الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ الثَّامِنُ عَشَرْ
هل يُتصوَّرُ أن يَحكمُ الحاكمُ بحكمٍ مختلَفٍ فيه والمُدرَكُ مُجمَعٌ عليه، أم لا يُتصوَّرُ أن يَحكم بحكمٍ مختلفٍ فيه إِلَّا لِمُدركَينِ مختلِفَين متعارضَين لأنه المتصوَّر؟ وكيف يكون الحكمُ مختلفًا فيه والمُدرَكُ متفقٌ عليه؟ بل إِن اتفَقَا (1) على المُدرك اتفقا في الحكم.
جَوَابُهُ
نعَمْ يُتصوَّرُ أن يَحكم بحكمٍ مختلَفٍ فيه والمُدْرَكُ متفَق عليه، وأن يَحكم بحكمٍ متفَقٍ عليه والمُدرَكُ مختلَف فيه طردًا وعكسًا.
لأنَّ المُدرَك إِن أُريدَ به ما يَعتمدُ عليه الحاكمُ من الحجاج كالبيِّنةِ ونحوها، دون أدِلَّةِ الفتاوى كالكتاب والسُّنَّة: يجوزُ أن يكون المُدرَكُ مجمَعًا عليه والحكمُ مختلفًا فيه، كما إِذا شَهِدَ عنده عَدْلانِ بالرضاع بين الرجل وامرأته بمَضَّةٍ واحدة، أو أنه علَّقَ طلاقَ امرأته قبل العقد عليها، فإِنه يَحكمُ بفَسْخِ النكاح وإِبطالِه.
وهذا الحكمُ في الصورتين مختلَفٌ فيه، والحُجَّةُ وهي الشاهدان مُجمَعٌ عليها.
وعكسُهُ تكون الحُجَّة مختلَفًا فيها والحكمُ متفق عليه نحوُ حكمِه بالشاهدِ واليمين في القِصاصِ في الجِراح، فإِنَّ القصاص في الجراح متفقٌ
(1) أي كلٌّ من المجتهدَينِ المختلفين في الحكم.
عليه، ولكنْ إِثباتُهُ بالشاهدِ واليمينِ أكثرُ العلماءِ على مَنْعه، وهو مشهورُ مذهبِ مالك رحمه الله. فقد تُصوِّرَ الأمرانِ في المُدرَكِ بمعنى الحُجَّة.
وأما إن أُريد بالمُدرَكِ الدليلُ الذي هو مستند الفتاوى عند المجتهدين:
فقد يكون الحكمُ مختلَفًا فيه والمُدرَكُ متفقًا عليه، ويقَعُ الخلافُ: إِمَّا لأنه دَلَّ عند الخصم على نقيضِ ما دل عليه عند الآخر، وإِمَّا لقوله بمُوجَبِه (1)، وإمَّا لإِعتقادِهِ نَسْخَه، أو أنه معارَضٌ بما لا يراه الآخَرُ مُعارِضًا له.
كما يَحكمُ الحنفيُّ ببطلان وقفِ المنقول (2)، بناءً على قولِه تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ} (3). والوقفُ عنده سائبة، مع أنَّ الكتاب العزيز متفَقٌ على كونه حُجَّة.
ويحكمُ الشافعيُّ بصحةِ استمرار نكاحِ المُعَلِّق قبلَ الملك بناء على قوله صلى الله عليه وسلم "الطَّلاقُ لمن مَلَكَ السَّاق"(4). وبفَسْخِ البيع بناءً على خيارِ المجلس مع الإتفاقُ على الحديث فيه، ونظائرهُ كثيرة.
(1) أي بظاهره كما في اختلاف الشافعي والحنفي في متروك التسمية عمدًا.
(2)
بطلانُ وقف المنقول قولٌ في المذهب الحنفي، وليس هو المذهبَ كما يقتضيه إطلاقُ كلام المؤلف هنا، بل المذهبُ جوازُه على تفصيل فيه، يُعلم بمراجعة كتاب الوقف من كتب الحنفية.
(3)
من سورة المائدة، الآية:103.
(4)
رواه ابن ماجه في "سننه" 1: 673 عن ابن عباس، والدارقطني في "سننه" ص 440 عن ابنِ عباس وعصمةِ بنِ مالك رضي الله عنهما. ولفظُ ابن ماجه:"قال ابن عباس: أتَى النبي صلى الله عليه وسلم رجلٌ فقال: يا رسول الله، إن سَيِّدي زَوَّجني أمَتَه، وهو يُريد أن يُفرِّق بيني وبينها؟ قال: فصَعِدَ رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبَر فقال: يا أيها الناس، ما بالُ أحدِكم يُزَوِّجُ عبدَه أمَتَه، ثم يريدُ أن يُفرِّقَ بينهما؟! إنما الطلاقُ لمن أخَذَ بالسَّاق".=
وقد يكون الحكمُ متفقًا عليه والمدرَكُ مختلفًا فيه بأن يكون في الواقعةِ حديثان، كل واحد منهما صحيحُ عند أحدِ القائلَينِ بذلك الحكم، غيرُ صحيح عند الآخر، فيتفقانِ على الحكم بناء على الحديثين، ويختلفانِ في المُدرَك. فظهر أنه لا يَلْزَمُ من الإتفاق على المُدرَك الإتفاق على الحكم ولا بالعكس.
= وفي سنده عند ابن ماجه (عبدُ الله بن لَهِيعة) وقد ضعَّفه بعضهم، وقوَّاه بعضُهم، وعلى هذا جَرَى الحافظ الهيثمي في مواضع من كتابه "مجمع الزوائد" فقال في الجزء 52:7 "وفيه - أي ابنِ لَهِيعة - ضَعْف، وقد يُحسَّنُ حديثه" وفي 196:4 و 325:5 "وفيه ضَعْف، وحديثُه حسن" وفي 1: 155 و 23:5 و 10: 16 "وحديثُه حَسَن"، وفي 1: 16 "وفيه ابنُ لَهِيعة، وقد احتَجَّ به غيرُ واحد".
وقال الشوكاني في "نيل الأوطار، 203:6 "وطرُقُ هذا الحديث يُقوِّي بعضُها بعضًا. وقال ابن القيِّم: إنَّ حديث ابن عباس وإن كان في إسناده ما فيه فالقرآنُ يَعضُدُه، وعليه عمَلُ الناس. وأراد بقوله، القرآنُ يَعضُده نحوَ قوله تعالى:{إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} . انتهى.
فالحديثُ حسَنٌ لذاته أو لغيره، وكلاهما حُجَّةٌ كما هو معلوم.