المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌اليوم الأول في مصر

-31 -

‌اليوم الأوّل في مصر

كانت سفرتي إلى مصر سنة 1928 أكبر حادث حدث لي في شبابي، ترك أعمق الآثار في نفسي وفي فكري وفي سلوكي، ولكنّ الخسارة التي لا تُعوّض أنّي لم أدوّنها في حينها. كنت كالذي زعموا أنه وصل إلى «الكنز المرصود» فوجد ركاماً من الذهب والحليّ وأكواماً من الجواهر والألماس، فلم يحمل ما يقدر على حمله منها بل دفعه الطمع إلى أن يبحث عن غيرها علّه يجد أغلى منها، فلما تركها وابتعد عنها ضلّ طريق العودة إليها، فلم يبلغها ولم يرجع بشيء منها.

فخذوها نصيحة مني، نصيحة من مجرّب يريد أن يجنبكم عواقب السيِّئ من تجارِبه: دوّنوا كلّ ما يمرّ على أذهانكم من أفكار وما يعتلج في نفوسكم من مشاعر، اكتبوه في حينه، فإنكم إن أجّلتموه فتّشتم عنه فلم تجدوه.

فيا ليتني كتبت ما أحسسته وما فكّرت فيه ساعة وصولي إلى مصر! تقولون: اكتبه الآن. الآن؟ هيهات! فلا أنا الآن «أنا» في ذلك اليوم، ولا مصر مصر، ولا أهلوها أهلوها. لا أقول إنهم

ص: 321

كانوا أحسن أو إنهم كانوا أسوأ، بل أقول إنهم تغيروا، «ومَنْذا الذي يا عزُّ لا يتغيّرُ؟» (1).

وهبْ أن مصر ما تبدّلت، أفما تبدّلت أنا؟

نحن نرى الدنيا من خلال نفوسنا، كالذي يبصر وعلى عينيه النظّارات: إن كانت النظارة دخانية رأى الدنيا معتمة، وإن كانت زهراء رآها مشرقة، وإلاّ فلماذا يصف الشاعر الفَرِح الدنيا ضاحكة ويصفها الحزين باكية، والدنيا هي الدنيا ما ضحكت ولا بكت؟ ولو كانا مصوّرَين لملأ الأول لوحته بالألوان القاتمة وجعلها الثاني زاهية الألوان، والمشهد واحد أمامهما. ألا يمكن أن تكون فلسفة التشاؤم عند بعض الفلاسفة آتية من صداع ملازم أو عسر هضم، سوّأ عيشه وسوّد الدنيا أمامه؟ فما قيمة فلسفة كان يهدمها دواء مُسَكّن أو عقّار (2) هاضم ثمنه نصف ريال؟!

لقد كانت صورة رائعة لمصر تلك التي انطبعت في نفسي ساعة وصلت إليها، ولكني لم أستخرجها وأحتفظ بها بل صوّرت المشهد بعدها من غير أن أدوّر «الفلم» ، فجاءت عشرات من الصور بعضها فوق بعض، فتداخلت خطوطها واختلطت معالمها ولم أعد أستبين واحدة منها.

فهل أسجّلها الآن بعدما مرّ عليها أربع وخمسون سنة؟ بعدما

(1) الذي اختاره العلماء أن تُكتب «مَنذا» موصولة الحروف كالكلمة الواحدة. والنداء المرخَّم (كقوله: يا عزّ) يجوز بفتح الزاي أو بضمها. وهذه فائدة على الهامش.

(2)

واحد العقاقير عقّار بالتشديد.

ص: 322

فقدتها؟ لقد سقطت مني في مسالك الحياة وفي مسارب العمر. إن الذي يسقط منه شيء يعود أدراجه يفتش عنه في الطريق الذي جاء منه، فمن لي بأن أعود لأسلك كَرّةً أخرى طريقي في الحياة؟ أعود إلى الشباب؟ إلى سنة 1928 وما بعدها؟

ثم انقضَتْ تلكَ السُّنونُ وأهلُها

فكأنّها وكأنّهم أحلامُ

في الحلم يغفل العقل، أيْ يغيب الرقيب، فتنطلق الأماني المحبوسة وتتكثّف وتتجسّد أمامك حتى تحسّ بها: تراها، تلمسها، تكلمها، تعيش فيها

كل ما كنت تتمناه تراه قد جاءك من غير أن تمدّ إليه يداً أو تخطو إليه بقدم. إن كنت فقيراً تتمنّى الغِنى تدفّق عليك المال، وإن كنت عاشقاً بلغت الوصال، تشعر أنك تطير على ظهر الرياح بلا طيارة ولا جناح.

ثم يصحو النائم ويتصرّم الحلم، فإذا العالَم الذي كنت تعيش فيه ليس إلاّ صورة في فِلْم أو مشهداً في لوحة راءٍ (1) انقطع عنه التيار، فإذا اللوحة بيضاء!

إن الذي فات مات (كما تقول المسرحيات)، ويستحيل أن يرجع في الدنيا الأموات.

(1) كنت قد سمّيت الراديو من قديم «الرادّ» (اسم فاعل) لأنه يردّ علينا الصوت الذي يخرج من الإذاعة، فلما جاءنا التلفزيون أيام الوحدة كلّفوني وضع اسم له، فوجدت أن المعنى الحرفي للتلفزيون هو الرؤية من بعد، كما أن معنى تليفون الصوت من بعد والتلغراف التخطيط من بعد (وكلها من اليونانية)، فسميته «الرائي» بمعنى المرئي كقوله تعالى {في عيشةٍ راضيةٍ} أي مَرضيّة، على طريقة المجاز العقلي.

ص: 323

تركتكم في الحلقة الماضية في محطة باب الحديد؛ بلغتها بعدما ظننت أني لن أبلغها، فقد كانت تلك السفرة أمتع وأقسى ما مرّ بي، كنت كالغريق فلما رأيت خالي ومن جاء معه لاستقبالي أحسست كأن يداً تمتد إليّ تمسكني ثم تنقذني!

وخرجت معهم وهم يسألونني عن سفري، وأنا أجيب بنصف ذهني ونصفه مشغول بتأمّل ما أرى. كنت في مثل نشوةِ الحالم، فأنا معهم بجسدي، وأنا بعيد عنهم بنفسي. كنت أعلم أن الحلم يمّحي إن تيقظ الحالم، فما لهذا الحلم العجيب يبقى معي، أحيا فيه ولست نائماً؟

لا تعجبوا؛ فإن السيّاح الذين يجوبون أقطار الأرض والذين جزعوا مشرقها ومغربها يجدون في مصر -إذا جاؤوها- ما يرغّبهم فيها ويشدّهم إليها، فكيف بشابّ على أبواب العشرين لم يرَ في عمره بلداً غير بلده دمشق؟ ودمشق على جمالها وبهائها لم يكُن فيها يومئذٍ مثل ما في مصر من الميادين والشوارع والحدائق والمتاحف، ولا كان ذلك في شيء من مدن الشام والعراق.

وأول ما أدهشني أننا خرجنا من المحطة وقد انتصف الليل أو كاد، في الساعة التي تُغلَق فيها الحوانيت في الشام وتخلو الطرق وتنام المدينة، فإذا الشوارع هنا مزدحمة بالناس، وحافلات الترام ممتلئة، والدكاكين مفتوحة

أفلا ينام أهل مصر لا في الليل ولا في النهار؟

ووصلنا الدار في موهن من الليل (1) فزاد دهشتي أن

(1) أي في نصف الليل.

ص: 324

وجدتهم يُعِدّون العشاء، ورأيت -بعدُ- أنّ هذه عادتهم كل يوم: يبقى خالي في المطبعة إلى أن يمضي ثلث الليل، والشغل دائر والمطبعة شغّالة، ثم يخرج إلى ميدان باب الخلق حيث عربات بيّاعي الفواكه التي تُدفَع باليد وعلى كل عربة مصباح من مصابيح الغاز التي تُدعى في مكة «الأتاريك» (1)، فيشتري بعض ما يجد: بلحاً أو عنباً أو تلك التي كرهت ريحها من أول يوم فما أكلتها، الجوافة. ويأخذ البياعُ ورقة يلفّها على هيئة القمع الكبير يضعها فيها، ونصعد بها إلى الدار (وكانت الدار فوق المطبعة) فنجد العشاء.

وأوينا إلى مضاجعنا عشيّة وصولي مصر وقد شاخ الليل ودنَت ساعة السحَر، ولكني لم أنَم. إن الذي تُبدَّل وسادته أو تُغيّر غرفته لا ينام، فكيف بمن ودّع حياة ألفها وعرفها في بلده وجاء يبدأ حياة في بلد آخر لم يألفها ولم يعرف عنها إلاّ أقلّ من القليل؟ وجعلت أتقلب على الفراش حتى سمعت (أو خُيّل إليّ أنّي سمعت) أذان الفجر، فقمت لأتوضأ. وتحققتُ من دخول الوقت فصلّيت وعدت أحاول النوم، وما قام للصلاة أحد مِمّن كان في الدار، وكان ذلك ثاني ما أدهشني.

وبلغ منّي النعاس بعد مشقّة السفر وطول السهر، ولكني لم أنَم إلاّ لماماً. إن من يصل ليلاً إلى البلد الجديد يبيت متطلعاً يرقب ضياء النهار ليرى ما الذي كانت تخفيه ظلمة الليل، وإن كان ليل القاهرة ما فيه من ظلام. إن شعوره كشعور من تأتيه الهدية يعرف

(1) ولعلها محرَّفة من «إلكتريك» .

ص: 325

نفاستها ولكن يجهل نوعها، فهو يفكّ شريطها أو يفتح صندوقها تتجاذبه فرحتان: انتظار الشيء النفيس وكشف المجهول الجميل. أو كمن يشتري القصّة البارعة حين يفتح أول صفحة منها.

* * *

ونهضت (كما نهضوا) ضحىً، فأكلنا الفول. وفول مصر صغير لذيذ، وفول الشام كبير. ولهم في إعداده طريقة غير طريقة أهل الشام، أما ثمنه فيكفي أن أقول لكم: إن خالي كان يسلم زوجته كل صباح ريالاً تشتري منه الغداء والعشاء (ولا بدّ فيهما من طبخ ورز ولحم، والفاكهة والأنقال) لثمانية أشخاص، وقد تبقى من الريال بقية.

ونزلت إلى المطبعة في شارع الاستئناف، فخرجت منه إلى ميدان باب الخلق. وكان أكبر من «المرجة» ، الميدان الوحيد في دمشق، أبصرت فيه النيابة والمحافظة من هنا، ودار الكتب والمتحف الإسلامي من هناك.

وكانت مصر (أعني القاهرة) كبيرة في تلك الأيام، ليست مدينة ولكنها -في حقيقتها- مدن في مدينة. مدن مشت من حيث مشى التاريخ؛ أولها أوّل التاريخ الإسلامي في مصر، «الفسطاط» التي بناها الصحابي الفاتح عمرو بن العاص، وهي مصر القديمة. ثم امتدّ التاريخ وامتدّت القاهرة فجاء أحمد بن طولون فبنى مدينة «القطائع» ، وهي حي السيدة. ثم جاء جوهر قائد المعز العُبَيدي فبنى القاهرة، ثم كانت أيام الحملة الفرنسية فسكنوا عند العتبة والأزبكية. ثم تواصلت هذه المدن وتداخلت. وكانت

ص: 326

مصر الجديدة في سنة 1928 منفصلة عن القاهرة، وشبرا كانت مثلها.

ولو تُرك الأمر إلى خالي لما رأيت من مصر شيئاً، لأنه ما كان يخرج من مطبعته إلاّ إلى جمعية الشبان المسلمين التي سيأتي قريباً حديثها. ولكن شريكه، صهري الجديد وزوج أختي، هو الذي أراني ملامح القاهرة. أخذني إلى النيل ففهمت لماذا يدعوه المصريون «بحر النيل» ، ما رأيت قبله مثله، وهل رأيت قبله إلاّ بردى؟ وكان بردى وأولاده جميعاً (يزيد وتورا والقنوات وباناس والقناة والديراني)، كانت كلها أصغر من ترعة واحدة من ترع النيل. ولكن لا أحب أن أظلم بردى، إنه فقير ولكنه جواد كريم، إنه يخرج من أرضنا نبعاً، ثم يدخل في أرضنا ليعود فيخرج زرعاً، لا تضيع قطرة منه. وإن قرأتم في كتب الجغرافية أنه يصب في بحيرة «العتيبة» فاعلموا أنه يصل إليها مرة في كل خمسين سنة، إنه يصب في الأرض الطيبة ليخرج الله به الثمر الطيب، على حين يحمل النيل العظيم ماءه الكثير ليرميه في البحر.

ذهبنا إلى العتبة الخضراء، وكانت قلب البلد، وإلى جنبها ميدان الأوبرا. ورأينا (وكانت هنا الدهشة الثالثة) رأينا الأصنام والتماثيل وسط الميادين والساحات! ورأينا متاجر ما عرفنا في دمشق مثلها؛ عمارات كاملة فيها كل شيء مما يؤكل أو يُلبَس أو يُفرش أو يكون زينة وحلية وتحفاً:«أوروزدي باك» (عمر أفندي) وصيدناوي وشيكوريل، وما فيهم مسلم ولا عربي ولا مصري أصيل! وممّا سمعت من العجب أن أوروزدي باك اشترى اسم عمر أفندي، وكانت تلك أوّل مرة أسمع فيها أن اسماً يُباع.

ص: 327

ثم درنا من حول درابزين حديقة الأزبكية، حيت تُباع الكتب القديمة كما تُباع على نهر السين في باريس (1)، وكانت الأزبكية نظيفة مخدومة. وسلكنا شارع فؤاد، ورأينا على جانبَيه كلّ بضاعة يُحتاج إليها أو يُرغب فيها معروضة عرضاً يُغري المستغني عنها بطلبها.

إلى أن وصلنا إلى الجسر (ويسمّونه هناك باسمه التركي: الكوبري) وهو من الحديد مسقوف بعمد الحديد، فجزناه من فوق النيل الكبير إلى الزمالك حيث تقوم بقصورها غير بعيدة عن بولاق بأكواخها، إلى النيل الصغير، على جسر كانوا يسمونه «كوبري بديعة» ، نسبة إلى رقّاصة من شتورا في سهل البقاع بين لبنان الشرقي والغربي، جاءت مصر فأعطتهم مرقصاً أقامته كان مفسدة للشبّان لما يُستباح فيه من المحرّمات، وكان مدرسة من مدارس إبليس لتخريج الراقصات، وأخذت منهم مالاً كثيراً واسماً جعلوه مشهوراً.

وعدنا يمشي بنا «الترام» إلى جنب النيل وهو عن شمائلنا، وما على أيماننا (كما أذكر) بناء ولا عمران إنما هي حدائق أو بسائط من الأرض، حتى بلغنا أجمل وأعجب مكان في مصر يومئذٍ وأحبه إلى السائحين والزائرين: حديقة الحيوان، لمّا كانت في عزّها وكانت رابعة حدائق الحيوان في العالَم في سعتها وبهائها وكثرة ما فيها من الحيوانات، وكان يمضي المرءُ يومَه كله فيها فلا

(1) رأيتها كذلك لمّا زرت مصر من ست عشرة سنة. ثم إنهم أنشؤوا لباعة الكتب دكاكين صغيرة في وسط الحديقة في ركن منها، فلم تعد الكتب تباع على السور اليوم كما كانت من قديم (مجاهد).

ص: 328

يحيط بها ولا يملّها. ثم وصلنا الجيزة، وما بعدها شيء إلاّ «تراماً» يمشي في خلاء من الأرض إلى الهرم، ما دون الهرم مساكن ولا سكان. وقد سمعت أنه صار الآن شارعاً معموراً، لا عمران العلم والفضيلة والإيمان بل الفنّ واللهو والخسران، والله أعلم بصحة ما سمعت.

* * *

ولمّا كان مساء اليوم الأول من أيامي في مصر أخذوني في جولة أخرى، ثم دخلنا حديقة الأزبكية إلى زاوية منها كانت مقهى ومسرحاً، فلما وصلت إليها أحسست كأني أدخل ماخوراً أو كأني العذراء تلج دار الفواحش، وفررت مذعوراً. قالوا: ما لك؟ قلت: قهوة؟ أنا أقعد في قهوة؟

كانت القهوة عندي في منطقة الممنوعات، أفترون هذا صواباً؟ لقد عرفت بعد حين أنه كان بعيداً عن الصواب. إن الصعوبة في تخطّي الحدود، فإذا بدّلنا مكانها وأدخلنا المكروهات في دائرة المحرّمات سَهُلَ على مرتكب المكروه اقتراف الحرام.

وطال جدالنا وتجمّع الناس من حولنا، ثم غُلبت على أمري فدخلت. ولم تمضِ إلاّ ربع ساعة حتى أُطفئت الأنوار وبدأ عرض فِلْم من أفلام السينما. والغريب أني لم أنكر السينما مثلما أنكرت المقهى، لأنهم أرونا ونحن صغار أيام الحرب العالمية الأولى فلماً عن حرب «جناق قلعة» فتعودت رؤية الأفلام، والعادة تثبت من مرة واحدة!

ص: 329

وكانت سينما صامتة لم تكُن قد نطقت بعد، وأظن ظناً (لا أحقق تحقيقاً) أن السينما نطقت بعد ذلك بقليل وأنها حين نطقت ظهر «الفلم العربي» في مصر.

* * *

في تلك الأيام كانت الدعوة الإسلامية تتمخّض في مصر لتأتي بمولود جديد، وكان ظهور كتاب «الشعر الجاهلي» ومن قبله كتاب «الإسلام وأصول الحكم» مثل أجراس الإنذار وصيحات التحذير، فنبّهت النائمين من العلماء والمصلحين، وكان إنشاء مجلة «الفتح» ، ثم وُلد المولود الجديد:«جمعية الشبان المسلمين» .

وكانت بداية الدعوة الإسلامية النظامية، وفي الحلقة القادمة القليل الذي أعرفه عنها.

* * *

ص: 330