المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

-35 -   ‌ ‌احتراف الصّحافة هذه صفحة جديدة من كتاب الذكريات، لا أنقل - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: -35 -   ‌ ‌احتراف الصّحافة هذه صفحة جديدة من كتاب الذكريات، لا أنقل

-35 -

‌احتراف الصّحافة

هذه صفحة جديدة من كتاب الذكريات، لا أنقل لكم كل ما فيها بل أنقل عناوينها ورؤوس فقراتها، أي أنني أُجمِل ولا أفصّل. هي صفحة احترافي الصحافة.

أما من حيث قرب هذه المهنة من نفسي فهي أحبّ إليّ من كل مهنة مارستها، ولو خُيّرت الآن لاخترتها دون ما سواها، بشرط أن أكون أنا وحدي المشرف على المجلة، وأن أكون حراً لا رأي فوق رأيي، ولا مُكرِه لي على نشر ما لا أريده أو طيّ ما أريده، وأن يكون معي من آتاه الله من المعرفة والإدراك ما يعينني به على عملي فيها، وأن يكون موافقاً لي لا مخالفاً؛ لا أريد أن يرى الخطأ مني ويسكت عنه مجاملة لي، بل أن ينبّه إليه بالأسلوب المناسب في الوقت المناسب، ثم إذا عزمت على الأخذ به أو إهماله لم يعترضني، لأن التبعة عليّ فمن حقي إذن أن يكون الحكم إليّ، وأن يمنّ الله عليّ بالمصحّح الحاذق؛ فإن مصيبة المطبوعات بمصحّحي المطبعة، ولو أن الخطأ كان تصحيفاً أو تحريفاً لهان الأمر، ولكن البلية حين يبدّل بكلمة في

ص: 367

الأصل لم يفهمها كلمةً من عنده أو يزيد على النص كلمة ليست فيه أو ينقص منه كلمة هي فيه.

ولو قعدت أحصي ما قاسيت من المصحّحين لجاء معي كتاب صغير أو رسالة كبيرة. لذلك أرجو من يريد يوماً أن يجمع مقالاتي أن يعرضها عليّ إن كنت حياً، أو ينظر في الأعداد التالية للعدد الذي نشرت فيه المقالة فلعلّ فيها تصحيحاً لغلط. وإني أرجو من أصحاب المجلاّت أن يجعلوا فيها مصحّحين أدباء، بشرط أن يتقيدوا بالأصل الذي كتبه صاحب المقالة، لا أن يحسبوها وظيفة إنشاء لطالب فيمرّوا عليها بالقلم الأحمر يعدّلون ويبدّلون، وأن يجعلوا لهم على التصحيح أجراً يقارب أجر رئيس التحرير، ثم يحاسبوهم على كل غلطة تفلت منهم بحسم اثنين في المئة من هذا الأجر.

* * *

قلت لكم إن أول اتصالي بالصحافة كان سنة 1926 (1344) لمّا نشرت مقالة في المقتبس، ثم ذهبت إلى مصر بدعوة من خالي محبّ الدين الخطيب، وكان نزولي عليه، فشاركت في تحرير مجلّتيه «الفتح» و «الزهراء» .

أما «الفتح» (واسمحوا لي أن أعود إلى الحديث عنها) فهي أول جريدة إسلامية، بل لقد كانت الجريدة الإسلامية الوحيدة؛ لم يكن صدر -فيما أعلم- غيرها، وكانت أسبوعية، ولكنها عالية الصوت مسموعة الكلمة، معروفة في الأوساط الإسلامية في بلاد الإسلام جميعاً، لها من التأثير فيها أكثر ممّا لجرائد ذلك

ص: 368

البلد. وكانت تُعنى بأمور المسلمين كلها على السواء، هي أثارت الدنيا على فرنسا يوم الظهير البربري، وهي أقامت الناس على إيطاليا لما صنعته في طرابلس، وكانت تجري فيها أقوى الأقلام الإسلامية كقلم شكيب أرسلان والرافعي ومحب الدين.

وأمّا «الزهراء» ، مجلّة الأدب الإسلامي، فكانت لمّا جئت مصر في دور النَّزْع، صدر منها أربع مجلّدات (1)، فلما دخلَت سنتها الخامسة نضب موردها وقلّ مالها، وأفلسَت، ولكنها كانت تجاهد جهاد المحتضَر لتدفع عن نفسها الموت، وقد صدر منها بعد وصولي عددان فقط، كتبت أنا أكثر ما نُشر فيهما. ولا أقول إن الذي كتبتُه كان من الأدب الجيّد، ولكن أقول إنه كان فوق محاولات المبتدئين ودون كتابة المطبوعين المجوِّدين.

كان هذا في مصر سنة 1928، فلما عدت إلى الشام واضطُررت إلى العمل لأفرّغ طاقة من النشاط كانت في نفسي، ولأكسب شيئاً من المال أعود به على أهلي، أخذني أخي أنور العطار إلى الأستاذ معروف الأرناؤوط (وكانت له معرفة به) فربحت -كما سترون- الكثير من أدبه، ولكني لم أصل إلى كثير ولا قليل من ماله.

كان معروف أديباً ولم يكن صحفياً، لا أعني الأديب الذي أخذ من كل شيء بطرف كما قال ابن خلدون، فمعروف لم يأخذ إلاّ شيئاً واحداً هو الأدب، أخذه من أطرافه كلها وترك له كل شيء. ولا أعني الأديبَ الذي روى الشعر وحفظ الأخبار ووعى

(1) جمع مجلّدة، ولو أردت المجلّد لقلت أربعة.

ص: 369

التاريخ، فمعروف لم يكن راوية ولا حافظاً ولا مؤرّخاً. ولا أعني الأديبَ في عُرف العامّة، وهو الرجل المهذّب الحواشي الرقيق الطبع العفّ اللسان، فما كان لسان معروف عفيفاً ولا نظيفاً، وكان إذا غضب نطق بأشنع السّباب وأبشع الشتم، وكله من تحت خط الاستواء في جسد الإنسان

أي من تحت «الزنّار» !

ولكن أعني الأديب الذي تجالسه فتجالس «طفلاً» كبيراً، وتراه فترى صفاء الطفولة وجمالها، وتسمع له فينقلك -إذا كان راضياً رائق المزاج- إلى عالَم ما فيه إلاّ الجمال والحب، عالَم القلب. وتقرأ له فينقلك إلى دنيا غير دنيا الناس، يصوّر لك (في رواياته) فيافي الجزيرة وأودية فلسطين ومفاتن إسطنبول مزيَّنةً بالسحر والشعر، مضمَّخةً بالطيب والعطر، حتى لتظنها جِنان الأحلام وتشكّ (إن كنت تعرف هذه البلاد) هل هي التي يصفها معروف أم أن في قلم معروف سحراً.

فمَن جالس معروفاً فقد عرف الكاتب الأديب، ومن قرأ لمعروف ولم يجالسه لم يعرف إلاّ جانباً من هذا الأديب الكاتب، ومن لم يقرأ له ولم يجالسه فقد فاته حظّ من الأدب العربي الحديث. هذا كله على ألاّ تعامله ولا تتخذه قدوة لك في الحياة. أستغفر الله وأسأل الله له الرحمة، فلقد كان مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً.

وكان يظهر إيمانه على أسَلات (1) قلمه: لمّا غلب اليونان بمعونة الحلفاء على أزمير في نهاية الحرب الأولى وجعلت

(1) الأسَلة هي العود الطويل أو هي طرف الشيء المستدقّ، يُقال: أسلة النصل وأسلة اللسان، ومنه أسَلة القلم أي طرفه (مجاهد).

ص: 370

عساكرهم تجول في طرق إسطنبول تنبّهَت الصليبية في نفس كاتب نصراني في الشام، فكتب متشفياً معرّضاً بالسلطان العظيم محمد الفاتح. وتألّم معروف كما تألّم المسلمون ولكنه ما تكلم، حتى إذا طُردوا من أزمير وعادت إلى الترك المسلمين، كتب مقالة تستحق أن تُسطّر -كما كان يقول الأوّلون- بماء الذهب، وقعت على قلوب المسلمين برداً وسلاماً وعلى قلوب «الآخرين

» جمرة وضِراماً.

وكان في المدرسة أجهلَ الناس بالحساب، فلما كبر عُني به حتى أتقنه وصار من كبار الحاسبين، وبلغ من حذقه أنه حفظ عن ظهر قلب عدد أيام الأسبوع وشهور السنة، وأدرك عشر العشرة ومعشار المئة، وعرف قطر الدائرة وقاعدة المثلث، وصار يعرف أن ستة في سبعة تساوي سبعة وثلاثين، وفي رواية سبعة وأربعين، ولم يحقق أيها الصحيح منهما فالمسألة فيها قولان!

ولكنه لم يصل إلى معرفة الباقي من الريال (المجيدي) بعد شراء علبة الدخان، فكان يشتم البيّاع كل مرة عشرين شتيمة، منها أربع على الأقل من الشتائم المبتكَرة التي لم ينطق بها قبله أحدٌ من الهجّائين، لا الحطيئة ولا جرير ولا دعبل ولا المتنبي، ويتهمه بالسرقة والاحتيال، حتى يجتمع ثلاثة من المارة ويعدّوا القروش ثلاثاً من المرات، ويحلفوا له ثلاثاً من الأَيْمان على أن البياع لم يسرقه ولم يحتَلْ عليه.

وكان قليلَ البضاعة في الأدب العربي، ولكنه كان مطّلعاً على الأدب التركي، وكان آية في معرفة الأدب الفرنسي لا سيما شعر الحب والعاطفة، وكنت تسمع منه تلخيص قصيدة لموسّه

ص: 371

أو قطعة لشاتوبريان فتظنه أشعر من شاتوبريان ومن موسّه، ولقد سمعت منه قصة «جوسلان» للامارتين ثم قرأتُها، فوجدت تلخيص معروف أحلى من شعر لامارتين!

ولمّا شرع يؤلّف «سيد قريش» لم يكن قد جدّد دراسته للتاريخ فكان مستشاره الحاج فلان (طمست اسمه بعد أن كتبته) وهو رجل قرأ في زمانه التاريخ ونسيه ثم نسي أنه نسيه، فكان معروف كلما سأله عن حادثة من الحوادث يكدّ ذهنه وينبش ذاكرته، ويتلمّس من بين المعلومات القديمة التي غطّى عليها غبار الزمان حقائق لم تصل إلى علم أحد من المؤرّخين فيقول له ما مثاله: طلع العرب يوم «ذي قار» من الرياض وهجموا على الظهران، وكان يقودهم أبو الأسود الدؤلي الذي وضع علم الفقه، وكان بطل المعركة الوليد بن هارون الرشيد الذي قال فيه المتنبي:

قادَ الجيوشَ لسبعَ عشرةَ حِجّةً

كادَ المعلّم أن يكونَ رسولا

ومعروف يدوّن هذه الحقائق ويجعلها دعائم لبنائه القصصي، ثم يصب فيها عبقريته الفنية ويجمّلها بفنه العبقري، حتى إذا أتمّ كراريس من الكتاب وطبعها جاء مَن ينبّهه إلى هذا التخليط العجيب، فثار وفار ومزّق ما طبع، وسَمّى صاحبنا «أباجهل» وراح يخصّه في الحضور وفي الغياب بأجمل ما تفيض به قريحته من السباب، وذاك يضحك منها ولا تزيده إلاّ شحماً ولحماً وزيادة في الوزن وفي حب الأكل (1).

(1) راجع مقالتي في جريدة الأيام، أيلول 1961.

ص: 372

كان في دمشق يومئذٍ (أي سنة 1930) أربع جرائد: «المقتبس» و «ألف باء» و «الشعب» و «فتى العرب» ، وجرائد أخرى ليست في منزلة هذه الجرائد ولا هي مُطّردة الصدور مثلها.

وكانت إدارة «فتى العرب» في العمارة الصغيرة التي كانت بين قصر الحكومة (السراي) والبلدية وسينما غازي وهُدمت، وكانت تشتمل على دكّانَين فوقهما بهو واسع، وكانت هيئة التحرير (وهي مؤلّفة من الأستاذ معروف ومنّي!) في دكّان، والإدارة والتوزيع في دكّان يشرف عليهما موظف واحد

وكان فوقه المطبعة وعُمّالها.

وكان عمالها من الصفوة المختارة لأن خط معروف كان أعجب خطّ رأيته، وكان الناظر إليه أول مرّة لا يدري هل الذي يراه خرابيش ولد مبتدئ أم نوع من الخطّ المسماري القديم. لذلك لم يكن يقدر على قراءته إلاّ من تعوّد عليه من مَهَرة العمال.

هنا كتب معروف رواياته «سيد قريش» و «عُمَر بن الخطاب» (التي لم يكن فيها عن عُمَر إلاّ العنوان) و «طارق بن زياد» و «فاطمة البتول» ، كان يكتبها في هدأة من الليل حين تخلو الساحة من الناس ويسكن الجوّ وتصفو النفس، وأمامه بردى، وإن كان بردى يصل إلى المرجة عجوزاً وانياً، ليس هو بردى الشاب الذي يقفز على صخرات الوادي يتوثب من القوة ويكاد يتفجر بالنشاط. ولم يكن قد جاء دمشقَ هذا البلاء الذي عكّر صفاء الليل وأطار نوم النائم، وزاد أوجاع المريض وعطّل عن دراسته الطالب، لم يكن في دمشق كلها إلاّ رادّ (راديو) واحد جاء به محمد علي بك العابد، ثم جاء الأمير سعيد الجزائري (حفيد الأمير عبد القادر)

ص: 373

بالثاني. هنالك كان معروف يوقد على النارجيلة ويُعِدّ القلم، فيأخذ من نارجيلته السمّ ويُعطي من قلمه العسل.

كانت الجريدة في أربع صفحات، وكانت العادة أن يكون في الصفحة الأولى ثلاث مقالات. وقد ابتكر يوسف العيسى صاحب «ألف باء» زاوية سَمّاها «مَباءة نحل» لأنها تقرص قرص النحل، قلّدها كثيرون، وكنت أنا ممّن قلّدها في «فتى العرب» فكتبت زاوية «مذكّرات خُنفشاري» ، ولم يفلح أحدٌ في تقليدها لا أنا ولا غيري. وفي الصفحة الثانية والثالثة الأخبار المحلّية وأخبار المناطق، وفي الرابعة الأخبار العالمية، وكانت تؤخذ من وكالتَي رويتر وهافاس (الفرنسية)، وخلال ذلك كله الإعلانات.

ولم يكن لأكثر الجرائد يومئذٍ مراسلون فكان المراسل المقص. ولمعروف في هذا الباب نوادر؛ كان يجيئه العامل فيقول له: أستاذ، ينقصنا ربع عمود. فيقول: من أين آتيك بربع عمود يا أخا الـ

وينطق بالكلمة الشامية التي يقولها صبيان الأزقّة! ثم يقول له: انتظر. ويبحث في زوايا ذاكرته عمّا يحفظ من أسماء البلدان في درس الجغرافية ويكتب: «أوتاوا، شبّت النار في مخازن للخشب شمالي المدينة وأسرع إليها رجال الإطفاء، وكانت الخسائر كبيرة لكن لم يُصَب أحد من الناس بأذى» . «شيكاغو، وقعت معركة بين رجال العصابات وبين الشرطة كان سلاحها المسدسات والقنابل، وانتهت بالقبض على زعيم العصابة وإصابة شرطيَّين بجروح طفيفة» ، ومثل هذه الأخبار.

ومن أعجب اختراعاته ما أشرت إليه من قريب في المقابلة التي «أجراها» معي الرائي. ذلك أنه لمّا كانت الحرب بين الأفغان

ص: 374

والإنكليز جاءه العامل فأخبره أن لديهم فراغ عمود كامل. قال: عمود كامل يا ابن الكذا وكذا؟ أبوك وأمك! ولما فرغ من شتمه وجد أن العمود لا يزال فارغاً ما ملأته الشتائم، فماذا يصنع؟ تخيّلَ معاهدة صلح بين المتحاربين وكتب موادّها وحدّد شروطها، وزعم أن مراسل الجريدة الخاصّ في كابول استطاع أن يحصل على نَصّها الذي يُنشَر لأول مرة.

وبلغ من إحكامها أنْ أخذها مراسل «هافاس» فبعث بها إلى الصحف التي يراسلها فنشرتها، وكانت جرائد مصر (الأهرام والمقطّم) تنقل عن جرائد أوربا ونحن ننقل عن جرائد مصر، فما مرّت أيام حتى نقلتها جرائدنا عن الأهرام والمقطم، ولم يكن أحدٌ ليعرف الحقيقة لو لم يعلنها أديب الصفدي فتُنشَر في صحف أوربا وتصير حديث الناس.

وكان له مع الحُكّام أسلوب عجيب؛ دخل مرة على واحد من رؤساء الوزارات (أعرفه)، كان من عادته أنه يفتح بابه لأصحاب الحاجات فيسمع منهم، ثم يأخذ الهاتف فيكلم الموظف (المختصّ) يقول له:"آلو، أنا مرسل إليك فلاناً فاقضِ حاجته حالاً". وكان هذا الهاتف مقطوع الشريط. فدخل عليه معروف بعد أيام ومعه كيس قدّمه إليه، فوجد فيه الرئيس قطعة شريط. قال: ما هذا؟ فقال: مولانا، العفو. جئتك بهذه القطعة لتصل بها شريط هاتفك لأنه مقطوع على ما يظهر. فضحك وكلّم له الموظف بالهاتف الثاني.

وكان الرؤساء يدعون أصحاب الصحف، فيوزّعون

ص: 375

عليهم مبالغ من المال ليكتبوا لهم ما يريدون (أو يريد أسيادهم المنتدِبون)، فاستقلّ معروف مرة المبلغ وجعل يساوم يطلب أكثر منه، فقال له الرئيس: ما هذا، هل هي قضية بيع وشراء؟ قال: نعم، إننا نبيعك ضمائرنا.

يبيعون ضمائرهم! فيا ما أرخص الضمائر في سوق النفاق!

وكان لكثرة ما يكتب في الشؤون الإسلامية يحسبه الناس -من بعيد- شيخاً صالحاً عابداً ويتصورونه متعمّماً ملتحياً، مع أنه كان أول من حلق شاربَيه في دمشق، وكان مفرَداً في ذلك. وقد زاره مرة جماعة من علماء الهند وكان يدخّن في النارجيلة، فقالوا له: أين مولانا الشيخ معروف؟

قال: فخفت إن قلت لهم "أنا هو" أن يكسروا النارجيلة على رأسي، فقلت لهم: سيأتي قريباً، فتفضلوا اقعدوا. ورفعت النارجيلة وجعلت أرقب الطريق، فمرّ الشيخ أديب تقيّ الدين نقيب الأشراف فقلت: ها هو ذا. وأشرت إليه ففهم، ودخل بهيئته وهيبته وجبّته، فقاموا إليه يقبّلون يده ورأسه.

ولست أريد أن أتقصّى أخبار معروف، وإن كنت أعرف منها الكثير، وما ذكرت منها هذا الذي ذكرت إلاّ لأجلو للقرّاء صورة من الحياة في ذلك العصر.

لبثت مع معروف خمسة أشهر استفدت فيها من أدبه، وإن (نسي

) أن يدفع لي حقي في ماله على عملي عنده، واستحييت أن أطالبه. ولقيت عنده كثيراً من الصحفيين والأدباء، ولكن لم

ص: 376

أخالطهم ولم أندمج فيهم، وكان اجتماعي بهم في الجريدة في ساعات العمل، لم أقترب من مجالسهم في غيرها أو في غير وقت العمل، وكانوا يوقّرونني -على صغر سني- فلا يتحدثون عنها أمامي، وإن كانوا في حديثها ودخلت عليهم قطعوه أو بدّلوه، وما كنت يومئذٍ أسكت على منكر أراه ولا أستكبر أحداً عن أن أنكر عليه.

جاء شوقي أمير الشعراء دمشق مرة، فأغراني أنور العطار رحمه الله بأن أذهب معه لزيارته، وكان في فندق خوام الذي هُدم الآن وصار مكانهُ شارعاً. فوجدنا بشارة الخوري وشبلي الملاّط وشفيق جبري وحليم دموس، ومجموعة من الشعراء من هذه الطبقة، وأمامه مائدة عليها أواني الخمر. وكنت أحمل عصا فمددتها ومشّيتها على وجه المائدة، فحذفت كل ما كان عليها فكسرته! وتستطيعون أن تتخيلوا ماذا صار! اختلطَت بهم كاختلاط الزيت بالماء لا كاختلاط الماء بالخلّ.

* * *

كنت أكتب المقالة الثانية كل يوم، وربما كتبت الافتتاحية، فهذه أكثر من مئة وأربعين مقالة ما بقي لديّ منها إلاّ أربع أو خمس. أعود إليها اليوم لأقرأها بعين الناقد فأجدني راضياً عن أسلوبها وعن أفكارها، مع أني كتبت بعدها مقالات لا أرتضيها ولا يسرّني أن تُنسَب إليّ، منها مقالة «إلى مجلس المعارف الكبير» الذي كان يُعقَد أحياناً، نقدت فيها وزارة المعارف نقداً صادقاً صريحاً حمَل مستشار المعارف (راجِه) وجبّارها دنلوب

ص: 377

الشام، على زيارة الجريدة نفسها ليقابل كاتب المقالة ويوضّح له ما غمض عليه، ومعه ترجمانه ميشيل السبع.

والمقالة عندي، وقد لَخّصتُ فيها قصة ألفونس دوده «الدرس الأخير» الذي يصوّر فيها ضياع الألزاس من فرنسا بعد حرب السبعين (1870)، وجعلتها مدخلاً للكلام (1).

* * *

(1) في الحلقة الآتية جزء من هذه المقالة، وفي أول مقالة «لغتكم ياأيها العرب» -المنشورة في كتاب «فِكَر ومباحث» - إشارةٌ إليها وطرفٌ منها أيضاً. وقد كانت حلقةً من سلسلة عنوانها «أحاديث ومشاهدات» دأب جدي رحمه الله على نشرها في «فتى العرب» سنة 1930، وأكثر المقالات القصيرة التي يضمها القسم الثاني من كتاب «مقالات في كلمات: الجزء الثاني» مختارَة من هذه السلسلة، فمَن شاء من القرّاء أن يطّلع على أسلوب علي الطنطاوي في تلك الأيام فليقرأها هناك. انظر الصفحات 219 - 240 من طبعة دار المنارة الجديدة من الكتاب المذكور (مجاهد).

ص: 378