المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى - ذكريات - علي الطنطاوي - جـ ١

[علي الطنطاوي]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الأول

- ‌بين يَدَي الذّكريات

- ‌المقدمة

- ‌ذكريات لا مذكّرات

- ‌من ذكرياتي عن دمشق

- ‌من الكُتّاب إلى المدرسة التجارية

- ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

- ‌من ذكريات الطفولة أيضًا

- ‌من المدرسة التجارية إلى المدرسة السلطانيةومن العهد التركي إلى العهد العربي

- ‌في المدرسة السلطانية

- ‌منعطف خطير في تاريخ سوريا

- ‌عهد جديد في حياتيوذكرياتي عن الجامع الأموي

- ‌من جوار الأموي إلى سفح جبل قاسيون

- ‌فصل جديد في تاريخ الشام

- ‌في امتحان الشهادة الابتدائيةخطبتي الأولى وتهجّمي على الفرنسيين

- ‌في ثانوية مكتب عنبرومرحلة خصبة في حياتي

- ‌في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر

- ‌أساتذتي في مكتب عنبر أيضًا

- ‌من مصر إلى الشام

- ‌جدي الشيخ أحمد الطنطاوي

- ‌عود للحديث عن مكتب عنبر

- ‌شغلي الدائم المطالعة

- ‌ثورة في المدرسة

- ‌صفحة جديدة في سِفْر حياتي

- ‌لمّا صرت تاجراً

- ‌مشايخي خارج المدرسة

- ‌أسرة الخطيبوبعض الأسر العلمية في دمشق

- ‌الثورة على الفرنسيين

- ‌كيف انطلقت الثورة

- ‌شعر الثورة في مكتب عنبر

- ‌من شعر الثورة

- ‌النجاح في البكالورياوالسّفر إلى مصر

- ‌اليوم الأوّل في مصر

- ‌ظهور الدّعوة الإسلامية في مصر

- ‌العودة إلى دمشقوإنشاء جمعية الهداية الإسلامية

- ‌تقلّبات على الطريق

- ‌احتراف الصّحافة

- ‌في جريدة «فتى العرب»

- ‌الكتّاب والأدباء والصحفيّون

- ‌صدور «رسائل الإصلاح»

الفصل: ‌من ذكريات الطفولةذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

-4 -

‌من ذكريات الطفولة

ذكرياتي عن الحرب العالمية الأولى

بقيت في هذه المدرسة إلى سنة 1918، فماذا بقي لديّ من ذكرياتي الشخصية فيها؟ لقد قلبت جيوبي، ونفضت ثوبي، وفتّشت كل زاوية من ذاكرتي، وبحثت في كل ركن فلم أجد إلا القليل الذي سأجلوه لكم.

أمّا الذكريات العامّة فقد كان منها الكثير، وإن لم أدرك منها يوم حدوثها إلا ما يدركه ذلك الولد الصغير. وكانت أياماً عشتها ورأيت أحداثها، ولكني لم أستوعبها، وأحس الآن وأنا أتحدث عنها كأني أسرد قصة حلم من الأحلام أو رؤيا منام، صحا مَن رآها فلم يجد في يده شيئاً منها.

أشعر كأني ألخّص صفحات من تاريخ قديم، قديم جداً. إي والله، لقد تبدّلَت حياتنا كلها من سنة 1914 إلى سنة 1981؛ لم يبقَ شيء على ما كان عليه. وأنا إنما أعني هنا أوضاع الدنيا، أمّا الدين فلم يتبدّل لأن الذي أنزله هو حافظه. من هذه الأوضاع ما صار إلى أحسن مما كان عليه، ومنها ما ساء وفسد.

ص: 49

لقد استمتعنا بثمرات الحضارة ورأينا من جديدها ما كنا نظنه من المستحيلات، ولقد ازددنا علماً بالأرض وقوانين الله فيها، وضاقت مسافة التخلف بيننا وبين من كنا نراهم وحدهم المتمدنين من أهل أوربا وأميركا، وصارت لنا جامعات كجامعاتهم، وقام فينا ومنّا علماء مثل علمائهم، ومن ينطق بألسُنهم (1) ويعرف آدابها مثلهم بل ربما فاقهم.

كل هذا وأكثر منه قد كان، ولكن تعالوا فكّروا معي: ما هو ثمنها الذي دفعناه فيها؟ لقد ربحنا هذا كله فماذا خسرنا فيه من عقيدتنا ومن أخلاقنا ومن كريم سجايانا؟ أخشى أن يأتي يوم نقول فيه ونحن نعضّ بنان الندم حين لا ينفع الندم: خذوا هذا كله، لا نريده، وردّوا علينا ديننا وخلائقنا.

كنّا نعيش على شط بحر الحياة نائين عن لُجّه، فلا غصنا على لآلئه ولا تعرضنا لعضّ كلابه ولا لخطر الغرق فيه. كنا (أعني الطبقة التي أنا منها من العلماء المستورين، لا أعني الأغنياء ولا الموسرين) كنا نحيا حياة ضيقة محدودة، ولكنها سعيدة مجدودة (2). كانت تسلياتنا قليلة ولكنها نبيلة، ليس عندنا إذاعات ولم تكُن قد اختُرعت، ولا كان الرائي ولا السينمات، إلا سينما واحدة أخذونا إليها فأرونا فِلْماً صامتاً (إذ لم تكُن السينما قد نطقت) عن معركة «جناق قلعة» . وكانت هذه السينما في موضع المجلس النيابي، احترقت وبقيت أنقاضها سنين طويلة حتى أقيمَ المجلس مكانها

(1) اللسان بمعنى اللغة جمعه ألسُن، أما العضو فجمعه ألسِنة.

(2)

أي محظوظة.

ص: 50

ببنائه الجميل وما فيه من الخشب المحفور (1) الذي أتقن صناعته أبوسليمان الخياط (2)، وصنع بعده خشب «دار عين الفيجة» ، ثم دار «بيت الدين» في لبنان.

ما كانت عندنا سيارات ولا شوارع يمكن أن تمشي فيها السيارات، إنما كانت عندنا العربات الجميلة تجرّها الخيول الأصيلة. وأنا أذكر أن أول سيارة وصلت إلينا وصلت سنة 1916 وخرج الناس ينظرون إليها، فلما رأوها تمشي وحدها لا يسحبها حصان قال قائل من العوامّ إن الجنّ تسيّرها، فتدافع ضعاف القلوب هاربين. وهربنا نحن الصغار معهم، وضاعت حقيبة كتبي ونلت على ذلك جزائي.

* * *

(1) من جنس الذي كان في مكة وجدة في واجهات العمارات ورَواشن الشبابيك، ولكنه أجمل وأكمل. وقد دعوت في حلقة الجمعة 25 المحرم سنة 1402 من «نور وهداية» إلى حفظ ما في مكة وصيانته، ولكن كان العمال يكسرونه ويلقونه مع الأنقاض في الساعة التي كنت أتكلم فيها

فإذا نتاج تلك الأيدي الماهرة وبقايا ذلك الفن البديع قد صار حطاماً تطؤه الأقدام مع أنقاض الدور، بل القصور، التي هُدمت في أجياد لتوسعة الشارع!

(2)

وهو الأخ الأكبر لشيخ أطباء الشام الدكتور حمدي الخياط، أول متخصص في البكتيريا والجراثيم. كان أستاذاً في كلية الطب في دمشق من سنة 1920، وهو أحد مؤلّفي معجم المصطلحات الطبية، يحسن علوم العربية كما يحسن الفرنسية والإنكليزية والألمانية واليونانية واللاتينية، تُوفّي رحمه الله سنة 1400هـ، وابنه الدكتور هيثم من أنبغ شباب العصر.

ص: 51

أما الطيارة فقد جاءتنا سنة 1915 (سمعت بذلك ولم أرَه لأني كنت صغيراً. وكانت قصة عجباً تحدّث الناس بها طويلاً، مع أن الطيران إنما ابتدأ سنة 1903) يقودها طياران تركيان مسلمان، فتحي وآخر نسيت اسمه (1) واستُقبِلت في المرج الأخضر (وهو الملعب البلدي اليوم وفيه معرض دمشق الدائم، وهو وقف إسلامي) استُقبلت استقبالاً عظيماً، وكان يوماً -كما قالوا- مشهوداً. وطارت بسلام ووُدّع الطياران باحترام، ولكنها سقطت عند طبرية، ودُفن الطياران في صحن مدفن بطل الإسلام وفاتح القدس صلاح الدين الأيوبي، وراء الجدار الشمالي للجامع الأموي.

وأول شارع فُتح في دمشق هو شارع جمال باشا، من رأس سوق الحميدية إلى محطة الحجاز التي يبدأ منها خط القطار وينتهي عند محطة باب العنبرية في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم. والخطّ وقف إسلامي ثابت بصكوك قضائية وقرارات دولية، وهو من آثار السلطان المُفترَى عليه الذي شوّه اليهود صورته، السلطان عبدالحميد (انتهى مَدّه سنة 1908، سنة مولدي. وخرّبناه نحن، نحن العرب، بأيدينا وأيدي لورنس وجماعته سنة 1918)(2).

هذا هو أول شارع عرفناه، وكان عريضاً جداً وسطه ممر حوله الحدائق وأغراس المرجان، وفُتح معه شارع من محطّة

(1) ذكّرني ولدي الأستاذ النابغة زهير الشاويش صاحب «المكتب الإسلامي» أن اسمه صادق.

(2)

في هذه الذكريات القصة الكاملة للخط الحديدي الحجازي. انظر الحلقة الخامسة والسبعين في الجزء الثالث (مجاهد).

ص: 52

الحجاز إلى نهر بردى، ومن أقدم عماراته «العباسية» نسبة إلى رجل بيروتي يقال له أبو عباس، وكانت طابقَين من الخشب واللبِن فيها مقهى (1) وملهى.

ومن طريف أخبار ذوي الغفلة من الوعاظ (أذكره ولو لم يكُن هذا مكانه) أن أحد مشايخنا جاء من يقول له إن منيرة المهديّة تغنّي وترقص في «العباسية» ، فأعلن غضبه في درسه في الأموي وقال: كيف ترقص هذه المرأة أمام الرجال وهي كاشفة جسدها مبدية مفاتنها؟ أين الدين وأين النخوة؟ قالوا: نعوذ بالله! وكيف يكون هذا، وأين يا سيدنا، ومتى؟ قال: في العباسية، في الليل بعد صلاة العشاء.

وكان نصف المقاعد خالياً فامتلأت تلك الليلة المقاعدُ كلها! فليتنبّه الواعظون، فكثيراً ما تكون المبالغة في وصف المنكَر دعاية له.

* * *

وجمال باشا كان قائد الجيش الرابع العثماني وأحد أركان جمعية الاتحاد والترقي، وهم: قائد الجيش أنور باشا، ووزير الداخلية طلعت باشا، وجاويد (دافيد أو داود) وزير المالية ومترجم كتاب شارل جيد في الاقتصاد إلى التركية (2)، ثم جاء من بعدهم مصطفى كمال (أتاتورك). وأصل أكثرهم من يهود

(1) كلمة «مقهى» فصيحة، و «أقهى» أي أدام شرب القهوة.

(2)

وكنا ندرسه معرَّباً في معهد (أي كلية) الحقوق سنة 1931 لمّا كنا طلاباً فيها.

ص: 53

الأندلس، ممّن يدعونهم «الدونمة» ، أضاعوا الدولة العثمانية التي كانت ثالثة الدولتين العظيمتين: الأموية والعباسية، والتي عاشت المدة الطويلة وفتحت بالإسلام وللإسلام الفتوح الجليلة، وكانت يوماً أقوى دول الأرض وملكها أكبر ملوكها.

فهدم هؤلاء ما بنى بنو عثمان، ونسوا (أو لم يعلموا) أن الإسلام لا يفرّق الناس للألسن ولا للألوان فأرادوا «تتريك» العناصر العثمانية، فبدؤوا -بهذا- الفتنةَ التي جعلت الأمة الواحدة، أمة محمد، هيئةَ أمم، حين قالوا «تُرك» فقال ناس منا «عرب» وقال الفرس وقال الأكراد، وكانت عودة إلى الجاهلية! مع أننا ما كنا نفرّق في معلمينا وفي رفاقنا بين عربي وتركي وكردي، ولا الإسلام يسمح لنا أن نفرّق. وقد ماتت الآن هذه الفتنة أو هي على سرير الاحتضار، وستلحق بها إن شاء الله أخواتها ولا تبقى إلا دعوة الإسلام.

كانت مدرستنا أهلية ولكنّا ذقنا -مع هذا- الكثير من الثمر المرّ لهذه الدعوة. كان عندنا معلمون من الأتراك، أما الديّن التقيّ منهم فينكر هذه التفرقة الجاهلية، وأما من كان غير ذلك فكان يؤيّدها. حتى قواعد اللغة العربية (النحو والصرف) درسناها آخر المدة على معلّم تركي، فكان يسأل الواحد منّا:«فاعل نِدِرْ؟» أي: ما هو الفاعل؟ وانتقل خوف جمال باشا من الكبار إلينا، فكان عندنا معلّم للموسيقى قالوا إنه نسيب الباشا، فكنا نخشى أن نكلمه.

* * *

ص: 54

كان هذا كله استطراداً وسبقاً للحوادث، فلنَعُد إلى سنة 1914، إلى السنة التي اشتعلت فيها نيران أول حرب عالمية في تاريخ البشر. ولكن لا تنتظروا مني أن أحدثكم عنها حديث المؤرّخ المحقّق، فإني أدوّن ذكريات إنسان كان طفلاً في تلك الأيام، لا أنقل عن ابن خلدون ولا عن شارل سنيوبوس (1).

مرّ عليّ في هذه المدرسة شهور لم أخالط فيها أحداً من الأولاد ولم أكلمهم إلا الكلمة التي لا بدّ منها؛ فقد نشأت -أول ما نشأت- على الوحدة، لم ألعب يوماً مع الأولاد في الحارة ولا زرت أحداً من لِدَاتي ولا زارني، فكنت طول عمري عائشاً وحدي، أنيسي كتابي، وإن زرت فالكبار من تلاميذ أبي أو إخوانه، كان يصحبني أحياناً معه فأستمع ولا أتكلم لأن الصغار لا يتكلمون في مجلس الكبار. لذلك كنت في المدرسة متوحّداً منفرداً.

حتى كان يوم رأيت فيه سماء «الصحن» الواسع مغطاة بسحابة سوداء دانية منا ليست بعيدة عنا، وكان يسّاقط شيء منها على رؤوسنا

لا، لم تكُن قطرات المطر فلم تكُن سحابة ممطرة، وإنما كانت رِجْلاً من الجراد (2)، ملأ سماء الشام وأرضَها

(1) مؤلف «تاريخ الحضارة» الذي ترجمه أستاذنا محمد كرد علي ودرسناه في الثانوية.

(2)

من دقائق اللغة العربية أنها جعلت لكل طائفة من المخلوقات اسماً؛ فجماعة الجراد رِجْل، وجماعة الخيل رَعيل، والإبل صِرمة، والغنم قَطيع، والطير عصابة، والنعام خَيط، إلخ. والأصوات كذلك؛ فصوت الفرس صهيل، والحمار نهيق، والبقر خُوار، والغنم ثُغاء =

ص: 55

وأتى على الأخضر واليابس من زرعها، وكان شيئاً رهيباً. ولم تكُن يومئذٍ هذه المبيدات ولم يكُن شيء من هذه الوسائل التي قضت اليوم أو كادت على الجراد.

فبدأ القحط في البلد.

ثم سمعنا من أفواه الكبار كلاماً لم ندرك غوره، ولكن فهمنا من لهجة كلامهم ومن ملامح وجوههم ومن جزعهم أنه شيء مكروه مخيف. فهمنا أنها قامت حرب في مكان بعيد عنا، ليست كحرب البَسوس التي دامت (كما قالوا) أربعين سنة ولم تقع فيها إلا أربعون معركة ما زادت المعركة منها عن مناوشة خفيفة بين فصيلَين من الجنود. وأن هذه الحرب يموت في المعركة الواحدة منها ما يزيد مئة مرة عن كل الذين ماتوا في معارك الجاهلية كلها، بل والذين ماتوا في بدر وأحد والقادسية واليرموك.

سمعنا هذا فلم نبالِ به. ما لنا ولقوم لا نعرفهم ليسوا منا ولا نحن منهم، يتقاتلون في مكان لا نعرفه ولم نسمع به؟ حريق ولكن لم تمتدّ إلينا ناره ولم يلذعنا أُواره. ولكنا ما لبثنا إلا قليلاً حتى بلغَنا شرارُه وروّعتنا أخباره، حين كنت أمشي إلى المدرسة من داري في العقيبة فأرى الفرن مسدودةً واجهتُه بالخشب ما فيها إلا طاقة صغيرة، والناس يسدّون نصف عرض الطريق، يطلبون أرغفة من الخبز الأسود فلا يكادون يصلون إليها.

= والأسد زئير، والذئب عُواء، والكلب نباح، إلخ. وقُل مثل ذلك في مساكن المخلوقات وأبنائها وسائر ما يتعلق بها. ومن قرأ «فقه اللغة» للثعالبي وجد من ذلك أعاجيب (مجاهد).

ص: 56

كانت الشام أرض الخيرات وكانت تسمى قديماً «أنبار روما» ، فأين ذهب قمحها حتى صرنا نطلب الخبز المخلوط بالشعير وبالذرة وبأشياء لا تبلغ قدر الذرة ولا الشعير فلا نصل إليه؟ كان عهدنا بالخبز معروضاً بأثمان لا يتصوّرها القارئ اليوم من شدة الرخص، وكان منه المشروح والتنّوري وخبز الصاج والمصنوع من خالص القمح والمعمول من الدقيق الأبيض المنخول

فأين ذهب هذا كله؟

ذهب ببعضه الجراد، وبباقيه حلفاؤنا (بل حلفاء حكّامنا الاتحاديين) من الألمان.

ثم خلت الشام إلا من الشيوخ والنساء والأطفال، أما الشبّان فقد ساقوهم (مشاة على أقدامهم) إلى حرب ترعة السويس أولاً، التي عدنا منها بالهزيمة، وإلى معركة «جناق قلعة» لمحاربة أعداء الألمان.

وكان الضابط الذي يتعقب الفُرّار يلبس لبّادة، لذلك يدعونه «أبو لبادة» ، وإذا رأوه نادوا «عباية» ليهرب من ليس معه وثيقة إجازة من الجندية. وكان كلما أبصر شاباً أمسك به أعوانه وقال له: نَرْدِه وثيقة؟ أي أين وثيقتك؟ فإن لم يجدها جرّه إلى «السُّويقات» ، في البناءين القائمَين إلى الآن في سوق صاروجا، حيث فتح مرة الشيخ أحمد كفتارو «مدرسة الأنصار» .

ثم رأينا الناس -ونحن في طريقنا إلى المدرسة- ينبشون أكوام القمامة لعلهم يجدون فيها بقايا طعام. وعزّ السكّر حتى صارت الأوقية (مئتا غرام) بريال مجيدي، وقد كان المجيدي

ص: 57

قبل الحرب يكفي لوليمة ضخمة، أي أن الكيلو بليرة (أي بجنيه) ذهبي! وقلّ الكاز (البترول)، وفُقدت أشياء كثيرة مما كنا نستورده. وما كان منه عند التجّار قبضوا عليه أيديهم وأخفوه في مستودعاتهم، وكانت أيام شداد.

ولكن الأتراك مسلمون، وإن كان حكامنا وحكامهم يومئذٍ من الاتحاديين أعداء الأمة العربية، وكدت أقول أعداء الدين. فقد عزّ عليهم أن يجوع علماء المسلمين، فخصّصوا لهم جرايات من القمح تسدّ حاجة بطونهم وتصون ماء وجوههم.

وكان والدي (وقد نسيت أن أقول لكم) قد ترك إدارة المدرسة وصار «أمين الفتوى» عند المفتي الشيخ أبي الخير عابدين، والد شيخنا الشيخ أبي اليسر عابدين مفتي الشام، الطبيب الذي نال شهادة الطبّ على كِبَر ثم صار أستاذاً في كلية الحقوق (وكانت تُدعى معهد الحقوق، وكانت هي وكليّة الطب نواةَ جامعة دمشق).

كان والدي هو الذي يتولّى إعداد قوائم بأسماء العلماء وطلبة العلم لينالوا نصيبهم من القمح.

* * *

ص: 58