المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌لما صرت تاجرا

-23 -

‌لمّا صرت تاجراً

قلت لكم في أول فصل من هذه الذكريات إن الذي يكتبها ليس واحداً، بل كثير في واحد. لست أعني أنني أُصِبْت بانفصام الشخصية وأن عليّ أن أراجع الدكتور محمد فضل الخاني، بل أعني أن النفس البشرية في تبدّل مستمرّ مع أنها واحدة؛ مثلها مثل مجلس فيه مئة عضو، تنتهي في كل شهر عضوية عشرة منهم ويأتي عشرة جدد، أو كمثل نهر جارٍ لا تقف قطرة منه ولا ترجع بعدما مرّت. وقد يصفو ماؤه أو يتعكّر، وقد يفيض النهر أو يغيض، ولكن يبقى النيل -مثلاً- هو النيل صفا أو تكدّر، وعند الفيضان وفي أيام النقصان.

والإنسان يرضى ويغضب، ويحب ويكره، ويطمع ويقنع، ويصحّ ويمرض، ويفرح ويحزن، وهو في كل حالة من هذه الحالات وأمثالها يصير كأنه إنسان جديد، يتبدّل نظره إلى الأشياء وحكمه عليها. ومن هنا قلت: إن كاتب هذه الذكريات ليس واحداً.

ولقد قرأت اليوم ما كتبته في الفصل السابق فما رضيته! لقد

ص: 237

جعلتُ قارئه يشعر أن المصاب بأبي قد هزّ أركاني وزلزل إيماني، وأنْ قد حطّم آمالي إعراضُ عمَّيّ عنّي، وأن اعتمادي كان عليهما فلما منع أحدهما غضبت عليه وتكلمت عنه، ولما منح الثاني شكرت له وأثنيت عليه. حتى إن ذكرياتي عنهما كانت كالنهر الجيّاش الذي يحمل معه حطباً له شوك شاكَ بعضاً من أقربائي ممّن أفضى إلى ربه، فاللهمّ إن كنت قد ظلمته فاغفر لي ورضّه بكرمك عني، وإن كان الحقّ لي عليه فقد سامحته.

أحفظُ من الصغر أن «لو اطّلعتم على الغيب لاخترتم الواقع» ، ولا أقول إنه حديث ولكن أشهد الآن -وقد صار واقعاً بالنسبة لي ما كان ذلك اليوم غيباً- أن الخير فيما اختاره الله لي.

إني لأنظر إلى تلك المصيبة من وراء تسع وخمسين سنة مرّت عليها فأرى أن ما قدّره الله علينا كان فيه النفع لنا. لقد تمرّستُ بالحياة مبكّراً، وذقت منها ألواناً، وخبرت الناس أصنافاً وأجناساً، وكانت الفائدة من ذلك القدر أكثر من الضرر.

لقد أدركت يومئذٍ (وتحقّقتُ اليوم) أن الحياة مثل الناعورة. هل تعرفونها؟ دولاب كبير عُلّقت به دلاء وسطول (1)، يكون السطل منها ملآنَ وهو فوق (كما كنا على عهد أبي) فينزل فارغاً إلى الحضيض (كما نزلنا بعده). فمَن كان قصير النظر ظن أنها النهاية، ومن دقّق وحقّق رأى الدولاب يدور، فما نزل يصعد وما فرغ يمتلئ.

وإن هذه هي الدنيا: ارتفاع وانخفاض، امتلاء وفراغ،

(1) الناعورة والسطل من العامّي الفصيح.

ص: 238

فقر بعده غنى وغنى قد يأتي بعده الفقر؛ لا العالي يبقى فوق ولا الواطي تحت، ولا يدوم في الدنيا حال، والدولاب دوّار. الأحمق يظنها حظوظاً ومصادفات والعاقل يدرك أنه عمل متقَن، فلا البناء الذي يحمل الناعورةَ أقامه الحظّ ولا حرَكتها بنت المصادفات، لكنها هندسة مُحكَمة وحساب دقيق.

ما يُعطى أحد في هذه الدنيا ولا يُحرَم ولا يعلو ولا يهبط إلاّ لحكمة بالغة وأمر مقدَّر، سطّره مقدّره في كتاب. فمن اهتدى إلى هذه الحقيقة واطمأن إلى أنه عادل لا يَظلم، حكيم لا يعبث، سكَنَ واستراح. ومن أنزل غضبه بخشب الناعورة أو بحديدها، يحسب أنها هي أفرغت إناءه وأراقت ماءه، عذّب نفسه بها ولم يَنَلْ منها منالاً.

قعدت الآن أكتب عمّا مرّ بي بعد موت أبي. وقد عرفتم أني لا أعتمد في هذه الذكريات على شيء مكتوب، ما أعتمد إلاّ على ذاكرة خرقها كرّ الليالي فصيّرها مِصْفاة. رجعت إليّ ذاكرتي، فهل تصدّقون أن هذه المرحلة الوعرة من طريق حياتي، المرحلة التي مشيت فيها على الأشواك فلطف الله بي فلم تَدْمَ منها قدمي، وعلى الرّمضاء فلم تُكوَ بها رجلي، هذه المرحلة كادت تُمحى صورها من نفسي.

إي والله، وذلك من نِعَم الله عليّ؛ حتى لا أذكرها فتؤلمني ذكراها. كنت فيها كمَاشٍ على الجادة المعبَّدة، فعاقته العوائق عن الاستمرار فيها واضطرّته إلى تنكّبها وإلى السير في الوعور والقفز من فوق الصخور والتخبّط في المفازات، ثم يسّر الله له العودة إلى الجادة، فمِن فرحه بالخلاص مما كان فيه لم يعُد يريد أن

ص: 239

يعود إليه ولا بالذكرى، لذلك نسيت أكثر أحداثها.

كانت كصفحات دفتر أصابها الماء فطمس سطورها، إلا كلمات متفرقات بقيت واضحات، هذه الكلمات هي التي أسجّلها في هذا الفصل.

* * *

كانت نهضة المشايخ قد بدأت قبل وفاة أبي، ولقد شهدتُ جلساتهم معه يتداولون في أمر افتتاح المدرسة التجارية التي كان والدي مديرها في أثناء الحرب الأولى، لأن من أكبر مقاصد حركة المشايخ (أو «نهضة المشايخ» كما دعُيَت) إخراج الأولاد من مدارس الحكومة، ولا يتحقق هذا إلا بفتح مدارس تُغني عنها. فلذلك أُنشِئت «الجمعية الغرّاء» ، وقد كانت أول الأمر بإشراف الشيخين اللذين قاما بهذه النهضة وهما الشيخ علي الدقر والشيخ هاشم الخطيب (1)، ثم أدركها داؤنا المزمن الذي يصيب كل حركة إسلامية، وهو الاختلاف والانقسام، فاستقلّ الشيخ علي بالغرّاء وأنشأ الشيخ هاشم «جمعية التهذيب والتعليم» .

لقد كان يؤمَل من هذه الحركة أن يكون لها آثار أعمق وأبقى، ولكنها (ونحن نكتب هنا للتاريخ لا للمدح والذم، ولبيان

(1) في «رجال من التاريخ» مقالة عن الشيخ علي الدقر فيها حديث عن هذه النهضة، في أولها أن الشيخ هو "الرجل الذي هزّ دمشق من أربعين سنة هزّة لم تعرف مثلَها من مئتَي سنة، وصرخ في أرجائها صرخة الإيمان فتجاوبت أصداؤها في أقطار الشام واستجاب لها الناس، وأعانه عليها زميله وصديقه الشيخ هاشم الخطيب"(مجاهد).

ص: 240

الحقّ لا لصوغ المجاملات) كانت قاصرة على كثير من المظهر وراءه قليل من الجوهر، وكانت معنيّة بأمور من فروع الفروع، لا بتدعيم الأسس وتثبيت الأصول كما أمر الشرع وصنع الرسول عليه الصلاة والسلام. لقد أثمرت خيراً كثيراً وخرّجت علماء ودعاة، وأحيا بها الله أرض حوران والبلقاء (الأردن)، ولكنْ كان أكثر همّ متّبعيها ومن مشى تحت لوائها إعفاء اللّحى وتكوير العمائم، وأن تتخذ النساء الأُزُر البيض بدل الملاءات السود. استفاد من ذلك تجار الشاش وباعة القماش، وخسر الحلاّقون لمّا نأت عنهم الذقون، كأن هذا هو الدين وهذه أركانه:

أغايةُ الدّينِ أنْ تُحفُوا شواربكم

يا أمّةً ضحِكَتْ من جهلِها الأممُ

جعلوا مدرستهم أولاً في «الريحانية» ، وهي مدرسة قديمة كان واضع اليد عليها الشيخ عبد الجليل الدرا، وسأتحدث عنه إن وفقني الله إلى سرد ما أعرف (أو بعض ما أعرف) من أخبار مشايخ الشام. فلما انتهت السنة المدرسية وجاءت العطلة أغروني بأن أدع الدراسة وأشتغل معلّماً في مدرستهم.

وقبلت، وكلّفوني بتدريس النحو في الصف الرابع الابتدائي. ثم طلب الدرسَ الشيخُ أحمد الدقر، فآثروه به وأعطوني درساً آخر. فأبيت وقلت: لماذا؟ ألأنه ابن الشيخ علي الدقر ولأن أبي مات؟ هلمّ امتحنوني وامتحنوه في النحو والصرف وعلوم العربية كلها، فإن ساويته أو لم أفُقْه إلاّ بالشيء القليل فأنا أدع الدرس. ولم أشترط أن يسبقني لأني كنت أعلم أن هذا بعيد. فأبى الامتحان وأبَوهُ هم، فغضبت وتركت التعليم وعدت إلى التعلّم. وكان بيني

ص: 241

وبين شهادة الكفاءة (1) سنة واحدة.

وكذلك ترون أن الذي يختاره الله لعبده خيرٌ له مما يختاره العبد لنفسه، فلو لم يبعث الله الشيخ أحمد رحمه الله ينازعني الدرس فيجعلني أعود إلى الدراسة لبقيت معلّم مدرسة ابتدائية، بلا شهادة في يده ولا أمل بالترقّي أمامه.

ولمّا نلت شهادة الكفاية رأى عمي الشيخ عبد الوهاب أن أتعلّم المحاسبة، وكنا نسمّيها «حساب الدوبيا» (أي «الطريقة المزدوجة») لأننا نقيّد كل رقم مرتين، مرة في دفتر الصندوق ومرة في دفتر البضائع أو دفتر الذمم الذي تُقيّد فيه حسابات العملاء. وكانت هناك الطريقة المفردة وتسمّى الأميركية، أمّا الأولى فتُدعى الإيطالية.

وتعلمت الدوبيا، أو المحاسبة، على أقدر محاسب يومئذٍ في دمشق وهو السيد كامل بكر، تلميذ أبي الوفيّ الرضيّ الخلق الذي تُوفّي أبي في داره. وحضر معي هذه الدروسَ بعضُ الإخوان منهم السيد نظمي المجتهد، ولم أرَه من تلك الأيام أي من سنة 1925. وكنا نتخذ دفاتر كدفاتر التجّار ونعمل الموازنات السنوية (البلانشو، وهي البالانس بالفرنسية) ولا تزال هذه الدفاتر عندي في دمشق ولا أزال عارفاً بقواعد المحاسبة وأصولها، وإن كنت يومئذٍ (وكنت قبله ولا أزال إلى الآن) أجهلَ الناس بالحساب وأشدَّهم ضيقاً به وكرهاً له.

(1) ولقد اقترحت من قديم أن تُدعى شهادة «الكفاية» لأنها تشهد لحاملها بأنه رجل كفيّ، ثم إنه قد يكتفي بها، وكلمة «الكفاءة» لا معنى لها هنا.

ص: 242

وحين أتصور أني كنت محاسباً أذكر قصة بكري مصطفى، وهو رجل تركي ماجن (حشّاش)، احتال مرة حتّى جعلوه إماماً في مسجد، فجاؤوا بجنازة ليصلّوا عليها، فانحنى على الميت واقترب من أذنه كأنه يُوَشوشه، فسُئل: ماذا قلت له؟ قال: قلت له: إذا سألوك عن أحوال الدنيا فلا تُطِل الكلام، يكفي أن تقول: بكري مصطفى إمام.

* * *

واختار لي السيد كامل بكر رحمه الله بعد أن أكملت التعليم تاجراً أضبط له حساباته، وكان تاجر أدوات كهربائية قبيل باب الجابية وأمام جامع السباهية، وكان في الجامع مدرسة أولية معلّمها الأستاذ أحمد الكزبري من شيوخ المعلّمين في الشام. وكان عملي ساعة في الصباح، إذ يأتي العمّال فيأخذون أسلاك الكهرباء والقطع والأدوات التي يحتاجون إليها في يومهم، ثم تخلو الدكان إلا من طالب مصباح أو زرّ أو شيء ممّا في الدكّان، فأبيعه ما يطلب وأضع الثمن في الدرج وأبقى منفرداً بلا عمل. ومَن سكنت جوارحه تحرّك ذهنه، فما ظنكم بشابّ نشأ في طلب العلم واستعدّ ليكون من أهل العلم، تنأى به الحياة عن غرف المدرّسين في المدرسة وحلقات المشايخ في المسجد ورفوف الكتب في المكتبة، وتحبسه في دكان بياع أدوات كهربائية!

كنت حين أسمع الأولاد يقرؤون جماعة أحسّ بقلبي قد تقطّع بين ماضٍ صار مجرد ذكرى ومستقبل لم يبقَ إليه سبيل. أهذه هي النهاية؟ بيّاعٌ كاتب في دكّان كهربائي؟ ألهذا سهرت الليالي وقرأت الكتب وحصلت العلم؟

ص: 243

أأشقى به غرساً وأجنيه ذلّةً

إذنْ فاتّباعُ الجهلِ قد كانَ أحزما

لست أذكر كم لبثت في هذا السجن المزري، ولكني أذكر أني ضقت به يوماً ذرعاً فخرجت منه، وصرت محاسباً أو كاتباً أو ما لست أدري عند شريكَين (مسلم ونصراني) في «الخريزاتية» ، وهي شعبة من سوق «البزورية» . اشتغلت معهما مدّة، ثم اطّلعت على أن عملهما غشّ السَّمْن وخلطه بما ليس منه وبيعه على أنه سمن عربي خالص، وصنع الصابون مغشوشاً.

وكان الصابون يُعمَل بزيت الزيتون، لم تكُن قد جاءت هذه الأنواع من الصابون الإفرنجي المعطّر الملفوف بطبقات من الورق الصقيل المربوط أحياناً بشريط، فهو متعة للبصر وللشم، أما الدهن الذي صُنع به فليس من زيت الزيتون كما كنا نصنع في نابلس وفي حلب والشام، فهذا عمل أبناء العالَم الثالث، أما المتحضرون من أهل العالَم الأول فيأخذون الدهن من جيَف الحيوانات الميتة ويستخرجونه من مياه المراحيض، يجرّدونه ممّا علق به ويمزجونه بعطور لاتُستخرج من الورد ولا من الزهر بل تستخرجها الكيمياء من القَطِران (1)، لها ريح الورد والفلّ والياسمين وما ثَمّ ياسمين ولا فل ولا ورد.

فتركت الشريكَين الغشّاشَين واشتغلت عند تاجر خيطان أعرفه في خان في سوق الخياطين، فسمعت جاراً له كان عنده لما جئته يقول له: هؤلاء الأفندية من تلاميذ المدارس مُتعِبون، فكُلْه قبل أن يأكلك، ولا تدعه يقعد وراء المكتب بل شغّله يُنزِل

(1) هذه حقيقة علمية.

ص: 244

بضاعة ويرفع بضاعة ويأتي بها ويذهب. فأقمت عنده مدّة، ثم ذهبت فلم آتِ.

وضقت بالتجّار وبوظيفة الكاتب أو المحاسب فقلت: أكون أنا التاجر! وما خُلقت -والله- للتجارة ولا أصلح لها ولا تصلح لي، وما عندي لها المال ولا الخبرة. وكانت عند أمي قطع حليّ فباعتها، وأخذتُ ثمنها وشاركت تاجراً كان طالب علم هو الشيخ رياض كيوان، واستأجرنا مخزناً في خان العمود، مقابل الخان العظيم والبناء الأثري الرائع خان أسعد باشا العظم. واتخذت لي مكتباً إلى جنب مكاتب كبار التجار، وكانت تجارتي بالسكّر والأرز نربح بالكيس كله قروشاً معدودة لا تكفي للغداء، فمن أين أُطعِم أسرة أنا كبيرها والمطلوبُ منّي أن أكون عائلها؟ أمن هذه القروش التي لا تبلغ ثمن غذائي أحضر فطور أمي وإخوتي الثلاثة وأختَيّ؟

ورأيت أن الرجوع إلى الحقّ أفضل من التمادي بالباطل، فتركت مكاني بين كبار التجار وخرجت من الخان كما دخلت، والحمد لله أن استطعت الخروج.

* * *

وكانت محكمة التمييز (محكمة النقض) التي كان والدي رئيسَ ديوانها تتنقل من السراي إلى بناية العابد في المرجة، إلى طريق الصالحية، إلى البحصة. فمررت أمامها فخطر لي أن أزورها، فرأيت الأستاذ محمد علي الطيبي قد حلّ محلّ أبي، فرحّب بي وساءلني، فلما عرف أني تركت المدرسة عجب وقال:

ص: 245

ومن الذي أشار عليك بهذا؟ قلت: عمّي الشيخ عبد الوهاب. فقال: الله يفرج عنا وعنه!

لقد نبّهَتني هذه الكلمة كما يتنبّه المنحرف عن الطريق إذا سمع من يسأله عن مسيره، وعلمت أني غلطت. فهل يمكن أن أصلح الغلط؟

وكان قد مضى ثلثا السنة المدرسية ودخل الطلاب الامتحان الفصلي الأول وهم على أبواب الثاني، ما بقي له إلا عشرة أيام. فذهبت إلى عمّي الأكبر، العالِم الفلكي الشيخ عبد القادر، وكان عاقلاً هادئ الطبع بعيد النظر، فقلت له: إني أريد العودة إلى المدرسة. فضحك وقال: لقد أبطأت. كنت أنتظر منك هذه الأوبة ولكني ما قدّرت أن تتأخر إلى اليوم، وأنا مع ذلك قد أعددت لك الأمر من ثلاثة أشهر. قُم معي.

وأخذني إلى الأستاذ محمد علي الجزائري مدير مكتب عنبر (أي مدرسة التجهيز ودار المعلمين)، وقال له: هذا هو الذي حدّثتُك عنه. فقال لي: لماذا تأخرت إلى اليوم؟ ألا تعلم أن الامتحان الثاني قد اقترب، فهل تستطيع أن تدخله مع رفاقك؟ وهل تقدر أن تعيد الامتحان الأول بعده بعشرة أيام؟ قلت: أرجو الله. قال: إذن فتوكّل عليه وادخل صفّك، فأنا لم أُلغِ قيدك. إنك لا تزال من الطلاب.

ودخلت الامتحان، وعندي الوثيقة الرسمية بأني كنت -بحمد الله- الأول بين الطلاب.

* * *

ص: 246