الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-6 -
من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانية
ومن العهد التركي إلى العهد العربي
لبثنا ننتظر، حتى إذا سكنت هزّة المفاجأة ورجعت الحياة تسير مسارها وبدأ الناس يألفون العهد الجديد أخذنا كتبنا ودفاترنا وذهبنا إلى مدرستنا، فوجدنا المدرسة قد أغلقت. لقد جنى عليها اسمها، وما كان لها من صلة بجمعية الاتحاد والترقي إلاّ صلة هذا الاسم، كما أن الجمعية لم يكُن لها مما يدلّ عليه اسمها إلاّ نصيب المدّعي الكاذب في الدعوى الباطلة:
اسمها جمعية الاتحاد، وهي التي جرّت علينا الانقسام: كانت الدول العثمانية جسداً واحداً، العرب أعضاء فيه والترك والكرد، فقطعوا الخيط الذي كان يربط أجزاءه ويؤلف بينها (وهو الإسلام)، فصار كل جزء جسداً مستقلاً، أي أنه صار مسخاً زريّاً لا إنساناً سويّاً.
وكانوا في أوربا يُشبّهون الدولة العثمانية بـ «الرجل المريض» . مريض؟ نعم. إن المريض يشفى والمرض ليس عيباً، ولكنه باعترافهم رجل. وكان السلطان عبد الحميد رجلاً حقاً، استطاع
بدولة هَرِمة وجيش هزيل أن يحجز دول أوربا عن بلاده، وكان يضرب بدهائه بعضها ببعض. كان «رجلاً» يلعب بالرجال، فلما جاء «صبيان» الاتحاديين وأمسكوا هم الزمام لعبت بهم الرجال وأشباه الرجال.
واسمها جمعية الترقي، وهي التي سبّبت لنا التدنّي: فبعد أن كانت الدولة على عهد السلاطين العظام أقوى دول الأرض صارت بهم دويلات لا وزن لها في الأرض، يحكمها حكّام من غير أبنائها بقوانينهم لا بشريعتها. ذلك لمّا خاضت -بحماقتها وجهلها وخبث سرائرها وقبح نياتها- حرباً لا ناقة لها فيها ولا جمل ولا شاة، فانتهت بها وبنا جميعاً إلى الضياع.
* * *
وبدأت دمشق تعيش كأنها في بهجة العرس، وقد كانت قبل شهر واحد في كربة كأنها كَمْدة المأتم. وحل الوجدان محل الحرمان، فالخبز مبسوط أمام الشارين من كل نوع وفي كل مكان، كما كان. وكَثُر السكّر والبنّ والرزّ و (الكاز)، وكل ما كان مفقوداً صار موجوداً.
والأعلام الجديدة ترفرف على الدكاكين وعلى أبواب المنازل، والأناشيد التركية ذات الألحان القوية العبقرية بُدّلت أناشيد عربية صيغت كلماتها على عجل، ورُكّب اللحن التركي القديم على النشيد العربي الجديد. وكان الناس في الشام (كما كانوا في أكثر بلاد الشرق) لا يهتمّ جمهورهم بسياسة ولا رياسة، همّهم أداء فرضهم وحفظ عيالهم وتسلية أنفسهم بما لم يحرّمه
عليهم دينهم؛ لذلك فرحوا بما جاءهم من السعة بعد الضيق والسلام بعد الحرب، لم يستطيعوا أن يَزِنُوا ما كان بميزان الربح والخسارة ولا أن يتبيّنوا هل كان خيرُه أكبرَ أم شرُّه، ولم يتنبّهوا إلى أن عهداً قد انتهى وأن عهداً آخر قد بدأ.
سقوط روما كان نهاية القرون الأولى وبداية القرون الوسطى، ولكن هل معنى هذا أنه إذا كان سقوطها يوم الخميس، كان الأربعاء من القرون الأولى والجمعة من الوسطى؟ وإذا انتهى العصر الأموي بقتل مروان وولاية السفاح، فهل القصيدة التي نُظمت قبل مقتله بيوم لها مزايا وخصائص الشعر الأموي والتي نُظمت بعده بيوم لها خصائص ومزايا الشعر العباسي؟
التبدّل الآني ليس من سنن الله في هذا الوجود. الليل يكون أسود حالكاً ثم يكون بعده النهار أبيض مشرقاً، فهل تحوّل الظلام نوراً في لحظة أم الله يولج الليل في النهار؟ وكنتَ طفلاً ثم صرتَ شيخاً، فهل انتقلت في ساعة واحدة من الطفولة إلى الشباب أو من الشباب إلى الشيخوخة؟ وهل أحسست بهذا التبدل؟
راقب العقرب الصغير في الساعة، إنك لا تراه يتحرك، ولكنه مع سكونه الظاهر يدور دائرة الساعة كلها. وكذلك كنا ونحن نشهد ميلاد عهد جديد، العهد كان مخاضه عند بداية الحرب الأولى وولادته عند نهاية الحرب الثانية، ولكنا لم نحسّ بذلك لأننا كنا نعيش فيه.
إذا كنت في المصعد وهو مغلق عليك، فهل تحسّ بأنه ينزل أو يصعد؟ إنك تدرك حركته بعد أن تخرج منه وتقف فتنظر إليه.
ونحن نستطيع الآن أن ندرك حقيقة الذي كان ونَزِنه بميزان الربح والخسران.
* * *
وقبل أن أودّع المدرسة التجارية أذكر أنها خرّجت طبقة من المثقفين كانت سبّاقة وكانت رائدة، أتمنى لو كانت أسماؤهم عندي، لكني أسمّي من يخطر على بالي؛ فمنهم خالد بك العظم السياسي المعروف رئيس وزراء سوريا، وقد درس فيها حيناً وإن لم يتخرج فيها. ومنهم صبحي بك القوّتلي الرئيس الثاني لمحكمة النقض، وفؤاد بك المحاسني النائب العام. وممن تخرج فيها وحمل شهادتها طاهر الطنطاوي، وقد دخل بعدها مدرسة الطب وخرج منها طبيباً سنة 1920، ورفاقه الدكتور محمد سالم، والدكتور سهيل الخياط، وهو لا يزال حياً مدّ الله في عمره ورحم الباقين.
وقد كان يدرّس فيها أكابرُ المشايخ الدروسَ الدينية، وقادةُ الجيش العثماني العلومَ الرياضية والطبيعية. وحسبكم أن من مدرّسيها مدير معارف سوريا هاشم بك يوم كانت ولاية سوريا تشمل البقاع وبعلبكّ وطرابلس والأردن إلى معان. ومن مآثر المدرسة عنايتها المبكّرة بالألعاب الرياضية، ولقد كان الدكتور محمد سالم من أوائل المعنيّين بكرة القدم ومن قدماء لاعبيها، ولقد أنشأ ابن عمي الدكتور طاهر الطنطاوي الذي تُوُفّي السنة الماضية (1400هـ) أنشأ في بستان داره في الصالحية ملعباً كاملاً لنفسه ولإخوانه.
أُغلِقت هذه المدرسة فتفرّق تلاميذها في المدارس. وأدخلني أبي المدرسة السلطانية الثانية، وكانت في القسم الشمالي من جامع يَلْبُغا في «المرجة» ، في صحنه الواسع وفي الغرف التي بُنيت على جوانب الصحن. أما البركة الكبيرة فقد أقيم عليها حاجز من الخشب يقسمها قسمين متساويَين، قسم بقي في حيّز المسجد وقسم في حيّز المدرسة.
وقد كان موضع المسجد تلاًّ يُشنَق عليه المجرمون، فأخذه والي الشام سيف الدين يَلْبُغا سنة 847هـ وأنشأ عليه هذا المسجد.
* * *
يا لله كم في حياتي من منعطفات! وكلما انعطف بي الطريق مرة في وادي العمر تبدّلَت المناظر من حولي.
كنا في المدرسة التجارية نتعلم اللغة التركية فصرنا هنا ندرس العربية، وكنا نهتف في الصباح «باديشاهم جوق يشا» فصرنا نهتف «يعيش الاستقلال العربي» ، وكنا قد بدأنا نتلقى مبادئ اللغة الفرنسية فصرنا نتلقى مبادئ الإنكليزية.
على أن من الإنصاف أن أقول -تدليلاً على إسلامية الشعب التركي التي لا تحتاج إلى دليل- أن تعليم التركية كان يبدأ باسم الله. كنا نقرأ التركية ونكتبها بالحروف العربية، لم يكن قد نجم فينا (أعني الأمة الإسلامية) من يحارب ديننا بإضعاف لساننا، فيستبدل بالحروف العربية الحروفَ اللاتينية كما فعلوا -من بعد- باللغة الإندونيسية، وكانت تُكتب بالحروف العربية. كنا
نبدأ بحفظ كتاب صغير اسمه «أسماء تركية» أوله: "تنري الله جل شأنه، بيغمبر النبي، أبدست الوضوء، نماز الصلاة
…
" لا أزال أحفظه إلى الآن! وكانت كلمة «تنري» تُكتب «تكري» ، كما تكتب كلمة بينباشي (أي رئيس الألف) بكباشي. ولعل المؤرخ المصري «ابن تَغْري بَرْدي» كان اسمه «تنري ويردي» أي عطاء الله. أقول هذا من عندي، ما عندي فيه نص.
* * *
وكان في دمشق مدرسة سلطانية واحدة هي «مكتب عنبر» ، ثم فُتحت في أواخر حكم الأتراك مدرسة أخرى (وكنا نسمّي المدرسة «المكتب»، و «السلطاني» معناها الثانوي). وهذه المدرسة هي «المكتب السلطاني العربي» ، وقد كانت في طريق «ستّي زيتونة» . وممن أعرفه درس فيها أستاذنا الشيخ زين العابدين التونسي، والشيخ عصام الدين الحسني، وهو ابن الشيخ بدر الدين الحسني والأخ الأكبر للشيخ تاج الدين الذي صار رئيس الجمهورية السورية، ووالد الصديق الشيخ فخر الدين مدير دائرة الإفتاء في سوريا سابقاً.
أما هذه الزيتونة فقد كانت شجرة هرمة، أمامها قفص من حديد تربط النساء به الخِرَق وتحتها قبر، وعندها «شيخ» دجّال قد جعل مرتَزَقهُ سِدانة هذا الوثن. أما قصّتها فعجيبة حقاً؛ هي أن قاسم الأحمد (جد صديقنا وزميلنا نهاد القاسم، الأخ الوفي والوزير المستقيم رحمة الله على روحه) لمّا ثار على إبراهيم باشا أيام حكمه الشام قُبض عليه بعد معارك طويلة، فشنقه مع خمسة
من رفاقه تحت زيتونة كانت هنا، فقال الناس «الستة بالزيتونة» ، ثم نسوا القصة فقدّسوا الشجرة وسمّوها «ستي زيتونة» !
أما السلطانية الثانية التي دخلتها فقد فُتحت بعد دخول الشريف فيصل بن الحسين ولورانس الإنكليزي دمشق، وكانت ابتدائية وسلطانية (أي ثانوية)، مدير القسم الابتدائي الأستاذ شريف آقبيق (وقد سمعت أنه لا يزال حياً، قوّاه الله)، ومدير الثانوي و «المدير العام» هو شيخ المعلمين الرسميين في الشام الأستاذ سعيد مراد (1).
وكان من معلمينا فيها شابّ (أعني أنه كان يومئذٍ شاباً) من نابلس، هو أول من علمني الإنشاء العربي: كان يأخذ مقالات المنفلوطي فيجعلها بحيث نفهمها ثم يكلّفنا أن نكتب مثلها، وكانت مزيّته الأولى صوته، فما عرفت -على كثرة ما سمعت من الأصوات- ما هو أحلى منه وأطرب. وقد أنشد يوماً في اجتماع عام نشيد «ويلي على أوطاني .... من غارةِ العُدوانِ» أمام الشريف فيصل، فأُعجبَ به فجعله مدرّس الموسيقى في السلطانية الأولى. ثم صار مدرساً سيّاراً لها، يدور على المدارس فيكون يومُ وصوله فرحةً للمدرسة، وكان ممّن ينظم الأناشيد العربية أو يترجمها عن التركية ويُلبِسها النغمة الأصلية. وهو الأستاذ حسني كنعان، وسأعود إلى الكلام عنه، فقد استمرّت اتصالاتنا حتى توفاه الله سنة 1980 رحمه الله.
(1) انظر الحديث عنه في مقالة «مع بعض مشايخي» في كتاب «رجال من التاريخ، ص460 - 462، وفي آخرها ذكر للأستاذ شريف آقبيق أيضاً (مجاهد).
أمّا رفاقي فيها فلست أذكر منهم إلا المهندس صلاح شيخ الأرض، وقد كان هنا منذ سنوات. والمحامي الشاعر عبد الحكيم مراد، ولم أرَه من ثلاثين سنة وأحسب أنه في الكويت. والأستاذ حسن السقّا الكيميائي، ولست أدري ما فعل الله به.
ومن ذكريات هذه المدرسة الباقية في نفسي أن حاكم دمشق العسكري الجديد، وهو رضا باشا الركابي الذي كان أعلى عربي رتبةً في الجيش العثماني، زار المدرسة يوماً. فدخل علينا الفصل ووراءه وزير المعارف ورؤساء التعليم ومدير المدرسة، وكان بلباس «الجنرال» العسكري، والشارات على كتفيه والأوسمة على صدره. وكان الأستاذ حسني قد حفّظنا قصيدة الحِلّي:«سَلي الرّماحَ العوالي عن معالينا» ، ولكنه بدّل البيت الثاني (1) فجعله:
وسائلي العُرْبَ والألبانَ: ما فعَلَتْ
…
بعسكرِ التركِ والألمانِ أيدينا؟
وكان حسن السقّا يُلقيها بصوت عالٍ وحماسة بالغة، فقاطعه الباشا وسأله: من علّمَك هذا؟ فارتعب وأشار إلى الأستاذ، فمدّ الباشا يده إلى الأستاذ، ولكن الأستاذ كان قد اصفرّ لونه، ولولا
(1) مطلع قصيدة صفي الدين الحلي هو:
سَلي الرّماح العَوالي عن مَعالينا
…
واسْتَشهدي البِيضَ: هل خاب الرّجا فينا؟
وسائلي العُرْبَ والأتراكَ: ما فعلت
…
في أرضِ قبرِ عُبَيد الله أيدينا؟
(مجاهد).
أنه استند إلى المقعد لهوى
…
وإذا الباشا يصافحه! ولمّا خرج الباشا ومن كان معه قال الأستاذ: "أرأيتم يا أولادي؟ هكذا تكون الشجاعة"
…
واستدار لئلاّ نرى البلل في بنطاله!
ولا تظنوا أني أكتب هذا بعدما توفّاه الله لأني لا أقدّره ولا أحترمه. لا والله، ولو علمت أنه كان يسوؤه ما رويته. ولقد كتبته في حياته وضحك لمّا قرأه، ثم كتب القصة بقلمه وروى عن نفسه أشياء أبلغَ في بابها منها رحمة الله عليه.
ومن ذكريات هذه المدرسة فيضان بردى الذي كتبت عنه الكثير (1) والذي يصل «المرجة» بعدما انشقّ عنه أبناؤه الستة (يزيد، وتورا، وباناس، والقنوات، والقناة، والديراني) ولم يبقَ من مائه ما يبلّل ظهر قط مشى فيه. بردى الذي لا تذهب منه قطرة هدراً على حين تذهب مياه الأنهار الكبار إلى البحر، فلا هي حفظت ماءها لها ولا البحرُ امتلأ منها. بردى الذي قال كاتب شوقي لمّا زار دمشق فرآه بعدما سمع من شوقي أشعاره فيه، قال متعجباً: أهو ده بردى؟!
بردى هذا إذا وصل إلى المرجة وأردنا أن نسلبه حريته في جريه، وأن نسجنه تحت القناطر فيدوس عليه الماشون في المرجة، ثار. وإذا ثار أغرق المرجة وما فيها، وممّا كان فيها مدرستنا (السلطانية الثانية).
(1) أي عن بردى لا عن الفيضان. انظر مقالتَي «دمشق» و «نهر دمشق» في كتاب «دمشق، صور من جمالها وعِبَر من نضالها» ، ومقالة «قصة بردى» في كتاب «قصص من الحياة» (مجاهد).
إني لأذكر ذلك الفيضان سنة 1918 وأستحضره في ذهني حتى أرى المدرسة كلها قد صارت بركة واحدة، والمقاعد قد طفَت على وجه الماء كالزوارق، وتصايح التلاميذ واستُدعيَت الشرطة، وأسرع المدرّسون إلى إنقاذ الصغار، وكان يوماً لا ينسى.
* * *