانت للمربّي الشيخ أبي الخير الطباع ثم للدكتور منيف العائدي الأستاذ في كلية الطب، وكانت تتبع مناهج وزارة المعارف وتُعِدّ الطلاب لامتحان البكالوريا، وكان يدرّس الأدب العربي فيها الأديب الشاعر العالِم الأستاذ خليل مردم بك، فسمحَت الجامعة للطلاب غير السوريين بدخولها بالشهادة الثانوية وأعفتهم من نيل البكالوريا، فأنشأت الكلية صفاً (فصلاً) سمّته «صفّ الجامعة» ، يُدرَس فيه كل ما يُدرَس في «صف البكالوريا» ، وطلبت من الأستاذ مردم بك أن يعلّم فيه فاعتذر ورشّحني لتدريس الأدب في هذا الصف، فدعَوني وجعلوا لي أجراً عُشر الليرة الذهبية (أي 55 قرشاً) على الساعة، وكان أجراً كبيراً بحساب تلك الأيام.
وقد جمعت محاضراتي فيها عن بشّار بن برد، أخذتها من دفتر أحد الطلاّب وطبعتها في كتاب صدر على عجل سنة 1930، ولم أُعِد طبعه ولا أنوي إعادته لأني لا أرتضيه.
* * *
كانت مرحلة بدايات، ومن هذه البدايات احترافي الصحافة.
وكنت قد اتصلت بها من قبل لمّا نشرت أول مقالة لي في «المقتبَس» عند الأستاذ أحمد كرد علي، أبي بسام وعبد الرزاق وشقيق أستاذنا الكبير منشئ المقتبس محمد كرد علي. وفي كتابي «من حديث النفس» تفصيل هذا الكلام (1) فلن أعود إليه، ولكن أقول إني "كتبت المقالة وقرأتها على رفيق عمري أنور العطّار رحمه الله، وكان يومئذٍ يجرّب قول الشعر، فأشار عليّ أن أنشرها. فاستكبرت ذلك، فما زال يزيّنه لي حتى لِنت له وغدوت على إدارة «المقتبس»، وكانت في شارع السنجقدار (القديم) قبل أن يخربه المنتدبون وقبل أن يعيد الناس بناءه، وكانت في صف المسجد من جهة المرجة. ولا أدري كيف وجدت الجرأة على أن أصعد السلّم وأن أسلّم على الأستاذ وأدفع إليه المقال".
ولم يكُن من إخواننا من يعرف طريق صحيفة أو يُقدِم على طلب النشر فيها، وكنا يومئذٍ مصابين بمرض الخجل الذي شُفي منه أكثر شباب اليوم، بل جازوه إلى الجهة الأخرى
…
التي تقابل الخجل.
"فأخذ المقالة فنظر فيها، فرأى كلاماً مكتهلاً ناضجاً ورأى أمامه فتى صغيراً فَطيراً، وكان ذلك في أوائل سنة 1926، فعجب أن يكون هذا من هذا. وكأنه قد شكّ فأحب أن يتحقق، فاحتال عليّ حتى امتحنني بشيء أكتبه له زعم أن المطبعة تحتاج إليه وليس عنده مَن يكتبه ولا يحسن تأجيله. ففهمت وأنشأته له إنشاء
(1) انظر «أول مقالة نشرتها وأول درس ألقيته» في «من حديث النفس» ، وفي هذه الحلقة مقاطع من تلك المقالة (مجاهد).
من يسابق قلمه فكره، فازداد عجبه مني ووعدني بنشر المقالة غداة الغد".
خرجت من إدارة الجريدة "وأنا أتلمس جانبَيّ أنظر هل نبتت لي أجنحة أطير بها لفرط ما استخفّني من السرور، ولو أني بويعت بالإمارة أو أُعطيت البشارة ما فرحت أكثر من فرحي بهذا الوعد". وسرت كأني راكب حوّامة (ولم تكُن قد اختُرعت الحوّامات)، فأنا أمشي على الأرض ولكن لا تمسّ أقدامي الأرض، "وما أحسبني نمت تلك الليلة ساعة، ولو نمتها لحلمت فيها بما ينالني من المجد حين يُنشر المقال فيقرؤه الناس، فيدَعون أعمالهم ويتركون ما بأيديهم ليشيروا إليّ فيقولوا: هذا هو كاتب المقالة! وجعلت أترقّب الصباح ترقّب عاشق هيمان ينتظر وصلاً بعد طول هجران، حتى إذا انبثق الصباح نزلت فأخذت الجريدة، فإذا فيها المقالة وبين يديها كلمة ثناء لو قيلت للجاحظ لرآها كبيرة عليه".
رحمك الله يا أبا بسام ورحم تلك الأيام. لقد نشرت بعدها أكثر من ألفَي مقالة، فما عرفت مثل تلك الفرحة. إن الفرحات الأولى لا تُعاد، ترى الكعبة ألف مرّة فلا تحسّ أمامها مثل الذي أحسستَه في المرّة الأولى، وتقرأ القصّة مرات فلا تشعر بالمتعة التي شعرت بها عند القراءة الأولى.
وعدت إلى احتراف الصحافة سنة 1930، وحديث هذه العودة في «العدد» القادم، إن أحياني الله إلى العدد القادم.
* * *