المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

-18 -

‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

تكاثرَتِ الظّباءُ على خِراشٍ

فما يدري خِراشٌ ما يَصيدُ

هذا هو مثالي اليوم. وأنتم تعلمون ممّا بقي في أذهانكم من دروس البلاغة (إن كان قد بقي فيها شيء منها) أن المشبَّه لا يكون كالمشبَّه به في جميع صفاته، بل فيما هو «وجه الشبه». فإن سمعت مغنياً يقول:«يا غزالاً صادَ قلبي» لا تتصوّر أن لهذه الحبيبة التي صادت قلبه ذنَباً كذنَب الغزال أو أنها تمشي على أربع! وإن شبّهوها بالقمر ليلة أربعة عشر لم نتصور وجهها دائرة كاملة كوجه القمر، ولا أنه مثله -كما زعموا- فيه الصخر والحجر!

أنا مثل خراش في تردّده وحيرته، لا في خَلْقه وصورته، لأنه كما تعرفون (أو كما لا تعرفون) كلب وأنا بحمد الله بشر. وإن كان في البشر من يَحسُن به أن يعود فيقرأ كتاب «تفضيل الكلاب على كثير ممّن لبس الثياب» .

* * *

لقد وصلت في هذه الذكريات إلى مفرق الطرق، ففتحت أمامي مسالك لا أستطيع أن أمشي فيها كلها معاً وأحار فلا أدري

ص: 185

أيها أختار: هل أكمل الكلام عن مكتب عنبر وعن أساتذتي فيه؟ أم أتكلم عن نهضة المشايخ؟ أم الثورة السورية؟ أم أُتمّ ما شرعت فيه في الحلقة السابقة ليتصل الحديث ويتسق؟ أتمّ ما شرعت فيه.

قلت لكم إن الذي قدم الشام من طنطا في مصر هو الشيخ محمد، وقد جاء معه أحمد ابن أخيه الكبير (1). والشيخ أحمد هذا هو جدي الذي تُوفّي سنة 1914، وفي ذاكرتي عنه بقايا صور قليلة ولكنها واضحة، وكذلك تكون الصور التي ترتسم في عهد الصغر.

ولقد ساءلت نفسي: لماذا أحدث القرّاء عنه وما انتفاعهم بهذا الحديث؟ ثم رأيت أنه كان «نوعاً» من الشخصيات لا يخلو من طرافة أو غرابة، ثم إنه جدي والكلام عنه حلقة لا بدّ منها في سلسلة الذكريات.

كان جدي «إمام طابور» متقاعداً في الجيش العثماني. وكان للوعّاظ والأئمة في هذا الجيش رُتَب مثل رُتَب الضبّاط وأعلاها رتبة «مفتي ألاي» ، وأحسبها تقابل وظيفة قاضي العسكر قديماً.

(1) أي ابن علي. وقد روى عمّ أمي الشيخ سعيد الطنطاوي (وهو أصغر إخوة جدي) أن جدّ جدي أحمد هذا قد صحب عمَّه محمداً في قَدْمته الثانية إلى الشام لا في قَدمته الأولى. وقد علمتم -ممّا مضى- أن الشيخ محمداً جاء إلى دمشق في المرة الأولى سنة 1255 فمكث فيها خمس سنين، ثم عاد إلى مصر فبقي هناك مثلها وعاد إلى دمشق سنة 1265، فعندئذ وصل معه ابن أخيه أحمد الذي هو جد جدي علي الطنطاوي، رحم الله الجميع (مجاهد).

ص: 186

ولا أعرف أنا ممّن نالها إلاّ الشيخ رضا الزعيم، وهو رجل يستحقّ أن أقف عليه وقفة قصيرة، فقد كان صادقاً مع الله، صدّاعاً بالحق، جريئاً جرأة نادرة المثيل، وكذلك كان ولداه: الولد الصالح هو الصديق الداعي إلى الله الشيخ صلاح الدين رحمه الله، والولد الـ

وهو «المشير

» حسني الزعيم، الذي ابتدع في بلاد العرب بدعة الانقلابات العسكرية سنة 1949، وإن كان قد سبقه الفريق بكر صدقي في بغداد سنة 1936 بانقلاب جزئي غير كامل. وقد حضرت الانقلابَين، وربما تكلمت عنهما.

شارك الشيخ رضا في حرب «الترعة» لمّا أعدّ جمال باشا -بأمر جماعته الاتحاديين وضغط حلفائهم الألمان- حملة حشد لها ما استطاع من العَدد والعُدد لاجتياز «ترعة السويس» وتحرير مصر من الإنكليز. خطب الشيخ رضا الجندَ وذكّرهم الله، ودعاهم ليصحّحوا نياتهم في الجهاد. وتلك سنّة المسلمين قبل كل معركة ليخوضها الجندي على بصيرة، فإذا مات لم يخسر الدنيا بالموت حتى يكون قد ربح الجنة بالشهادة.

وهذا ما يجب أن يعرفه كل جندي مسلم وكل فدائي وكل من يتعرض للمنايا، ينال إن ظفر الثواب ويحظى إذا قُتل بالشهادة. وليس الشهيد الذي يقاتل لمجرد استرداد البلد السليب ولا الذي يموت خدمة للعَلَم ولا تضحية للوطن ولا دفاعاً عن مجد العروبة، بل الذي يقاتل لإعلاء كلمة الله ويموت في سبيل الله. ولو كان هذا قولي أنا لما ألزم أحد منكم باتباعه، ولكنه قول من يُلْزَمُ باتباعه كل واحد منكم: رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ص: 187

لم يخطب الشيخ رضا الجندَ ليحمّسهم ويدفعهم إلى الموت ثم يأوي إلى خيمته ليأكل وينام، بل خطبهم وصاح «الله أكبر» وأقدم، فطارت به قنبلة مدفع من مدافع الإنكليز، فما وجدوا له جسداً يُدفَن، لم يُقَمْ له قبر ولكن أقيم له في قلوب الناس حُسن الذكر، وثبت له عند الله جزيل الأجر، وهذا دعاء لله وليس تألّياً على الله.

* * *

أعود إلى حديث جدّي. كان جدّي نظامياً بطبعه، وزاده عمله في الجيش التزاماً بالنظام وحرصاً على الترتيب، فكانت حياته كحياة تلميذ في مدرسة داخلية، كل حركة فيها بحساب وكل عمل له وقت. فكأنها كانت -على طولها- يوماً واحداً يتكرر؛ منامه في موعد محدّد، وقيامه في موعد محدّد. كانوا يومئذٍ يأكلون مرتين فقط، الفطور بعد صلاة الفجر، والعَشاء بعد العصر. كان عَشاءً مبكّراً أو غداء متأخراً، فليس المهمّ الاسم، بل أن يكون الساعة الثامنة الغروبية (إذ لم يكُن التوقيت الزوالي مألوفاً)(1)، لا يتقدم عنها ولا يتأخر، إلاّ إذا خرجَت الأرض عن مدارها أو أسرعَت في مسارها، أو غابت الشمس قبلَ حين غيابها. وطالما كان يُولِم الولائم يدعو إليها كبار قادة الجيش أو وجهاء البلد، فإذا بلغت الساعة الثامنة باشر الأكل مع من حضر، وإن لم يحضر أحدٌ شرع يأكل وحده.

(1) الساعة الغروبية يعاد ضبطها في لحظة الغروب كل يوم على الثانية عشرة. ومعنى هذا أن وقت عشاء الشيخ أحمد الطنطاوي كان قبل الغروب بأربع ساعات، سواء أكان الوقت صيفاً أم شتاء (مجاهد).

ص: 188

إنه مثل كانط الذي كانت تُضبَط الساعة على موعد خروجه من داره، وإن كان ابن بلده هاينه يقول إنه ليس إنساناً يَشعر بل آلة تتحرك، وشاعرنا (أظن أنه حافظ إبراهيم) (1) يقول:

ولذيذُ الحياةِ ما كانَ فوضى

ليسَ فيهِ مسيطرٌ أو نظامُ

والله أعلم بصحّة ما قاله.

* * *

سكن جدي أولاً مع عمّه في داره الكبيرة وتزوّج ابنته (2)، لذلك كان أبي يُعرِّف نفسه بأنه «سبط الطنطاوي» أي ابن بنته. وكان أهل الشام يحرصون على اجتماع الأسرة كلها في الدار الواحدة، الجد والجدّة والأولاد وزوجاتهم وأبناء هؤلاء الأولاد وبناتهم، لكل منهم جانب من هذه الدار الواسعة، وكلهم يأكل من قِدْر واحدة، تغرف كل أسرة صغيرة وتذهب بطعامها إلى

(1) هو حافظ إبراهيم، وعجز البيت في الديوان:«ليس فيها مسيطر أو أميرُ» (مجاهد).

(2)

خلاصة القصة أن الذي جاء من مصر هو الشيخ محمد بن مصطفى، جاء إلى الشام سنة 1255 فأقام بها خمس سنوات ثم عاد إلى مصر. وكان لهذا الشيخ أخ كبير اسمه علي هو الذي ربّاه بعد موت أبيه صغيراً (في ترجمته أنه نشأ يتيماً في حِجر أخيه الأكبر)، وحين قدم إلى الشام مرة ثانية في عام 1265 جاء معه بابن أخيه علي هذا، واسمه (أي ابن الأخ) أحمد. وكانت للشيخ محمد بنت اسمها مريم فزوّجها ابنَ أخيه أحمد، فولدت له ولداً سمّاه مصطفى، وهو أبو جدي علي الطنطاوي، رحمهم الله (مجاهد).

ص: 189

غرفتها. وكان عمل الدار مقسّماً بين نسائها، لكل واحدة يوم في الأسبوع أو يومان أو ثلاثة، تبعاً لكثرتهن أو قلّتهن. وإذا اجتمعوا عند الجدّ قعدوا متأدبين خاشعة أصواتهم، لا يخالفون له أمراً ولا يجرؤون عليه بطلب ولا يبدؤونه بحديث، بل إنني سمعت من أبي (كما سمعت عنه من أصحابه بعد وفاته) أنه لا يعرف ما لون عينَي أبيه لأنه لم يرفع بصره إليه قط.

ولست أحبّذ هذا الذي أصفه ولا أرى أنه هو الصواب، ولكن أذكر ما كان. أما الذي أحبّذه وأرجو أن نحافظ عليه، فهو ألاّ ننسى أن ابن العمّ أجنبي عن ابنة عمّه، ولو جمعتهما الدار الواحدة، وأنه إن جاز (عند الحاجة) أن تشاركه مجلسَ الأسرة فلا يجوز في دين الله أن تكشف أمامه عن أكثر من الوجه والكفين ولا أن تنفرد به، وعليه أن يغضّ عنها بصره وتغضّ هي بصرها.

وكانت تقع الخصومات وتحدث المشكلات بين أطفال هذه المجموعة فتنتقل إلى الأمهات، وقد يشارك فيها الآباء. وهذا شيء ما منه بد حتى لو انفرد الرجل بزوجته وولده. ولو خلت دار من مثل هذه المشكلات لخلت منها أشرف دار قامت على ظهر هذه الأرض، دار رسول الله عليه صلاة الله، فقد كانت فيها أشياء منها.

ولكنها كانت كاصطدام الغصن بالغصن في الدوحة الباسقة والموجة بالموجة في البحيرة الصافية، وأصلُ الشجرة واحد وماء البحيرة واحد، ولكنها ريح الصبا هبّت في الأصيل فأزاحت الملل وجاءت بالأمل. وهل الحياة إلاّ الحركة، وهل في الحركة غالباً

ص: 190

إلاّ البركة؟ خلافٌ ولكنه على السطح، وما في الأعماق إلاّ الألفة والاتفاق.

وكان جدي يحب أن يكون له المكان الأول، وهو في هذه الدار الكبيرة لا يكون إلاّ الثاني، لذلك استأذن عمه وانفرد بنفسه وأهله، وأخذ داراً صغيرة (دُويرة) من أملاك وقف جامع التوبة.

وفي دمشق مسجد جامع يُعَدّ من مساجد الإسلام الكبار، بل هو أكبرها وأقدمها بعد الحرمَين: وهو الجامع الأموي. ومساجد تليه، في كلّ حيّ من أحياء دمشق، جامع التوبة لحيّ العقيبة وما والاها، ومسجد القصب للعمارة وباب السلام (وكان اسمه باب السلامة)، وجامع السنانية (1) لباب الجابية وما اتصل به، وجامع باب المصلّى، حيث كان مصلّى العيد في أول ميدان الحصى، وجامع منجك، وجامع الدقّاق للميدان، وجامع الشيخ محيي الدين، وجامع الحنابلة، وجامع الشيخ عبد الغني النابلسي، وجامع ركن الدين وهي لأحياء سفح قاسيون، وجامع تنكز، وجامع يلبغا، في المرجة أو بجوارها.

وحيّ العقيبة حيّ صغير فقير في طرف دمشق، وفي طرفه ثلاث حارات، أو لعل كلاً منها مجموعة حارات. أولها «الديمجيّة» ، أي صُنّاع الديما. ولو نظرتم في كتاب «قاموس الصناعات الشامية» للقاسمي لرأيتم أنه كان في الشام صناعات جليلة أصيلة نسيناها، بل لقد نسينا اليوم أسماءها. ورحم الله القاسمي الذي ألهمه الله تأليف هذا الكتاب في وقت لم يكُن يهتم

(1) الذي بناه سنان باشا أعظم مهندس في العهد العثماني.

ص: 191

فيه أحد بمثل هذه الموضوعات، وشكراً لأخينا الأستاذ ظافر رحمه الله أن طبعه ونشره (1).

كان في الشام أقمشة تُنسَج على المنوال وتُباع قطعاً، كل قطعة لثوب واحد، تُسمّى «الصاية» . منها الرخيص المصنوع من القطن ونحوه وهو «الديما» والغالي من الحرير وشبهه وهو «الألاّجة» ، وهو القماش المخطّط اللمّاع الذي تُصنَع منه «قفاطين» المشايخ في مصر، وكنا نلبسه في الشام في الأعياد. تتعدّد فيه ألوان القماش والخطوط المرسومة على القماش وأشكال هذه الخطوط فيكون منه عشرات وعشرات من الأنواع، وهو متين يكاد يعيش مع لابسه شطر عمره ولا يبلى.

فالديمجي هو صانع الديما. ولما درّسونا التركية أيام الحرب الأولى علّمونا أن النسبة إلى الصناعات تلحقها غالباً جيم قبل ياء النسبة، فنقول: بندقجي وكندرجي، وإلى البلدان بزيادة لام قبلها، فنقول: إزميرلي (نسبة إلى إزمير) وأورفلي (نسبة إلى أورفا، وأورفا هي الرُّها قديماً). وأنا أكتب هذه الذكريات كلها من

(1) كان الشيخ محمد سعيد القاسمي (وهو من علماء دمشق) من العارفين بالصناعات الشامية، فأنشأ كتاباً فيها سمّاه «بدائع الغُرَف في الصناعات والحِرَف» جعله مرتّباً على حروف المعجم، فلما بلغ أواخر حرف السين توفي، فأتمّه ابنه الشيخ جمال الدين (صاحب التفسير) مشترِكاً مع خليل أسعد العظم وأسمياه «قاموس الصناعات الشامية» . وللشيخ محمد سعيد كتاب نفيس آخَر في دمشق اسمه «حوادث دمشق اليومية» . والأستاذ ظافر القاسمي الذي نشر كتاب الصناعات هو ابن الشيخ جمال الدين (مجاهد).

ص: 192

ذهني ما عندي شيء مكتوب أرجع إليه وأعتمد عليه، فإن أخطأت أو بدّل الترك ما تعلمناه يومئذٍ من قواعد لسانهم فسامحوني.

وإلى جنب الديمجية حارة تُسمّى «حارة تحت المئذنة» ، كان فيها من مشايخنا ومن أصدقائنا الشيخ أبو الخير الميداني والشيخ محمود ياسين الحمامي. وحارة اسمها «السمّانة» ، وهي أكبر من حارة، إنها حيّ صغير. وبينهما طريق ضيّق متعرج يضل فيه الخرّيت (1)، لذلك كان اسمه الذي يُعرَف به بين الناس هو «محلّ ما ضيّع القرد ابنه» !

وفي حارة السمّانة كان منزل آل الزعيم، ومنزل رفيقَي العمر: الشاعر أنور العطار والأستاذ أحمد مظهر العظمة رحمهما الله. وكان في دمشق (كما كان في أكثر البلاد) أحياء وحارات يتجمع فيها أرباب الصناعة الواحدة فتُعرف بهم وتُنسَب إليهم؛ ففي الشام سوق القطن، وسوق الحبوب، وسوق الحرير، وسوق الصاغة، والحدادين، والمناخلية، وسوق النحّاسين. وقد وجدت في «فتوح البلدان» للبلاذري أن «قصر البَريص» (2) كان -كما يقول- في موضع سوق النحّاسين مقابل باب الفرج. وباب الفرج هو باب المناخليّة، وهما بابان: باب في السور الداخلي وآخر في

(1) الخرّيت: الخبير بالطرق. وخالد بن عبد الله القسري أمير العراق المشهور كان يُلقّب في شبابه بخالد الخرّيت، كما قال أبو الفرج في الأغاني.

(2)

إذ كانوا كما يقول حسّان:

يُسقَونَ مِنْ قصرِ البَريصِ عليهمُ

برَدى يصفّقُ بالرحيق السّلْسَلِ

ص: 193

السور الخارجي، وهما باقيان إلى الآن. فالسوق إذن في موضعه الذي كان عليه قبل الإسلام.

وسوق القباقبية حيث تُصنَع القباقيب، وقد كان في موضعه «الدار الخضراء» دار معاوية وأكثر الخلفاء من بني أمية، جنوبي الجامع ووراء جدار القبلة، ولا يزال الباب الذي كان يدخل منه الخلفاء إلى المقصورة ظاهراً ولكنه مسدود. أما عمر بن عبدالعزيز فقد كانت داره في موضع المدرسة السميساطية شمالي الجامع، وهشام كانت داره في موضع مدفن نور الدين زنكي في سوق الخياطين.

* * *

كل ما في الدنيا يولد ويموت، يقوى ويضعف، يعزّ ويذلّ؛ فالدار الخضراء التي كانت يوماً عاصمة الدنيا وسرّة الأرض، ومنزل الخلفاء من بني أمية الذين كانوا يحكمون ما بين قلب فرنسا وقلب تركستان وأطراف باكستان، وكانت محط الآمال ومطمح أنظار الرجال، صارت سوقاً للقباقيب!

ولم يبقَ من اسم الخضراء إلا مصبغة صغيرة تحت الأرض، هي المصبغة الخضراء!

* * *

ص: 194