المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌مشايخي خارج المدرسة - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌مشايخي خارج المدرسة

-24 -

‌مشايخي خارج المدرسة

وقفت بكم طويلاً على ذكريات أساتذتي في المدرسة، وما تكلمت إلاّ عن بعضهم ولا سردت إلا بعض أخبار من تكلمت عنهم، ولو أفضت لأطلت وأمللتُ، فأذنوا لي اليوم أن أقف معكم على بعض مشايخي خارج المدرسة.

تنتظرون أن أبدأ بأبي رحمه الله. وإنّ فضله عليّ لكبير، ولكني وعدت في مطلع هذه الفصول أن أقول الحقّ، لا أضيع شيئاً مما هو لي تواضعاً ولا آخذ شيئاً ليس لي تزيّداً، والحقّ أنّ مَن قرأ على أبي أو لازمه يؤكّد أنه كان معلماً عبقرياً، يُفهِم الغبيّ من التلاميذ حتى يظن نفسه أذكى من الأذكياء، ويبسّط المعقّد من المسائل حتى تُحسَب من الهيّنات الواضحات، وذلك بالأمثال المحسوسة والأدلّة الظاهرة.

والمعلم الذي فهم المسألة وهضمها حتى صارت مِلْكاً له يستطيع أن يُفهمها من شاء، يقلب العبارات ويبدّل الأساليب حتى يصل إلى العبارة المبيّنة والأسلوب المناسب. فإن وجدتَ معلماً يشرح الدرس فلا يُفهم عنه ويعيد الشرح فلا يصل إلى الإفهام

ص: 247

فاعلم أنه ما فهم هو ما يدرّسه، وإنما حفظه فهو يكرره كما حفظه لا يستطيع أن يخرج عنه.

ويظهر أن أبي كان من الصنف الأول، هذا ما سمعته من تلاميذه سماعاً لأنه رحمه الله ما خصّني يوماً بدرس ولا أقرأني كتاباً. يقولون: أزهد الناس في العالِم أهله وجيرانه، لأنهم يرونه في جده وهزله وغضبه ورضاه، والبعيدون عنه لا يرونه إلا في أحسن حالاته ولا يبصرون منه إلا أجمل جوانبه. وأنا أزيد: أن العالِم أزهد ما يكون في تعليم أهله وجيرانه، وربما حرص على تعليم التلاميذ وشرح الجواب للسائلين ما لا يحرص مثله على تعليم ولده وإجابته على أسئلته.

لذلك كان حظي من علم أبي دون حظوظ الآخرين، وما كنت أراه إلا طرفَي النهار، وإن كان في الدار لم يَخلُ من أصدقاء أو زوّار. ولو أن الله ألهمه أن يتفرغ لي أو أن يوليني مثل الذي كان يوليه المقرّبين من تلاميذه، لرجوت أن أنتفع به أكثر مما انتفعوا وأن يبدو أثر ذلك فيّ أكثر مما بدا فيهم (1).

وكنت من يوم وعيت وأدركت ما حولي أُصبِح فأرى أبي في

(1) وأحسب أن هذا الأمر قد ترك في نفس جدّي أثراً حمَله على أن ينهج في حياته غيرَ ذلك النهج؛ فقد كان من أكبر همه وجلّ اهتمامه أن يُفيد بعلمه أهلَ بيته، حتى صارت الحياة معه حياة في مدرسة لا تنفَد ذخائر علومها وفوائدها، ينثرها في أحضان من يعيش معه من بناته وأزواج بناته وحَفَدته وإخوته وأبناء إخوته وسواهم، فيلتقط مَن شاء من هؤلاء من هذه الذخائر ما شاء، ويستزيد مَن يشاء ممّا يشاء، فلا يردّ أحداً بغير فائدة، رحمه الله وأجزل له الثواب (مجاهد).

ص: 248

مجلسه وعنده تلاميذ، ما كانوا كتلاميذ المدرسة بل كانوا رجالاً بعمائم ولحى، فكنت أدخل عليه بالشاي أو بالفاكهة يحملها لي أول الأمر نساء أهلي إلى باب المجلس ويقرعن الباب، ويحمّلنني منها ما أطيق حمله، فيثب بعضهم فيأخذه مني ويحمله عني.

ثم صرت أقعد معهم قليلاً فألتقط الكلمة بعد الكلمة، ثم صرت أناولهم الكتاب بعد الكتاب، فعرفت الحاشية والقاموس المحيط وتنقيح الحامدية، والجزء كذا من تفسير الخازن أو من فتح الباري أو الفتاوى الهندية

أقول إني عرفت شكلها واسمها لا إني قرأتها.

وكانت الحُجُب مسدَلة بين الآباء والأبناء لم تُرفَع كما رُفعَت اليوم، وما كنت أتبسّط معه في حديث فضلاً عن أن أدخل في مناقشة، وكنت أناديه (كما كان يفعل أمثالي ممن أعرف) بسيدي، ما قلت له يوماً يا أبي، أما «بابا» فما كنت أتصور كبيراً يقولها، إنما يقولها الأطفال في بداية عهدهم بالكلام.

وكان أبي معدوداً من مقدَّمي فقهاء المذهب الحنفي في الشام (1)، وكان أمين الفتوى عند المفتي الشيخ أبي الخير

(1) في ترجمة الشيخ محمد الطنطاوي الذي جاء من مصر أنه كان شافعياً، فينبغي أن يكون ابن أخيه أحمد الذي جاء معه شافعياً مثله. فكيف صار ابن الشيخ أحمد، الشيخ مصطفى، من مقدَّمي فقهاء الأحناف؟ أنا أستغربُ ولا أعرف الجواب. وكان جدي رحمه الله حنفياً كأبيه زماناً، ثم إنه خرج من الإطار الضيق للمذهب وصار يرجع في فتاواه إلى المذاهب جميعاً (إلا الفقه المالكي فقليلاً ما=

ص: 249

عابدين، وكان يُستفتى في حياة مشايخه. ولما صار رئيس ديوان محكمة التمييز (محكمة النقض) على عهد الشريف فيصل كانوا يدعونه للمشاركة في دراسة القضايا الشرعية، سمعت ذلك من رئيس المحكمة الأستاذ مصباح محرّم ومن بعض الأعضاء فيها كالشيخ سليمان الجوخَدار، الفقيه القانوني الذي كان مفتي الشام قبل الشيخ أبي الخير والذي صار رئيس محكمة التمييز ووزير العدل، ومن القاضي الوزير النصراني يوسف بك الحكيم، ومن القاضي صلاح الدين الخطيب الذي صار -بعدُ- حَمِي (2)(والد زوجتي)، ومن زميله في عضوية المحكمة الشيخ مسعود الكواكبي عضو المجمع العلمي، ومن عضو المحكمة الشيخ علي عيّاد والد الدكتور كامل عياد.

ولمّا مات وعدنا إلى حارتنا القديمة كان يسكن قريباً منا الشيخ أبو الخير الميداني، وهو صديق أبي وزميله في القراءة على الشيخ سليم المسوتي، الذي كان من كبار المشايخ المعلّمين الصالحين. وهو ألباني الأصل، لم أدركه ولكني أحببته لكثرة ما سمعت من أخباره من أبي ومن شيخنا الميداني، وعن كرمه العجيب الذي يجاوز حد التوسط بين غلّ اليد بخلاً وبسطها كل البسط سفهاً، لا تعمداً منه مخالفة أمر الله، أعوذ بالله أن يتعمد هذا مسلم، ولكنها طبيعة طبعه الله عليها.

= أخذ منه)، وكان أكثر ما يرجع إليه في آخر عمره «المغني» لابن قدامة، وهو أقرب إلى أن يكون كتاباً في الفقه المقارَن، بل هو موسوعة فقهية، وإن يكن معدوداً من كتب الحنابلة (مجاهد).

(2)

حموك من الأسماء الخمسة، فأنت تقول حمي كأنك تقول أبي.

ص: 250

وكان يوماً في رمضان وكان مجلسه قريباً من باب الدار، وكانت مائدة الإفطار قد أُعِدّت ودنا المغرب، فقرع البابَ فقيرٌ يسأل ويقسم أن أهله في البيت صيام وليس عندهم شيء يؤكَل، فتلفّت فلم يجد حوله أحداً من أهله، فتناول طبقاً وبعض الخبز فوضعها جانباً وقال له: احمل هذا كله. فحمله فذهب به، ودخل النساء فلم يجدن الطعام، فسخطن وصِحْن عليه وتكلّمْنَ كلاماً شديداً، وهو صامت. وضرب المدفع وأذّن المؤذن من جامع التوبة، فإذا الباب يُقرَع، وإذا بألوان الطعام من الحارّ والبارد والحلو والحامض تدخل عليه! وإذا القصّة أن سعيد باشا شمدين، أحد كبار الوجهاء، كان قد دعا ضيوفاً فلم يحضروا، فأمر بحمل الطعام كله إلى دار الشيخ. فقال: أرأيتن مكافأة الصدقة؟

أعود إلى حديث الشيخ أبي الخير. الذين يؤثّرون فيك ببلاغتهم وطلاقة ألسنتهم -إن سمعتَهم- كثيرون، وكثيرون هم الذين يأسرونك بروعة أسلوبهم وسحر أقلامهم إن قرأت لهم والذين يعجبونك بصحّة محاكماتهم وإصابة آرائهم إن أنت استشرتهم. كل هذا مُشاهَد في كل بلد معروف في كل زمان، ولكن أعجب من هؤلاء كلهم ناس لا يتكلمون، وإن تكلموا لم يكُن لهم من سحر البلاغة ما يُعجِز الكاتبين، وهم مع ذلك يبلغون من التأثير عليك ما لا يكون مثله لكاتب ولا لخطيب.

إنهم يؤثّرون بحالهم لا بمقالهم، ومن هؤلاء شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني، ومنهم شيخه وشيخ الشام الشيخ بدر الدين الحسني، وممّن عرفت في مصر شيخ مشايخنا السيد الخضر حسين الذي صار شيخ الجامع الأزهر، ومنهم العالِم اللغوي

ص: 251

المحقق أحمد تيمور باشا.

وعندي في هذا الباب أخبار كثيرة أروي الآن واحداً منها، حدّثني به في مصر الأستاذ أحمد حسن الزيات صاحب «الرسالة» عن شيخ سمّاه ونسيت أنا اسمه، قال: كان هذا الشيخ مدرّساً، لا يعرف من الدنيا إلا الجامع الأزهر الذي يدرّس فيه (قبل أن تدخل عليه تاء التأنيث فيصير جامعة) والبيت القريب منه الذي يسكنه والطريق بينهما. فلما طالت عليه المدة وعلَت به السنّ واعتلّت منه الصحّة احتاج إلى الراحة، فألزمه الطبيب بها وأشار عليه أن يبتعد عن جوّ العمل وعن مكانه، وأن ينشد الهدوء في البساتين والرياض وعلى شط (1) النيل.

فخرج فاستوقف عربة، ولم تكُن يومئذٍ السيارات، وقال له: خذني يا ولدي إلى مكان جميل أتفرج فيه وأستريح.

وكان صاحب العربة (العربجي) خبيثاً، فأخذه إلى طرف الأزبكية حيث كانت بيوت المومسات وقال: هنا. قال: يا ولدي، لقد قرب المغرب، فأين أصلّي؟ خذني أولاً إلى المسجد. قال: هذا هو المسجد.

وكان الباب مفتوحاً وصاحبة الدار قاعدة على الحال التي يكون عليها مثلها. فلما رآها غض بصره عنها، ورأى كرسياً فقعد عليه ينتظر الأذان وهي تنظر إليه، لا تدري ما أدخله عليها وليس من روّاد منزلها، ولا تجرؤ أن تسأله، منعَتها بقية حياء قد يوجد أمام أهل الصلاح حتى عند المومسات، وهو يسبّح وينظر في

(1) الشط: الشاطئ.

ص: 252

ساعته. حتى سمع أذان المغرب من بعيد، فقال لها: أين المؤذّن؟ لماذا لا يؤذّن وقد دخل الوقت؟ هل أنت بنته؟

فسكتَت. فانتظر قليلاً ثم قال: يا بنتي المغرب غريب لا يجوز تأخيره، وما أرى أحداً هنا، فإن كنت متوضئة فصلي ورائي تكُن جماعة. وأذّن، وأراد أن يُقيم وهو لا يلتفت إليها، فلما لم يحسّ منها حركة قال: ما لك؟ ألست على وضوء؟

فاستيقظ إيمانها دفعة واحدة، ونسيَت ما هي فيه وعادت إلى أيامها الخوالي، أيام كانت فتاة عفيفة طاهرة بعيدة عن الإثم، وراحت تبكي وتنشج، ثم ألقت بنفسها على قدميه. فدُهش ولم يدرِ كيف يواسيها وهو لا يريد أن ينظر إليها أو أن يمسّها.

وقصّت عليه قصتها، ورأى من ندمها وصحّة توبتها ما أيقن معه صدقها فيها، فقال: اسمعي يا ابنتي ما يقوله رب العالمين: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {قُلْ يا عِباديَ الذينَ أسْرَفُوا عَلى أنْفُسِهم لا تَقْنَطوا مِن رَحْمةِ الله، إنّ اللهَ يغفِرُ الذّنوبَ جَميعاً} . جميعاً يا ابنتي، جميعاً. إن باب التوبة مفتوح لكل عاصٍ، وهو واسع يدخلون منه فيتّسع لهم مهما ثقل حملهم من الآثام، حتى الكفر؛ فمن كفر بعد إيمانه ثم تاب قبل أن تأتيه ساعة الاحتضار وكان صادقاً في توبته وجدّد إسلامه فإن الله يقبله. الله يا ابنتي أكرم الأكرمين، فهل سمعت بكريم يغلق بابه في وجه من يقصده ويلجأ إليه معتمداً عليه؟ قومي اغتسلي والبسي الثوب الساتر، اغسلي جلدك بالماء وقلبك بالتوبة والندم، وأقبلي على الله. وأنا منتظرك هنا، لا تبطئي لئلا تفوتنا صلاة المغرب.

ص: 253

ففعلت ما قال، وخرجت إليه بثوب جديد وقلب جديد، ووقفت خلفه وصلّت صلاة ذاقت حلاوتها، ونقّت الصلاة قلبها. فلما انقضت الصلاة قال لها: هلمّي اذهبي معي، وحاولي أن تقطعي كل رابطة تربطك بهذا المكان ومن فيه وأن تمحي من ذاكرتك كل أثر لهذه المدة التي قضيتِها فيه، وداومي على استغفار الله والإكثار من الصالحات، فليس الزنا بأكبر من الكفر، وهند التي كانت كافرة وكانت عدواً لرسول الله وحاولت أن تأكل كبد عمّه حمزة، لمّا صدقت التوبة صارت من صالحات المؤمنات وصرنا نقول: رضي الله عنها.

وأخذها إلى دار فيها نسوة ديّنات، ثم زوّجها ببعض من رضي الزواج بها من صالحي المسلمين وأوصاه بها خيراً.

* * *

لقد خرجت عن الخطّ، ولكن لا كما يخرج القطار عن القضبان فينهار ويسبّب الهلاك والدمار، بل كما يميل المسافر إلى الواحة فيها الظل والماء فيجد فيها الراحة والريّ. فعفوكم إن جرّتني المناسبة إلى سرد قصة ليست من صلب الموضوع، ولكن أرجو أن يكون من سردها متعة أو منفعة.

أعود إلى موضوعي:

كان شيخنا الشيخ أبو الخير الميداني من هذا الطراز. كان كالشيخ بدر الدين الحسني، يبلغ بصَمْته أحياناً ما لا تبلغ ألسنة الأبْيِناء من الخطباء والبلغاء من الكتّاب. وأنا أقول من قديم إني أسمع واعظاً أو محاضراً يتكلم ساعة أو أكثر، في موضوع يجمع

ص: 254

أطرافه ويكشف أسراره ويُظهِر خفاياه بأجود عبارة وأحسن إلقاء، يحشد ما لا مزيد عليه من الأدلة والشواهد، فلا يحرّك شعرة مني ولا يثير فيّ ذرّة من خشوع. وأسمع من راكب في الحافلة أو ماشٍ في الطريق جملتين ما فيهما فكر ولا بيان، فتصلان مني إلى أعماق القلب وتثيران فيه مكامن الخشوع، وربما أسالتا عينيّ بالدمع.

فما السبب؟ السبب أن محاضرة الأول خرجت من عقله ولسانه، وكلمةَ الثاني صدرت عن قلبه، والذي يخرج من القلب يدخل القلب والذي خرج من اللسان لم يجاوز الآذان.

وشيخنا الشيخ أبو الخير الميداني كان من أرباب القلوب، لا أعني قلوب العشاق بل قلوب المؤمنين، المتصلة أبداً بالله الحاضرة مع الله. وكان فوق ذلك محبوباً، لا يستطيع أحد أن يكرهه لأنه لا يؤذي أحداً. كان ليّن العريكة حلو الشخصية، رضيّاً لا يَغْضَب من أحد ولا يُغْضِب أحداً. كانت له نفس شفّافة. إذا أنت قعدت وراء الجدار حجب عنك ما بعده فلا تراه، ولكن إن كان الجدار من بلّور حماك من البرد والمطر ولم يحجب منك النظر، وهذا مثال نفس الشيخ.

كان نقشبندياً، والنقشبندية أقرب الطرق إلى الاعتدال وأبعدها عن المخالفات، ولمّا نُقلتُ إلى كركوك في العراق مدرّساً قبيل الحرب العالمية الثانية لقيت كثيراً من مشايخها من الأكراد، منهم الشيخ علاء الدين ومنهم الملا أفندي، وكدت أتلقى الطريقة يوماً من أحد مشايخها الكبار وهو الشيخ أبو النصر

ص: 255

خَلَف. ثم تركتُها كما تركت غيرها، وقلت: أمشي على الجادة العريضة، ما لي ولبُنَيّات الطريق؟ والجادةُ هي الكتاب والسنّة والفقه المستمَدّ منهما.

سقى الله أيامي مع الشيخ أبي الخير! لقد كانت من أمتع أيام حياتي. وداره الفسيحة التي لم يكُن لها رونق دور الأغنياء المترَفين ولكن لها سعتها وهدوؤها وزهرها وشجرها. كنت أرقب -النهارَ كله- ساعةَ الدرس في المساء، وكان يحضره أربعون أو خمسون، وكان درس النحو. ولقد قرأت عليه «الأزهرية» و «القطر» و «الشذور» و «ابن عقيل» ، وكان يشرح باللهجة العامية، ولكن طريقته تثبت النحو حتى لا يمكن أن يُنسى.

كان يقول مثلاً: «جاء قاضيٌ»

قاضيٌ؟ أترونها سائغة، الياء لتحت والضمة لفوق؟ فوق وتحت معاً؟ لا، لا؛ فلنحذف هذه الضمة. «جاء قاضين» . ساكنان؟ تصوّروا التقاء ساكنين ساكتين! هذا مجلس لا يُطاق، فلينصرف أحدهما. لقد انصرف، فصارت: جاء قاضٍ.

وكان أكثر الحاضرين أكبر مني سناً، ولكني كنت أكثرهم علماً فأقامني معيداً للدرس. وكان له درسان في الأسبوع للحديث قرأنا فيهما الصحيحَين وبعض سنن أبي داود، وكان له مجلس للختم، مجلس نقشبندي، حضرته مرة فلم يرتَحْ له قلبي، فاستعفيته منه فأعفاني. وأنا والحمد لله لم أدخل في «طريقة» من الطرق الصوفية ولا «حزب» من الأحزاب السياسية.

* * *

ص: 256