المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌في المدرسة السلطانية - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌في المدرسة السلطانية

-7 -

‌في المدرسة السلطانية

اذهب إلى المرجة (1) اليوم، واستقبل جهة الجامع الأموي وانظر إلى يسارك، لا تبصر إلا برحة واسعة ما فيها بنيان. ارجع إلى العهد الذي أخبر عن ذكرياته الآن لترى بناء من طبقتين، الداخلون إليه كثير والخارجون منه كثير. هذا يدخل والحديد في يديه فيخرج طليقاً، أو يدخل طليقاً فيخرجون به إلى السجن (في القلعة)، وهذا يدخل مدّعياً آملاً الربح فيخرج خائباً خاسراً دعواه، وذاك يخرج فَرِحاً رابحاً الدعوى.

(1) لا يزال قارئ هذه الذكريات يمر باسم المرجة حيناً بعد حين، فإن كان غريباً عن دمشق لم يزرها ولم يعرفها فربما حار في الأمر لأن المرجة -كما يعرفها عربي يفهم العربية- هي الأرض ذات العشب والنبات (وهي في اللغة بالتذكير لا بالتأنيث: المَرج لا المرجة. ومنها مُروج مشهورة في التاريخ: «مرج الصُّفَّر» إلى الجنوب من دمشق بينها وبين بُصرى (تحديداً بين قريتَي الكسوة وغباغِبْ)، وفيها انتصر المسلمون بقيادة خالد على الروم. و «مَرج راهط» ، وهو موضع إلى الشرق من دمشق بينها وبين حمص، انتصر فيه جيش مروان بن الحكم على جيش عبد الله بن الزبير عام 64هـ، و «مرج دابق» إلى الشمال من حلب الذي هزم فيه العثمانيون جيشَ المماليك وقضوا على دولتهم=

ص: 79

هنا كانت «العدلية» وإلى شرقها بناء أصغر هو «البريد» ، والبريد «مصلحة» القلوب والجيوب (1)، وحقيبة ساعي البريد فيها البشائر وفيها النذُر، يترقبه العاشق وينتظره التاجر، والأم التي غاب عنها ولدها تعدّ الدقائق لتأخذ رسالة منه تطفئ أو تخفّف من نار الشوق في صدرها، والطالب يقف على الباب وبصره على أول الشارع ليرى ما يحمل إليه موزّع البريد، هل يحمل خبر النجاح في الامتحان أو نبأ السقوط والخسران؟

وإلى قربها عمارات تطلّ على بردى، يقابلها من هناك «السراي» . وقد كانت في ذلك العهد (بل إلى ما بعده بربع قرن) تجمع -وحدها- وزارات الدولة كلها ومعها مجلس الوزراء،

= عام 922هـ). أما «المَرجة» المشهورة في دمشق فهي مركز المدينة وأهم ساحاتها، وتقع بين شارع النصر وحي البَحْصة. ويبدو أن اسمها جاء من ماضيها؛ حيث كانت في العهد المملوكي متنزّهاً غنياً بالخضرة والأشجار (يمتد إلى شرق موضع التكية السليمانية) حيث ينقسم بردى إلى فرعين يصنعان جزيرة بينهما. وفي عام 1807م أنشأ فيها والي دمشق العثماني «كنج باشا» مبنى للحكومة عُرف باسم «سرايا الحكم» (في نفس الموضع الذي قامت فيه بناية العابد من قريب)، وفي عام 1866 غطّى الوالي محمد راشد باشا نهرَ بردى في تلك الساحة، ثم شيّد فيها الوالي مدحت باشا مبنى البريد ومبنى العدلية عام 1878، ثم أنشأ فيها الوالي ناظم باشا مبنى البلدية عام 1895. والاسم الرسمي للمرجة اليوم هو «ساحة الشهداء»، سُمّيت كذلك لأن جمال باشا شنق فيها جماعة من العرب، وقد مرّ خبرهم في آخر الحلقة الخامسة من هذه الذكريات (مجاهد).

(1)

الجيب فتحة القميص عند العنق، ولكن لا بأس باستعماله على الوجه المعروف.

ص: 80

وبجنبها البلدية. ووراء العدلية والبريد جامع يَلْبُغا، له باب من الشرق يطل على سوق الخيل وباب من الغرب يخرج إلى «البَحْصة» ، ومدرستنا في صحنه من ورائه، ومئذنته وراء المدرسة تطلّ على الشارع الخلفي.

فماذا فعل ذلك كله؟ لقد ذهب!

أما هذه العمارات فقد أودت بها إحدى الحرائق الهائلة التي كانت تشهدها دمشق، و (حريقة) أخرى ذهبت بالدور المقابلة وكشفت جامع تِنْكِز (1) فقام هنا «فندق أمية» وقامت هناك عمارات حديثة. وأمّا البلدية فقد هُدمت وبيعت للسيد الشربتلي (المعروف) فأقام في موضعها عمارة كبيرة! وبنَت البلدية لنفسها بناءً ضخماً.

أمّا «بردى» فقد دفنوه حياً وجعلوا قبره شارعاً تطؤه الأقدام، وقد كانوا يدوسون فوقه من قبلُ حين ألزموه أن يمشي في «المرجة» تحت الأرض ليمشوا هم فوقها. وكانت المرجة في طرف البلد، تلتقي فيها خطوط الترام الذي جاءت شركة بلجيكية به وبالكهرباء سنة 1898 كما سمعت. وقد أُلغيَ في الشام من أكثر من ربع قرن، ولكني رأيته بذاته في بروكسل سنة 1970 لمّا زرتها.

وذهبت مدرستنا مع ما ذهب وذهبت معها قطعة من حياتي. وكم كانت لنا فيها آمال وكم حملنا فيها من آلام، فأين آمالنا فيها

(1) وكانت عندنا «مصلحة إطفاء» ، أُنشئت لمّا أحسّوا بالحاجة إليها عندما احترق مسجد بني أميّة الكبير، ثم بناه أهل الشام هذا البناء سنة 1311هـ، ولكن الإطفاء يومئذٍ لم يكن كالإطفاء اليوم.

ص: 81

وأين آلامنا؟ لقد كانت دنيانا كلها مختصَرة فيها، كما يُختصَر الكتاب في صفحات وكما تقطر قارورة العطر في قطرات، فأين دنيانا تلك يا ناس؟

أين مَن كانوا يقعدون فيها على المقعد الواحد؟ لقد رفع الدهر منهم قوماً ووضع آخرين، اغتنى ناس وافتقر ناس، وربما صار (بل لقد رأينا بأعيننا) ابن الآذن (الفرّاش) قد صار هو الرئيس، وابن الرئيس قد أمسى فرّاشاً أو مثل الفرّاش!

هذه هي الدنيا، فالأحمق من اطمأنّ إليها ووثق بدوامها، ولم يحسب حساباً لتداول الدول وتبدّل الأحوال، وظنّ أن ما نال منها من مال ومجد وسلطان باقٍ له؛ ما علم أنه لو دام على مَن قبله ما وصل إليه.

ثم مضى أكثرُ رفاقنا إلى حيثُ مَن مضى لا يؤوب؛ مضوا ليجدوا ما قدّموا مُحضَراً، فإمّا إلى جنة وإما إلى نار. فاللهمّ يا عفوُّ يا من تحبّ العفو اعفُ عنّا، واختم بالحسنى لنا ولمن صفّى قلبه مع الله، ومدّ يديه خاشعاً وقال: آمين.

وأرجو لكل من دعا لي بخير مثلَ ما دعا لي به، هذا والله ما أريده وهذا ما أحتاج إليه. لا أحتاج مالاً ولا منزلة ولا شهرة في الناس، كل ذلك لديّ منه الكثير، وكل ذلك سراب، تحسبه من بعيد ماء فإن جئتَه لم تجد إلا التراب. ما أريد إلا دعوة صالحة من مسلم صالح، تبقى سراً بينه وبين الله.

لقد قارعَت هذه المدرسة دهرها، فنزلَت حتى صارت مدرسة ابتدائية، ثم أدركها ما يدرك كلَّ ما سوى الله: من إنسان

ص: 82

وحيوان ونبات. أدركها الأجل الذي -مهما تأخر- فإنه آتٍ، فماتت، ولم تجد قبراً يدلّ عليها أو لوحة تشير إلى وجودها.

* * *

لمّا دخلت هذه المدرسة كنت قد ارتقيت أيام الأتراك إلى السنة الخامسة الابتدائية فردّوني لمّا تبدّلَت المناهج إلى الرابعة. ومرّت السنة ونجحت مرة ثانية إلى الخامسة، وكنت الثاني بين رفاقي. وتجدون في قسم الصور صورة «جلاء» (1) فيه درجاتي وإثبات نجاحي.

وانتقلت المدرسة لسبب لا أدريه إلى البناء الذي أقامه أحد الولاة الأتراك على بردى، بين التكيّة السليمانية والأخرى التي أنشأها قبلها السلطان سليم. والذي يشبه في طراز بنائه أبنيةَ القرون الوسطى: برجان من الجانبين وفوقهما سقف هرميّ من القرميد والباب الكبير بينهما، وقد كانت فوقه لوحة من الحجر مكتوب عليها «مدرسة دار المعلّمين» ، فانتقلت مدرستنا إليه. ثم صار كلية الحقوق (وكانت تُسمّى معهد الحقوق)، وقد تخرجت فيها ونلت شهادتها سنة 1933، ثم صار وزارة المعارف، وهو اليوم إدارة التعليم في دمشق.

ما لي أستبق الأيام؟ ولِمَ لا أنتظر حتى يصل بي -إلى ذلك- الكلام؟

(1) في الشام يسمّون الشهادة المدرسية «الجلاء» ، بقيت هذه التسمية القديمة إلى اليوم (مجاهد).

ص: 83

انتقلنا إليها، وصار مديرنا الدكتور كامل نصري، ومن مدرّسينا فيها الشيخ زين العابدين التونسي، وهو الأخ الأصغر لشيخ مشايخنا السيد الخضر حسين الذي صار -من بعدُ- شيخَ الجامع الأزهر، وأستاذ الأساتذة مصطفى تمر الذي كان المفتش الوحيد لمدارس سوريا، والشيخ أبو الخير القوّاس الذي اخترع الطريقة المنسوبة إليه في تدريس قواعد اللغة العربية (النحو والصرف)، وجعل للأمثلة لوحات كبيرة حروف الزوائد في كلماتها ملوّنة، ورتب عليها أسئلة، ثم صغّرها في سلسلة كتب كنا ندرسها اسمها «دروس القوّاس» ، وأشهد الآن أنها كانت أفضل الطرق. وكان يدرّسنا اللغة الفرنسية الأستاذ علي الجزائري.

وخرجنا مع أول مظاهرة مشينا فيها يتقدمنا طالب كبير، يسأل: ماذا تريدون؟ فنجيب بصوت واحد: ياسين باشا.

مَن ياسين باشا؟ ماذا نريد منه؟ لم أكُن يومئذٍ أدري! لكني علمت بعد ذلك أن الإنكليز -كما قال الناس- قد اختطفوه، فخرجنا نطالب بإرجاعه.

وفي تلك السنة قرر المؤتمر السوري، الذي كان يمثل سوريا ولبنان وفلسطين، نصب الأمير فيصل ملكاً، وكان تتويجه يوم 8 آذار 1920. وطالما كتبت بعد ذلك في ذكرى هذا اليوم. ودُعيت إلى حفلة التتويج وحضرتها مع رفاقي في المدرسة، ولكن «من بَرّا» ؛ وقفونا صفاً أمام السراي ثلاث ساعات على أقدامنا بلا طعام ولا شراب!

كذلك كانت مشاركتنا في الاحتفال وكذلك كانت معرفتنا

ص: 84

بعهد الشريف؛ نعيش فيه ولكن لا نرى منه إلا الظواهر، وما أبعدَ ما بين ظواهر الأحداث العامّة وحقائقها!

الذي رأيته في هاتين السنتين بقيَت حلاوة طعمه تحت لساني. كنت أظن أن دمشق في فرحة متصلة، في عرس لا ينتهي؛ المظاهرات مظاهرات الفرح، والحماسة التي عمّت الجميع، وسوق عكاظ للخطب في «النادي العربي» . وكان في الركن الغربي من ملتقى طريق الصالحية والطريق إلى بيروت، أمام فندق فكتوريا، ولقد كتبت عنه كثيراً وحدّثت عنه أكثر، وكان أبرز خطبائه -كما أذكر- الدكتور عبد الرحمن شهبندر، كان يخطب كأنه يتحدث، لا ينفعل ولكن يفعل بالسامعين ما يشاء، يُقيمهم ويُقعدهم ويلعب بمشاعرهم وبقلوبهم. ومن خطبائه شيخنا الشيخ عبد الرحمن سلام، وسيأتي عنه الكلام، ورجل نصراني كان اسمه حبيب أسطفان، خطيب نادر المثال.

وكانت نهضة عظيمة في الأناشيد، أشهرها «أيّها المولى العظيمُ .... فخرَ كلِّ العرَبِ» ، و «سِيرُوا للمجدِ، سيرُوا للحربِ» ، و «صليلُ الظُّبا وصريرُ القلمْ ..... لفكِّ القيودِ وقَشعِ الظُّلَم» ، و «افتَحوا لنا الطريقْ» ، وعشرات لا أزال أحفظ الكثير منها وأحفظ ألحانها.

ولمّا تكلمت في الرائي عن نشيد «بلادي بلادي منار الهدى» وقلت إن لحنه قديم أحفظه من صغري وأنا أؤكّد ذلك هنا تأكيداً جازماً، تعجّب الناس مني: من أين لشيخ مثلي المعرفة بالألحان؟ معرفتي بها من حفظي أولاً للأناشيد التركية، وأناشيد هذا العهد الذي أتحدث عنه. والثالثة أن معلمينا من المشايخ كانوا

ص: 85

يأخذون كل لحن يسمعونه، ولو كان لأغنية غرام مبتذَلة، فيؤلّفون كلاماً سخيفاً يزعمون أنه في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويُنزِلونه على اللحن. وقد أنكرت هذا في الصحف وفي الإذاعة وعلى المنابر من أكثر من أربعين سنة وأنكره الآن، ولكني أُقِرّ أني حفظت بسببه أكثر ألحان عبده الحامولي، ومحمد عثمان، وداود حسني (اليهودي)، وأمين حسنين، والشيخ أبي العلا، وسيد درويش، وزكريا أحمد.

ونشيد بلادي (السعودي) نُظِم معارَضةً لنشيد الرافعي:

بلادي بلادي هواكِ دمي

جعَلتُ حياتي فدىً فاعلمي

غرامُكِ أوّلُ ما في الفؤادِ

وذِكرُكِ آخِرُ ما في فمي

ولحنه جاء من هنا مَشوباً بشيء من لحن القصيدة التي كانت تغنيها أم كلثوم: «مِصرُ التي في خاطِري وفي فمي» لا من نشيد سيد درويش: «بلادي بلادي بلادي ..... لكِ حبّي وفؤادي» .

ولأنهم علّمونا في المدرسة «النوتة الموسيقية» مفصَّلة غاية التفصيل، وإن كنت لم أمسك بيدي آلة موسيقية فضلاً عن العزف عليها، وإنما هو علم نظريّ بها. كما أعرف (نظرياً أيضاً) المقامات والأنغام العربية وأنواع الضروب والإيقاعات، على مبدأ «تعلّم السحرَ ولا تعملْ به» ، وإن لم يكُن حديثاً.

* * *

وكان لي مع الشيخ زين العابدين التونسي (رحمة الله عليه وعلى أساتذتنا جميعاً) موقف أسأت فيه إليه وأنا لا أدري، وكان ذلك سنة 1919. وقد زرته آخر مرة ذهبت فيها إلى دمشق وقلت

ص: 86

له: أنت أستاذي

وبدأت أذكّره بتلك الأيام، فبان على وجهه الغضب المكتوم وقال: دع هذا الآن. قلت متعجباً: ولِمَ يا سيدي؟ قال: أنسيت أنك كنت تكذّبني وأنا ألقي الدرس؟

قلت: يا سيدي، أبعد أربع وخمسين سنة؟ والله إني مظلوم وبريء (كما يقولون في المسرحيات).

لقد كانت القصة أن الشيخ كان يدرّسنا التوحيد، وكانوا يبدؤون عادة بذكر الواجب والمستحيل والممكن، فجعل يضرب أمثلة على المستحيل ويسألنا: من يدّعي هذا ماذا نقول له؟ فنقول: كذّاب. وشرد ذهني ولم أنتبه إلى أنه انتقل إلى كلام آخر، فكنت كلما أكمل الجملة أقول:«كذّاب» !

رحمه الله؛ لقد كان مدرّساً نافعاً، وكان مؤلفاً يصنّف للطلاب الكتب التي توافق مداركهم وتسيغها عقولهم؛ ألّف «المعجم المدرسي» ، ثم ألّف رسالة ما سبقه أحدٌ -فيما أعلم- إلى موضوعها هي «المعجم في النحو والصرف» وجعله مرتَّباً على الحروف. وأنا أقترح على الأستاذ الكبير عبد الرحمن التونسي (والشيخ هو عمّ أمّه) أن يعيد طبعه وأن يسعى لتعمّمه وزارة المعارف على جميع التلاميذ، فإني لا أعرف كتاباً في حجمه يحوي مثل علمه ويفهمه التلاميذ مثل فهمه. وهذا شيء خطر على بالي الآن وأنا أكتب هذا الفصل، ما فكّرت فيه من قبل، ولكن أرجو أن يكون خدمة لذكرى أستاذي ومنفعة لأبناء بلدي، وأنا أعد هذا البلد بلدي وبلد كل مسلم يتوجّه في صلاته إليه.

* * *

ص: 87

وهنا جاء في طريق حياتي منعطف آخر.

كنت من أصغر تلاميذ صفّي (أو فصلي كما تقولون)، وكان عبد الحكيم مراد في مثل سنّي. وكنا لا نتكلم إلا الفصحى فكان التلاميذ الكبار يسخرون منّا وربما آذونا، وعلم أبي بذلك فأخرجني منها وأدخلني المدرسة الجَقْمَقيّة عند الشيخ عيد السفرجلاني.

ومنعطف أكبر منه كان في حياة سوريا كلها، هو موقعة «ميسلون» وانتهاء الحكم العربي وبداية الانتداب الفرنسي (1).

* * *

(1) وقعت معركة ميسلون في الرابع والعشرين من تموز عام 1920، وفي اليوم التالي دخل غورو إلى دمشق وبدأ الاحتلال الفرنسي للشام رسمياً (مجاهد).

ص: 88