المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السؤال السادس والثلاثون - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌تقدمة الطبعة الثانية:

- ‌تقدمة الطبعة الأولى:

- ‌أصول الكتاب وعملي فيه

- ‌تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشاراً للمطبوع منها

- ‌السُّؤَالُ الأَوَّلُ

- ‌السُّؤَالُ الثَّانِي

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِعُ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسُ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّانِي

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّالِثْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَال الرَّابِعْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الخَامِسْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّادِسْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّابِعْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّامِنْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ التَّاسِعْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ العَاشِرْ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ الْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّوَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِع وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسِ وَالْعِشْرُونْ

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الحَادِي وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِعْ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الأَرْبَعُونْ

- ‌التَّنْبِيهُ الأَوَّلُ

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّانِي

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ

- ‌التَّنْبِيهُ الرَّابِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الخَامِسُ

- ‌التَّنْبِيهُ السَّادِسُ

- ‌التَّنْبِيهُ السَّابِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ

- ‌التَّنْبِيهُ التَّاسِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ

- ‌بيانُ رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الِإشكال الواقع في كلام الإِمام القرافي

- ‌إلحاقةٌ متصلة بترجمة الإِمام القَرَافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

- ‌الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكُرْدِي(كما عَرَفتُهُ)

- ‌مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌السؤال السادس والثلاثون

‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونْ

قد التبسَ على كثيرِ من الفقهاء بعضُ تصرفاتِ الحكام، هل هو حُكمٌ له أم لا؟ فما التصرُفاتُ التي ليستْ بحكم حتى يكون لغيرهم تغييرُها إِن رأى ذلك، أو المُخالَفَةُ فيها؟ فإِنَّ الحُكمَ نفسَه لا يجوز نقضُه، وغيرَه يجوزُ نقضُهُ والمُخالفةُ فيه. فما ضابطُ ما عدا الحكمَ حتى يُعرَفَ أنه غيرُ حُكمٍ فيُنظَرَ فيه (1)؟

جَوَابُهُ

أنَّ تصرُّفاتِ الحُكَام والأئمة بغير الحكم أنواعٌ كثيرة، أنا ذاكرٌ منها - إِن شاء الله - عشرين نوعاً، وهي عامَّةُ تصرُّفاتِهم فيُسلَمُ من الغلَطِ فيها:

النوع الأول: العقود، كالبيع والشراءِ في أموال الأيتام والغائبين والمجانين، وعقدِ النكاح على من بَلَغ من الأيتام، وعلى من هو تحت الحَجْر من النساء ومن ليس لها وليّ، وعقدِ الإِجارة على أملاكِ المحجورِ عليهم، ونحوِ ذلك.

فهذه التصرفاتُ ليست حُكماً، ولغيرِهم النظرُ فيها، فإِن وجَدَها بالثمنِ البخس، أو بدونِ أُجرةِ المثل، أو وجَدَ المرأةَ مع غير الكفء: فله نقلُ ذلك على الأوضاع الشرعية، ولا تكونُ هذه التصرفاتُ في هذه الأعيان

(1) هذا السؤال وجوابُه منقول في "تبصرة الحكام" 1: 72 - 75، 78 - 81، و"معين الحكام" ص 37 - 47، 43 - 46.

ص: 180

والمنافع حُكماً في نفسِها البتة.

نعم قد تكون حُكماً في غيرها، بأن تتوقَّفَ هذه التصرفات على إِبطالِ تصرفاتٍ متقدّمةِ على هذه التصرفات الواقعة من الحاكم الآن، كتزويجِها بعدَ أن تزوَّجتْ من غير هذا الزوج والحاكمُ يَعلمُ ذلك، أو بَيْعِ العين مِن رجلٍ بعد أن بِيعَتْ من رجل آخر والحاكمُ يَعلمُ ذلك، ونحوِ ذلك، فإِنَّ ثبوتَ هذه التصرفاتِ بهذه العقود يقتضي فَسْخَ تلك العقود السابقة ظاهراً.

النوع الثاني: إِثباتُ الصفات، نحوُ ثبوتِ العدالة عند حاكمٍ أو الجرحِ، أو أهليةِ الإِمامة للصلاة، أو أهليةِ الحضانة، أو أهلية الوصيَّة، ونحوِ ذلك.

فجميعُ إِثباتِ الصفات من هذا النوع ليس حكمًا، ولغيره من الحكام أن لا تقبلَ ذلك، ويَعتقدَ فِسقَه إِن ثبَتَ عنده سببُه، وتقبلَ ذلك المجروحَ إِن ثبَتَ عنده عدالتُه، وكذلك جميعُ هذه الصفات ليست بحكم البتة.

النوع الثالث: ثبوتُ أسباب المطالبات، نحوُ ثبوتِ مقدارِ قِيمة المُتلَفِ في المُتلفَات، وإِثبات الدُّيون على الغُرمَاء، وإِثباتِ النفقات للأقارب والزوجات، وإِثباتِ أُجرةِ المِثل في منافع الأعيان، ونحوِه.

فإِنَّ إثبات الحاكم لجميع هذه الأسباب ليس حُكماً، فلغيره من الحكام أن يُغيّر مقدارَ تلك الأجرةِ وتلك النفقةِ وغيرِها من الأسباب المقتضِيَةِ للمطالبة (1).

(1) علَّق عليه شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أمتع الله به، فيما كتبه إليَّ ما يلي:"كيف ينطبقُ هذا على إثبات الديون؟ فهل هي تقديريةٌ يمكنُ تغييرُها؟ ".

ص: 181

النوع الرابع: إِثباتُ الحِجَاجِ المُوجِبةِ لثبوت الأسبابِ الموجِبة للاستحقاق، نحوُ كونِ الحاكم ثبَتَ عنده التحليفُ ممن تعيَّنَ عليه الحلفُ، وثبوتِ إِقامةِ البينات ممن أقامها، وثبوتِ الإِقرارات من الخصوم، ونحوِ ذلك.

فإِنَّ هذه حِجَاج تُوجبُ ثبوتَ أسبابٍ موجبةٍ لإستحقاق مسبَّباتها، ولا يَلزمُ من كونِ الحاكم أثبتها أن تكون حُكماً، بل لغيره أن يَنظر في ذلك فيُبطِلَ أولًا يُبطِل، بل إِذا اطَّلع فيها على خَلَلٍ تعقَّبه، ولا يكونُ ذلك الإِثباتُ السابقُ مانعًا مِن تعقُّبِ الخلَل في تلك الحِجَاج.

النوع الخامس: إِثباتُ أسباب الأحكام الشرعية، نحوُ الزَّوَالِ، ورُؤيةِ الهلالِ في رمضان وشوالٍ وذي الحِجَّة، مما يترتَّبُ عليه الصومُ، أو وجوبُ الفطر، أو فِعلُ النُسُك، ونحوُ ذلك، وجميعُ أوقات الصلوات.

فجميعُ إِثبات ذلك ليس بحكم، بل هو كإِثباتِ الصفات. وللمالكي أن لا يصوم في رمضان إِذا أثبَتَ الشافعيُّ هِلالَ رمضان بشاهدٍ واحد؛ لأنه ليس بحكم وإِنما هو إِثبات سبب، فمن لم يكن ذلك عنده سببًا لا يَلزمه أن يُرتَبَ عليه حُكماً (1).

(1) ذكر المؤلف القرافي في كتابه "الفروق" 1: 128 - 129 في الفرق (16) فائدة حسنة تتعلقُ بذكرِ الفرق بين الأدلَّة والحِجاج والأسباب. وهذه خلاصتُها:

"الفرقُ بين أدلَّة مشروعية الأحكام وبين أدلة وقوع الأحكام: أنَّ أدلَّةَ مشروعية الأحكام محصورةٌ شرعًا، تتوقف على الشارع وهي نحو العشرين. وأدلةَ وقوع الأحكام هي الأدلةُ الدالةُ على وقوع الأحكام أي وقوعِ أسبابها وحصولِ شروطها وانتفاءِ موانعها.

فأدلةُ مشروعية الأحكام: الكتابُ، والسنةُ، والقياسُ، والِإجماعُ، والبراءةُ الأصلية، وإجماعُ أهل المدينة، وإجماعُ أهل الكوفة - على رأي -، والإستحسانُ، =

ص: 182

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= والإستصحابُ، والعِصمةُ، والأخذُ بالأخف، وفِعلُ الصحابي، وفِعلُ أبي بكر وعمر، وفِعلُ الخلفاء الأربعة، وإجماعُهم، والِإجماعُ السكوتي، وإجماع لا قائل بالفرق فيه، وقياسٌ لا فارق، ونحوُ ذلك مما قُرِّرَ في أصول الفقه، وهي نحوُ العشرين، يتوقف كلُّ واحد منها على مُدْرَكِ شرعي، يَدُّل على أن الدليلَ نصبَهُ صاحبُ الشرع لاستنباط الأحكام.

وأما أدلةُ وقوعِ الأحكام: فهي غير منحصرة، فالزوالُ مثلًا دليلُ مشروعيتهِ سببًا لوجوب الظهرِ عندَهُ قولُهُ تعالى:{أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} . ودليلُ وقوعِ الزوال وحصوله في العالَم الآلاتُ الدالَّةُ عليه، وغيرُ الآلاتِ كالإِسطرلاب والمِيزان ورُبع الدائرة

والمختَرَعاتِ التي لأنهاية لها.

وكذلك جميعُ الأسبابِ والشروطِ والموانع لا تتوقف على نَصْبِ من جهة الشرع، بل المتوقفُ سببيَّة السبب وشرطية الشرط ومانعيَّة المانع، أمَّا وقوعُ هذه الأمور فلا يَتوقفُ على نَصْبِ من جهة صاحب الشرع. ولا تنحصر تلك الأدلة في عدد، ولا يمكن القضاء عليها بالتناهي.

وأمَّا الحِجَاجُ فهي ما يقضي به الحُكَام، ولذلك قال عليه السلام:"فلعل بعضكم أن يكون ألحَنَ بحُجَّتِهِ من بعض، فأقضِي له على نحو ما أَسمع".

فالحِجَاجُ تتوقفُ على نَصبِ من جهة صاحب الشرع، وهي البينةُ، والِإقرارُ، والشاهدُ واليمين، والشاهدُ والنكول، واليمينُ والنكول، والمرأتانِ واليمين، والمرأتانِ والنكول، والمرأتانِ فيما يختص بالنساء، وأربعُ نسوة عند الشافعي، وشهادةُ الصبيان، ومجرَّدُ التحالف عند مالك، فيقتسمان بعدَ أيمانهم عند تساويهما عند مالك، فذلك نحوُ عشرةٍ من الحِجاج هي التي يقضي بها الحاكم، فالحِجاجُ أقلُّ من الأدلة الدالة على المشروعية، وأدلَّةُ المشروعية أقلُّ من أدلة الوقوع.

وفائدةُ هذه الثلاثة الأنواع مُوَزَّعةٌ في الشريعة على ثلاث طوائف، فالأدلَّةُ يَعتمدُ عليها المجتهدون، والحِجاجُ يَعتمدُ عليها الحكام، والأسبابُ يَعتمدُ عليها المكلفون كالزوالِ ورؤيةِ الهلال ونحوِهما".

ص: 183

النوع السادس: مِن تصرفات الحكام، الفتاوى في الأحكام في العباداتِ وغيرِها، من تحريمِ الأبضاع، وإِباحة الانتفاع، وطهاراتِ المياه، ونجاساتِ الأعيان، ووجوبِ الجهاد، وغيرِه من الواجبات، وليس ذلك بحكم، بل لمن لايعتقدُ ذلك أن يُفتيَ بخلاف ما أَفتى به الحاكمُ أو الإِمامُ الأعظم.

وكذلك إِذا أَمروا بمعروف أو نَهَوْا عن منكر وهم يعتقدونه منكرًا أو معروفاً، فلمن لا يعتقد ذلك أن لا يفعل مثلَ فعلِهم، إِلَّا أن يدعوه الإمامُ للِإنكار، وتكونَ مخالفتُه شِقاقاً، فتجبُ الطاعةُ لذلك.

وأما الحاكم فلا يُساعَدُ على ما نعتقدُ نحن خلافَ ما هو عليه، إِلَّا أن يُخشى فتنةٌ يَنهى الشرعُ عن السماحةِ فيها.

النوع السابع: تنفيذاتُ الأحكام الصادرة عن الحكام فيما تقدَّم الحكمُ فيه من غير المنفذ بأن يقول: ثبَت عندي أنه ثبَتَ عند فلان من الحكام كذا وكذا.

وهذا ليس حُكماً من المنفِّذ البتة. وكذلك إِذا قال: ثبَتَ عندي ان فلانًا حكَمَ بكذا وكذا: فليس حُكماً من هذا المثبِت، بل لو اعتقَدَ أنَّ ذلك الحكم على خلافِ الإِجماع صحَّ منه أن يقول: ثبَتَ عندي أنه ثبَتَ عند فلان كذا وكذا؛ لأنَّ التصرُّف الفاسدَ والحرامَ قد يَثبُتُ عند الحاكم، ليترتَّبَ عليه تأديبُ ذلك الحاكمِ أو عَزْلُه.

وبالجملة: ليس في التنفيذ حُكم البتة، ولا في الإِثبات أنَّ فلانًا حكَمَ مساعدةٌ على صحَّةِ الحكم السابق، فلا يُغتَرُّ بكثرةِ الإثبات عند الحكام، فهو كحكمِ واحدِ وهو الأوَّل، إلَّا أن يقول الثاني: حكمتُ بما حكَمَ به الأول.

ص: 184

النوع الثامن: تصرُّفات الحكامِ بتعاطي أسباب الإستخلاص ووصولِ الحقوق إِلى مستحقِّيها، من الحبسِ والإِطلاقِ، وأخذِ الكُفَلاء الأمْلِياء، وأخذِ الرُّهون لذوي الحقوق، وتقدير مدة الحبس بالشهور، وغيرِها.

فهذه التصرفات كيفما تقلَّبت ليست حُكماً لازمًا، ولغير الأوَّل من الحكام تغييرُ ذلك وإِبطالُه بالطرق الشرعية على ما تقتضيه المصلحةُ شرعًا.

النوع التاسع: التصرُّفُ في أنواع الحِجَاج، بأن يقول: لا أسمعُ البيِّنةَ لأنك حلفتَ قبلَها مع قدرتك على إِحضارها، أو لا أحكمُ بالشاهدِ واليمين، أو لا أردُ اليمينَ على المدَّعي، أو لا أُحَلِّفُ المدَّعَى عليه لأنها يمينُ تُهمة، ومذهبي أنها لا تُحلَّف.

فهذا كلُّه ليس حُكماً شرعياً، ولغيره من الحكام أن يفعل ما تركه.

النوع العاشر من التصرفات: توليةُ النُوَّابِ عنهم في الأحكام، ونَصْبُ الكُتَّاب والقُسَّام والمترجِمين والمقوِّمين وأمناءِ الحُكم للأيتام، وإِقامةُ الحُجاب والوَزَعة، ونَصْبُ الأُمناء في أموال الغائبين والمجانين، وإِقامةُ من يَتَجرُ في أموال الأيتام، أو يَعمُرُ العَقَار، أو يَجبِي رَيْعَهُ ويَلُمُّ شَعَثَه، ونحوُ ذلك.

فهذا كلُّه ليس بحكم في هذه المواطن، ولغيره من الحكام نقضُ ذلك وإِبدالُه بالطرق الشرعية، لا بمجرد التشهي والغَرَض والهوى واللعب.

النوع الحادي عشر: إِثباتُ الصفاتِ الموجِبةِ لِلمُكْنَةِ من التصرُفِ في الأموال، كالترشيد في الصبيانِ والبنات، وإِزالةِ الحَجْر عن المُفْلِسين والمكاتَبِين والمبذِّرين والمرتدِّين، أو المُزِيلةِ للمُكْنَةِ من التصرُّف، كضربِ الحَجْرِ على غيرِ البالغين أو المجانين أو المفلِسين أو المبذِّرين ونحوِهم.

ص: 185

فليس ذلك بحكم يَتعذَّرُ نقضُه، بل لغيره أن يَنظرُ في تلك الأسباب، ومتى ظهَرَ له وتحقَّقَ ضدُّ ما تحقق عند الأوَّلِ نقَضَ الحُكمَ وحكَمَ بضدّه، فيُطلِقُ مَنْ حُجِرَ عليه، ويَحجرُ على من أَطلَقه الأول، كما تقدَّمَ في العدالةِ والتجريح (1)؛ لأنه إِثباتُ صفاتٍ لا إِنشاءُ أحكام.

النوع الثاني عشر: من تصرُّفاتِ الأئمة: الإِطلاقاتُ من بيت المال، وتقديرُ مقاديرِها في كلِّ عطاء، والإِطلاقاتُ من الفيءِ أو الخُمُسِ في الجهاد، والإِطلاقاتُ من أموال الأيتام لهم التي تحت يدِ الحكام، والإِطلاقاتُ في الأرزاق للقُضاةِ والعلماءِ والأئمةِ للصلاة والقُسَّامِ وأربابِ البيوت والصلحاءِ، وإِطلاقاتُ الإِقطاعات للأجنادِ وغيرِهم من القُرَى والمعادِن.

ومن ذلك إِنفاقُ بعضِ الجهاتِ العامَّةِ على من يجوز الصرفُ لهم على الخلاف في ذلك، هل يُلاحَظُ أنه صَرْفٌ للمال في جهته الشرعية فيجوز؟ أو يُلاحَظُ الحَجْرُ بالوقفِ على المستحقّ ولم يكن ذلك لازمًا له فيَمتَنع؟

فهذا كلُّه ليس حكمًا، ولغيره - إِذا رُفِعَ له - النظرُ فيه بما يَراه من الطرق الشرعية فيُطْلِقُ ما عَوَّقَ، ويُعوَّقُ ما أَطلَق بحسب ما تقتضيه المداركُ الشرعية.

النوع الثالث عشر: اتِّخاذُ الأحْمِيَة من الأراضي المشتركةِ بين عامَّة المسلمين تَرْعَى فيها إِبلُ الصدقة وغيرُها، كما فَعَلَ عمرُ بن الخطاب رضي الله عنه وغيرُه.

(1) في آخر ص 187 - 178.

ص: 186

فهذا ليس حُكماً: ولغيره بعدَه أن يُبطِلَ ذلك الحِمَى، ويَفعلَ في تلك الأرض ما تقتضيه المصالح الشرعية.

النوع الرابع عشر: تأميرُ الأمراءِ على الجيوش والسرايا، فقد عزَمَ الصحابةُ رضوان الله عليهم على ردِّ جيشِ أسامة، ونفَّذَه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لأنه المصلحة في نظره، لا لتعذُّرِ نَقْضه.

النوع الخامس عشر: تعيينُ أحدِ الخِصالِ في الحِرابةِ لعقوبة المحارِبين (1)، ليس حكمًا شرعياً، وإذا رُء لغيره من أهلِ مَذْهَبه في مذهبِ من يَرى التخييرَ مطلقًا قبلَ التنفيذ، ورأى أنَّ المصلحة تعيينُ غير تلك الخَصْلَة عيَّنَها؛ لأنَّ تعيينها أولًا ليس حُكماً شرعياً.

النوع السادس عشر: تعيينُ مقدارٍ من التعزير إذا رُفع لغيره قبلَ تنفيذه فرأى خلافَ ذلك، فله تعيينُه وإِبطالُ الأول؛ لأنه ليس حكمًا شرعياً، بل اجتهادٌ في سببٍ هو الجِناية، فإِذا ظهر للثاني أنها لا تقتضي ذلك حَكَمَ بما يراه.

وهذا بخلاف تعيين الأسارى للرِقِّ ونحوِه؛ لأنها مسألةُ خلافٍ بين العلماء، فقال بعضهم: تُقْتَلُ الأسارى فقط، ومذهبُنا ومذهبُ الشافعي وأبي حنيفة: جوازُ الإسترقاقِ أو ضَرْبِ الجزية، فإِذا اختار أحدَهما فهو حُكم منه بالذي اختاره، وهو إِنشاءُ حُكمٍ في مختلَفٍ فيه.

(1) قال القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 2: 196، 242 "الحِرابةُ: كلِّ فعل يقصَدُ به أخذُ المال على وجهٍ يتعذرُ معه الإستغاثةُ عادة، كشَهْرِ السلاح، والخَنْق، وسَقْي السَّيْكَرَان، لأخذِ المال". وجاء في "لسان العرب" في (حرب):"الحَرَبُ بالتحرَيك: نَهْبُ مالِ الإِنسان وتَرْكُه لا شيء له".

ص: 187

وكذلك كلُّ خَصْلَةٍ من الخِصال الخَمْس التي يُخيَّرُ فيها الإِمامُ في الأسارى: المنِّ، والفداءِ، وضربِ الجِزية، والقتلِ، والإسترقاق.

ووافَقَنا الشافعيُّ في التخيير بين الخمسة، ومنَعَ أبو حنيفة المَنَّ والفِداءَ.

وبالجملة: فاختيارُ الإِمام لأيّ خَصلةٍ اختارها من الخَمْسِ حُكمٌ بتلك الخَصلة؛ لأنه إِنشاءٌ في مختلَفٍ فيه.

أمَّا مَقاديرُ التعزيرِ فليس فيها خلاف، إِنما اتفق الناس على أنه يَتبَعُ سببَهُ في عِظَمِه وحقارتِه، وللإِمامِ أو الحاكمِ تلخيصُ ذلك السبب، فلا يقعُ فيه إِنشاءُ حُكم بتلخيصِ سببٍ وتنفيذِ حُكمٍ مجمَعٍ عليه.

وكذلك اختياره لخَصْلَةٍ من عقوبة المحارِبين إِن وُجِدَ من المحارِب القتلُ وعيَّنَ الإِمامُ القتلَ: لم يكن إِنشاءً لحاكم في مختلَفٍ فيه، بل تنفيذٌ لمجمَعٍ عليه. وإِن عيَّنَ القتلَ في محارِبٍ لم يقتُل، لِعظَمِ رأيِه ودَهائِهِ وأنَّ قَتْلَه مصلحة للمسلمين، فهذه مسألةُ خلاف:

فالشافعيُّ يَمنعُها ولا يُجيزُ قتلَ المحارب إِلَّا إِذا قَتَل، ولا قَطْعَه إِلَّا إِذا قَطَع، فتصيرُ هذه كمسألة الأسارى سواء، فتتعيَّنُ خَصلةٌ من خِصال عقوبةِ المحارِب بالقتلِ أو القطع، ويكون على هذا التقرير إِنشاءَ حكمٍ في مختلَفٍ فيه لا يجوزُ لغيره نقضُه. وكذلك تعيينُ أرضِ العَنْوَةِ للبيع، أو القسْم، أو الوقفِ، إِنشاءٌ في مختلَفٍ فيه.

النوع السابع عشر من التصرُّفاتِ: الأمرُ بقتلِ البُغَاةِ وردْعِ الطُّغاة إِذا لم يُنَفَّذْ، ليس إِنشاءً الحاكم في مختلَفٍ فيه، فلغيره إِذا اتَّصلَ به أن يَنظرَ في تحقيقِ سببه، إِلَّا أن تكون المسألةُ مختلفاً فيها، كتاركِ الصلاة، وقَتْلِ

ص: 188

الزنادقة، فإِنه إذا عيَّنَ القتلَ وحكمَ به، كان هذا إِنشاءً الحاكم في مختلفٍ فيه، فليس لغيره نقضُه، بخلاف قتالِ البُغاةِ المجمَع عليه ونحوِه فإِنه متفَق عليه.

النوع الثامن عشر: عَقْدُ الصُّلحِ بين المسلمين وبين الكفار، ليس من المختلَفِ فيه، بل جوازُه عند سببه مجمَع عليه، فلغيره بعده أن يَنظرَ: هل السببُ يقتضي ذلك؟ فيُبقيَه، أو لا يقتضيه؟ فيُبطلَه.

والصُلحُ إِنما هو التزامٌ لكفايةِ الشر حالةَ الضعف، فإِن كان فيه تأمين، أوما يُوجبُ نقضُهُ عليه الخِيانَةَ من جهةِ المسلمين امتنَعَ نَقْضُه لذلك؛ لأنه مُوادَعة ومُتاركةٌ للحرب (1).

النوع التاسع عشر: عَقْدُ الجِزية للكفار لا يجوز نقضُه ولا تغييرُه، ولكن ليس لكويه حكمًا إِنشائياً، كالقضاء بصحةِ العقود المختلَفِ فيها، بل لأنَّ الشرع وضَعَ هذا العقدَ مُوجِبَاً للإستمرارِ للمعقودِ له ولذُرِّيَّتِه إلى يوم القيامة، إِلَا أن يكون وقَعَ على وجهٍ يقتضي النقض، كعَقْدهِ لأهلِ دِينٍ لا يجوز إِقرارُهم، نحوُ الزنادقةِ والمرتدةِ ونحوِهم.

وأما متى وقع مستجمعاً لشروطه فلا يجوز لأحدٍ تغييرهُ، كعقد البيع وغيرِه مما مقتضاه الدوام، لا يجوز لأحدٍ إِبطالُه بغير سببٍ حادثٍ يقتضي إِبطالَه.

(1) هذا المقطع جاء في الأصول كلها عقب قوله الآتي قريبًا في آخر (النوع التاسع عشر): "بغير سبب حادث يقتضي إِبطالَه". وهو هناك بعيد الصلة والمناسبة بما قبله. وقد أورده العلامة ابن فرحون في هذا النوع الثامن عشر، لوَثاقةِ صِلتِهِ به، أو لأنه جاء كذلك في نسخة "الإحكام" التي نَقَلَ منها؟ فلذا أثبته هنا ونبهتُ عليه.

ص: 189

النوع العشرون: تقرير الخراج على الأَرَضِين وما يُؤْخَذُ من تُجارِ الحربِيين: ليس بحكم، إِنما هو ترتيبُ ما تقتضيه الأسبابُ الحاضرة، فإِن ظهَرَ لغيره أنَّ السبب على خلاف ما اعتقده الأولُ فَعَل غيرَ ذلك، وإن تبيَّنَ أنَّ العقد على خلافِ الغِبْطةِ للمسلمين نقَضَه، كما إِذا باع مالَ اليتيم بالبَخْسِ فإِنه يُنقَض.

تنبيه

حُكمُ الحاكمِ في مسائل الإجتهاد لا يُنقَض، والحكمُ المجمَعُ عليه لا يُنقَض، وعَقْدُ النَّذْر لا يُنْقَض، وعُقودُ التعاليق في الشروط في الطلاقِ والعتاقِ وغيرِهما لا تُنْقَض، وعقودُ المعاملات لا تُنْقَض.

وسبَبُ ذلك مختلِفٌ: ففي مسائل الإجتهادِ كونُه نصَّاً خاصاً كما تقدَّمَ بيانُه (1)، فيُقَدَّمُ على العامّ. وفي مسائل الإِجماع لأجلِ الإِجماعِ على أنَّ ذلك السبب يقتضي ذلك الحكمَ فلا يجوز اقتطاعُه عنه. وعَقْدُ النَّذْرِ لأنه سبَبٌ يقتضي اللزومَ فيما التَزَم. وعَقْدُ الجِزية لأنه يقتضي الدوامَ بالإِجماع، وعقودُ المعاملات كذلك.

فعدَمُ النقض مشترَك، والأسبابُ مختلفة.

(1) في ص 80 - 81.

ص: 190