الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-12 -
في امتحان الشهادة الابتدائية
خطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين
مرّت على دخول هذه المدرسة سنتان، وقد جاء الامتحان. والامتحان اليوم كتابي، يقعد التلاميذ على مقاعدهم، يُعطَون ساعة أو ساعتين ليفكروا ويتذكّروا ويكتبوا على مهل، إن عطشوا طلبوا فجاءهم الماء أو ما شاؤوا من حلو الشراب، وربما سُمح لهم أن يدخّنوا
…
إي والله، الطلاب يدخّنون في الامتحان! عشنا حتى رأينا هذا بأعيننا، وقد صار مألوفاً (معروفاً) لا نملك أن ننكره فينكروا علينا إنكارنا.
أما الامتحان الذي أحدّثكم عنه في هذه الحلقة (وعن أمثاله فيما يأتي من الحلقات) فقد كان شيئاً آخر. كانوا يأتون في كل مادة نمتحن فيها بأكبر أساتذتها في البلد، يصطفّون حول مكتب كبير ويوضع أمامه كرسي يقعد عليه التلميذ الصغير، ويمدّ كل منهم يده إلى أغرب المسائل التي حفظها وأصعبها، يستخرجها من رأسه فيلقيها على رأس هذا الولد المسكين، لا يريد منه أن يجيب عليها، فهو يعلم أنه لا يقدر على الجواب ولا يكلّفه به منهج رسمي ولا عرف سائد، ولكنْ ليُظهِر علمه لرفاقه وليريهم
سعة اطّلاعه وطول باعه! ويأتي الثاني بأشدّ منها صعوبة وأكثر غرابة، كأنه امتحان للأساتذة الفاحصين.
يكون هذا في أول الامتحان، فإذا انتهوا من عرض عضلاتهم ألانوا وسهّلوا؛ لذلك كنا نتدافع الدخول في بداية الامتحان (1)، فإذا هانت شدّته ووَهَت حدّته تزاحمنا عليه وتسابقنا إليه.
وكان هذا الامتحان بإشراف حاكم دولة دمشق الذي عيّنه الفرنسيون، وهو حقي بك العظم. وهو رجل كان يطالب بأن يحكم سوريا الفرنسيون من قَبْل ميسلون، وكان يعلن هذا بلسانه وقلمه ويقيم عليه أدلّة يراها هو صحيحة. ولما جاءت لجنة «كراين» الأميركية لتستفتي الناس عمّا يريدونه كان هو -خلافاً لرأي الجمهور الأكبر من السوريين- يطلب الانتداب الفرنسي، مثله في ذلك مثل نوري باشا السعيد مع الإنكليز في العراق.
وقد تعجبون من اسم «دولة دمشق» ، وحقّ لكم العجب؛ فقد أقام الفرنسيون في سوريا أربع دول لكل منها حاكم وفي كل منها حكومة: دولة دمشق، ودولة حلب، ودولة الدروز، ودولة العلويين. وقديماً قال الشاعر (2):
ممّا يزهّدني في أرضِ أندلسٍ
…
ألقابُ مُعتضدٍ فيها ومُعتمدِ
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها
…
كالهرِّ يحكي انتفاخاً صَوْلةَ الأسدِ
(1) أي يدفعه كل واحد منا عنه
(2)
ابن رشيق القيرواني. ورُوي عجز البيت الأول في الديوان: «سَماعُ معتضد فيها ومعتمد» (مجاهد).
دولة دمشق التي كانت على أيام الوليد بن عبد الملك تمتدّ من قلب فرنسا إلى آخر المشرق وإلى أطراف الصين، وكانت الكلمة تخرج من الدار الخضراء وراء جدار القبلة في الجامع الأموي، فتمضي شرقاً وتمضي غرباً لا يقف أمامها شيء ولا يردّها شيء، لا تلقى إلاّ الطاعة والامتثال في ثلث المعمور من هذه الكرة، في الأرض المسلمة التي تعيش «تحت راية القرآن» ، كما عاشت معها يوماً تحت هذه الراية نصف أوربا يوم كان البحر الأبيض المتوسط بحيرة إسلامية وكنا بالإسلام سادة الدنيا
…
هذه الدولة تقلّصَت أطرافها وتقطّعَت أوصالها، وتناكَرَ أهلها وتباعدوا فتضاءلت وتضاءلت حتى صارت «دولة دمشق» !
وهذه سنّة المستعمرين في كل زمان ومكان؛ عملهم قطع رابطة الإيمان بين المسلمين وربطه بروابط الجاهلية، قانونهم «فرِّقْ تَسُدْ» وعملهم كسر الحزمة عوداً عوداً لمّا عجزوا عن كسرها جملة. ولكن لا تخافوا؛ فالذي عقَدته يد الله لا تحلّه يد بشر، وقانون {إنّما المُؤمنونَ إخوةٌ} لا ينسخه قانون «الوطنية» ولا «القومية» ولا الروابط الحزبية والعقائدية (1) البشرية، ولا تميّعه وتضيّعه الدعوة «الأُممية» و «الإنسانية»؛ فالإسلام حقٌّ بين باطلَين: بين القومية وبين الأممية.
* * *
(1) إذا جرى الجمع مجرى العَلَم جازت النسبة إليه، فيجوز أن نقول:«قوانين عمّالية» و «قضايا طلابية» ، كما قالوا «مسألة أصولية» و «مائدة ملوكية» .
لقد كان التلاميذ يفزعون من هذا الامتحان ويخشونه، ولكني كنت أترقبه متشوقاً إليه وما خفت منه في يوم من الأيام.
هل تدرون أن فينا، في أعماق نفس كلّ منا، خبايا وخفايا لا يعرفها صاحبها؟
أنا الآن، بعد هذا العمر وهذه الشيبة، لا أستطيع أن أزور أحداً من أصدقائي إن لم يكن معي رفيق، أما الذي لا تجمعني به صداقة وأُلفة تزول معها الكلفة فلا أقدر أن أزوره أبداً. لذلك أبتعدُ عن مجالس الأمراء والوزراء ولو كنت أشعر بالتقدير لهم أو الشكر والعرفان. ومن أصعب الأمور عليّ أن يزورني مَن أحتشمُه ومَن ليس بيني وبينه خلطة. ولقد اقترح من أيام أخٌ لا أعرفه في مقالة كتبها في جريدة «المدينة» أن يقيم لي أهلُ مكة حفلة تكريمية. لم يدرِ (جزاه الله على حسن مقصده خيراً)، لم يدرِ أن الذي اقترحه أعتبره تعذيباً وأفتدي نفسي منه بمرتّب نصف شهر، صدّقوني، ولطالما هربت من أمثاله. وأنا أعلم أن هربي مخالف للآداب الاجتماعية ولأعراف الناس، وأني أفتح على نفسي باب الظن بأني قليل الوفاء وأني لا أقدّر المعروف ولا أشكر عليه، أو أني مُستَعْلٍ متكبّر أو أنني جافٍ جافّ، وما بي والله شيء من ذلك ولكنه ما ذكرتُ. على أني إذا صرت داخل المجلس وجدت عندي من الأخبار والقصص والنوادر ما يسلّي الحاضرين ويسرّهم ويُفيدهم، ولكن الصعوبة في دخول المجلس.
فكيف كنت إذن لا أفزع من الامتحان ولا أتهيب لقاء الجماعات من وراء المنبر؟ وكيف أخطب في مئة ألف بلا استعداد فأرى ذلك أهون عليّ من حضور مجلس نفر من الناس؟
كيف؟ الجواب فيه نصف العلم، ونصف العلم «لا أدري» !
كان هذا امتحان الشهادة الابتدائية، لم يكُن يُجمَع له التلاميذ بل كانت اللجنة تدور عليهم في مدارسهم. وكان لحضورها رجّة وضجّة، وكانت تسبقه الاستعدادات وتُعَدّ الاستقبالات، لأنها تجمع كبار رجال «المعارف» وأساتذة المدارس، برياسة الرئيس الأعلى للحكومة المحلية وهو دولة الحاكم!
وهذه شهادتي الرسمية لا تزال عندي، درجاتي فيها كلها عشر من عشر إلاّ السلوك والأخلاق، فقد كانت تسعاً من عشر؛ أي أنني بلا أخلاق، أو كما كانوا يقولون لنا أيام الحكم العثماني «أدب سِزْ» . ولكن إن عرفتم سببها أدركتم أنها لم تكن وصمة عار بل وسام فخار. السبب أن فرنسا عزلت الجنرال غورو وعينت مكانه الجنرال ويغان (الذي صار -من بعدُ- القائد العامّ لجيوش الحلفاء في الحرب العالمية الثانية)، وأمرت الحكومة بأن تخرج المدارس كلها بمعلّميها وتلاميذها لاستقباله.
ولست أذكر الآن من هو المعلم الذي سنّ لنا سنّة حسنة هي أن يخصَّص يوم في الأسبوع للخطابة، يجتمع كلّ مَن في المدرسة، ويقوم أحد المعلمين على هذا السلّم الذي ترونه في الصورة (1)(والذي بلغني أنه هُدم الآن وأقيمت للمدرسة عمارة ضخمة) يقوم فيخطب، ثم يتبعه أحد التلاميذ فيلقي كلمة ارتجالية.
وكان دوري في الكلام يوم أُعلِنَ أمر الحكومة بوجوب
(1) انظر الصورة في الجزء الأخير الخاص بالصور والفهارس (مجاهد).
خروجنا لاستقبال المفوَّض السامي الجديد. المفوَّض السامي كانت له سلطة حكومة سوريا ولبنان معاً ومجلسَيهما النيابيَّين والإشراف على قضائهما، أي أن سلطانه أضخم من سلطان رئيسَي الجمهوريتين وحكومتيهما.
أتدرون ما الذي كان؟ أنا أرويه بلا تزيّد ولا مبالغة، أرويه وأنا أعجب والله منه. الذي كان أني ألقيت خطبة حماسية بصوت سمعه كل من في المدرسة، وسمعه جيرانها ومَن كان في المسجد أمامها، قلت فيه بأن الفرنسيين أعداء ديننا ووطننا وأنه لا يجوز أن نخرج لاستقبال زعيمهم.
ولست أذكر الآن ما قلت، وما كانت خطبة بليغة الأسلوب رائعة البيان، ولعله كان فيها أخطاء وكان فيها لحن؛ فقد كانت أول خطبة لي وكنت في الرابعة عشرة من عمري، في السنة السادسة الابتدائية، ولكنْ يظهر من آثارها أنها كانت خارجة من القلب وكانت ممتزجة بالصدق، لأن التلاميذ جميعاً ولأن نصف المعلمين رفضوا حضور الاستقبال.
وقد كانت العقوبات في المدرسة هي التنبيه فالتوبيخ، فالتكدير العلني فالطرد المؤقت من المدرسة، فالطرد الدائم. فعوقبت بالتكدير وكَسْر علامة الأخلاق والسلوك.
وكانت هذه هي الخطوة الأولى التي صعدت بها المنابر حتى لانت لي درجاتها وألِفَتني أعوادها، وصرت (ولا فخر) أُعَدّ إن عُدّ روّادها.
* * *
لا، لم يمتنع التلاميذ وبعض المعلمين من استقبال الجنرال تأثراً بخطبتي، بل لأن النفوس كانت كالقنبلة المحشوّة بالبارود لا ينقصها إلاّ أن تسحب منها مسمار الأمان. كانت الأمّة كجبل البركان، إذا كان خامداً وطئتَ صخره بالنعال وقرعتَه بالمطارق، فتحسبه -إذ لم يتحرك- أنه قد مات، وإذا به ينفجر فيذيب الصخر ويُلهب الأرض، وتَخرج منه النار التي تدمر كل شيء بإذن ربها.
من الذي دفعني لإلقاء هذه الخطبة وأنا لا أخالط أحداً ولا أعرف إلاّ بيتي ومدرستي والطريق بينهما، حتى إنني لم أعلم إلاّ بعد ذلك التاريخ بسنين طوال بالثورة (الرائدة) التي قام بها إبراهيم هنانو في الشمال ولا بثورة صالح العلي؟ لا، لم يحرّكني أحد ولم يوجّهني أحد إلا مشاعر الحرية والإباء التي كانت تملأ كل نفس في الشام، بل هي عزّة المؤمن، مهما خبت نارها فإن جذوتها باقية، إذا هبّت عليها ريح الإيمان توقّدَت وعلا لهيبها.
كنت أمشي مرة (في تلك الأيام) في حيّ العِمارة قرب الأموي، وكان الناس لم يفيقوا بعدُ من صدمة الهزيمة في ميسلون ولم يألفوا منظر جنود الفرنسيين يطؤون بنعالهم مدينة معاوية وعبد الملك وصلاح الدين، فكانوا في شبه رعب منهم. وكان جنود الفرنسيين لا يمشون إلاّ جماعات، فمرّت امرأة مسلمة محجَّبة بالملاءة فتعرضوا لها ووقفوا في طريقها، فجعلَت تتلفّت مذعورة تستغيث والناس ينظرون إليها وإلى الجنود المسلّحين، وإذا ببيّاع كبير السن قد اعترته حالٌ كأنها الصدمة الكهربائية، فوقف ينادي بصوت تحسّ منه لذع النار وفورة الدم: ويلكم! أما عاد فينا دين ولا شرف؟ ثم يأخذ العصا التي يفتح بها غلق
الدكان ويقفز (وكأني أرى مشهده الآن) ويهجم بها على الجنود المسلّحين، وتستيقظ القوّة المدّخَرة في أعصاب الناس فيهجمون معه، يهجمون بأيديهم فينزعون من الجند سلاحهم وينقذون المرأة. ويرطن الجنود مستخْذين متوسّلين يشيرون بالتوبة، فيدَعهم الناس ينصرفون.
وكانت هذه كلها إرهاصات الثورة الكبرى، وكانت إحدى الدلائل على أن هذه الأمة، أمة محمد، قد تُغلَب على أمرها حيناً ولكنها لا تذلّ أبداً.
* * *
ولا أحب أن أودّع هذه المدرسة قبل أن أشير إلى ثلاث حوادث، حوادث تنبّه المدرّسين إلى أن التلاميذ الصغار يراقبونهم ويسجّلون حسناتهم وسيئاتهم.
الأولى: أن معلم الخطّ (ممدوح) كتب لكل واحد بقلم الرصاص السطورَ الثلاثة التي سنُمتحن فيها، سطر الفارسي وسطر الثلُث وسطر الرقعة. ودعا كبار الخطّاطين (ومنهم نجيب هواويني) وكلّفَنا أن نمشي بأقلامنا على خط الرصاص كأننا نحن الذين نكتب الحروف. وقد نلنا الدرجات العالية وإعجابَ المدعوّين، ولكني أحسّ إلى الآن بالخجل من مشاركتي في هذا الغش وأشعر بأن المعلم صَغُرَ في عيني.
والثانية: أني تكلمت عن النصارى، فدعاني المدير النصراني وكان عنده المعلم ممدوح، فقال لي: ألم تسمع قول الله: {ولَتَجِدَنَّ أقْرَبَهُم مَوَدّةً للّذينَ آمَنوا الذينَ قالوا إنّا نَصَارى} ؟
فقلت له: أكمل الآية. فحقدها عليّ.
والثالثة: أنه كان في المدرسة لوحة شرف فيها أسماء مَن تخرج فيها وعند صورة كل منهم درجته وعلامة أخلاقه وسلوكه، وكان اسمي فيها وعلامة السلوك تسعاً من عشر، فلما عُيّنت معلماً في هذه المدرسة سنة 1935 وجدتها عشراً من عشر، فقلت للمدير: أما كانت تسعاً؟ فقال: أعوذ بالله، أنت كنت مثال الخلق الكريم والسلوك القويم. فتبسمتُ وازداد هبوطاً في نظري.
* * *