الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-11 -
فصل جديد في تاريخ الشام
بدأ الآن فصل جديد في تاريخ الشام؛ فصل مِداده دموع ودماء، وصفحاته بطولة وفداء، فصل أوله هزيمة واستعمار وآخره استقلال وانتصار. وكان فصلاً غريباً عن تاريخ الشام، ما عرفَت مثله مذ شرّفها الله بالإسلام. لذلك أصابت الناسَ صدمةٌ فلم يصدّقوا أنّ حكامهم صاروا غرباء عن دينهم ودولتهم. حكّام أجانب لا لسانهم لساننا، ولا عاداتهم عاداتنا، ولا نحن منهم ولا هم منا.
لم يصدّقوا أن الاستعمار (1) قد وصل إلى دمشق التي لم تعرف من قبل استعماراً أوربياً حتى في أيام الحروب الصليبية. لقد مدّ الله للصليبيين فكانت لباطلهم جولة، ثم كانت العاقبة للحق أظهره الله على يد البطل المسلم (التركي) نور الدين والبطل المسلم (الكردي) صلاح الدين، وسيأتي الله ببطل مسلم يُزيل باطل اليهود عن فلسطين ويُظهر عليهم المسلمين، إن رجعنا
(1)«التبشير» و «الاستعمار» من أسماء الأضداد، وما هما إلا التكفير والخراب. وكتاب «التبشير والاستعمار» الذي لا أعرف مؤلّفَيه ولم ألقَهما كتابٌ أتمنى أن يقرأه كل مسلم.
إلى الله وعدنا إلى التمسك بالدين. أقول: لقد حكم الصليبيون السواحل وبعض مدن الداخل، ولكن الله حمى دمشق منهم، فلم تطأ ثراها جنودُهم ولا حكمها أمراؤهم.
وما يسمّيه السفهاء منا «الاستعمار العثماني» لم يكُن استعماراً، لأن حكم المسلم (ولو كان تركياً) لبلد مسلم (ولو كان عربياً) لا يسمّى في شرعنا حكماً أجنبياً، والمسلم لا يكون أبداً أجنبياً في ديار الإسلام. ونحن ما كرهنا الاتحاديين لأنهم أتراك، بل لأنهم حادوا عن جادة الإسلام فأساؤوا للمسلمين جميعاً، من عرب وأتراك.
لقد كانت الشام أيام الشريف كأنها في عرس، هذا ما كنا نراه نحن الصغار لأننا لا نعلم من الأمور إلاّ ظواهرها، وفي ليلة العرس تزدان الدار وتزداد فيها الأنوار وتُعلَّق المصابيح على كل جدار، وإذا نحن بتيار الكهرباء ينقطع فجأة فيعمّ الظلام. كنا كالحالم يرى أن قد أتيحت له اللَّذاذات وجُمِعت له أنواع المشتهَيات يأخذ منها ما يبتغي ويشاء، فصحا فجأة فلم يجد في يده إلا الهواء.
لقد انتهت في الشام أيام الأعياد وبدأت ليالي الحداد.
إن الرقيق المولود في قيد العبودية والناشئ فيها لا يأسى على فقدان الحرية لأنه ما عرفها ولا ذاق طعمها؛ إن الذي يأسى عليها إنْ فقَدها هو الحرّ الكريم، الذي عاش عليها ولم يألف غيرها. لذلك أبَتْ على الشاميين عزةُ نفوسهم أن يصدّقوا ما يرون وخيّلت لهم أنهم في منام، سرعان ما ينتهي الليل ويطلع النهار فيبدّد ضوؤه ظلامَ هذه الأحلام.
لم يصدّقوا أن كافراً جاء يحكم المسلمين. ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً إلاّ إن خالفوا عن أمر ربهم وتنكّبوا صراط شريعتهم، فيكون ذلك تنبيهاً لهم، فإذا عادوا إلى الطاعة والامتثال عادت إليهم الحرية والاستقلال.
لقد استيقظت في نفوسهم عزّة الإيمان ومواريث الجهاد، فأبو أن يستكينوا وأن يذلّوا، ونُثرت فيها من أول يوم بزور (1) المقاومة والصدام، فكانت منها الثورة السورية، أروع الثورات بعد الحرب الأولى، وسيأتي إن شاء الله حديثها.
وما أصاب البلادَ عامّة أصابني أنا مثله:
وهل أنا إلاّ من غُزيّةَ إن غوَت
…
غوَيتُ وإن تَرشُدْ غُزيّةُ أرشُدِ
وإن كان الشاعر قد جانبه الصواب؛ فما يكون عذراً لك إنْ ضللتَ أن تحتجّ بضلال الناس.
* * *
لقد انتقلت من مدرسة إسلامية تقوم على باب الجامع الأموي مديرها المرشد الصالح الشيخ عيد السفرجلاني، إلى مدرسة حكومية في لحف الجبل مديرها رجل نصراني اسمه ميخائيل.
أما دارنا فقد ارتفعت من حارة الديمجية إلى جادة عريضة في الصالحية، من بيت صغير ظهره للشمس في بلد شتاؤها ستة أشهر (وكذلك كانت أكثر المنازل الشامية) إلى دار واسعة تحيّيها
(1) البزور من العامي الفصيح كالبذور.
الشمس ساعة بزوغها من وراء الأفق الشرقي البعيد وتودّعها قبل أن تنزل من خلف الجبل فلا نحضر وداعها كما حضرنا استقبالها، وهذا من النعم لأن الاستقبال لذّة والوداع ألم.
وهذه هي الدنيا: علوّ وانخفاض، وقوة وضعف، نهار مضيء بعده ليل مظلم، وشتاء باكٍ بالمطر بعده ربيع ضاحك بالزهر؛ لا يدوم على حال إلاّ الكبير المتعال، ثم تذهب الدنيا ويذهب هذا كله معها، ولا يبقى للإنسان إلاّ إحسانٌ قدّمه يرجو ثوابه أو عصيانٌ يخشى عقابه، إلاّ إذا مات على الإيمان وأدركَته نفحة من عفو الرحمان، واللهُ {لا يغفِرُ أن يُشرَكَ بهِ ويغفِرُ ما دونَ ذلك لِمَنْ يشاءُ} .
اللهمّ اجعلنا ممّن تشاء له المغفرة يا رب.
* * *
المدرسة التي انتقلت إليها هي «أنموذج المهاجرين» كما كانت تُسمّى، أو مدرسة طارق بن زياد كما تُسمّى الآن. ما تبدّل شيء فيها إلاّ أنهم زادوا في غرفها ووسّعوا مساحتها، وأنها (وهي في الجادة الثالثة) لم يكُن فوقها إلاّ جادتان فبلغت الجادات اليوم أكثر من عشر، بل لقد صعد الناس في الجبل وُفتحت الشوارع العِراض حتى بلغت الصخر، ثم التفّت من حوله حتى وصلت إلى الذروة، وكان فيها «قبة النصر» وكانت علم دمشق، فهُدمت أيام الحرب الثانية، وفي مكانها اليوم محطة الرائي (التلفزيون).
وكانت الضباع في تلك الأيام تنزل في الشتاء حتى تجول بين البيوت فيخاف منها الناس، فلما صعد الناس خافت فهربت
منهم الضباع. وهذه الجادّات تعلو متوازية في الجبل، الأولى جادة ناظم باشا التي يمشي (أو كان يمشي) فيها الترام. وناظم باشا أحد الولاة العثمانيين المصلحين، هو الذي أنشأ حيّ المهاجرين لمّا صار والي دمشق سنة 1313هـ (وفي كتابي «دمشق» فصل بيّنت فيه تاريخ إنشائه)، وهو الذي جرّ مياه عين الفيجة (1) إلى دمشق وجعلها سبلاً في الطرق والحارات، وله مآثر كثيرة، وفي كتابي «قصص من الحياة» قصة عنه عنوانها «النهاية» (2).
وإن أنت قدمت دمشق في الليل ونظرت من بعيد إلى هذه الجادات (من الكِسوة (3) إن كنت قادماً في البرّ أو من شرقيّ الغوطة إن كنت آتياً في الطيارة من الجو) رأيت أضواء هذه الجادات سلاسلَ من العقود تلمع في جيد قاسيون. منظرٌ ما رأيتُ مثله على كثرة ما سرت في البلاد ورأيت من المدن. ومهما أبصرتُ من جبال فما أظن أني رأيت أبهى ولا أجمل من قاسيون، إلاّ جبل أُحُد لمّا رأيته أوّل مرّة هفا إليه قلبي وذكرت بلدي. على أن أُحُداً أفضل وأشرف، فضّله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«أُحُدٌ جبلٌ يحبُّنا ونحبّه» ، وشرّفته صلته بالرسول وبتاريخه، أمجد تاريخ بشري وأطهره وأسماه.
* * *
(1) نبع غزير الماء في قرية تبعد عن دمشق عشرين كيلاً، ثلثا ماء نهر بردى منها، وهي معقَّمة (بلا تعقيم) خالية من الجراثيم.
(2)
سها جدّي هنا فسمّاها «النهاية» ، وعنوان القصة هو «في شارع ناظم باشا» ، وهي زاخرة بالمعاني فيّاضة بالمشاعر تمسّ شغاف القلب، فلا ينسَ قارئ لهذا الفصل أن يعود إليها فيقرأها (مجاهد).
(3)
قرية بظاهر دمشق إلى الجنوب منها (مجاهد).
وكان من معلّمي هذه المدرسة عالِم فاضل من تلاميذ الشيخ جمال الدين القاسمي كان أكبرهم سناً، وإن كان شيخُنا الشيخ محمد بهجة البيطار هو أكثرهم علماً وأجلّهم قدراً. هذا المدرّس العالِم هو الشيخ حامد التقيّ.
وكان منهم معلّم آتاه الله بسطة في الجسم وهيبة في العين، وكان من الضباط في الجيش العثماني، اسمه عبد الحميد عبدربه. وأسرة «عبد ربّه» معروفة في حي الصالحية. وكان رسّاماً وخطّاطاً. ولقد نسيت أن أقول إنّ «حُسن الخطّ» كان من الموادّ المقرّرة في مناهج المدارس، وأوّل من علمنا الخطّ (في العهد العثماني) اثنان من شيوخ الخطّاطين في الشام: الشيخ حسين البغجاتي (وسيأتي ذكره عند الكلام على رحلاتنا الكشفية في الجبال الشامية) وموسى الشلبي، وهو خطّاط مجدّد (مودرن) ومن أقدم من اشتغل بالتصوير الشمسي (الفوتوغرافي)(1)، ثم الشيخ عيد السفرجلاني رحمهم الله جميعاً.
والذي استفدناه من عبد الحميد بك (هكذا كان يُدعى) هو الرسم عن الطبيعة، وأنا أقدر للآن أن أصوّر مَن أراه أمامي بالقلم، ثم تركت ذلك لأنه لا يجوز. والطريقة فيه أن تمدّ يدك بالقلم وتغمض إحدى عينيك، وترسم أبعد ما بين طرفي الرأس (مثلاً)، من أعلاه وأسفله، وخطاً آخر لعرض الرأس. والتصوير الجانبي أسهل، فتأخذ بعد ما بين أرنبة الأنف والأذن، ثم تحدّد مكان الأنف والفم والعين، ثم تدع القياس وترسم بالخطوط
(1) من اليوناني «فوتوس» أي ضوء، و «غرافي» أي تخطيط ورسم.
القليلة سمات الوجه المميَّزة إن كان فيه سمة مميّزة وأساريرَه وتجاعيده وتُبرِز الملامح العامّة، وتدع التفاصيل لأن المطلوب في هذا النوع من الرسم أن يعرف الناظر إلى الصورة أنها صورة فلان.
ما لي تركت ذكرياتي وصرت مدرّس رسم؟ أستغفر الله فما أردت ذلك، ولا أُفتي بجوازه، ولكن أردت أن أقول إنّ دراستنا كانت أشمل وأكمل مما يدرس التلاميذ اليوم.
وممّن كان عندنا في هذه المدرسة معلّم للخطّ هو أعظم خطّاط ظهر في هذا القرن، أقرّر هذا وأنا أعرف أكابر الخطاطين: سيد إبراهيم وحسني البابا ونجيب هواويني وغيرهم من مصر، ومكارم والبابا من لبنان، وأعرف بعض كبار خطاطي العراق، وأشهد أني ما رأيت مثل ممدوح. ولقد كان ممدوح الشريف أستاذاً عبقرياً في الخطّ، والذي تركه من آثاره شاهد عدل على ما أقول، ومن تلاميذه بدوي، الخطّاط العظيم، وليس مثله ولا يدانيه. ومنهم حلمي، حلمي حبّاب، وهو أخي من الرضاع.
كان ممدوح يبري أقلام القصب لأربعين أو خمسين تلميذاً ويكتب لنا «المشق» لنخطّ مثله، (وكان مقرراً علينا تعلّم خطّ الرقعة، والثُّلُث، والفارسي، والديواني) ويصحّح ما كتبنا، كلّ ذلك في «الحصة» وهي أقلّ من ساعة.
كانت حياتنا حياة جِد وعمل، ما كان فيها شيء مما يلهو به التلاميذ في هذه الأيام؛ ما كانت هذه المجلات المصورة التي لا يحصيها عدّ، ولا كانت في الدنيا كلها إذاعة ولا كان الرائي
(التلفزيون)، وما كان يظنّ أحد أنه سيكون، وكانت في دمشق -كما قلت- سينما واحدة للدعاية الحربية، هي التي كانت في موضع المجلس النيابي، ثم أُنشئت داران للسينما حقيرتان، «الزهرة» أمام بناية العابد ثم «النصر» في سوق الخيل، لا يدخلهما إلاّ سَفَلة الناس، وكانتا صامتتَين لأن السينما الناطقة لم تكُن قد عُرفت.
فكان من أراد لهواً قرأ هذه القصص الشعبية التي أشرت إليها عند الكلام عن المدرسة الجقمقية، وكان أسوأ كتاب يُضرَب بسوئه المثل ولا يكاد يوصَل إليه هو كتاب «رجوع الشيخ إلى صباه» ، وهو إن قيس ببعض القصص المترجَمة التي تُباع في كل مكان وبما فيها من وصف الفسوق والعصيان، إن قيس بها كان بالنسبة إليها «كتاب أخلاق» .
ولو حدّثتُكم عن الكتب التي قرأتها وأنا في تلك السن، وأنا تلميذ في السنة السادسة الابتدائية لما صدّقتم. وكنت أمضي يومي (إلاّ ساعات المدرسة) في الدار، لا أجد ما أشغل به نفسي وأملأ به فراغ حياتي إلاّ القراءة، فإذا أنا أكملت كتابة «وظائفي» ومطالعة درسي مددت يدي إلى المكتبة (وكانت لدينا مكتبة حافلة) فأسحب كتاباً فأفتحه فأنظر فيه، فإن لم أفهمه (أو فهمته لكن ما أسغته) أعدته إلى مكانه وقد رسخ في نفسي اسمه واسم مؤلفه، وإن أعجبني قرأته. وكان الذي أقرؤه يُنقَش في ذاكرتي نقشاً لا تمحوه الأيام. وحديث المطالعات سيأتي مفصلاً إن شاء الله.
* * *