الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-10 -
من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون
الطريق طويل، وأنا أمشي كالسلحفاة. لقد رضيتم مني أن أكون كالسائح؛ يقف ليرى فيصف ثم يعاود المسير، فرأيتُني الآن أقف ولا أسير، فدعوني أسرع وأدع التفصيل في الكلام عن عهدٍ أكثرُ القرّاء لم يدركوه، وعن رجال لم يسمعوا بهم ولا يعرفونهم.
وسأكتب إن شاء الله عن الشيخ الكافي وغيره في فصول آتيات أو في طبعة مقبلة من كتابي «رجال من التاريخ» (1). أمّا الشيخ صالح التونسي الذي كان يدرّسنا في المدرسة الجقمقية فلا بدّ لي من وقفة قصيرة معه.
لقد عرفته من حلقته في «الأموي» قبل أن أقعد تلميذاً بين يديه في المدرسة. كانت حلقات الدروس في الأموي كثيرة في علوم مختلفة، منها ما هو لطلبة العلم ومنها ما هو مواعظ
(1) وقد فعل جدي ذلك. نشر مقالة عن الشيخ الكافي ثم ضمها إلى كتاب «رجال من التاريخ» في طبعته الجديدة التي أصدرتها دار المنارة عام 1985 (مجاهد).
للعامة، ولكن درس الشيخ صالح كان يمتاز منها جميعاً؛ كان موعظة، وكان أدباً، وكان تاريخاً. وما أكثر ما حفظت فيه من أحاديث صحيحة، ومقطوعات من الشعر بارعة، وأخبار من التاريخ نادرة.
وكان يُلقي ذلك بلهجة تونسية فصيحة المبنى جامعة المعنى كثيرة الأسجاع، تأتي معه عفواً بلا تكلّف. لا يكتفي بأن يتكلّم ونحن نسمع، بل كان يسأل ويطلب الجواب، فيكون لنا من درسه -فوق ما نتلقّى من العلم والأدب- تدريب على الخطابة وتمرين على الكلام. وهذا فن عُني به العرب قديماً حين كان من خطبائهم من يدرّب على ذلك الشبابَ، وعُني به الأميركان حديثاً إذ يفتحون مدارس يتعلم فيها تلاميذهم (وجلّهم من الكبار) فنّ مخاطبة الجماهير.
ثم كنت تلميذه في المدرسة، وكنت أتلقى عنه فوق ذلك درساً خاصاً، أمرني أبي به وطلبه لي منه، وكان صديقه. وأشهد لقد استفدت منه ومن المتون الكثيرة التي ألزمني حفظها: ألفية ابن مالك (1) في النحو، والجوهر المكنون في البلاغة، ومتن الجوهرة والزّبد (2)، وإن كنت قد نسيتها الآن إلاّ قليلاً منها.
وإذا وعدتم وعد الصدق ألاّ تخبروا ولده الأستاذ
(1) كان قبر ابن مالك في مقبرة الصالحية في جبل قاسيون، فلما مات الشيخ أمين التكريتي ضاقت عليهم الأرض! فدفنوه في قبره، فلم يعُد له قبر يُعرف.
(2)
أرجوزة «جوهرة التوحيد» لبرهان الدين اللقاني في العقيدة الأشعرية وأرجوزة «صفوة الزَّبَد» لابن أرسلان في الفقه الشافعي (مجاهد).
عبد الرحمن مدير مدارس الثغر ولا أحداً من إخوته الكرام لقلت لكم: إني كنت وكان رفاقي كلهم يحترمونه غاية الاحترام ولكنهم لا يحبونه، فقد كان معلّماً كاملاً ولكنه كان شديداً، وكان قوي الجسد مشدود العصب جاداً كل الجد، فكنا نخشى قوة بدنه أن يبطش بنا، وقوة لسانه أن يُلبِسنا من جُمَله التي كان يصوغها صياغة الفولاذ، فتعلق بنا واحدة منها وتتناولها ثم تتداولها ألسنة الرفاق فتكون لنا وصمة العمر.
وكان من أساتذتنا في المدرسة عالِم يماني اسمه الشيخ عبدالواسع بن يحيى الواسعي، لا أعرف ما صنع الله به بعد أن فارقنا. وأستاذ أظنّ أن اسمه سعيد الطيب، كان يدرّسنا النحو الفرنسي بالعربية باصطلاحات النحو العربي.
أما الذي كنا نخافه جداً ويخافه التلاميذ جميعاً فكان ناظر المدرسة، الشيخ محمود العقاد تلميذ أبي. وكان أخي ناجي يذهب معي وهو صغير، فإذا ضربوني في الدار بسبب منه أنتقم منه فأضربه حين أنفرد به، فيشكوني إلى الناظر، فيعاقبني عقوبة هيّنة في ظاهرها ولكن ضرب العصا كان أهون عليّ منها. كان يأتي بي وبرفيق لي هو عبد المجيد مراد، أخو شفيق وعبد الحميد وابن الشيخ أبي النصر مراد الذي جرّ إلينا الكهرباء من داره، وكانت له بسببها القصة التي رويتها لكم في غير هذه الذكريات (1).
(1) انظر مقالة «في الكُتّاب» في كتاب «من حديث النفس» وفيها: "لم تكن هذه الكهرباء إلاّ في الطرق وفي قليل من البيوت، ولقد كانت أسرتنا من أسبق الناس إلى الاستضاءة بها، إذ مُدَّ إلى دارنا شريط من دار الجيران سنة 1916، وعرفت ضوء الكهرباء واستمتعت =
كان يقعد على مقعد في قاعة المدرسة ويَقفنا أمامه، وينصحنا فيتكلم ويقول: ضعوا عيونكم على عيني. ويطول الكلام، وأحسّ كأني مشدود بحبل إلى عينيه والحبل يدور بي في الهواء، فلا أعود أفهم شيئاً!
وكان من رفاقنا الأستاذ محمد علي بدير كبير رجال الاقتصاد في الأردن اليوم، وابن عمه خالد رحمه الله، والأستاذ هدى الطباع، وعبد الوهاب محفوظ، وعبد السلام الخطيب، وواصف الخطيب، وعبده العظمة، وفؤاد الجلاد.
ومرّ العام، وودّعَنا الشيخ محمود وذهب، ثم ودّعَنا الشيخ صالح وسافر إلى المدينة فصار مدرّساً في الحرم النبوي وأقام بها إلى أن توفّاه الله. رحمه الله ورحم أساتذتنا جميعاً.
* * *
كنا في «العُقَيْبة» ، وهي حيّ فقير من أحياء دمشق ذُكر في ترجمة الإمام الأوزاعي أنه كان «قرية ظاهر دمشق» ، مع أن بينه وبين السور ثلاثمئة متر فقط، وبين السور وبين «الأموي» مثل ذلك، قدّرته تقديراً ولم أقِسه قياساً، فسامحونا إن نسينا أو أخطأنا.
وكنت أذهب إلى المدرسة فأدخل من باب الفراديس، وهو
= بها، ولكنها سبّبت لي (فلقة) حامية؛ ذلك أني ذهبت إلى المدرسة أحدّث التلاميذَ أن في دارنا ضوءاً يشعل بلا كبريت وينطفئ بلا نفخ. ووصفته لهم، فعارضني أحدهم وكذّبني، فشتمته فشتمني، فضربته، فحكم عليّ الأستاذ بفلقة لا أزال أذكر طعمها! " (مجاهد).
أحد أبواب دمشق السبعة التي بقي منها ستة (1) كما بقي السور سالماً، ثم أدخل السور الداخلي، وبينهما حارة تسمّى اليوم «بين السورين» .
وأذكر -بالمناسبة- شيئاً نسيت أن أتكلم عنه في مكانه، هو أن جمال باشا لمّا فتح أول شارع في دمشق سنة 1916 سُمّي باسمه، فلما انتهت الحرب وخرج الأتراك سمّوه شارع النصر، يقصدون النصر على الترك.
وكنت مرّة عند شيخ مشايخنا، الشيخ عبد المحسن الأسطواني، وكيل اللجنة التي أشرفت على بناء الأموي بعد أن احترق سنة 1311هـ ونائب دمشق في مجلس النواب العثماني ورئيس محكمة التمييز في سوريا، وقد عاش 118 سنة وتُوُفّي كامل العقل قويّ الذاكرة. كنت عنده فسألته: أين الباب السابع من أبواب دمشق؟ أوَلم يكُن بين باب الجابية وباب الفرج باب؟ قال: بلى، كان هناك باب النصر.
فكانت تسمية الشارع بشارع النصر رميةً من غير رامٍ.
(1) في كتاب الشيخ بدران (منادمة الأطلال) وصف ممتع لأبواب دمشق جميعاً (ص39 - 42) قال في آخره: "وبالجملة فلم يبقَ من الأبواب سوى سبعة أبواب هي باب الجابية (قلت: ومن هذا الباب دخل أبو عبيدة بن الجرّاح دمشقَ عندما فتحها صلحاً في السنة الرابعة عشرة للهجرة)، والباب الصغير (قلت: والعامة في الشام تسميه «باب الصغير» بغير تعريف)، والباب الشرقي، وباب توما، وباب السلامة، وباب الفراديس، وباب الفرج. وما بقي فهو إما مسدود أو مهدوم"(مجاهد).
وانتقلت دارنا إلى الصالحية فأخرجني أبي من المدرسة الجقمقية، وفارقت جوّ الأموي الذي تحيا به الأرواح وتنتعش النفوس، يوم كان الأموي قلبَ دمشق: الدار القريبة هي التي تقرب منه والبعيدة هي التي تبعد عنه. وكان مثابة الناس؛ يجلسون فيه في «الحرم» في الشتاء، وفي الصيف يقعدون في الصحن، حيث النسيم الرخيّ لا ينقطع والماء يتدفق من (فوّهة) البركة، والرُّواق الفخم من حولهم والمآذن الثلاث (1) تطل عليهم، ويطل معها أربعون قرناً من الزمان من يوم كان معبداً وثنياً إلى أن أصبح كنيسة نصرانية، إلى أن شرّفه الله بالإسلام وضوّأ جوانبه بنور الإيمان، فكان بذلك (أي في جاهليته وفي إسلامه) أقدم المعابد القائمة في الدنيا، كما أن دمشق أقدم المدن العامرة المسكونة على الأرض.
كذلك كان الأموي، فهل تدرون اليوم ما حاله؟ كانت دمشق تحوطه بذراعيها وتعطف عليه جوانحها، تعيش بقربه وتحيا بحبه لا تستطيع الابتعاد عنه؛ صباحها فيه ومساؤها، ونهارها بجواره وليلها، فتركَته وسارت مشرّقة وسارت مغرّبة، وبقي وحده حيث كان.
وسرنا نحن مع من سار، وإن لم ننكر عهده ولم ننسَ ودّه. انتقلنا من منزلنا الصغير في آخر العُقَيْبة إلى دار كبيرة فسيحة الأرجاء، كثيرة الغرف والأَبْهاء، قريب منها الشجر والماء. الشجر
(1) المئذنة الشرقية (وتسمى مئذنة عيسى)، والمئذنة الغربية (التي تطل على المِسكيّة، وتسمى أيضاً مئذنة قايتْباي)، ومئذنة العروس، وهي أبهى مآذن الأموي وتقوم في الجهة الشمالية للمسجد (مجاهد).
في بساتين الصالحية التي انتقلنا إليها والماء من نهر «يزيد» ، أكبر أولاد بردى الستة في سفح قاسيون، بحيث نرتفع عن المدينة وننزل عن جادات حيّ المهاجرين، نرى من غرف الدار العليا الشامَ والأموي في وسطها.
والشام في اللغة من جنوبي تبوك إلى جبال طورس، وفي العرف البلدة القديمة. فيقول أهل الصالحية:"ذهبنا إلى الشام وعدنا من الشام" كما يقول المصريون «مصر» لا يعنون بها الإسكندرية ولا أسيوط، بل ولا يقصدون شبرا ولا حلوان (1).
وأعادني والدي إلى المدرسة الرسمية، وكان في دمشق -أول عهد الانتداب- أربع مدارس رسمية ابتدائية، وكانوا يسمونها «الأنموذج» ، وهي:«أنموذج البحصة» التي كانت مدرستنا السلطانية الثانية. و «أنموذج الملك الظاهر» ، وهي أقدمها وكانت في المدرسة التي أنشأها الملك الظاهر بيبرس، وهو ثالث «الفرسان الثلاثة» الذين أنقذ الله بهم سوريا من الصليبين: نورالدين، وصلاح الدين، والظاهر. وفيها اليوم المكتبة الظاهرية التي يعود الفضل فيها بعد الله للشيخ طاهر الجزائري مربّي الجيل الذي سبقنا، جمعَ الكتب التي كانت موزَّعة على المدارس والمساجد تعبث بها أيدي العابثين، وكانت منها نواة هذه المكتبة
(1)«الشام» هو الاسم الذي يطلقه أهل المملكة والخليج على بلاد الشام عامة: سوريا ولبنان وفلسطين والأردن، و «الشام» هي سوريا عند أهل سائر بلاد الشام (الأردن وفلسطين ولبنان)، وهي دمشق بلسان السوريين، وإذا استعملها أهل دمشق أنفسهم عنوا بها دمشق القديمة (مجاهد).
التي تُعَدّ اليوم من أغنى المكتبات في ديار الإسلام. و «أنموذج الميدان» ، و «أنموذج المهاجرين» التي دخلتها سنة 1921 وأُعدْت إلى الصف الخامس ثالث مرة!
ذلك أني ارتقيت إلى الصف الخامس على عهد الأتراك، ثم ارتقيت إليه مرة ثانية على عهد الحكم العربي، وهأنَذا أعود إليه على عهد الانتداب الفرنسي
…
لقد ضاعت ثلاث سنوات من عمري هدراً؛ ضاعت بالمقياس الرسمي ولكنها ما ضاعت -والحمد لله- بمقياس الدين ومقياس العلم، بل لقد كانت سنوات خير وبركة، تركَت في قلبي ذخيرة من الإيمان أسأل الله أن يديمها لي وأن يزيدها وأن ينفعني بها في آخرتي، وتلقيت فيها من العلم ما لا أجد مثلَه في مناهج المدارس الرسمية، وقرأت من الكتب ما لا يقرأ مثلَه تلميذٌ في مثل سني يومئذٍ (وسأتحدث عن مطالعاتي وقراءاتي فيما يأتي من الفصول)، وإن كنت قد قرأت معها القصص التي كانت تسلية تلك الأيام: قصة عنتر، وقصة بني هلال، والملك سيف، والأميرة ذات الهمّة
…
ورأيت فيها من أخبار الفروسية وأنباء البطولة ومن الأكاذيب والانحرافات ما لا مزيد عليه.
كنت في السلطانية الثانية، والشام من حولي في عرس، والناس في فرحة الوجدان بعد الحرمان والأمل بعد اليأس، نهتف للاستقلال ونملأ الجوّ بأناشيد الحماسة والفخر، نمشي -نحن تلاميذ المدارس- نهتف بالنشيد فتردّده معنا أفواه الباعة في الدكاكين والمارّة في الطرق. ثم كنت في الجقمقية في حِمى
الأموي وفي جوّه الروحيّ، نجلس في حلقاته ونستمع إلى علمائه، ونقوم في صفوف المصلّين، نركع مع الراكعين ونذكر مع الذاكرين.
فجئت الآن إلى هذه المدرسة في لحف الجبل أمام جامع الشمسية، وقد مات الاستقلال ودُفن في ميسلون، وخُنقت الأناشيد في الأفواه، وأصاب الناسَ اكتئابٌ فكأنهم في مُصاب.
وبعد أن كانت الشام مع لبنان والأردنّ ولاية من ولايات بني عثمان، ثم صارت جزءاً من المملكة العربية التي أرادها الحسين بن علي لمّا قام بثورته (أو بنهضته، فلست أدقّق الآن في الأسماء)، بعد هذا كله صارت الشام -لمّا دخلها غورو- أربعَ دول: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة العلويين، ودولة الدروز!
انهار البناء الضخم الذي أقمناه من أمانينا وآمالنا، وهوت الدولة العربية التي نفخنا فيها من أرواحنا وسقينا شجرتها من دمائنا، وهبطنا من ذروة الأمل الكبير إلى حضيض الواقع المرير.
لم يبقَ شيءٌ من الدّنيا بأيدينا
…
إلاّ بقيّةَ دمعٍ في مآقينا
* * *