الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم. اللهم لك الحمد، اللهم وفّقنا لما ترضى واختم لنا بالحسنى. وبعد:
فهذه ذكرياتي، حملتُها طول حياتي وكنت أعُدّها أغلى مقتنياتي، لأجد فيها يوماً نفسي وأسترجع أمسي؛ كما يحمل قِربةَ الماء سالكُ المَفازة لتردّ عنه الموت عطشاً. ولكن طال الطريق وانثقبت القِربة، فكلما خطوت خطوة قطرَت منها قطرة. حتى إذا قارب ماؤها النفاد، وثقل عليّ الحمل، وكَلّ مني الساعد، جاء مَن يرتق خرقَها ويحمل عني ثقلها ويحفظ لي ما بقي فيها من مائها، وكان اسمه زهير الأيوبي.
جاءني يطلب مني أن أدوّن ذكرياتي في مجلة «المسلمون» لمّا عزم الأخوان الأستاذان هشام ومحمد ابنا أخي الأستاذ علي حافظ على إصدارها. وكان نشرُ هذه الذكريات إحدى أمانيّ الكِبار في الحياة، ولطالما عزمت عليها ثم شُغلت عنها، وأعلنت عنها لأربط نفسي بها فلا أهرب منها، ثم لم أكتبها، بل أنا لم أشرع بها؛ لأني لا أكتب إلا للمطبعة. لذلك لم أجد عندي شيئاً مكتوباً أرجع عند تدوين الذكريات إليه وأعتمد عليه، وما استودعتُ الذاكرة ضعفت الذاكرة عن حفظه وعجزَتْ عن تذكّره؛ لذلك
أجّلت وماطلت وحاولت الهرب من غير إبداء السبب، وهو يحاصرني ويسدّ المهارب عليّ ويمسك بأدبه ولطفه وحسن مدخله، يمسك لساني عن التصريح بالرفض. ثم اتفقنا على أن أحدّث بها واحداً من إخواننا الأدباء وهو يكتبها بقلمه، واخترنا الأخ العالِم الأديب إبراهيم سرسيق، فسمع مني ونقل عني، وكتب حلقتين كانتا من براعة الاستهلال لهذا الكتاب. وما قصّر أحسن الله إليه، بل لقد تطوّل وأحسن وأجمل، ولكن لا يَحُكّ جسمَك مثلُ ظفرك، فكان من فضله عليّ أن أعاد بعض نشاطي إليّ، فبدأت أكتب.
ولولا زهير الذي اقترح، ولولا إبراهيم الذي نشّط وشجّع، لما كتبتُ؛ فلهما وللأستاذين هشام ومحمد، ولَدَي الأستاذ علي حافظ وابنَي أخ الأستاذ عثمان حافظ، رائد الصحافة في هذه البلد، لهم الشكر.
والشكر لولدي وصهري صاحب دار المنارة التي تقدّم الطبعة الأولى من هذه الذكريات، ولحفيدي الذي عمل على ترتيبها وتنسيقها وإعدادها للطبع. وإن كان صهري محمد نادر حتاحت وحفيدي مجاهد ديرانية مني، ليسا غريبين عني، فإن شكرتهما فحمداً لله أن رزقني مثلهما، وإلاّ فما يشكر امرؤٌ نفسَه.
والشكر للأستاذ محمد علي دولة، الذي آثر العمل في نشر الكتب على التعليم الذي كان من أهله وكان موفَّقاً فيه، لما يجد في النشر من نفع الناس ورجاء ثواب الله. فهو الذي وقف على
طبع الكتاب ووضع فيه ذوقه وفنه وخبرته وتجرِبته.
* * *
بدأتُ كتابة الذكريات وليس في ذهني خطّة أسير عليها ولا طريقة أسلكها، وأصدُق القارئ أني شرعت فيها شبه المكرَه عليها، أكتب الحلقة ولا أعرف ما يأتي بعدها، وكثيراً ما كنت أنسى ما الذي كتبته في التي قبلها، فجاءت غريبة عن أساليب المذكّرات وطرائق المؤرّخين؛ فمن المؤرّخين من مشى مع السنين اقتداء بشيخهم وشيخ المفسّرين الطبري، فقطّع الحادث الواحد تقطيعاً فأضاع وَحدته وأبلى جِدّته، ومنهم من جمع الأحداث، ربط مبداها بمنتهاها ولكنه أخفى زمانها.
ووجدت الذين كتبوا مذكّراتهم في هذه الأيام منهم من اعتمد على وثائق مدوَّنة أو وصف للحادثات كتبه في حينها. وأنا لا أملك إلا بعض الأوراق الرسمية المدرسية أو الوظيفية أو الصور الشمسية، وكثيرٌ منها لم يكُن تحت يدي وأنا أكتب، وقلت لنفسي: إن جاءت مهوّشة على غير نظام فكذلك الدنيا؛ الدنيا فيها صحو ومطر، ومسرّة وكدر، ويسر وعسر، وضحك وبكاء، وشدة ورخاء. ولكن هل يأتي ذلك على ترتيب معروف ونهج واضح؟
كذلك جاءت ذكرياتي.
ولعلي إن مدّ الله في الأجل ونشّطني للعمل أعود إليها فأستأنف النظر فيها فأَنْظمها في خيط واحد، أضمّ النظير إلى نظيره، أجمع الأشياء وأؤلف بين النظائر حتى يأتي الحديث
مسلسَلاً. وإن لم يقدَّر لي ذلك فحسبي أن أنقذت من النسيان ما أمكن إنقاذه.
هذا وأنا إلى الآن قد كتبتُ (أو أنا على الصحيح قد أمليتُ وكتبوا)(1) مئة وثلاثين حلقة ولا أزال في سنة 1359هـ، فهل أصل إلى نهاية الشوط؟
اللهم إن أحييتني فوفّقني لما يرضيك، وإن توفّيتني فعلى دينك، واكتب لي بكرمك العفوَ عن سيئاتي والنجاةَ يوم الحساب.
مكة المكرمة: صفر 1405هـ
علي الطنطاوي
(1) الصحيح أنه كتب وأملى؛ فقد كتب بيده ثمانين حلقة، ثم كَلّ من الكتابة ومَلّ فصار يُملي الحلقة إملاء، يسجّلها بصوته على شريط فتطبعها الجريدة، ثم تردّها إليه مطبوعة لتصحيحها قبل نشرها (مجاهد).