الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-32 -
ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر
لا أزال في الكلام عن سفرتي الأولى إلى مصر سنة 1928. وقد تعجبون إذ أؤرّخ تارة بالتاريخ الميلادي وتارة بالهجري؛ إني أكتب التاريخ كما هو عالق بذاكرتي. وكان خيراً لنا جميعاً وأولى بنا أن نقتصر على التاريخ الهجري، وإن احتجنا إلى توضيحٍ وضَعنا الميلادي بين قوسين.
شهدت في تلك السفرة بداية الدعوة الإسلامية «المنظَّمة» . لا أقول إنها لم تكُن دعوة قبلها أو لم يكُن دعاة، فكل من عرفت من مشايخي وكثير من أساتذتي كان من أكبر ما يهتمّون به ويُقبِلون عليه دلالة الناس على الله وإرشادهم إلى طريق رضاه، كانت الغاية واحدة ولكن تعدّدَت الطرق إليها بتعدّد اجتهاد أصحابها، وما انقطعت الدعوة أبداً، ولكنا كنا في «عصر انتقال» كالذي مر به المسلمون في صدر الدولة العباسية ومرّ به الرومان لمّا اختلطوا باليونان، ولقد كانت هذه الظاهرة (1) موضوع أول محاضرة ألقيتها سنة 1345هـ وأنا يومئذٍ طالب، ولا تزال «الظاهرة» موجودة،
(1) الظاهرة بالمعنى الاصطلاحي لا اللغوي.
لذلك أعود إلى الكلام فيها كلما عادت دواعي الحديث عنها. وضربت في تلك المحاضرة مثلاً لها لا أزال أعود إليه لأني لم أجد إلى الآن مثلاً أصدق منه: بردى حين يلتقي بنبع الفيجة فيمشيان معاً نحو مئة متر لا يختلطان، تملأ كأسك من بردى من اليمين ماءً نظيفاً لكن فيه شيئاً من العكر، وتملؤها من الشمال من الفيجة ماءً عذباً زلالاً ليس في الدنيا أعذب منه ولا أصفى ولا أبرد (1). ثم يمتزجان فيكون منهما نهر جديد ليس في صفاء الفيجة ولا في اغبرار بردى.
هذا مثال الأمم في مراحل الانتقال؛ حين تلتقي حضارتان ويمتزج شعبان، أو تجتمع عقليتان وثقافتان. وكل شعب من الشعوب العربية جاز هذه المرحلة، بعضهم خلص منها أو نأى عنها، وبعضهم لا يزال فيها.
كان في مصر مثلاً (أيام سفري إليها) مشايخ وأفندية، أزهر وجامعة، محاكم شرعية ومحاكم مدنية
…
يختلفان في الزيّ وفي التفكير وفي تقويم (لا تقييم)(2) الحياة، يمشيان كالخطّين المتوازيَين يتجاوران ولا يتلاقيان، يتكلمان بلسانَين ويفكّران بعقلين، فلا يكاد الشاب يفهم ما يقول الشيخ ولا يرتضي تفكيره، ولا كان الشيخ يعرف الطريق إلى إفهام الشاب وإثارة اهتمامه بما يفكر هو فيه.
(1) يتراهن الناس: من يستطيع أن يُبقي يده فيه خمس دقائق؟ إنه ماء مثلّج (أو ثلج مموّه).
(2)
تقييم غلط ولو حاولوا تبريره! وأصلها قام (أي قَوَم).
وكانت هذه هي العلة الكبرى. ولقد ظهر أفراد جمعوا طرفَي الخيط ولكنهم كانوا قلائل، حاولوا أن يقرّبوا العلوم الجديدة (أو الفكر المعاصر) من الإسلام، منهم من صنع ذلك باعتدال كالشيخ محمد عبده في مصر وصاحبه السيد رشيد رضا، ومنهم من أوغل فيه حتى جانَب الحقّ وخالف (أو كاد يخالف) الإسلام كالسيد أحمد خان في الهند، وأفراد بلغوا الغاية في تحصيل العلوم «الجديدة» والأستاذية فيها وكانوا على إلمام تامّ أو اطّلاع كافٍ على العلوم الإسلامية، من أظهرهم محمد أحمد الغمراوي في مصر وأحمد حمدي الخياط في دمشق، وكلاهما كان من أساتذة الجامعة.
* * *
لذلك كانت الحاجة إلى أسلوب جديد في الدعوة غير أسلوب الكثير من المشايخ، على ما كان لهم من علم وفضل وتقوى. ونبّه الناسَ إلى هذه الحاجة «الفتنةُ الكمالية» في تركيا وبروز جماعة كأنهم تأثروا بها وأرادوا (ولو لم يشعروا) التمهيد لمثلها، وظهر ذلك في كتب شبلي شميل وسلامة موسى، وفي كتاب «في الشعر الجاهلي» وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» (1).
وكانت الصرخة قوية حتى سمعها الذين كانوا مستغرقين في النوم، فهبّ ناس منهم وأدركوا الخطر. فكُتِبَت الردود: أستاذنا الشيخ محمد الخضر حسين ألف «نقض كتاب الشعر الجاهلي» ،
(1)«في الشعر الجاهلي» لطه حسين و «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق (مجاهد).
ولطفي جمعة وآخرون لا أذكرهم الآن بأسمائهم ولكن الله يذكرهم ويشكر لهم ويجزل ثوابهم، والدكتور الغمراوي بكتابه «النقد التحليلي» الذي خاطب فيه طه حسين بلسانه ونقض عليه بنيانه بمِعْوَله، ورجع بالحقّ إلى الينابيع التي استقى منها بالباطل، وقدّم للكتاب أميرُ البيان الذي كان سفيراً دائماً في أوربا، سفيراً للعرب وللمسلمين ينبّههم ويدافع عنهم، ينفق من جيبه لا من خزانة دولة ولا من صندوق جمعية، يعيش عيش الكفاف يقرأ ويكتب، والذي كتبه الأمير شكيب أرسلان بقلمه وبخطه يعدل ما كتبه عشرة من أكبر كتّاب العصر، وله فوق ذلك شعر جيد.
والذي جمع هذه الأقلام وكان لها بمثابة مركز القيادة أو مكان الأركان (أركان الحرب) مجلة «الفتح» .
مجلة «الفتح» كان لها عمل عظيم عظيم في تنبيه المسلمين وإيقاظهم وإرشادهم، والتمهيد لهذه الصحوة الإسلامية التي نراها ونحمد الله عليها اليوم، والتي نسأله دوامها وتصحيح مسارها ودرء الأذى عنها. ولعل الله يُلهِم واحداً من طلاب الدراسات الإسلامية في جامعاتنا إعداد رسالة أو أطروحة عنها.
ولقد كانت قبلها «المنار» ، وللمنار أثر لا ينكر في العقيدة وفي العلم وفي (توعية) المسلمين، وفي مجموعتها -لمن استطاع الحصول عليها- كنز تُستخرَج منه عشرات من الكتب، كما فعل الصديق العامل الدائب على التأليف الدكتور صلاح الدين المنجّد حين استخرج فتاوى السيد رشيد رضا وأفردها بالطبع.
أنشأ محب الدين «الفتح» في آخر سنة 1344 (1926)،
وكان من أثر الازدواجية بين المشايخ والأفندية أنه جاء بشيخ أزهري هو الشيخ عبد الباقي سرور نعيم (كما أذكر) فجعله رئيس تحريرها! كانت «الفتح» أوعى مجلة إسلامية، توجّه حتى في عناوين الأخبار العامّة التي تنقلها عن وكالات الأخبار فتحوّل بالعنوان مغزى الخبر عمّا تريده الوكالة إلى ما يوافق خطة «الفتح» ويريده الإسلام.
ومن المجلات الواعية التي عرفتها، أقول منها ولا أسمّيها كلها، «البصائر» مجلة جمعية علماء الجزائر التي كان يشرف عليها ويكتب بقلمه البليغ افتتاحياتها الصديق الشيخ البشير الإبراهيمي، و «الضياء» للأستاذ مسعود الندوي في الهند، و «المجتمع» التي تصدر اليوم في الكويت، و «الرائد» التي تصدر في الهند فيما تُصدر المؤسسة الإسلامية الجليلة «ندوة العلماء» .
لمّا وصلت مصر كان قد مر على ظهور «الفتح» سنتان، ولكنها استطاعت أن تكون بتوفيق الله مجلة العالَم الإسلامي. وكان لها مواقف مشهودة في الرد على «الشعر الجاهلي» ، الكتاب الذي جاء بالكفر الصريح والذي شغل مصر عن قضيتها الكبرى (ولعل هذا من جملة مقاصد مَن كتبه ومَن سرقه كاتبُه منه وهو مارجليوث، ومَن دفع إليه أولاً ودافع عنه ثانياً)، وكتاب «الإسلام وأصول الحكم» ، وهو كتاب أسوأ من الأول لأن الأول فيه الكفر الصريح يراه المسلم فيعرفه، وهذا فيه الكفر المغطّى لا ينتبه إليه إلاّ النبيه، فينال منه وهو لا يشعر. وقد ثبت أن هذا أيضاً مسروق.
وكان للفتح موقف عظيم في التنبيه إلى خطر «الظهير البربري» . والظهير باصطلاح المغاربة كالمرسوم الملكي عندنا، أصدره الفرنسيون يريدون به إماتة أحكام الإسلام وإحياء أعراف البربر الذين أرادوا فصلهم عن المسلمين، كما أُريد ذلك في الجزائر من ثلاث سنين، فأبى الله ذلك والمسلمون، لأن البربر من يوم أن شرّفهم الله (كما شرّفنا) بالإسلام صاروا هم أهله وهم حُماته، لا فرق بين عربي وبربري، بل لا فرق بين عربي وعجمي ولا بين أبيض وأسود، هذا هو حكم الإسلام.
* * *
كانت بداية الدعوة «المنظمة» بإنشاء جمعية الشبان المسلمين. وكان الذي فكّر بإنشائها صاحب «الفتح» محب الدين الخطيب، وقد سمعت ذلك منه، وخلاصته أنه في سنة 1346 (1927)، قبل وصولي إلى مصر بسنة أو نحوها، كان أصحاب دور النشر، ومنهم صاحب المطبعة السلفية وهو محب الدين، يجتمعون لتكوين رابطة بينهم أو نقابة لهم في دار الشبان المسيحية، وهي إحدى المؤسسات التبشيرية (أي التنصيرية التكفيرية). فلما رآها فكّر أن يكون للشبان المسلمين جمعية مثلها، فعرض الفكرة على صديقَيه الأستاذين الجليلَين: السيد محمد الخضر حسين والوجيه العالِم أحمد تيمور باشا، وعلى مجموعة من الشبان (الشبان يومئذٍ وهم جميعاً في مثل سني)، منهم الأساتذة عبد السلام هارون وعبد المنعم خلاّف ومحمود شاكر، وكل هؤلاء من أصدقائي. ولئلا يتنبه إليها أعداء الإسلام (وما كان أكثرَهم يومئذٍ وأكثرَهم في هذه الأيام!) تواصوا أن يكون
نشر الفكرة بحكمة والدعوة إليها بلا إعلان.
وكان كل من سَمّيت من الشبان يدعو أصدقاءه فيَقبلون بها ويُقبلون على الانضمام إلى أهلها. وكان اجتماعهم وكان لقاؤهم بالشيوخ الثلاثة، الخضر وتيمور ومحب الدين، في المطبعة السلفية في شارع الاستئناف، وهو شارع صغير يتصل بميدان باب الخلق. حتى إذا قويت الفكرة وانتشرت وكَثُرَ أتباعها ولم يعُد يُخشى عليها عُقد أول اجتماع عامّ لإقرار قانون الجمعية وانتخاب مجلسها الإداري في دار سينما كوزمو، ودفع أجرة الدار شوقي أمير الشعراء من ماله، وأُعلِنَ عن الجمعية وانتُخِب لرياستها عبدالحميد سعيد الذي آتاه الله بسطة في الجسم وسعة من المال ووجاهة في الناس، وكان عضواً دائماً في مجلس النواب، والسيد محبّ الدين الخطيب أميناً عاماً، وأحمد تيمور باشا أميناً للصندوق. واستؤجرت للجمعية دار كبيرة في شارع قصر العيني بجانب مجلس النوّاب، لمّا وصلتُ مصر كانت فيها.
ثم أنشأ السيد الخضر الحسين «جمعية الهداية الإسلامية» .
* * *
جمعية الشبان المسلمين لم تكُن تجديداً في فهم الإسلام، ولم يكُن لها عمل جِدّيّ في الدعوة إليه ولا كانت تصحيحاً لمعتقدات العوامّ ولا محاربة لبدع كانوا يتوهمون أنها من الإسلام، وإنما كانت (وأنا هنا لبيان الحق لا للمجاملات) كانت تنظيماً ظاهرياً فقط. ولعلّ اشتغال أعضائها بالرياضة وإقامة الحفلات لها أكثر من اشتغالهم بالعلم والدعوة. وجمعية الهداية
كانت تنظيماً ظاهرياً لعمل المشايخ في الدعوة إلى الله، تلقى فيها محاضرات لا تكاد تحس أن فيها جديداً.
أمّا الدعوة «المنظّمة» الحقيقية فقد بدأت على يد شابّ اسمه حسن البنا. كان ممّن يتردد على خالي محب الدين في المطبعة السلفية، عرفته من يومئذٍ هادئ الطبع رضيّ الخلق، صادق الإيمان طلق اللسان، آتاه الله قدرة عجيبة على الإقناع، وطاقة نادرة على توضيح الغامضات وحلّ المعقّدات والتوفيق بين المختلفين. لم يكُن ثرثاراً بل كان يحسن الإصغاء كما يحسن الكلام، وضع الله له المحبة في قلوب الناس (1)، تخرّج في دار العلوم في السنة التي دخلت فيها الدار (2)، لم ألقَه فيها إنما لقيت سيد قطب وكنت معه في فصل واحد على ما أذكر، وكلاهما أسنّ منّي بثلاث سنوات.
وأنا على طريقتي التي لزمتها عمري كله؛ لم أدخل يوماً حزباً ولم أنتسب إلى جماعة، ولا ربطت فكري بفكر غيري إلاّ أن يكون الله ألزمني باتباع رأيه وإطاعة أمره، من مبلّغ حكم الله أو حاكم مسلم لا يأمر بما يخالف شرع الله، أو أب أو أستاذ يأمر بخير يحبه الله. بل إن المسلم يسمع كلمة الحق من كل من يُنطِقه الله بها، صغيراً كان أم كبيراً. أنا أسير في الخط الذي أُريت أنه الطريق الصحيح، فمَن وجدته يمشي معي فيه أيّدته وناصرته،
(1) في كتاب «فصول إسلامية» مقالة عنوانها «طرق الدعوة إلى الإسلام» فيها كلام طويل عن حسن البنا وعن دعوته التي أسّسها (مجاهد).
(2)
لأنه دخلها قبل صدور النظام الجديد الذي يمنع من دخولها مَن لم يكمل دراسته الثانوية.
وإن حاد عنه ضالاًّ هديتُه، وإن كان متعمّداً نصحته أو زجرتُه، لذلك أيّدت بقلمي وبلساني الإخوان المسلمين في مواقف ونقدتهم في مواقف، وما رجوت شكراً على تأييد ولا وجدته، ولا خفت لوماً على نقد ولا باليته، وذلك كله على ضعفي الذي أقرّ به ولا أنكره وعلى إيثاري دائماً العزلة والانفراد.
* * *
أقمت تلك المرّة في مصر أقل من شهرين، ولكني استفدت منها فوائد لا تُنال في سنتين. عرفت في «السلفية» جلّةً من رجال العلم والأدب؛ أحمد تيمور باشا الذي كان في سمو خلقه وفي سهولة طبعه وفي تواضعه -على رفعة قدره- مثلاً للناس، يزور المطبعة كل يوم فإنْ كان خالي مشغولاً لم يعطّله بل قرأ شيئاً ممّا يجد، وإن كان فيها زوّار تحدث إليهم، وكان طويل الصمت بعيداً عن الادّعاء. كان في المطبعة يوماً جماعة من أهل الفضل يتناظرون في أمر «الطربوش»: ما أصله ومن أين جاء؟ والباشا ساكت كأنه لا يعلم عن الموضوع شيئاً، وكانت المطبعة تدور في الداخل تطبع رسالة له عن الطربوش، تقصّى فيها خبره وجمع تاريخه! ويشبهه في هذا السيد الخضر، الأخ الأكبر لشيخنا الشيخ زين العابدين التونسي وأستاذ شيخنا الشيخ محمد بهجة البيطار.
وممن لقيت في «السلفية» الأستاذ مصطفى صادق الرافعي، وكان مَن يكلمه يكتب له الجملة فيقرؤها لأنه لا يسمع أبداً. ولقيت عنده الشيخ كامل القصاب وكنت أعرفه من بعيد، وهو رجلٌ حياتُه تاريخ، له في السياسة أثر وفي التعليم آثار، وسأكتب
(إن شاء الله) عنه وعمّن لقيت في «السلفية» .
وممّا استفدته في مصر أنْ قَوِيَ فيها قلمي، وانتقلت من الأسلوب الحماسي المحشوّ بالمبالغات والجمل التي لها دويّ كدويّ صوت الطبل وهي فارغة مثله، إلى أسلوب هو أقرب إلى الرصانة. وتجلّى ذلك في باب التعريف بالكتب في مجلة «الزهراء» ، ومن رأى آخر عدد صدر من «الزهراء» والذي قبله وجد أكثره بقلمي.
وممّا استفدته تبدُّلُ طريقتي في الخطابة، من الحماسة والصراخ وكثرة الإشارات وذلك الذي نشأنا عليه، إلى الحديث الهادئ. وكل ذلك أعود إن شاء الله إلى تفصيل القول فيه.
وكان أكثر ما اهتممت به لمّا عدت إلى دمشق وسعيت إلى الدلالة عليه، ووُفّقت والحمد لله في نقله من حيّز القول إلى حيّز العمل، هو إنشاء الجمعيات الإسلامية واتحادات الطلاب، وكلاهما لم يكُن معروفاً في الشام.
* * *
عدت وكانت السنة الدراسية في بدايتها، وكنت (كما أسلفت) أحمل شهادة البكالوريا (1) في شعبة العلوم، وكانت البكالوريا على قسمين: الأول في نهاية السنة الحادية عشرة من سِنِي الدراسة، والثاني في نهاية الثانية عشرة. وكان فيه شعبتان:
(1) هي شهادة الثانوية العامة كما كانت تُسمّى في الشام، وما تزال تسمّى كذلك إلى اليوم (مجاهد).
شعبة للرياضيات وشعبة للفلسفة. فانتسبت إلى الفلسفة بلا تردد.
وأُقِرّ الآن -بعد تخرّجي فيها بثلاث وخمسين سنة- أنها جدّدت فكري ووسّعَت أفقي وتركت في نفسي أثراً عميقاً لا يمّحي، ولكنها كانت خطيرة جداً؛ لولا أن الله سلّمني منها وأنه -بفضله- جعل عندي من سالف دراستي ذخيرة وفيرة من علوم الدين وأساساً راسخاً (أسأل الله بقاءه) من الإيمان، لأضلّتني.
كما أقرّ أن سفري إلى مصر، على رغم أنها بلد الأزهر ومثابة العلماء، وأن إقامتي فيها كانت قصيرة وكانت في وسَطٍ إسلامي، أنها -على هذا كله- كادت تفتنني وتُبدّل سلوكي. فليتّقِ الله الذين يبعثون بأولادهم إلى بلاد لا يُسمَع فيها أذان ولا يُتلى فيها قرآن، وفي نفوسهم ظمأ قاتل وحولهم أنواع البارد المسموم من حلو الشراب.
إذا كنت أنا الناشئ في بيت العلم والدين كدت أفسد في مصر وأنا ابن عشرين، فماذا تكون حال من يذهب في مثل تلك السن إلى أوربا أو أميركا أو روسيا؟
* * *