المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الكتاب والأدباء والصحفيون - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌الكتاب والأدباء والصحفيون

-37 -

‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

أما محمد كرد علي فهو أستاذنا وأستاذ كل من خطّ في الشام بقلم في مطلع هذا القرن الميلادي؛ ذلك أنه أول من رسم لهم الطريق وأول من عبّد لهم الجادّة. وكان مؤرّخاً باحثاً، وإن لم يكن قد بلغ الغاية في التحقيق وتمحيص النصوص، وكان كاتباً اجتماعياً، وكان له أسلوب في الترسّل، قلت في وصفه لما قرّظت كتابه «أمراء البيان» إني كنت أتخطى عبارة عبد الحميد الكاتب لأستمتع بعبارة محمد كرد علي.

ولا تستكثروا هذا القول؛ فإن عبد الحميد في قِدم عهده ورسوخ قدمه وسَبق زمانه إمام الكتّاب، لا أماري في ذلك، ولكن إذا تُرك فضل السَّبْق ومرجّح الزمن ووُضعَت العبارتان في الميزان رجحت عبارة الكاتب اللاحق على الإمام السابق.

وهذا شيء لا يثبت بالدليل المنطقي ولا يحقّق بالتجرِبة المخبرية، ولكن يُدرَك بالذوق، فمن كان من أهل النقد وكان يتذوّق طعوم الأساليب ويستطيع تصنيف الكلام شهد لما قلت بأنه الحقّ. ولقد صحبت الأستاذ كرد علي أمداً طويلاً وعندي من

ص: 391

أخباره الكثير، أحدّث بها القرّاء يوماً إن شاء الله.

وأساليب الكتّاب الأقدمين أربعة:

أسلوب يحاول صاحبه أن ينقل إلى نفسك ما في نفسه هو بأصحّ عبارة يقدر عليها وأوضحها، لا يقصد إلى تجميلها ولا إلى تحميلها ما لا حاجة بها إلى حمله، يبتغي فيها الإيجاز ولا يحرص فيها على المجاز، وهذا هو الترسّل، أسلوب ابن المقفّع. وعلى طريقه مشى كرد علي وشكيب أرسلان ومحبّ الدين الخطيب وأحمد أمين.

وأسلوب يجمّل العبارة التجميل المقبول، ويأتي معها بما يقاربها وما يناسبها من طريف السّيَر وغريب الخبر، وربما ابتعد بهذا الاستطراد عن المعنى المراد فضلّ عنه أو نسيه، أو رجع إليه بعدما ابتعد عنه. وهو يخرج بك من معنى إلى معنى ومن فكرة إلى فكرة، حتى لا تدري ماذا كان عنوان المقال وما هو الموضوع الأصلي للكلام، ولكنك لا تمله ولا تضيق به. وهذا هو أسلوب الجاحظ.

وأسلوب يعتني بالعبارة مثل عنايته بالفكرة، بل ربما زاد عليها فأضاع المعنى لتجميل المَبنى، يقرن بالكلمة أختها أو بنت عمّها، ويحشر معها من الأبيات ما يؤيّدها فيختلط النثر بالشعر، وتحس حين تقرؤه بأنه إلى التكلّف والصناعة أقرب منه إلى الأدب المطبوع، وهذا هو أسلوب ابن العميد.

وأسلوب يجعل العبارة وحدها هي المقصودة، يصفّ صاحبه كلاماً حلواً ولو كان خلواً من المعاني، مُسخت فيه

ص: 392

الأفكار ألفاظاً والصور كلمات، يفكّر صاحبه بيده لا برأسه، قد يثير فيك العجب من دقّة صنعته أو الإعجاب ببارع زخرفته، لكنه لا يثير في ذهنك فكرة ولا يبعث في قلبك عاطفة، فهو لوحة فسيفساء جامدة لا طاقة زهر، تمثال حسناء من الشمع لا الحسناء نفسها. وهذا هو أسلوب الصاحب بن عبّاد والقاضي الفاضل، الأسلوب الصناعي الذي بلغ الغاية في «مقامات الحريري» .

وهؤلاء هم الكتّاب الذين أولع بهم أساتذة الأدب في المدارس والذين وضعوا لهم المناهج وحدّدوا لهم الموضوعات. وما هؤلاء بأعظم كتّاب العربية، وما أسلوب ابن العميد والصاحب والقاضي الفاضل وابن الأثير (صاحب «المثل السائر») بالأسلوب الذي يصلح قدوة للطلاّب، فضلاً عن «مقامات الحريري» التي كانت تُعَدّ -يوماً- النموذج الأكمل للأسلوب الأجمل!

هذا على ما فيها من براعة في اللعب بالألفاظ كلعب السحَرة في «السيرك» ، وعلى أن كتاب «المثل السائر» أجود كتب البلاغة، لولا غلاظة صاحبه واستشهاده المملّ برسائله وكتاباته، ولولا طول لسانه وشتمه الناس بلا سبب.

* * *

لا، ما هؤلاء هم كبار الكتّاب الأقدمين، ولكن أكبر كتاب العربية خمسة: الجاحظ، لا أستطيع أن أنفيه منهم ولا أبعده عنهم، وأبو حيّان التوحيدي أول قصصيّ مبتكِر في أدبنا، والغزالي حين يحلّل النفس البشرية في «الإحياء» ، وابن عربي في «الفتوحات» إذا قسناه بمقياس الأدب لا بمقياس الدين، وابن

ص: 393

خلدون في «المقدّمة» .

هؤلاء كالأنهار الكبار. هل رأيتم بردى وإلى جنبه العين الخضراء؟ هو يجري دفّاقاً متقحّماً قوياً كفارس غضّ طرْفه وكدّ فرسه وشهر سيفه، وأغار على جيش العدوّ لا يبصر ما أمامه، وهي تخرج خَجِلة من تحت الصخرة عند رِجْل الجبل تمشي في ساقية صغيرة، فترى الساقية خالية ما فيها إلاّ حصى لمّاع لا يظهر فيها -من صفائه- الماء، تخطر على استحياء كأنها عذراء خرجت من خدرها أول مرة.

هؤلاء الخمسة وأمثالهم (إن كان لهم أمثال) هم كالأنهار الكبار، أما السواقي الصافية كالعين الخضراء فكثيرة، أمثّل لها بمثل واحد هو ابن السمّاك، وأمثّل لكلامه بكلمة واحدة قالها في رثاء دواد الطائي، قال: "يا داود، ما أعجب شأنك بين أهل زمانك! أهنت نفسك وإنما تريد إكرامها، وأتعبتَها وإنما تريد راحتها، أجشبت المطعم وإنما تريد طيبه، وأخشنت الملبس وإنما تريد لينه، ثم أمتَّ نفسك قبل أن تموت وقبرتها قبل أن تُقبَر. رغّبت نفسك عن الدنيا فلم ترَها لك قدراً إلى الآخرة، كان سيماك في سرّك ولم يكن سيماك في علانيتك، تفقّهْت في دينك وتركت الناس يُفتُون، وسمعت الحديث وتركتَهم يتحدثون، وخرست عن القول وتركتهم ينطقون، لا تحسد الأخيار ولا تعيب الأشرار، ولا تقبل من السلطان عَطيّة ولا من الإخوان هَديّة، آنس ما تكون إذا كنت بالله خالياً، وأوحش ما تكون آنس ما يكون الناس! فمن سمع بمثلك، وصبر صبرك، وعزم عزمك؟

ص: 394

لاأحسبك إلاّ وقد أتعبت العابدين بعدك؛ سجنت نفسك في بيتك فلا محدّث لك، ولا جليس معك، ولا فراش تحتك، ولا ستر على بابك، ولا قُلّة يبرد فيها ماؤك، ولا صحفة يكون فيها غداؤك وعشاؤك، مِطْهَرتك قلبك وقصعتك تَوْرك (1). داود! ما كنت تشتهي من الماء بارده، ولا من الطعام طيّبه، ولا من الملبس ليّنه؟ بلى، ولكنْ زهدت فيه لما بين يديك. فما أصغر ما بذلت، وما أحقر ما تركت في جنب ما أمّلت! فلما متّ شهَرك ربُّك بموتك، وألبسك رداء عملك، وأكثر تبعك، فلو رأيت من حضرك عرفت أن ربك قد أكرمك وشرّفك، فلتتكلم اليوم عشيرتُك بكل ألسنتها فقد أوضح ربك فضلها بك".

هذا هو الكلام السهل الممتنع، وهذا هو الأسلوب الذي يسهل نطقه على اللسان ويعذُب وقعه على الآذان ويدخل الجَنان بلا استئذان، أفندعه لتكلّف الصاحب، وتصنّع القاضي الفاضل، وألاعيب الألفاظ في مقامات الحريري؟

وإن كان ما يصف به داودَ (من ترك الملذّات وهجر الطيبات وحرمان النفس من جميع الرغبات) ليس هو الزهد المشروع وليس ممّا يأمر به الدين صفوةَ المؤمنين. {قُلْ مَن حَرّمَ زينةَ اللهِ التي أخرجَ لعبادِهِ والطيّباتِ مِن الرزقِ؟} ، {كُلوا من الطيّباتِ واعمَلوا صالحاً} .

وأفضل كتب المنتخَبات المدرسية التي أعرفها الكتابُ الذي وضعه لطلاب «ندوة العلماء» في الهند الصديقُ الأديب الداعية

(1) التوْر إناء يُشرب به الماء

ص: 395

المخلص الشيخ أبو الحسن الندوي، فيا ليت المؤلفين يرونه ويسلكون سبيله. وهذا كله استطراد على طريقة شيخنا الجاحظ، طريقة نقدتُها وأنا سائر فيها لا أستطيع النجاة منها ولا البعد عنها، وخرجت بها من حدود موضوعي.

* * *

وأنا أعود إلى الموضوع فأقول: إن كان البارودي في مصر أولَ من أخرج الناس من متاهات الأسلوب اللفظي في الشعر إلى جادة البيان الأصيل، فإن الذي فعل فعله في النثر في الشام هو محمد كرد علي، وكلاهما نال ما نال بالمطالعة والنظر في آثار البلغاء، ما درس البارودي العَرُوض ولا أتقن علوم الآلة (الصرف والنحو البلاغة)، وما كان كرد عليّ متمكناً منها، ولمّا درّسها في الجامعة ظهر ضعفه فيها. وكان كلاهما -مع ذلك- رائداً، وكان أستاذاً، وكان معلم أجيال.

أما أحمد شاكر الكرمي فقد لقيته مرة واحدة، حين أخذت إليه كلمة أردّ بها على الأستاذ محمد البِزِم لِما كتبه عن أستاذنا سليم الجندي في مجلّته «الميزان» . كان الكرمي أديباً صاحب فنون، كان من أوائل من عرّفَنا بالآداب الأجنبية ونقل إلينا (في الشام) بعض روائعها، وكان من أوائل من مارَس النقد الأدبيّ عندنا، وكانت مجلته «الميزان» أولَ مجلة أدبية خالصة عرفَتها دمشق، أو عرفتُها أنا في دمشق.

عاش الكرميّ مظلوماً ومات مظلوماً، وقد كتبت في جريدة «الأيام» من زمن بعيد أدعو إلى إنصافه والكتابة عنه وعن مجلته،

ص: 396

وكلاهما يستحقّ أن يكون موضوع رسالة ماجستير، وحملت على إخوَتِه وكلهم أدباء: حسن الكرمي ورفيقانا في مكتب عنبر عبدالغني وعبد الكريم أبو سلمى، فاستجاب أبو سلمى وكتب عنه (سمعت بكتابه ولم أرَه)، أبوهم الشيخ سعيد الكرمي نسبة إلى طولكرم (وهي طوركرم).

وقد تُوفّي أحمد شاكر شاباً مريضاً فقيراً، وجمع محيي الدين رضا (وهو ابن أخٍ للشيخ محمد رشيد رضا) طائفة من مقالاته في كتاب صغير سَمّاه «الكَرميّات». ومحيي الدين هذا هو أول مَن عرّفَنا بأدب جبران وأصحابه الذي يُدعى أدب المهجر (وصوابه: المُهاجَر)، وله كتاب صغير كان عندي وفقدتُه ولم أستطع أن أعوّضه، جمع فيه معارضات قصيدة «يا ليلُ الصبُّ متى غدُهُ» (وآخر من عارضها شوقي:«مضناكَ جفاهُ مرقدُهُ» التي يغنّيها محمد عبد الوهاب، ونغمتها الأصلية التي نحفظها أحلى من نغمة محمد عبد الوهاب). فمَن بعث به إليّ بثمنه شكرته.

أما الكلام عن معروف فقد سبق، وأما الكلام عن محبّ الدين والنكدي فسيأتي.

* * *

هؤلاء الخمسة طبقة في الصحفيّين وحدهم؛ إنهم أدباء أو علماء اشتغلوا بالصحافة، فنقلوا إليها أدبهم أو صبّوا فيها خلاصة تفكيرهم.

أما الطبقة الثالثة فصحفيون أتقنوا الكتابة الصحفية ونزلوا

ص: 397

عن درجة الكتابة الأدبية، كنجيب الريس. وليس في هذا الكلام انتقاص من أساليب الصحفيين بل هو تقرير للواقع، ولو استطاع الصحفيون الكتابة بأسلوب الأدباء لما كانوا صحفيين ناجحين، كما أن الأدباء الذين يكتبون الأدب الخالص بأسلوب الصحفيين لا يكونون من الأدباء الموفَّقين. ذلك أن لكل مقام مقالاً وأن البلاغة هي مطابقة الكلام لِمَا تقتضيه الحال، فالصحفي يكتب لعامّة الناس، والأديب يكتب للخاصّة كلاماً تفهمه (إن قرأَتْه) العامّة، والمقالة الصحفية تُكتب ليومها، والقطعة الأدبية لليوم وللغد ولما بعد الغد.

ومن هذه الطبقة صحفيون فهموا «صناعة الصحافة» فأحسنوا فهمها، همّهم إرضاء القرّاء من غير إسخاط الحكام، وأوضح الأمثلة عليها يوسف العيسى صاحب «ألف باء» . ولقد كتبت عنده بعد أن تركت «فتى العرب» على أجر اتفقنا عليه.

كان يوسف لوناً آخر ليس من لون معروف ولا من شكله؛ فذاك رجل يعيش للأدب وللفن وهذا رجل كله عقل، ذاك اعتماده على الأسلوب المزوَّق المزخرَف وهذا اعتماده على الفكرة الصحيحة المقنعة يعرضها بالأسلوب العادي الواضح، ومعروف محدّث لبق ومزّاح مؤنس فَكِه، وإذا غضب كان هجّاء كأخبث الهجّائين لساناً، ويوسف جادّ قليل الكلام عفّ اللسان.

أمّا موضوع المقالات التي كنت أكتبها في «ألف باء» فشيء تعجبون منه إذا عرفتموه؛ كنت أكتب عن أفلام السينما فصولاً قصاراً، هي وسط بين تلخيص القصة وبين نقد التمثيل، ولا

ص: 398

يزال عندي كثير من هذه الفصول التي كتبتها من أكثر من نصف قرن، فيها قصص ومشاهد من الحياة وغرائب من وقائعها، ومثال من موضوعات الأفلام في تلك الأيام، ولا تخلو من تعليق فيه عِبرة ومن نصيحة أو موعظة. وأقوى المواعظ أثراً ما جاء عَرَضاً من حيث لا يتوقع السامع، لذلك كانت كلمة وعظ من مدرّس فيزياء أبلغ (أحياناً) من محاضرة من مدرّس الفقه، وقد شاهدت في المحكمة أن الطعنة التي يتوقعها الإنسان لا تبلغ منه ما تبلغه واحدة مثلها من الغافل عنها.

وقد تحسبون أني كنت من رواد السينمات ومن العاكفين على الملاهي، ولا والله، ولقد حزت شهادة البكالوريا ولم أدخل السينما إلاّ مرة واحدة، هي التي أخذونا إليها ونحن صغار أيام الحرب الأولى فأرونا مشاهد من حرب جناق قلعة عند المضيق قرب إسطنبول، ما فهمت منها شيئاً.

ولم يكن يمنعني من السينما ومن أمثالها أب ولا أخ، فقد عرفتم أن أبي رحمه الله مات وأنا في الصف الثامن سنة 1343هـ وأنه ليس لي أخ أكبر منّي فأنا بِكْر والدَيّ، ولكن منعني منها ما رُبّيت عليه من الدين، ومَن كنت أتصل به وأحضر مجالسه من العلماء، وثالثة ليست دونهما هي أني لم أتخذ رفيقاً إلاّ من المدرسة وداخل المدرسة.

ولقد كنت أرى في السينما (حتى لمّا صرت أتردّد عليها) أجمل ملهاة للشابّ وأخطر ملهاة، وأنها كالسم المحلول في كأس الشراب اللذيذ، لا يكاد يذوقه حتى يسيغه، ثم يألفه فيعتاده

ص: 399

فيقضي عليه. فلما جاء الرائي رأيناه أخطر علينا منها، لأن السينما لا نرى ما فيها حتى نذهب إليها والرائي يجيء هو إلينا، والسينما لا نحضرها إلاّ إن حجزنا لنا مكاناً فيها ولبسنا الثياب الصالحة لها ودفعنا أجرة الدخول إليها، والرائي نراه في جميع الأحوال بلا تعب ولا مال. فلما جاء «الفيديو» (وأنا سمعت خبره وما اقتنيته) هان علينا أذى السينما والرائي، فهل تأتينا الأيام والليالي بمصيبة جديدة يهون معها «الفيديو» ؟

لمّا عرض عليّ الأستاذ يوسف العيسى هذا العمل قبلته فَرِحاً، لأني سآخذ بطاقة أدخل بها السينما متى شئت بالمجّان وأرى ما شئت من الأفلام، ولكني لما جرّبْت العمل ضقت به وكرهته. فالناس يدخلون السينما للمتعة وأنا أدخل للعمل، وحين تصير المتعة واجباً تفقد جمالها؛ هذه هي طبيعة النفس البشرية.

كان الحاضرون يتابعون الفِلم، يعيشون مع أحداثه، يشعرون شعور أبطاله، يخالطونهم، يحبون بعضاً منهم ويكرهون بعضاً ويحقدون على بعض ويشفقون على بعض، يكونون بنفوسهم مع الفِلم وأنا بعقلي مع الورق والقلم، أدوّن ملاحظاتي في الظلام لأخرج فأصوغ منها الفصل، فهل ترون أنه يبقى لي شيء من الاستمتاع به؟

ما كنت ناقداً فنياً ولا خالطت أهل الفن ولا عاشرتهم، وما كانت لدينا مسارح، إنما كان يزورنا بعض الفرق المصرية التمثيلية، فرقة يوسف وهبي (أي فرقة رمسيس) وفرقة فاطمة رشدي التي كانت تحاول أن تجاريها أو تزاحمها، وجاءتنا مرة فرقة أمين عطا الله، وهو لبناني (كما أظن) يقلّد نجيب الريحاني.

ص: 400

أما فرقة فاطمة رشدي فلم أحضر تمثيلها وحضرت تمثيل الفرقتين الأخريَين، ومنها (أي من الرواية التي حضرتها لكل منهما) كان علمي كله بالتمثيل، وكان اشتغالي بالروايات الخمس التي ألّفتها وعلّمت التلاميذ تمثيلها.

وبلغ من إعجابي بمسرحية يوسف وهبي التي شاهدتها أن قمت من بين الناس بعد إرخاء الستار فألقيت خطبة في التعليق عليها والإعجاب بها! وكان يوسف وهبي يعرف التصفيق وصيحات الإعجاب، ولكن لم يرَ يوماً مَن يقوم فيخطب في مدحه، فعاد فرفع الستارة، ووقف الممثلون جميعاً وجعلوا ينصتون لما كنت أقول ثم ينحنون لي شاكرين وتضجّ الدار بالتصفيق. وكان ذلك في «العباسية» القديمة، وكانت حماقة مني ونزوة شباب أخجل من ذكرها، وإن ذكرتها.

أما السينمات فمن التاريخ الاجتماعي لدمشق أن أقول إنه كان لدينا أيام العثمانيين دار سينما للدعاية العسكرية كانت في موضع البرلمان، ثم كان بعدها داران لم أدخلهما، «الزهرة» (أو الزهراء) في موضوع عمارة القباني في المرجة، و «سينما النصر» في سوق الخيل، وكل ذلك قبل أن تنطق السينما، ثم كانت «الكوزموغراف» في مدخل البَحْصَة، وكلها من دور الدرجة الثالثة. ثم أنشئت «الإمبَيَر» في بوّابة الصالحية، و «العباسية» كانت بناء من طبقتين من اللبِن والخشب في موضع العمارة الضخمة القائمة اليوم، وكل ذلك ملك الأوقاف!

* * *

ص: 401

كنت أكتب في «ألف باء» هذه الفصول وأكتب في موضوعات أخرى فيها وفي «القبس» ، فحين تكون المقالة وطنية ملتهبة أبعث بها إلى «القبس» ، وحين تكون هادئة معقولة أنشرها في «ألف باء» .

ولما مضى الشهر الأول ومدّ الأستاذ يوسف العيسى يده إليّ بالأجرة التي اتفقنا عليها ألمّ بي خاطر غريب، هو أن أخذي الأجرة مَذَلّة لي! وسيطر عليّ هذا الخاطر سيطرة كاملة فرفضتها

رفضتها إباء وشمماً، وأنا وأمي وإخوتي في أشد الحاجة إلى كل قرش منها.

وعجب مني الأستاذ وألحّ عليّ، وعجبت أنا من نفسي ولكني لم آخذها. ولم أعرف إلى الآن لماذا لم آخذها!

* * *

ص: 402