الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-30 -
النجاح في البكالوريا
والسّفر إلى مصر
مرت بمكتب عنبر قبلنا أفواج وأفواج، لكن لم يلقَ واحد منها ما لقيناه من عقبات عند دخولنا إليه وخروجنا منه.
كان مَنْ قبلنا يدخلون إليه من الباب المفتوح، فما هي إلاّ أن يُبْرِزوا الشهادة حتى يُدعَوا إلى الدخول، فوضعوا أمامنا نحن سداً لم نستطع أن نتخطاه بشهاداتنا وحدها بل بمسابقة أجروها بيننا، فلم يدخله إلاّ السابقون منا.
وكان مَن قبلنا يمتحن في المدرسة بما تعلّم فيها، فيُمنح إجازتها ويخرج منها، فلما عُدت إلى المدرسة بعد ابتعادي عنها واشتغالي بالمحاسبة وبالتجارة، كان ذلك في سنة 1927 وكانت عودتي إلى شعبة الأدب، ووفّق الله وكنت الأول بين رفاقي. في آخر تلك السنة حين لم يبقَ منها إلاّ شهران فوجئنا بإحداث نظام البكالوريا وبقرار الفرنسيين أن تُطبَّق علينا المناهج التي تطبق على طلاب فرنسا، وأن تُقرّر لنا الكتب التي كانت مقرّرة لهم ..
واستعدّ لها من كان أمامنا الاستعداد الذي قدروا عليه في المدّة القصيرة التي كانت قد بقيَت بينهم وبينها، وكانت نسبة النجاح ضئيلة، بل كانت مرعبة إذ كان الناجحون (فيما أذكر) لا يزيدون على ثلث الطلاب. وكان منهم (أو كان فيمن يخطر على بالي الآن منهم) جميل سلطان، وزكي المحاسني، وعبدالكريم الكرمي (أبو سلمى)، وبشير العظمة، ومنير شورى، وعبد الباسط العلمي، ومن حلب أسعد الكوراني.
وكنا نحن بعدهم، فتهيأنا من أول السنة لامتحان البكالوريا، ومن العجائب أني تركت شعبة الأدب ودخلت البكالوريا في شعبة العلوم! ومرّت السنة وساقونا إلى الامتحان في البناء الذي كنت حدثتكم عنه لما انتقلَت إليه مدرستنا (السلطانية الثانية) سنة 1919. هذا البناء القائم بين التكية الكبرى (تكية السلطان سليمان القانون) والتكية الصغرى (تكية السلطان سليم) على نهر بردى، بعمارتها التي تشبه قصراً صغيراً من قصور أوربا في القرون الوسطى.
جمعوا فيه لهذا الامتحان الرهيب طلاب الثانوية الرسمية (مكتب عنبر) والمدارس الأهلية الإسلامية، والمدارس النصرانية: العازارية والفرير واللاييك وغيرها، وطالبات هذه المدارس كلها. وجاء اليوم الذي لا أنساه، يوم وقفنا نستمع إلى «دنلوب» سوريا المستشار المسيو «راجِه» يقرأ أسماء الناجحين، وكان قلبي كما قال الشاعر:
كأنّ قَطاةً رُكّبَتْ بجناحِها
…
على كبدي من شدّةِ الخفقانِ
ويظهر أن الشاعر من كثرة اضطرابه خلط بين الكبد وبين
القلب (والعرب تسمي القلب كبداً). وكانت كلّ خلية في جسدي أذناً مرهفة تستمع؛ أتصوّر الرسوب فأنظر أين أهرب حتى لا يراني الناس وإلى أين أهرب حتى لا يعيّروني برسوبي، تمرّ عليّ الخواطر كأنها شريط سينما قد أفلت فهو يكرّ بسرعة حتى ما يستطيع الناظر إليه أن يتبيّن مشاهِدَه، لا أنظر إلى أحد ولا ينظر إليّ أحد قد شُغل كلٌّ بنفسه. وفجأة سمعت المستشار ينادي: بوش غا كود سي آلي تان تاوي (أي بشرى قدسي، علي طنطاوي).
لمّا سمعت اسمي لم أعُد أبالي بشيء، وصار همّي أن أجد طريقاً لأحمل فرحتي وأخرج بها لئلاّ تسقط مني وسط الزحام. لقد كانت إحدى الفرحات القليلة التي أحسست بها في حياتي، فهل يُكتَب لي أن أسمع اسمي مع الناجحين مرة ثانية في الامتحان الأخير الذي ليس له دورة ثانية ولا لمن خسر فيه سبيل إلى إعادته؟ والله ما لي عمل أقدّمه لأستحقّ به النجاح في ذلك اليوم، ما أتكل إلاّ على كرمك يا كريم، يا أكرم من كل كريم، يا رب.
* * *
ثم كانت مفاجأة أخرى! جاء كتاب من خالي مُحِبّ الدين يخطب أختي لشريكه عبد الفتاح قتلان، فوافقَت هي ووافقنا، ودعاني أن أذهب بها إلى مصر.
إنكم لا تدرون ماذا أثارت هذه الدعوة في نفسي من مشاعر وفي ذهني من خواطر. كانت مصر في خيالنا يومئذٍ دنيا مسحورة فيها العجائب، وكل مرغوب فيه يأتينا منها، المجلاّت
والصحف، الحركات الفكرية والوطنية تنبثق منها، الرجال الذين نقرأ لهم والشعراء الذين نحفظ شعرهم منها
…
وكان تخيّل ذهابي إليها أكبر من أن يمرّ وصفه من شقّ القلم، والتعبير عنه مهما كان بليغاً لا يبلغ حقيقته.
وكنت أسمع أن الأحرار من أرباب الأقلام ومن عُشّاق الحرية يؤمون مصر: أستاذنا محمد كرد علي، ومن قبله شيخ مشايخنا السيد رشيد رضا، ومن بعده خالي وأستاذي محب الدين، يأتون من كل مكان من المغرب، من الجزائر، من تونس، من ليبيا
…
فلما طلب إليّ أن أسافر إلى مصر تراءى لي هذا الحلم دانياً كأني ألمسه. ولكن كيف أترك أمي وما عشت يوماً بعيداً عنها، وقد صرت أنا رجل البيت (كما يقولون) بعد موت أبي؟ وكيف أفارق دمشق وأنا لم أخرج منها إلاّ إلى ضواحيها وقراها، حتى بيروت أقرب المدن إلينا وأمسّها صلة بنا ما زرتها ولا عرفتها؟ وإذا كنت أعجز عن السفر وحدي، فكيف أتولّى أمر أختي وحمايتها وحمل أمانة صيانتها وإيصالها؟
وأُعِدّ جواز السفر، ولا يزال عندي (في دمشق) بأختامه وسِماته وتأشيراته. كنت على عتبة العشرين وكانت أختي أصغر منّي بما لا يزيد إلاّ قليلاً عن أربع سنين، ولكني مع ذلك أذكر يوم ولادتها، أراه واضحاً من وراء سبعين سنة، فكيف أذكره وقد كنت ابن أربع سنين؟
كنت مع عمتي في دار الشيخ عبد الوهاب، وهو خال أبي ولكني أدعوه عمي. وكانت لنا جارة من فرط حبها لنا وَصِلَتِها
بنا وأنها ربتني وأولتني من حبها، لا أقول مثل الذي أولَتني أمي ولكن قريباً منه، لقد كبرت ولا أعتبرها إلاّ قريبة لي. جاءت تخبرنا أن أمي في المخاض، وهي تريد أن تأخذنا إليها وتأخذ القابلة في طريقها. وكانت بين الأحياء بوّابات تُغلَق بعد العشاء ويقوم الحارس من ورائها فلا يفتح إلاّ لمن عرفه واطمأنّ إليه، فنادينا من وراء البوّابة:"قضية ولادة، نريد أن نأتي بالقابلة" ففتح لنا.
* * *
وكنت أسمع من صغري أن لي عماً في إسطنبول يلاحق دعوى قضائية على وقف بيننا وبين آل الصلاحي، بقيَت في المحاكم ما بين دمشق وإسطنبول
…
تدرون كم؟ قد لا تصدقون إن قلت لكم (وما أقوله الحقّ) ثلاثاً وثمانين سنة! مات من أقام الدعوى ومات من أقيمت عليه، ومات أولادهم وجئنا نحن، فما أدري والله هل كان الحقّ معنا أم كان علينا، ولكن أهل «باب المُصلّى» في دمشق يسمّون البستان المتنازَع عليه «جنينة الطنطاوي» ، والله أعلم. فما قيمة حقّ يصل إليه صاحبه بعدما يموت هو ويموت ولده؟ أتدعو ضيفاً إلى عشاء فتؤخّره حتى يموت من الجوع، ثم تتصدّق به على قبره؟ وكنت أسمع أن لي خالاً في مصر يكتب في الصحف في المؤيّد والأهرام، وله مطبعة وله مجلّة، ثم قدم أيام الاستقلال ثم حُكم عليه بعد ميسلون ففرّ إلى مصر. وكنت أحب السفر إلى مصر لألقاه.
وجاء يوم السفر، وكان اليوم الثامن والعشرين من أيلول (سبتمبر) سنة 1928، وجئت محطّة الحجاز، هذه العمارة التي
كانت (وأظنها لا تزال) تحفة في فنّ البناء، ومثلها (وإن كانت دونها في جمالها) محطة العنبرية في المدينة. وقد سمعت أنهم يفكّرون في هدمها، فإذا قبلتم مني فدَعوها، دعوها فكأنكم إن هدمتموها قتلتم رجلاً في ذهنه تاريخ وفي جعبته تحف ومعه قطعة من بلادكم، فلا تبتروا قطعة عزيزة من جسد بلادكم.
وكانت المحطّة "مائجة بأهلها كما يموج البحر بمياهه، فمِن مسافر عجِل ومن مودّع باكٍ، ومن بائع ينادي، ومن آتٍ وذاهب وطالع ونازل. وكنت منزوياً في ركن من أركان القطار المسافر إلى حيفا وإلى جانبي أختي الصغيرة، أنظر إلى بعيد فأرى هناك، في أخريات الناس، امرأة تمسك بيدها طفلين متلفّعة بملاءة لا تُبدي منها شيئاً، ولكنّ وراء هذا القناع الأسود عينين تفيضان بالدمع عالقتين بمكاننا في القطار، وخلال تلك الضلوع قلباً يخفق شوقاً ويسيل حباً، ووراء هذه الوقفة الساكنة الهادئة ناراً تضطرم في الجوف وزلزالاً يدكّ نفسها دكاً، بَيْد أنها صبرت على هذه كما صبرت على غيرها، فأجزل اللهمّ لها الأجر على هذا الصبر.
وصفر القطار يحملنا إلى مصر فازداد القلب خفقاناً واضطراباً، ثم نفث دخانه كأنما هو حيّ تملّكه موقف الوداع، فزفر زفرة الحزن الدفين والألم الحبيس، ثم هدر وسار. وراحت المحطّة تبتعد عنا وعيني عالقة بيد تلك المرأة التي تلوّح لي بمنديل أبيض
…
حتى غاب عنّي كل شيء:
وتلفّتَت عيني فمُذْ خَفِيَتْ
…
عنّي الطّلولُ تلفّتَ القلبُ
هنالك رأيتني وحيداً، ورأيت القطار يجدّ لينأى بي عن أهلي وبلدي" (1).
* * *
كان القطار يسير من دمشق إلى حيفا النهار بطوله، فإذا وصل حيفا مساء بات المسافر فيها، حتى يصبح فيركب قطار فلسطين الذي يخرج في الثامنة صباحاً فيمشي إلى حدود القناة، وهنالك ينزل منه المسافرون فيركبون «معدّية» تنقلهم إلى الضفة الأخرى منها، فيجدون قطار مصر الذي يصل القاهرة الساعة العاشرة والنصف ليلاً.
خلفت ورائي عالَمي الذي أعرفه كله وأقبلت على عالَم كله جديد، وكنت موزَّع اللبّ بين حزن الفراق، وحماية الأخت، والتطلّع إلى ما أنا مقبل عليه.
وأنا لا أحب السفر إلاّ في القطار، فإنك تستطيع أن تقوم فيه وتقعد، وإذا نعست قدرت أن تنام، وإذا جعت وكان معك مال قصدت المطعم. وأنظف المطاعم عادة وأغلاها مطاعمُ القطارات، تأكل والدنيا تمرّ بك، تمشي أمامك مشي الجند أمام القائد الذي وقف يعرضها (أي يستعرضها)، تبدأ غداءك أو عشاءك في بلد وتنتهي منه في بلد، وإذا وقف القطار في محطة استطعت أن تخرج فتمشي فيها.
(1) هذه قطعة من مقالة لي في «الرسالة» سنة 1937.
قلت: والمقالة منشورة في كتاب «من حديث النفس» وعنوانها: «ذكريات» (مجاهد).
لا كراكب الطيّارة الذي يسافر كأنه محبوس مصفّد بالأغلال، عالَمه الذي يستطيع أن يتحرك فيه ما بين مقعده والحمّام أو موضع التدخين، وإن كان سفرك طويلاً وكان جارك مزعجاً، أو كانت أماً معها أولاد لا يسكنون ولا يسكتون، كانت السفرة تعذيباً وعملاً شاقاً. ولقد ضايق الأولاد المضيفة (1) مرّة يَعْدون بين رجليها، يكادون يُسقطون طباقها وكؤوسها فقالت لهم: يا أولاد، اقعدوا أو اطلعوا العبوا «برّا» !
وكنت أنا وأختي من ركّاب الدرجة الثالثة، اخترناها لأن القطار لم يكُن فيه درجة رابعة! وما أكلنا في المطعم ولا عرفنا أن في القطار مطعماً يأكل فيه الناس، وما أدري فلعل قطارات تلك الأيام لم تكُن فيها مطاعم.
كنت مُقدماً على عالَم مجهول، فلا أخطو خطوة إلاّ بعد التفكّر في عواقبها. ووصلنا حيفا، ورأيت البحر أول مرة في عمري، ما رأيته قبلها. وكنت خائفاً ولكني أتجلّد وأتظاهر بالجرأة والمعرفة. هل أُطلِع أختي على تهيّبي وخوفي؟ ومشينا وأنا أوهمها أني أدري إلى أين أسير، وما كنت أدري شيئاً حتى رأيت لوحة فندق فدخلته، وكان أول فندق أدخله في حياتي.
قلت لكم إني لم أخرج من دمشق من قبل إلاّ إلى ضواحيها
(1) ذكر الشيخ رحمه الله هذه الطرفة مرة أخرى في الحلقة 101 من هذه الذكريات، فعلّق عليها في مثل هذا الموضع بقوله:"وجود نساء مضيفات يسافرنَ بلا محرم ويَبِتْنَ حيث نعلم ولا نعلم عادة سيّئة، يحرّمها دين الإسلام وتأباها خلائق العرب"(مجاهد).
أعني مكاناً يبيع الحمّص والفول، وكان فارغاً فقعدنا وأكلنا، وهي لا تعرف كيف تأكل والناس ينظرون إليها: أتكشف وجهها أم تأكل والخمار مُسدَل عليها؟ ومرّ الأمر بسلام فلم يكُن هناك أحد. وخرجنا نرى البلد، فمن جهلي دخلت المرفأ المظلِم بدلاً من أن أقصد الشوارع المضيئة، ثم خفت أن يظنّ الناس بنا شراً إذ يرون شاباً وبنتاً منفردَين في المرفأ الخالي فخرجنا، ولم أهتدِ إلى طريق البلد، فأظهرت أني أريد النوم حتى ننهض مبكّرَين لنلحق القطار، مع أن محطة القطار إلى جنبنا ما فارقناها ولا ابتعدنا عنها.
وأصبحنا فركبنا قطار فلسطين، ومرّ على تلك البلاد والبساتين التي كانت جنّات أضعناها لمّا تركنا الواغلين يدخلون علينا، وبعناهم أرضنا، واختلفنا وتنازعنا حتى اتحدوا علينا، وأعانهم ناس ليسوا من دينهم ولكن عداوتنا وبغضهم لنا وحّدَهم علينا.
ولمّا قطعنا الترعة وصرنا في قطار مصر أمنتُ وسكنَتْ نفسي. لقد عرفت أني سألقى مَن يستقبلني ويدلّني وسأطرح ثقل الأمانة عن عاتقي. ومررنا بالقرى والمدن، فصرت أتطلع إليها مطمئناً وأتأملها، وأستمتع بجِدّة المناظر والوصول إلى ما كنت أعدّه من المجهول، حتى إذا قيل «هذه مصر» ورأيت محطّة باب الحديد، رأيت شيئاً عظيماً كان فوق ما كنت أتخيل.
* * *