الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-9 -
عهد جديد في حياتي
وذكرياتي عن الجامع الأموي
عهد «المدرسة الجقمقية» ، مدرسة معلّم الشام الشيخ عيد السفرجلاني، عهد جديد في حياتي. دخلت قبله كتّاباً ومدرستين ومررت بجماعة من المعلّمين والمدرّسين، وقد ترك ذلك في نفسي أثراً بلا شك، ولكني لم أدركه في حينه ولا أذكره الآن، إمّا لصغر سنّي وإما لأني لم أصادف المدرّس الذي أعطاه الله القدرة على فرض نفسه على تلاميذه، وأوّل عهد شعرت بأثره فيّ هو هذا العهد.
وأستطيع حصر عوامل هذا العهد في تكوين فكري وتحديد سلوكي في أربعة: مدير المدرسة وصاحبها الشيخ عيد السفرجلاني، والجامع الأموي وحلقاته، ومدرّسنا الشيخ صالح التونسي، ورجل عالِم كان صديق أبي وأعمامي، كان قويّ الشخصية فقيهاً مالكياً عظيماً قويّ التأثير فيمن حوله، على شذوذ فيه هو إلى شذوذ العباقرة أقرب منه إلى شذوذ أشباه المجانين.
أما الشيخ عيد فقد أوردت طرفاً من أخباره وجانباً من وصفه
في الحلقة الماضية، ولكن لا بأس بأن أحدّثكم بشيء جديد عن هذا الرجل.
هذا الرجل كان معلّماً عظيماً، ولم يكُن يلقي علينا دروساً محدّدة الأبواب واضحة المنهج، بل كان ينثر أقواله ونصائحه نثراً، يلقيها علينا ونحن متكوّمون عليه حول مكتبه، وهو يجول بيننا في ساحة مدرسته، بل كان لا يحجبها عنا وهو يؤدّبنا. وربما مرّت الكلمة فلم نلتفت إليها عندما كان ينطق بها ولكنها كانت تُغرَس في نفوسنا، تنزل إلى أعماقها، حتى إنني لا أزال أذكر أكثرها إلى الآن كلما دعت إليها مناسبات المقام.
وأمثال هذه الكلمات يلقيها معلّم يجتمع له في قلب تلميذه الحب مع الاحترام هي التي تبقى على كرّ الأيام، وإن نُسيت محاضرات الفصل التي يكون فيها الامتحان. أضرب لكم عليها مثالاً: تجوز الصحراء فلا ترى إلاّ أرضاً جرداء، لا ظل ولا ماء ولا نبتة خضراء، فإذا نزل المطر اهتزّت وربَت وكُسيت ثوباً أخضر من العشب والزهر وصارت مرعى للسوائم ومتعة للنظر، فمن أين ترونه قد جاء هذا النبات؟
مِن بذور صغار قد لا تأخذها من دقّتها الأبصار، قد ركّب الله لبعضها ما يشبه الأجنحة القصار، تحملها الرياح فتلقيها بين حبات الرمال، فلا ترى إلا تلالاً من الرمل تتلظّى تحت وهج الشمس. فإذا أنزل الله الأمطار وجمع الله لها «الظروف» التي جعلها سبب الإنبات كان منها هذا النبات، وكان منه الزهر البارع والثمر اليانع، أو كان منه الشوك الجارح والسم الناقع.
وكذلك كلّ ما تسمعه، لا سيما إن سمعتَه في الصغر؛ إنه بذرة خير أو بذرة شرّ، إذا جاءها «الظرف المناسب» وضعتك على طريق الجنة أو على سبيل النار.
فانتبهوا -يا أيها القرّاء- لما تنظرون فيه من كتب ومجلات، وما تسمعونه من إذاعات ومحاضرات، وما تشاهدونه من مسلسلات ومسرحيات، ولا تظنوا أن أثر ذلك يذهب مع إكمال الكتاب أو انتهاء المحاضرة أو إسدال الستار على المسرحية، بل إن بعضه يبقى ما بقيَت الحياة.
فيا رحمة الله على الشيخ عيد السفرجلاني وعلى أمثاله من مشايخنا الأوّلين، الذين كانوا لنا آباء وكانوا مربّين، وكانوا مراقبين ناصحين.
الشيخ عيد هذا أعلم أن تسعة وتسعين بالمئة من قرّاء هذا الفصل لم يسمعوا باسمه ولا أحسبهم يهتمّون بخبره. وكذلك يكون نصيب الجندي المجهول من ثناء الناس، ولكنْ ما له وللناس؟ وما الذي يرجوه من الناس؟ إنه عند الله معلوم لا مجهول، وإنه يرجو ونرجو له -من فضل الله ورحمته- الجنة، ونرجوها لأمثاله من المجاهدين المخلصين والعاملين الصامتين.
الشهرة وخلود الذكر ليست ما ينفع الناس ويمكث في الأرض، بل هو رضا الله وثوابه العظيم. فاطلبوا ما يبقى، لا تجعلوا أكبر همكم السعي لما يفنى. أسأل الله أن يوقظ قلبي وقلوبكم من غفلتها، فأنا أحوج إلى هذه الدعوة أكثر منكم.
* * *
والجامع الأموي.
وهل تظنون أن استطراداً في فصل من هذه المذكّرات مساحته بضع صفحات يتّسع للكلام عن الجامع الأموي؟
لقد كانت المدرسة الجقمقية (ولا تزال) أمام الباب الشمالي للجامع، فكنا ندخله كلما سنحت لنا فرصة بين الدروس وفي أوقات الصلوات، وكان لنا مهوى القلب ومستقرّ الحب، كما كان -مع الأسف- ميدان اللعب!
لقد كنت في تلك الأيام التي أتكلم الآن عنها (سنة 1919) كلما سمعت خبراً عن الأموي أختزنه في ذاكرتي. وكنت لا أنسى شيئاً سمعته أو قرأته، أحفظه من مرة واحدة فلا يفلت مني.
تقولون: «إنّ الفتى مَنْ يقولُ هأنَذا» ، فلا تفخر بما كان بل صِفْ ما هو كائن الآن. أصدقكم القول: إنني لا أزال أحفظ ما أسمع أو أقرأ، ولكني أنسى نصفه فأرويه بمعناه، وأنسى ممّن سمعته أو أين قرأته. وهذه نعمة أحمد الله عليها. أتريدون أن أكون في الشيخوخة كما كنت في الصبا؟ هيهات!
أترجو أن تكونَ وأنتَ شيخٌ
…
كما قد كنتَ أيامَ الشبابِ؟
لقد كذَبَتكَ نفسُك، ليسَ ثوبٌ
…
خليقٌ كالجديدِ من الثيابِ
وحسبي أنني الآن -بفضل الله- أقوى جسداً وأوعى ذاكرةً مِن أكثر مَن أعرف من الشيوخ.
ثم صرت بعد ذلك أدوّن ما أجد من أخباره حتى اجتمع
لي منها الكثير الكثير، فلما كلّفَتني وزارة الأوقاف أيام الوحدة مع مصر أن أؤلّف عن «الأموي» كتاباً يكون دليلاً للسيّاح أخذت منها خلاصة وافية، وضعتها في كتاب عنوانه «الجامع الأموي» يبيعونه لزوّار المسجد من السيّاح ويأخذون (هم) ثمنه. ولم أبيّن فيه المراجع التي أخذت منها الأخبار لأنني في كتابي «أبو بكر الصدّيق» المطبوع من أكثر من خمسين سنة وكتاب «عمر بن الخطاب» ثم «أخبار عمر» الذي جمعته من مئة وسبعين مرجعاً، قد وضعت في الذيل مصدر كل خبر (الكتاب والطبعة والجزء والصفحة)، فأخذ ذلك كُتّاب كبار وصغار منهم العقاد في «العبقريات» ومحمد حسين هيكل، ونسبوا الخبر إلى مصدره وأهملوا ذكر كتابي الذي نقلوا منه اسم المصدر، ولي على ذلك أدلة وبراهين وقد قلته من قبل، سامحهم الله.
ولست أعرض هنا لما في كتابي «الجامع الأموي» لأني لا أكتب اليوم بقلم المؤرّخ، بل أتكلم بلسان المحدّث.
لقد كان الأموي -يومئذٍ- حافلاً بحلقات التدريس، لا يكاد يخلو من ثلاث أو أربع منها (على الأقل) إلاّ ساعات محدودات قبل الظهر وبعده؛ فيه دروس بعد الفجر ودروس بعد العصر ودروس بعد المغرب. في مقدمتها حلقتا المحدّثَين الكبيرَين الشيخ بدر الدين الحسني الذي كانوا يدعونه المحدّث الأكبر، والشيخ السيد محمد بن جعفر الكتاني.
أما الشيخ بدر الدين فإني من يوم عرفت الدنيا كنت أسمع باسمه وأنه شيخ علماء الشام، ولقد وصفت مرّاتٍ درسه
تحت القبة (وكان التدريس تحت القبة لكبير علماء الحديث في البلد) ووصفته فيما كتبته عنه يوم وفاته سنة 1935 في مجلة «الرسالة» (1)، وقد جعل الأستاذ الزركلي هذه المقالة من مصادر ترجمته في «الأعلام» . وقد ارتجّت الشام لوفاته رجّة شديدة وهُرع علماء سوريا إلى دمشق، جاؤوا من مدنها كلها، وأتعجّل القول (وأنا أتكلم عن أحداث سنة 1919) فأقول إنهم قرّروا أن يشرّفوني بأن أكون أنا الذي ينعاه للناس في الأموي، في جمع لم تشهد دمشق جمعاً في الأموي أكبر منه.
أمّا الشيخ الكتاني فقد كان آية في معرفة علوم الحديث، وكتابه العظيم الذي سمّاه (تواضعاً)«الرسالة المستطرَفة» (2) دليل هذا العلم الذي لا أعرف في هذا العصر ولا غيره من ألّف مثله. وأحسب أنه أملاه إملاء، وسلوا عن هذا صديق العمر أخي الشيخ ياسين عرفة الذي طبع الكتاب.
وكنا نحضر درسه فيقرأ معيد الحلقة، وهو السيد محمد الزمزمي (ابن الشيخ ووالد الصديق السيد المنتصر)، ثم يأخذ الشيخ بالكلام عن رواة الحديث واحداً واحداً، يذكر مَن وثّقه ومن تكلّم فيه، ثم يتكلم عن المتن كأنه يقرأ من كتاب، وذلك
(1) نشر جدي رحمه الله حديثاً عن الشيخ بدر الدين في كتابه «رجال من التاريخ» ، أما هذه المقالة التي يشير إليها هنا فلم تُنشَر في أي من كتبه، وقد ظهرت في «الرسالة» في العدد 105 في الثامن من تموز سنة 1935 (مجاهد).
(2)
العنوان الكامل للكتاب هو «الرسالة المستطرَفة فيما يحتاج إليه طالب الحديث من الكتب المشرَّفة» (مجاهد).
في هيبة مَلِك وتواضع عابد، واطّلاع عالِم منقطع النظير، بلهجة مغربية حلوة. وكلا الشيخين (الشيخ بدر الدين والشيخ محمد بن جعفر) مغربيّ، ولكن الشيخ بدر الدين مولود في دمشق.
وقد ورد علينا مرة مغربي اسمه الشيخ البلغيثي، درّس مدّة في الأموي وكان أعجوبة في المسائل المعقولات وفي حلّ المشكلات. وممن كان يدرّس في الأموي الشيخ الكافي، وشيخنا الشيخ بهجة البيطار، يدرّس في رمضان خاصة لأن دروسه اليومية كانت في جامع الدقّاق في الميدان. وفي هذا المسجد (أي جامع الدقّاق)«بسيط» آخر مثل البسيط الموضوع في منارة الجامع الأموي، وكلاهما من صنع جدنا الشيخ محمد الطنطاوي.
ومن مدرّسي الأموي الشيخ هاشم الخطيب. والشيخ عبدالقادر الإسكندراني، وهو عالِم مصري سكن دمشق كان يتكلم بلهجة مصرية. والشيخ أحمد النويلاتي، والشيخ عبد الله العلمي المفسّر، والد الدكتور عبد الحليم وعبد الباسط (وهما من رفاقنا في مكتب عنبر) والدكتور عبد الستّار وهو أصغر منهما، وله ولد طيّب يعمل هنا اسمه الدكتور فوّاز لم ألقَه. والشيخ خالد النقشبندي، وهو حفيد مولانا خالد، هذا هو لقبه الذي يُعرف به على طريقة الهنود.
والأتراك يقولون للعالِم «المولى» فلان (1)، والأكراد يقولون «المُلاّ» فلان، وأصلها المولى. ورأيت في جاوة لمّا زرتها عالماً اسمه الكيا دحلان، و «الكيا» لقب للعالِم وليس اسماً، ومنه
عرفت معنى اسم الفقيه الشافعي الكيا الهرّاسي (1).
قلت: إن الشيخ خالد النقشبندي هو حفيد (أو ابن) مولانا خالد الذي جلب الطريقة النقشبندية إلى دمشق، ولكنه مع ذلك سلفيّ، وهذا من العجائب. ومثله أبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، أموي النسب شيعي المذهب. وولدي الأستاذ سعيد المولوي، أهله من أركان الطريقة المولوية وهو سلفي! وكانوا في الشام -يومئذٍ- يَدْعون السلفيين بالوهابيين، وكانت الوهابية تهمة مخيفة (2)، ولقد عوقبت مرة في المدرسة لأنهم أمسكوني بالجرم المشهود في حلقة الشيخ عبد القادر بدران صاحب «المدخل» (3).
ومن مُدرّسي الأموي الشيخ يعقوب المدني، وهو من الذين هاجروا من المدينة لمّا تركها شطرٌ من أهلها هرباً إلى الشام في أواخر العهد العثماني. ومنهم الشيخ العيطة، وهو كفيفٌ طلْق اللسان عالي الصوت، صوفي خرافي (ومن الصوفية ما يمشي مع الشريعة ولا يخالف الكتاب والسنة، ككتاب «مدارج السالكين»).
(1) قال ابن خلِّكان في آخر ترجمة الكيا الهرّاسي في «وفَيَات الأعيان» : "وفي اللغة العَجَمية «الكيا» هو الكبير القدر المقدَّم بين الناس، وهو بكسر الكاف وفتح الياء"(الوفيات 3/ 289)(مجاهد).
(2)
اقرأ كتابي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب.
(3)
«المدخل إلى مذهب الإمام أحمد بن حنبل» . وكان الشيخ بدران حنبلي المذهب سلفي العقيدة، وله ترجمة وافية تستحق أن تُقرَأ في «الأعلام الشرقية» 1/ 334 (مجاهد).
وممّن جاءنا من المدينة الشيخ الغاطس، أحد مؤذّني المسجد النبوي، وقد تلقّى عنه بعض مؤذّني الأموي نغمة الأذان المدني. ومن عادات هؤلاء المؤذّنين أنهم يأتون بعد صلاة العشاء بابتهالات وأناشيد نبوية موجود مثلها في مصر وغيرها (وهي بدعة)، لكن الذي في دمشق ينفرد بشيء لا يوجد مثله -فيما أعلم- في غيرها؛ هو أن لحن هذه الأناشيد مربوط بالأيام، فلكل يوم مقام (نغم) من المقامات السبعة الأصلية، فمَن لم يعرف ما هو اليوم وكان له بصر بالأنغام عرفه من نغمة (أي من مقام) النشيد. وأحسب أن هذا الترتيب من وضع الشيخ عبد الغني النابلسي.
ومن مدرّسي الجامع الأموي الفقيه الشافعي الكبير الشيخ الجوبري، والشيخ العذري، وهو رجل عجيب إذا أسمعتَه بيتاً في الغزل هاج وماج، وكان في درسه صراحة عجيبة، كان يشتم الفرنسيين ومَن يعاونهم أقبح الشتائم فمنعوه من التدريس.
وكان كلّ من ورد دمشق من العلماء يقرأ درساً في الأموي يبيّن فيه عن علمه ويكشف عن مشربه، ولقد حضرت دروساً منها لأكابر علماء مصر والشمال الإفريقي وغيرهما.
* * *
ولما جاءنا الشريف فيصل كَثُرَ الواردون من الحجاز من علماء وغير علماء، وهذه حادثة طريفة إذا لم تجدوا في روايتها نفعاً فإنكم واجدون في ذلك متعة. هي أن الشريف فيصل نزل في دار عثمان باشا، وهي الدار التي اشترتها فيما بعد السفارة الفرنسية
وسكنتها، وهي في محلة «العفيف» أول حيّ المهاجرين، ونزلَت حاشيته الدُّورَ المجاورة لها. وكان لعمي الشيخ عبد القادر دار كبيرة جداً لها برّاني وجوّاني (اقرأ وصفها في كتابي «من حديث النفس»)(1) فاستأجروا برّانيها.
وكنت أمشي يوماً في الحرم في مكة أول سكني بها (وذلك سنة 1384) ولم يكُن قد تم بناؤه، فسمعت صوتاً يناديني، فالتفتّ فإذا أنا بشيخ له سمت وهيئة مع جماعة يتبعونه، فوقفت له حتى وصل. قال: أنت الشيخ علي؟ قلت: نعم. فهشّ لي ورحّب بي وسلّم عليّ، وانطلق يسألني فقال: ابن الشيخ مصطفى؟ قلت: نعم. قال: كيف حاله؟ فدُهشت وقلت: رحمه الله. قال: متى؟ قلت: في شعبان سنة 1343، أي من أربعين سنة. قال: رحمه الله، رحمه الله. وعمّك الشيخ عبد القادر؟ قلت: تُوُفّي من عشرين سنة. قال: وأخوه؟ وفلان وفلان؟ يسأل عن ناس مرّت على موت أقربهم وفاةً عشرون سنة.
قلت: يا سيدي، من أنت؟ هل أنت من بقايا أهل الكهف؟! فإذا به الشيخ حسن فدعق رحمه الله، وكان -كما تذكرت بعدُ- إماماً للشريف فيصل، استأجر برّاني بيت عمي وعرفنا ونحن صغار، رحمهم الله جميعاً (2).
* * *
(1) في مقالة «بيوتنا هدمناها بأيدينا» ص252 - 254 (مجاهد).
(2)
هذه القصة وردت في أول مقالة «التفكير بالموت» المنشورة في كتاب «فصول اجتماعية» ، فمن شاء فليقرأها هناك (مجاهد).