الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-8 -
منعطف خطير في تاريخ سوريا
وقفت بكم أمام منعطفَين، واحد منهما في طريق حياتي أنا وواحد في طريق تاريخ بلدي، بل والبلدان التي تجاوره وتجمعها به جوامع العقيدة والمصلحة واللسان، وهو منعطف معركة ميسلون.
لا أكتب عنها بقلم المؤرخ الذي يجمع الروايات، ويصفّيها ويصنّفها ثم يؤلف بينها ويستخرج العبرة منها، فقد كتب عنها كثير، ولعلّ أحسن ما كُتب فيها كتاب الأستاذ ساطع الحصري.
وهذا الرجل سابق من السابقين من الموجّهين والمربّين من العرب، وإن عاش حياته الطويلة جداً ومات وهو لا يحسن العربية لا نطقاً ولا كتابة. مفكّر ممتاز، كان شيخ المشتغلين بالتربية من عام 1908 في تركيا، ثم في الشام على العهد الذي أتحدّث الآن حديث ذكرياته، ثم في العراق. وقد تسلّم «المعارف» من بابها إلى محرابها وأصدر يومئذٍ مجلة كانت أولى مجلاتها، ثم أشرف على «المعارف» في سوريا بعد الاستقلال، وهو نسيب الزعيم سعد الله الجابري، ثم عمل في مصر في جامعة الدول العربية.
هذه مزاياه، أما: هل أحسن أم قد أساء؟ وماذا كان موقفه من الإسلام؟ الجواب لا يرضيه لو كان حياً ولا يرضي تلاميذه ومحبّيه، ولكنه الحقّ ولا يضرّ الحقَّ أنْ كثُرَ أعداؤه وكارهوه. كان العقلَ المفكّر لفتنة القومية التي لم يأتِ منها إلا أننا كنا أمة واحدة هي «أمة محمد» فصرنا جمعية أمم، وكنا إخوة يجمعنا الحب في ظلال الإيمان فصرنا أعداء تفرقنا هذه الدعوة الجاهلية. ولقد أفسد مناهج سوريا لمّا دعا بعد الاستقلال إلى إصلاحها. ولقد كان لنا (أنا ونهاد القاسم رحمه الله مجلس معه في مصر سنة 1947 استمر ساعات.
ولكن لماذا أقف عنده الآن؟ إنه داء الاستطراد والخروج عن الجادة، فلنعد إليها ولنتابع طريقنا فيها.
لقد كانت معركة ميسلون منعطفاً خطيراً في تاريخ بلادي، وما أكثرَ المنعطفات في قصة حياتي! ذلك لتعلموا أن حياة الإنسان لا تقاس بـ «طول» السنين بل بـ «عرض» الأحداث؛ فلقد بلغ عمري في التاريخ الذي أكتب عنه اثنتي عشرة سنة فقط، ولكني رأيت فيها حكم الأتراك، وحكم العرب ومن ورائهم الإنكليز، مستخفين بأشخاصهم ظاهرين بأعمالهم كالوسواس الخنّاس مع الناس. وسأشهد قريباً حكم الفرنسيين، وهم ظاهرون ظهوراً قوياً ولكن أثرهم -إن قيس بأثر أولئك- كان ضعيفاً.
أتعرفون القصّة الرمزية عن الريح والشمس لمّا تراهنتا على أيهما يقدر أن ينزع عن الفلاح معطفه، فعصفت الريح واضطربت حركة الهواء فبرد فلبس فوق المعطف عباءة، وجاءت الشمس
فوجّهت أشعّتها إليه، فأحسّ بالحر وسال من جسده العرق فنزع المعطف؟ هذا هو مثال الإنكليز والفرنسيين كما رأيناهم في الشام، وهما -بعد ذلك- كحمارَي العبادي (من سكان الحيرة)، قيل له: أيّ حمارَيك أسوأ من صاحبه؟ قال: هذا، وأشار إليهما معاً!
وكانت ميسلون، وأنا أصف منها ما رأيت وما يمكن أن يراه مثلي.
* * *
كنا في جنة (أو فيما نتوهمه جنة) فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، وكنا في قصر فيه كل ما نطلب وما نتمنى فأتاه زلزال مدمّر فتركه خراباً. كنا نعيش (أو نظنّ أننا نعيش) في عرس دائم؛ ابتهاج وحماسة، وعودة الخير، والسعة بعد الضيق، والحرية (أو ما حسبناه حرية) بعد أن كنا في سجن كبير.
أصبحنا، وإذا الأخبار تتوارد عن مسير الفرنسيين إلينا وأن الأعور الدجّال قادم علينا
…
إنه الجنرال غورو (1).
لم ندرِ أنهم تقاسمونا ونحن نيام، وأن «سايكس وبيكو» وزّعونا غنائم حرب كما تُوزَّع المواشي التي أخذها الجيش الغالب من الجيش المغلوب، وأن إنذاراً قد وُجّه بحلّ الجيش، وأن الملك وافق عليه وسرّح الجيش. كل ذلك لم يعلم به عامة
(1) والأعور الدجال الثاني موشي ديان، وقد فطس في أواخر عام 1981 (وكلمة فطس من العامّي الفصيح)، والثالث هو الذي يظهر قُبَيل يوم القيامة.
الكبار، فما بالك بالتلاميذ الصغار؟
وسرَت أقوال أن مدير البريد العامّ حسن بك الحكيم قد أخّر برقية الملك لأنه لم يرضَ أن يكون شريكاً في هذا الموقف الذليل، ثم تبيّن أن ذلك لا أصل له. وحسن بك السياسي النظيف رئيس الوزارة مرات، رجل الاستقامة والإصلاح لا يزال حياً، يعيش على راتب تقاعدي لا يعدل راتب معلم ابتدائي، وهو أحد الأعلام في تاريخنا الحديث، ولو شاء لكان كما كان غيره من أصحاب الملايين. فيا أسفي! أهكذا يُعامَل شرفاء الرجال؟ (1)
واشتعلت البلد بنار الحماسة، وكان الوطني المخلص وأحد أركان التعليم الشيخ كامل القصّاب يُذْكي هذه النار ويُضرمها، وتألّفت اللجان الشعبية لجمع المال (2)، وهجم الناس على الثكنة الحميدية (القشلة، وهي تشبه أختها في مكّة، وهي اليوم جزء من جامعة دمشق) وخطفوا ما وجدوا من السلاح، ومنهم من أخذ بندقية فرنسية ورصاصاً ألمانيا فانفجرت به.
وظنوا بأن الحرب تُكتسَب بالخطب، كما ظن ذلك الأستاذ أحمد الشقيري رحمه الله (وأبوه الشيخ أسعد من قبله، وكان
(1) لم يذكره جدي إلا بخير. انظر مقالة «حسن الحكيم القوي الأمين» في كتاب «رجال من التاريخ» ، وإليه قدّم مقالة «في إصلاح الأوقاف» التي نشرها سنة 1937 وفي أولها:"إلى القوي الأمين حسن بك الحكيم"، وهي منشورة في كتاب «فصول إسلامية» (مجاهد).
(2)
وكان المشرف على هذه اللجان خالي الأستاذ محب الدين الخطيب، وأنا أذكر غرفة كبيرة في داره (قرب البادرائية) مملوءة حتى سقفها بالبنادق تُوزَّع على المتطوعين.
خطيباً مثله) وكما يظن كثيرون، وخرجوا بالأهازيج والأناشيد يتسابقون إلى ساحة المعركة.
وكان من المتحمسين القائد الشابّ يوسف بك العظمة، شهيد ميسلون وقبره فيها. ولم يستمع أحد لنصح كبار العسكريين كرضا باشا الركابي، وكانوا يظنون أن جماهيرَ ما عندها من أدوات الحرب إلا الحماسة تستطيع أن تردّ جيشاً فرنسياً يقوده جنرال! فكانت الهزيمة المرتقَبة بعد قتال قصير، ودُفن الاستقلال وهو لم يتمّ سن الرضاعة، وبدأ حكم الأجنبي للشام.
* * *
أما المنعطف الصغير في حياتي أنا فهو نقلي من المدرسة السلطانية الثانية (الرسمية) إلى مدرسة الشيخ عيد السفرجلاني (الأهلية)، وكانت في الجَقْمَقيّة. أما «الجقمقية» فقد بناها جَقمق المتوفّى في سنة 824هـ (1)، وهي في جوار قبر صلاح الدين
(1) في كتاب «من حديث النفس» مقالة جميلة مؤثّرة عن هذه المدرسة عنوانها «وقفة على طلل» قال جدي في أولها: "في حِمى المسجد الأموي تقوم المدرسة الجقمقية التي بناها سنجر الهلالي وجدّدها الملك الناصر سنة 761هـ، ثم احترقت فجددها الأمير سيف الدين جقمق فنُسبت إليه". وذكر الشيخ عبد القادر بدران في «منادمة الأطلال» أن الأمير سنجر الهلالي بنى المدرسة، ثم احترقت مع ما احترق وخرب حين غزا تيمور لنك دمشق، فأعاد بناءَها الأميرُ جقمق في السنة المذكورة (824). انظر تفصيل ذلك كله وأخباراً عن كل ما ذُكر هنا من هذه المدارس في كتاب الشيخ بدران المذكور، وهو من أعلم الناس بالشام وما فيها من البنيان والآثار (مجاهد).
الأيوبي. ومثلها المدرسة السُّمَيساطية التي كانت يوماً دار عمر ابن عبد العزيز خامس الخلفاء الراشدين، والمدرسة الإخنائية، وقريب منها العادلية التي بناها العادل الأيوبي، وفيها اليوم مجمع اللغة العربية، وكانت يوماً دار الإفتاء وكان المؤرخ ابن خَلِّكان ينام فيها. وأمامها الظاهريّة (1)، أغنى المكتبات في الدنيا بالمخطوطات في علوم الحديث، وقد صنع لها المحدّث الشيخ ناصر الألباني (2) فهرساً.
وهذه المحلة من دمشق ممتلئة بالمدارس القديمة، حتى إنك لتلقى داراً مملوكة على بابها لوحةٌ باسم المدرسة وواقفها وما وقفه عليها، وهذا من العجب. وأعجب منه أن جدار الأموي الشمالي (وعرضه نحو المترين أو قريب منهما) فيه نافذة، أرضها ملحَقة بدار مملوكة مُسجَّلة في السجلّ العقاري، وهي من جدار الجامع!
(1)«السّميساطية» نسبة إلى أبي القاسم السّميساطي (من سُمَيْساط، وهي قلعة على الفرات) الذي اشترى الدار ووقفها على فقراء الصوفية في القرن الهجري الخامس، و «الإخنائية» أنشأها القاضي الإخنائي واكتمل بناؤها سنة 820هـ، و «العادلية» هي المدرسة العادلية الكبرى التي أنشأها الملك العادل سنة 619هـ (أما «العادلية الصغرى» فهي في العَصرونية، أنشأتها بابا خاتون بنت أسد الدين شيركوه سنة 656هـ)، و «الظاهرية» هي المدرسة الظاهرية الكبرى التي أنشأها الظاهر بيبرس سنة 678هـ (مجاهد).
(2)
وأنا أقرّ له بالصدارة في علوم الحديث وأرجع فيها إليه، وأنكر تفقّهه وآراءه التي يخالف فيها جمهور العلماء من الفقهاء.
ومحلّة أخرى كان فيها سلسلة متصلة من المدارس، هي ضفّة نهر يزيد من غرب دمشق على سفح قاسيون إلى حارة الأكراد، لم يبقَ منها إلا أنقاض مدرسة في أعلى شارع المالكي وعدة مدارس في الصالحية، ومدرسة ركن الدين، ومجموعة من المدارس في طريق لا يزال اسمه «بين المدارس» .
ويقولون إن ذلك العصر كان عصر الجهل والانحطاط!
* * *
والجقمقية قد جدّدَتها وزارة الأوقاف بإشراف إدارة الآثار وأعادتها كما كانت، وهي من أجمل المباني المملوكية.
أما الشيخ عيد فهو معلّم الشام حقيقة لا مجازاً. ولقد كتبت عنه كثيراً، وفي كتبي كلام طويل عنه (1)؛ فقد لبث يعلّم أكثر من ستّ وستّين سنة. ولقد كان أبي تلميذاً لديه ثم صار معلّماً عنده، ولقد رأيت في سجلات مدرسته اسم التلميذ، ثم اسم ابنه، ثم اسم حفيده، ثم اسم ابن الحفيد! علّم أربعة بطون. وابنه الأستاذ عبد الرحمن كان شيخَ المعلمين الرسميين بعد الأستاذ سعيد مراد والشيخ محيي الدين الخاني، وسيأتي الكلام عنه.
في هذه المدرسة بدأ التأثير الباقي في نفسي للأساتذة الذين
(1) في كتاب «رجال من التاريخ» (في مقالة «مع بعض مشايخي») حديث ممتع عن الشيخ عيد وأخبار عن مدرسته، وانظر أيضاً مقالة «نهاية الشيخ» في كتاب «قصص من الحياة» ، وهي مقالة مؤثّرة مفعمة بالعواطف (مجاهد).
حضرت دروسهم، أما الشيخ عيد فكان له أبقى الأثر فيها. وما كان يعلّمنا ولا يلقي علينا دروساً، بل كان يلقي الكلمة فيصيب حبّات القلوب منّا. وأنا قد نسيت أكثر ما سمعت من دروس المدرسة، ولكن أمثال هذه الكلمات التي تأتي في موضعها وتقترن بمناسبتها لا تزال في أذني وفي قلبي.
كان شيخاً كبيراً وكنا نتكوّم حول مكتبه، يبري لنا أقلام القصب ويُهدي إلينا رسائل عليها خطّه (وكان يُحسِن الخط) ويحدّثنا، فإذا أراد أن يؤدّب واحداً منّا أخذ برأسه فحناه على صدره (صدر الشيخ) ثم أمسك بالعصا بجمع يده، إبهامه إلى أعلى، ثم ضربه على ظهره ضربات لا تؤذي. وكان إذا شتم قال للمذنب:«يحرق بدنك» ، ويضرب لنا الأمثال فيقول: كونوا مستقيمين، ولكن استقامة «الحورة» (1) لا استقامة عمود الكهرباء؛ الحورة تميل قليلاً مع الريح وتبقى على استقامتها، أما العمود (وكان يومئذٍ من الخشب) فإنه يعاند حتى ينكسر.
ولطالما حفظت أحاديث صحيحة وأحكاماً فقهية ووعيت نصائح وحِكَماً انتفعت منها في حياتي، كل ذلك من هذه الكلمات. فإذا دخل الغرفة المراقب (وكنا نسميه الناظر، وهو موظف لديه وتابع له) قال ضاحكاً: لقد جاء فاهربوا.
ومن هو الناظر؟ هو الشيخ محمود العقاد، أحد تلاميذ أبي وأقربهم منه صلة، وكان حسن الصوت مجوّد القراءة يُتقن
(1) أي شجرة «الحور» ، يقول شوقي في شاميّته:
والحورُ في دُمّرٍ أو حولَ هامتِها
…
حورٌ كواشِفُ عن ساقٍ وولدانُ
الأناشيد، فإذا انتهى الدرس بعثتني جدّتي إليه لأقول له: يا شيخ محمود، اقرأ لنا أو أسمعنا نشيداً. وكان يفعل.
وجئت المدرسة وهذا نظري إليه وحكمي عليه. وإذا هو في المدرسة رجل آخر غير الذي عرفته في الدار، لا ينشد ولكن يشدّ أرجلنا في الفلق ويقرعها بالعصا. كان مخيفاً، وكان التلاميذ إذا خرج عليهم وهم في الفرصة وهم يصرخون ويصيحون صمتوا فجأة وكُمّت أفواههم. ولمّا صرفه الشيخ عيد (أو انصرف هو) جاء يودّعنا يرتقب منا أن نبكي حزناً للفراق، ففرحنا من الأعماق.
أقول هذا بلسان ذلك التلميذ، وأشهد -وقد استمرّت صلتي به إلى أن توفّاه الله من سنوات- أنه كان يحب الخير للتلاميذ ويريد لهم الكمال، أمّا الشدة فقد كانت (موضة) المعلمين في تلك الأيام.
* * *
في هذه المدرسة اتضح لي طريق الجمع بين القراءة على المشايخ على الأسلوب الأزهري القديم، والدراسة في المدارس على الأسلوب الجديد.
ولقد كنت -منذ وعيت- أجد إذا أصبحت مشايخ بعمائم ولحى يقرؤون على أبي، وكنت أدخل بالماء أو بالشاي فألتقط كلمة بعد كلمة، لا أفهم معناها ولكن تبقى في نفسي ذكراها. ثم صار أبي يأمرني أن أناوله الجزء الأول من حاشية ابن عابدين، أو الثاني من الفتاوى الهندية، أو جزءاً من القاموس، أو تنقيح الحامدية
…
فعرفت بعض أسماء الكتب.
ولكن لم يَضِح (1) لي الطريق إلا في هذه المدرسة؛ إذ كان بين مدرّسينا شيخ جليل، ولكنه شديد. كنا -مع الأسف- نحترمه ولا نحبه، وكنت أحضر دروسه في الأموي يوم كان في الأموي أكثر من عشرين حلقة دائمة، وكانت حلقته متميزة تجمع العلم والأدب والفقه والشعر، يتكلم بلهجة تونسية يلقي جُمَلاً مسجَّعة كثيرة الترادف مزيَّنة بالشواهد، كأنه يقرؤها من كتاب مطبوع، هو الشيخ صالح التونسي (2).
لهذا الشيخ ولصديقه الشيخ الكافي (وسأتكلم عنه) أثر بالغ في نفسي، ذلك أنه كان صديق أبي، وكانت له غرفة في المدرسة البادرائية (3)، فألزمني أبي بأن أحضر عليه في غرفته «دروساً إضافية» فوق دروسه التي ضقت بها في المدرسة، وكنت أتمنى الخلاص منها ولكن أمر الأب لا يُرَد.
ولقد أدركت بعده مبلغ ما استفدت منه، حين حفّظني ألفية ابن مالك والجوهر المكنون في البلاغة، ومتوناً أخرى نُقِشت في خاطري في الصغر وانتفعت بها في الكبر.
* * *
(1) وضح يَضِح مثل وعد يَعِد.
(2)
والد الفريق الطيب والأستاذ عبد الرحمن مدير مدارس الثغر.
(3)
أسّسها في العصر الأيوبي القاضي نجم الدين البادرائي سنة 654هـ (مجاهد).