الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-15 -
أساتذتي في مكتب عنبر
قعدت لأكتب هذا الفصل فجاءتني الجرائد التي يتفضّل أصحابها بإرسالها إليّ، وهي «المدينة» و «عكاظ» و «الرياض» ، وقصاصات يبعث بها إليّ أخي ناجي من الجرائد التي لا تصل إليّ وهي «الشرق الأوسط» و «الجزيرة» و «الندوة» . فوجدت في «الشرق الأوسط» المرافعات العظيمة التي ألقاها المحامون عن المتهمين بقتل السادات، ووجدت في «الندوة» مقالة جيدة جداً عن حرية إجارة العقارات وما تجرّه من متاعب ومشكلات. ووجدت أخبار المسلمين المعذَّبين في أفغانستان وفي فلسطين، ومسلمين آخرين أشد منهم ابتلاءً مع عدوّ أعظم خطراً وأشدّ كفراً، ولكن لا يسأل عنهم أحد ولا تمتد إليهم يدٌ بعون أو مدد.
لما قرأت هذا فترَت عزيمتي وتعثّر القلم في يدي. أنا أقعد لأكتب ذكريات لا تهمّ أحداً والنار تشتعل في كثير من بلاد المسلمين، والوباء يسري والغمّ يعمّ؟ للناس قضايا يفكّرون فيها ويتحدثون عنها، وأنا أسرد ما وقع لي من قبل حين!
لقد كنت إن ألَمّ بالمسلمين خطب أحمل سلاحي وأسرع إلى الميدان، فما لي صرت من القاعدين؟ لم يكُن سلاحي
الحسام والسنان وإنما كان القلم واللسان، والنضال بالمقال مثل القتال بالنصال والنبال.
وفكرت أن أقطع سلسلة هذه الذكريات، ثم رأيت أنها لا تخلو إن شاء الله من نفع، وأنها ربما ذكّرَت ناسياً أو أوقدت من العزائم خابياً. ورأيت أن مثلي في سنّي وكبري لا يُطلَب منه مثل الذي يُطلَب من الشباب، وأن لكل موظف وعامل حقاً في التقاعد، فلماذا أُحرَم أنا هذا الحق؟ فهل ترون في هذا عذراً لي إن أضعت وقتكم، وملأت صحف مجلتكم بحديث ذكرياتي التي لا تهمّ أحداً منكم؟ أترونه عذراً أم أنا أعلّل النفس بالأوهام؟
ولو كانت ذكريات ملك أو أمير أو قائد كبير لغذّت التاريخ بإظهار الخفايا وكشف المخبّآت، ولكنها ذكريات واحد من الناس كل الذي عمله أنه قرأ وأقرأ، وأنه كتب وخطب، وما أكثر الكُتّاب والخطباء! إني لأخجل حين أشغل القرّاء بنفسي، لذلك أفرّ إلى وصف أحداث البلد وأخبار الناس. وهذا ما لامني عليه رئيس التحرير، لوّح باللوم ولمّح ولكنه ما صرّح ولا وضّح.
أتكلم اليوم عن أساتذتي في مكتب عنبر.
لقد كان أول درس حضرناه فيه للشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي، فاستقبلَنا رحمه الله بخطبة رنّانة أعلن فيها أنه غدا ذلك اليوم مدرساً للعربية حقاً، ذلك أن مَن كان قبلنا قد درسوا في العهد التركي فنشؤوا (إلاّ من عصم الله) على ضعف بالعربية، ومن كانوا معنا درس أكثرهم في العهد العربي فكانوا أقوى ملكة وأقوم لساناً.
رحمة الله على الشيخ سلام. لقد كان نادرة الدنيا في طلاقة اللسان وفي جلاء البيان، ولقد عرفت بعده لُسُن الأدباء ومصاقع الخطباء، فما عرفت لساناً أطلق ولا بياناً أجلى. ولست أنسى خطبته عندما أطلّ من شرفة النادي العربي قبل يوم ميسلون على بحر من الناس يموج موَجان البحر، قد ملأ ما بين محطة الحجاز والمستشفى العسكري (الخستة خانة) في بوابة الصالحية (1) وسراي الحكومة (2) وحديقة الأمّة (المنشية)، وكبّر تكبيرة ردّدَتها معه هذه الحناجر كلها، وأحسَسْنا كأنْ قد ردّدتها معه الخمائلُ من الغوطة والأصلادُ من قاسيون، ثم صاح صيحته التي لا تزال ترنّ في أذني من وراء اثنتين وستين سنة (3) حتى كأني أسمعه يصيح بها الآن: غورو، لن تدخلها إلاّ على هذه الأجساد.
ولكن غورو دخلها! دخلها لمّا حسبنا أن الحرب تُكتسَب بالحماسة وبالخطب، ثم خرج قوم غورو لمّا عرفنا كيف تُكتسَب الحروب. غورو هذا وقف على قبر صلاح الدين الأيوبي الذي غلب أوربا كلها مرتين، مرة بسيف القتال ومرة بنبل الفعال، وقف يفاخر عظامه ميتاً وقد كان قومه يرتجفون من بأسه حياً، ولا يفاخر الأموات إلاّ الجبناء، يقول: يا صلاح الدين، لقد عدنا.
حسب من غروره أنه ملك الشام إلى الأبد، كما يحسب هذا المغرور المأفون (بيغن) أنه ملك القدس إلى الأبد. فأين
(1) المحطة باقية، وهي من أجلّ أبنية دمشق، وأختُها الصغرى في المدينة. أما المستشفى فقد قامت في مكانه عمارة «الأركان» .
(2)
وهي باقية، أما شارع بغداد فلم يكُن قد فُتح.
(3)
كانت هذه الخطبة أوائل سنة 1920.
مَن يذهب فيبحث عن حفرة غورو، فيقف عليها ليردّ عليه بالحق كلمته التي قالها بالباطل، ليقول له: كلا، بل لقد طُردتم! وليستعدّ من الآن من سيقوم غداً على حفرة بيغن ليقول له: أين غرورك وأين ادعاؤك؟ إن القدس قد رجعت على رغمك إلى أصحابها المسلمين.
نعم، إنها سترجع إليهم إن رجعوا هم إلى دينهم، ولقد بدت بوادر الرجوع إلى الدين.
لقد أقام الشيخ سلام معنا أشهراً، ثم عاد إلى بلده فعُيّن أميناً للفتوى في لبنان. وجاءنا من بعده الأستاذ سليم الجندي (1). ولما أصدرت أول كتاب لي سنة 1930 (وهو «الهيثميات») أهديته إلى روح المنفلوطي سيد كُتّاب العصر، وإلى عَلَمَي العربية الجندي والمبارك.
لقد ماتا وما أعرف تحت قبة الفلك أعلمَ منهما بالعربية وعلومها، ولقد كانا أشدّ المدرّسين تأثيراً في تكويني اللغوي والأدبي، رحمة الله عليهما وعلى أساتذتنا جميعاً.
* * *
أمّا المبارك فقد كان الإمام في اللغة والمرجع فيها، قيّد أوابدها وجمع شواردها وحفظ شواهدها. وكان أعلم العرب
(1) في مقالة «أستاذنا الجندي» المنشورة في كتاب «من حديث النفس» أخبار كثيرة -غير ما ذُكر في هذه الحلقة والتي تليها من «الذكريات» - عن سلام والجندي والمبارك، فمن شاء قرأها هناك (مجاهد).
بالعرب، عرف أيامهم (1) وروى أشعارهم، وكان المفرد العَلَم في بابته (2). لا أعرف نظيراً له في العلماء، تحسّ إذ تجالسه وتسمع منه كأن الأصمعي وأبا عبيدة قد تمثّلا لك في جبّته، وكأن ما كنت تقرؤه من أخبار الرواة والحُفّاظ قد عاد لك حتى رأيتَه بالعيان.
لقد كثر اليوم الأساتذة من حملة الشهادات وأصحاب الدكتورات، ولكن ذلك الطراز لم يعُد له وجود.
أما درسه فما حضرت -على كثرة ما حضرت من الدروس- درساً أكثر منه حياة وأبقى في نفس سامعه أثراً. إن نغمته لا تزال إلى اليوم في أذني وكلماته في قلبي.
كنّا ندخل الصف في مثل «العَراضة» : أصوات عالية متداخلة وضجيج صاخب مزعج، وكان المدرّسون يجدون مشقّة في إسكات المتكلمين وتهدئة الصاخبين. فإذا كان درس الشيخ المبارك رأى التلاميذُ البابَ قد انفرج مصراعاه وبدا من بينهما جبين عريض من فوقه خط أبيض، ثم ظهر وجه الشيخ وعمامته وجلجل صوته (الذي كان يُعرَف من بين أصوات البشر جميعاً بضخامته وجَهارته) بصدر بيت من الشعر، فيسكت الطلاب ليسمعوا، فيخطو الخطوة الثانية فيكون في الصف (أي الفصل) ويُتِمّ البيت، ويشرع بالدرس.
والغريب أنه لم يكُن يدرّسنا العربية بل الفقه، يُقرِئُنا «مراقي
الفَلَاح شرح نور الإيضاح». هذا مثال من الكتب التي كنا نقرؤها في السنة التي تلي سنة الشهادة الابتدائية، وهو كتاب أحسب أنه لو قُرّر اليوم لطلبة الجامعة لشكَوا من صعوبته.
ولم يكُن الشيخ يقتصر في درسه على الفقه، بل كان فيه مع الفقه تفسير وحديث وقواعد أصولية يسوقها بعبارات موجزة بليغة، يلقيها ويردّدها ويكتبها بخط الثلث على اللوح (السبورة) بعرض الحَوّارة (1). وكان يتخذ لكل شيء ضابطاً، جملة موجزة تجمع الأحكام وتسهل على اللسان ولا تذهب من الأذهان. ولطالما دلّنا على كتب قرأتها وانتفعت بها، وهي رأس مالي في العلم والأدب، ولولاه ما سمعت بها.
ثم درّسنا «الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية» لقدري باشا، فكان يشرحه شرحاً عجيباً تجعل لكل حكم من أحكام الزواج والطلاق «قصّة» يؤلّفها كما يؤلّف الأديب قصصه، ويجعل لها قواعد تُحفَظ فلا تُنسى. مثالها:«لا يخلو زواج من عُقر أو عَقر» ؛ أي لا بدّ من مهر في النكاح أو حد في السفاح.
ثم درّسنا السيرة فجاء بشيء ما رأيت والله ولا سمعت بمثله، يصوّر الوقائع ويصف أمكنتها، ويشرح ما قيل فيها ويدلّ على مراجعها، فكأننا كنا فيها. وكنت أستوعبها استيعاب التربة العطشى ماء المطر، وكان يدلّنا على الكتاب فأسرع إلى قراءته
(1) لا نعرف في الشام إلا اسم «الحَوّار» لما يُدعى «الطباشير» ، وهي كلمة عربية لأن التحوير هو التبييض. وإن كان شيخنا المبارك يسمّيه «الحَكَك» ، وهي لفظة وُلِدت ميتة!
إن كان في مكتبتنا، أو إلى شرائه إن لم يكُن عندنا. ولقد سمّى لنا كتاب «الروض الأُنُف للسُّهَيلي» فشريته عند خروجي من المدرسة، وما بتّ حتى تصفحته وقرأت صفحات كثيرة منه.
أما حفظه فقد صدّقت منه ما يُروى عن حماد الراوية وابن الأنباري والمعرّي. والشيخ من أصحاب النوادر، وأستطيع أن أسوق من نوادره وغرائبه ما يملأ صحفاً كثيرة.
وقد كنا نقلّد لهجته ونحكي صوته، حتى صارت هي لهجتي في التدريس وأنا لا أدري. لمّا كنت أدرّس في بغداد أقيمت حفلة سمر في آخر سنة 1936، فسأل الطلاب مدرّسيهم على عادة اعتادوها: هل يأذنون لهم أن يقلّدوهم؟ فكان منهم من أذن ومنهم من أبى، وكنت فيمن أذن، فقام طالب يقلّدني بزعمه ولكنه قلّد شيخنا المبارك. فقلت: ويحك، هذا شيخنا المبارك! وإذا بالطلاب يصيحون من الأركان الأربعة: بل هذا أنت، هذا أنت. وإذا أنا لطول ما حاكيت الشيخ قد صرت مثله، أعني مثله في لهجته ونغمته لا في علمه ولغته. أين أنا من علم الشيخ؟
واتصل حبلي بحبله إلى أن توفّاه الله، أزوره في داره ويتفضّل فيشرّفني بزيارتي في داري.
وكان عليّ يوم تُوُفّي سنة 1945 أن أُلقي كلمة التأبين، في مقبرة الباب الصغير التي دُفن فيها معاوية وجلّة من الصحابة، فرأيت في المقبرة أستاذنا محمد كرد علي متأثراً حزيناً، وما أعرفه إلاّ مرحاً مزّاحاً، ثم عرفت أنه كان سَنينَ (1) المبارك وأنه كان رفيقه
(1) سَنين الرجل: لِدَته، أي مَن كان في مثل سنه.
في الدراسة عند أبيه الشيخ محمد المبارك، فأمرني أن أوصله إلى داره فلم أخطب.
وكان الشيخ المبارك هذا (وهو جزائري الأصل) أحد أفذاذ الأدباء في عصره، له نثر وله شعر وله آثار مروية تدلّ على فضله وملكته. أما أخوه الشيخ محمد الطيب فكان عالماً صوفياً، وقبره كان في أحلى مكان في دمشق، في طرف المزّة من جهة الربوة. ألا تعرفون ما الربوة؟ اقرؤوا وصفها في كتابي «دمشق» . وقبر الشيخ محمد المبارك في مقبرة الصالحية، يشرف على دمشق والغوطتين.
والشيخ الطيب كان تلميذ جدّنا الشيخ محمد الطنطاوي الذي قدم دمشق من مصر وتُوُفّي فيها سنة 1306هـ، وقد ذهب معه بأمر الأمير عبد القادر الجزائري إلى قونية في الأناضول، وأحضرا منها نسخة «الفتوحات المكية» لمحيي الدينبن عربي، وهي النسخة التي قوبلت على نسخة مؤلفها وطُبعت المطبوعة عنها، وُضعت في مكتبة مجمع اللغة العربية في دمشق من عهد بعيد. رحم الله شيخنا المبارك ورحم أباه وعمه، ورحم ولده رفيقنا الأستاذ محمد الذي توفّاه الله من شهرين (1) ودُفن في البقيع.
لقد صحبت الشيخ نحواً من ربع قرن، أزوره في داره وأذهب معه إلى مجالس أصحابه وألازمه أكثر مما لازمه أولاده: محمد رحمه الله، وقد كان معنا في المدرسة ولكنه كان بعدنا، وعدنان وهاني، وكانا تلميذيّ سنة 1940، ومازن وقد كان
(1) تُوفّي رحمه الله سنة 1401هـ.
صغيراً عندما كنت أزور الشيخ وهو اليوم خليفته في أستاذيته، أما عبد الهادي فقد كان يومئذٍ أصغر من أن يدخل علينا مجلس أبيه، أو لعله لم يكُن وُلد.
ذُمَّ المنازلَ بعدَ منزلةِ اللوى (1)
…
والعيشَ بعدَ أولئكَ الأيامِ
سقى الله تلك الأيام!
* * *
(1) أكثر الذين يَروون هذا البيت يُنشدون أوله: «ذَمُّ المنازلِ» ، فكأنهم يجعلون الذمّ خبراً لمبتدأ محذوف، ويعطفون عليه «العيش» بالرفع أيضاً، وبذلك يفسد المعنى. والصحيح كما هو هنا:«ذُمَّ» فعل أمر و «المنازلَ» مفعول به. والبيت لجرير، ويُروى آخره أيضاً:«بعد أولئك الأقوام» (مجاهد).