الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-21 -
ثورة في المدرسة
مرّ على دخول الفرنسيين دمشق أربع سنين وجاءت الخامسة، وكانت دمشق كالحطب الجافّ ينتظر أن تلامسه النار ليشتعل. ومن شأن الحطب الجزل أن يبطئ دخول النار فيه ويبطئ خروجها منه، فلا بدّ لاشتعاله من أعواد صغار أو حزمة من القش، وكان الطلاب كهذه العيدان، وطلاّب مكتب عنبر على التخصيص. ففي سنتنا الأولى فيه كانت الفورة (ولا أقول الثورة) على المدير الأميرالاي، أي الكولونيل سابقاً في الجيش العثماني شريف بك رَمُو، وكانت محدودة بجدران المدرسة لم تجاوزها.
وفي الثانية (وكنت في الصف الثامن) كانت فورة أكبر، خرجَت من المدرسة فامتدّت واتسعت حتى شملت البلد كله وشارك فيها أهله جميعاً، وكانت الحلقة الأولى في سلسلة النضال للاستقلال التي بدأت بهذه المظاهرة (1) ثم تعاقبت فيها
(1) بل كانت قبلها حلقة يوم وصلت دمشق بعثة كراين الأميركية لتقصّي الحقائق، ولم أشهدها ولكن سمعت خبرها.
المظاهرات، ثم كانت الثورة الكبرى، ثم عدنا إلى حرب الشوارع وسلاح الإضرابات والاضطرابات حتى كان الجلاء التامّ.
أقصد جلاء الأجنبي بجيوشه عنا، حتى لم يبقَ له جندي واحد يخطر على أرضنا، ولا قلعةٌ مدافعُها موجّهة إلينا، ولا رايةٌ ترفرف فوق رؤوسنا. تم هذا الجلاء، ولكن لم تجلُ أفكاره عن رؤوس أولادنا، ولا مبادؤه عن أحزابنا، ولامناهجه عن مدارسنا، ولا قوانينه عن محاكمنا. وهذا هو الاستعمار الذي يهون معه استعمار الديار. إن البذور التي بذرها المستعمر قبل رحيله أنبتت نباتاً لم نذق مثل مرارته أيام الاستعمار، وكان ما أبقاه فينا بعد نزوحه عنا أشدَّ علينا مما حمله معه لمّا جاءنا.
فكيف أخرجَت أرضنا السم الذي يودي بنا؟ كيف رأينا ممّن خرج من أصلابنا من هو أنكى علينا من عدوّنا؟ دعوني أقُل كلمة ليست من الذكريات. لقد رأيت في هذا العمر الذي عشته مِن تبدّل الدول وتحوّل الأحوال ما هو عبرة من العبَر لمن شاء أن يعتبر. إنه ما مرّ بنا عهدٌ -على كثرة ما مر من عهود- إلاّ بكينا فيه منه، وبكينا بعده عليه! أفقُدّر علينا أن نستكبر الشرّ فنأباه، ثم نرى ما هو أكبر منه فنطلبه فيأبانا؟
استكبرنا التقسيم في فلسطين ثم رأينا ما هو أكبر منه فطلبنا التقسيم، وأبينا ما كان قبل سنة 1967 ثم عدنا نطالب بإزالة آثار العدوان والعودة إلى ما قبل 1967! وأمثلة كثيرة على هذا الأصل.
هذا واقع السياسة وموقف أهلها. أما نحن، نحن المسلمين،
فلا نَهِنُ وإن مسّنا الضر، ولا نحزن وإن حاق بنا الأذى، ولا نساوم في دين الله ولا نوالي عدوّ الله، ونؤمن بأن الله الذي نزّل الذكر هو الذي يحفظه وأن العاقبة للتقوى. لا نرتاب بديننا ولا نشكّ بوعد ربنا.
* * *
نحن في سنة 1925 والبلاد تتمخض بالثورة وكأنها «برميل» بنزين: نار كامنة لا تحتاج لتظهر إلاّ إلى شرارة، نفوس متوثبة مستعدة للهجوم لكنها ترقب الإشارة.
وجاءت الإشارة، لا الإشارة للثورة فلم يَئِنْ أوانها، بل لإحدى مقدّماتها.
هل تعرفون قصة المحتال الذي وجد غنياً مغفّلاً فأحب أن يسلبه ماله فباعه الأهرام؟ لقد اشتهرت القصة حتى جعلوا منها مسرحية! إنه مجرم باع شيئاً لا يملكه وأخذ به ثمناً لا يستحقه، والذي اشترى أحمق لأنه ظن أنه ملَكَ الشيء الذي اشتراه ممّن لا يملكه. ربما كانت القصة مكذوبة متخيَّلة، فما تهمّني صحتها ولا جئت أحقّق خبرها بل جئت أروي قصة مثلها؛ من نوعها وجنسها ولكنها أكبر منها وأشدّ ضرراً وأعمق في الشرّ أثراً، وهي -بعدُ- صحيحة لا يجادل أحد في صحتها.
قصة رجل وهب أرضاً لا يملكها هو ولا أبوه ولا قومه، لمجموعة من اللصوص الأشرار ما لهم فيها ذرّة من الحقّ، ولا كهرب واحد (إلكترون) من كهارب الذرة الواحدة. وهب فلسطين
لليهود الملاعين! وإن قلت ملاعين فما أشتمهم، بل أصفهم بما خبّر ربنا أنه فيهم {لُعِنَ الذينَ كفروا مِن بَني إسْرائيلَ على لِسانِ داوُدَ وعيسى بنِ مريمَ} .
لَعن الذين كفروا نبيّان من أنبيائهم. وكل ما بقي من بني إسرائيل اليوم هم من الذين كفروا، لأن القاضي الذي يحكم بقانون أُبطِلَ أو عُدّل ويرفض التعديل الذي أمر به من وضع القانون، هذا القاضي ينزلونه من قوس المحكمة إلى قفص المتهمين. وكذلك كل من اتبع شريعة رسول بعث الله رسولاً بعده يعدّلها أو يبطلها.
وصول هذا الرجل (واسمه بلفور) إلى دمشق كان الشرارة التي فجّرت برميل البنزين.
ما كان جمهور الناس يعرف بلفور الوزير البريطاني ولا وعده الذي تَحمل دولتُه وزرَه، وما كانت قضية فلسطين قد ظهرت وعُرفت وصارت القضية الكبرى. الذي عرف قصة هذا الوعد الآثم هم طلاّب «مكتب عنبر». لقد تساءلوا: مَن الذي أعطى هذا الرجل حقّ التصرف بفلسطين؟ كيف سوّغ له هذا شرفُه إن كان له شرف؟ كيف برّره له عقله، وله ولا شك عقل؟ وغضب الطلاّب، وزاد غضبَهم أن هذا الرجل سيزور الجامع الأموي.
كلا، هذا لن يكون! وخرجوا بالمظاهرة، وانشطرت المظاهرة شطرين؛ أما أحدهما فذهب إلى الأموي فأغلق أبوابه كلها، وأما الآخر فتوجّه إلى الرجل في فندق فيكتوريا الذي كان مقابل المصرف على الضفة الأخرى من بردى، وقد ذهب الفندق الآن ومشى فوق رفاته شارع، وركب ظهرَ الشارع جسرٌ يمر عليه
الناس والسيارات وُدفن تحته أشهر فندق عَرَفَته دمشق، أوتيل فيكتوريا، على اسم ملكة الإنكليز العجوز.
* * *
لا تسألوني أين كنت في ذلك اليوم وأين أنا من أحداثه؟ إن جوابي ليس في مصلحتي. إنني لم أكُن في العير ولا في النفير، لا في القافلة ولا مع المقاتلة. لماذا؟ لأنني (صدّقوني) لم أكُن أدري بشيء من كل ما حدث!
ومن أين أدري وأنا أعيش بين بيتي ومدرستي، ما لي صديق أسأله ولا عندي صحيفة أقرؤها ولا كان في الدنيا إذاعة أسمعها. لذلك ذهبت إلى المدرسة كما كنت أذهب كل يوم، فلم أجد فيها أحداً فعجبت. وقُرع جرس الدخول إلى الصف فدخلت، وكنت وحدي. وجاء المدرّس لأنه لم يكُن يستطيع ألاّ يجيء، ونظر إليّ ووجهه ينطق بالازدراء لي.
أنا وعدت في مقدمة هذه الذكريات أن أقول الحقّ، أقوله بلا تزيد إن كان لي وأقوله بلا تردّد إن كان عليّ. لقد كان الحقّ مع المدرس أن ازدراني؛ كيف لا يُزدرى طالب يخالف إخوانه كلهم ويتجاهل موقف أهل بلده جميعاً؟ من يصدّق أنني لم أدرِ بشيء؟ من يصدّق؟
وخرجت أجرّ رِجلَيّ، فوجدت باب المدرسة مفتوحاً فخرجت. وكانت سوق الحميدية مغلَقة ما فيها أحد، ووصلت إلى شارع النصر (شارع جمال باشا) الذي لم يكُن في دمشق شارع غيره، فصرت في وسط اللُّجّ. بحر من الناس تلتطم أمواجه،
يهجمون يرجمون الجنود بالحجارة، ولقد رأيت رجلاً أمسك بحجر ربما زاد وزنه على كيل، فقذف به من فوق الشجرات الكبار التي كانت في الشارع. فإذا كرّ عليهم الجند فرّوا، فإذا ولّوا رجعوا. فدخلت بين الناس علّي أعتذر أمام نفسي بأني شاركت الناس فيما هم فيه.
* * *
كان ذلك سنة 1925، فاسمحوا لي أن أقفز إلى الأمام أربعة أعوام لأني لا أحبّ أن أدعكم اليوم وهذه الصورة هي صورتي في نفوسكم، إلى سنة 1929 وأنا يومئذٍ في شعبة الفلسفة، وقد نجحت في امتحان البكالوريا.
بقيت على عزلتي إلى تلك السنة، فجئت يوماً فخُبّرت أن جماعة من الطلاب منهم أخونا الشاعر أنور العطار رحمه الله قد طُردوا من المدرسة ثلاثة أيام لأنهم خالفوا أمر المراقب وسهروا محتفلين بليلة النصف من شعبان، فلم أبالِ بالأمر ولم يبالِه إخواني. إن العقاب طفيف والسبب هيّن، والاحتفال بليلة النصف من شعبان لم يأمر به الدين ولم تَجرِ به السنّة.
ونمت في موعدي لا أفكر في ذلك، حتى إذا كان السحَر فإذا أنا بفكرة تسيطر عليّ بلغ من قوتها أن أيقظتني من منامي؛ هي أن أذهب إلى المدرسة صباحاً فأنتظر قرع الجرس للدرس، فإذا قرع وقفت على واحد من هذه المقاعد المحيطة بالساحة فخطبت أدعو إلى الإضراب أو يُعاد مَن طُرِدَ من الطلاب.
وصلّيت الفجر ولبثت قاعداً أرقب طلوع النهار، فما كاد يطلع حتى ولّيت وجهي شطر المدرسة. ولم يكُن لي أبٌ أستأذنه فقد تُوفّي أبي قبل تلك السنة، ولم يكُن لي أخ كبير أستشيره، فكنت أصدر عن رأي نفسي وحدها. ووجدت باب المدرسة مغلَقاً لمّا يُفتَح، فمررت برفيقي محمد الجيرودي (المحامي) وكان يسكن بجوار المدرسة، فأمضيت عنده ساعة وخضت معه في كل حديث، ولكنني لم أعرج على ما في نفسي ولا أشرت إليه. وذهبنا إلى المدرسة معاً، فلما قُرع الجرس وهمّوا بالدخول وقفت فخطبت، وهيّجت وحمّست ودعوت إلى الإضراب. فاستجابوا جميعاً، لا لما ألقيت عليهم بل لما كان من الاستعداد في نفوسهم، فقد كانوا يلبّون إن دُعوا بهمسة يهمس بها صاحبها ويختبئ، فكيف وقد دُعوا (لأول مرة) بخطبة معلَنة يلقيها صاحبها ويقف؟
ذلك لأنها كانت أيام نضال، وكانت الأمة كلها كالجنود في الثكنة؛ ينامون على استعداد ويقومون على استعداد، لا يسمعون صوت الداعي حتى يفزعوا إلى أسلحتهم ويهبّوا سِراعاً إلى صفوفهم، فلا ترى البلدة هادئة مفتّحةً أسواقُها حتى تسمع من كل دكّان صوت الغَلَق ينحدر، وترى المظاهرات قد قامت ودبّابات الفرنسيين قد نزلت والمعارك قد ابتدأت.
لم يكُن مكتب عنبر في الحقيقة مدرسة، بل كان يومئذٍ مجمع الشباب المثقّف ومصدر كل حركة وطنية، وكان لُبّ البلد. وكانت الإضرابات تُعَدّ في الخفاء لئلاّ يُعرَف مَن دعا إليها فيعاقَب، فلما رآني الطلاّب أجهر وأُعلِم لا أختفي ولا أتوارى،
عجبوا مني وأُعجِبوا بي، وصرت في لحظة زعيم المدرسة (1).
وجرّبَت الإدارة الترغيب والترهيب ولجأت إلى الوعيد والتهديد، ونزل المراقب ثم المدير الثاني، ثم المدير الأول والأساتذة، فكنت أردّ على كل محاولة بخطبة جديدة، فوجدوا الأمر أصعب ممّا كانوا يقدرون ويعرفون فخبّروا الوزارة. فجاء مدير المعارف الأستاذ شفيق جبري، فألقى كلمة أدبية بليغة وردَدْتُ بكلمة أذهبت أثرها. ثم جاء الوزير نفسه، وكان أستاذنا الكبير محمد كرد علي، فصحت به من مكاني: يا معالي الوزير! فمضى قدماً ولم يلتفت إليّ. فأعدت النداء فما وقف، فأسمعته كلاماً استوقفه، ثم حول وجهه إليّ فسمع مني وأجابني.
وكنت يومئذٍ في قمة القدرة على الخطابة والارتجال، لا أحتاج إلاّ إلى ابتداء الكلام حتى تنثال عليّ المعاني وتزدحم الخواطر، وينطلق اللسان يعبّر عنها ببليغ الكلام. وكنت يومئذٍ فتيّ الذاكرة كثير المحفوظ، لم تُضعِف ذاكرتي الأيامُ، فكانت كل خطبة كأنها قطعة أدبية من الأسلوب الفحل تفيض بالآيات والشواهد والأمثال، فضعف مع الأيام جَناني وكَلّ لساني، على أن فيّ بحمد الله بقية (لا تزال) تسرّ الصديق، وتكبت العدوّ (2).
وفُتح باب المدرسة فخرجت وخرجوا ورائي، وكان حولي
(1) من مقدمتي لكتاب «مكتب عنبر» تأليف الأستاذ ظافر القاسمي. وقد تُوفّي رحمه الله سنة 1402، وهو أصغر مني سناً وكان في المدرسة بعدي بسنوات.
(2)
من مقدّمة «مكتب عنبر» ، وبقية الكلام هناك.
فئة من الشباب الأقوياء والحارس الخاصّ عبد الستار العلمي (الدكتور الذي كان هنا، رحمه الله، وكان معي من يحمل سلّماً قصيراً، فحيثما تجمع الناس صعدت عليه فخطبت.
نفذنا إلى سوق الحميدية، فالسنجقدار، فالمرجة، فإلى قصر الحكومة. وحيثما مررنا أُغلقَت المخازن ومشى الناس وراءنا، حتى أحاطت جموعٌ لا يُحصيها العادّ بالقصر والبلدية القديمة وإدارة الشرطة. وصعدت على العمود التذكاري أمام قصر الحكومة أخطب وأنادي رئيس الحكومة، ففتح باب الشرفة الكبيرة وأطل منها علينا، وكان الرئيس الشيخ تاج الدين ابن الشيخ بدر الدين الحسني. وكانت خطبة كلماتها من نار الحميم وأسلوبها من هبّة العواصف.
سقى الله تلك الأيام! لقد أسكرني هذا الفوز فكدت أتدحرج فأنحدر في هذا الطريق لولا أن تداركني الله فأراني عاقبته. لقد اغتررت بالحلاوة في أعلى الكأس فأذاقني الله طعم المرارة في أواسطها وفي قعرها.
وعَدَ الشيخ تاج وهدّأ وشجّع، بل وشكر. فلما تفرق الجمع وصرت وحدي أمسكوا بي فلم أنتبه إلاّ وأنا في حاشرة (زنزانة) طول أرضها متر وعرضها متر، وحيد فريد ليس حولي من أخطب له ولا من يصفّق لي. لا أستطيع أن أضطجع ولا أن أمدّ رجلي، وليس من حولي إلاّ جدران مغلقة ليس لها نافذة، ولا معي فيها أحد. فقعدت أفكر.
كنت في أول النهار طالباً مغموراً يمشي في جماعة الناس لا
يعرفه أحد فيضرّه أو ينفعه، فما جاء الظهر حتى صرت عَلَم البلد وأضحيت ملء الأبصار والأسماع، فما صار العصر حتى كنت سجيناً ذليلاً مسلوب الحرية معرّضاً للأذى.
هذه هي حياة السياسيين المغامرين: يوم في الذروة ويوم في الحضيض؛ يأكلون يوم السبت «البقلاوة» ولا يجدون الأحد ولا الخبز اليابس! إنهم كالذي يحتلّ مقعداً في الصف الأول من المسرح، إنه أكبر والمنظر فيه أجمل ولكنْ ليس له رقم ووراءه مَن ينتظر غفلته ليرميه عنه ويحتلّه دونه. أفليس خيراً منه مقعد في الصف الثاني، ولكنه مرقّم محفوظ، إن قمتَ عنه رجعت إليه فوجدتَه؟
وقررت من ذلك اليوم أن أقعد في الصف الثاني.
* * *