الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ترجمة المؤلف
هو الِإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصِّهْناجيُّ الأصل، المِصريُّ القرافيُّ المالكي، الفقيه الأصولي المفسِّر المتكلِّم النَّظَّار المتفنِّن المشارك الأديب. ولد بمصر سنة 626 كما قاله في كتابه؛ العقد المنظوم في الخصوص والعموم" في الباب الثالث منه:"ونَشْأَتي ومَوْلِدي بمصر سنة 626 ست وعشرين وست مئة". ونقله العلامة محمد جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" 1: 7 وكما ذُكِرَ في "كشف الظنون" 1153:2 و "هدية العارفين" 1: 99.
وسببُ شهرته بالقرافي أنَّه كان إذا خرج من منزله في دَيْر الطِّين بمصر القديمة ذاهباً إلى المدرسة، مَرَّ في طريقه بمقبرة تُسمَّى: القَرافة. وحدَثَ أنَّ كاتب أسماء الطلبة في ثَبَت سماعهم للكتاب عند الفراغ منه لم يَعرف اسمَه، وكان هو حينئذٍ غائبًا، فأثبته باسم القَرافي، لإعتياده المجيء من تلك الطريق، فلزمَتْهُ هذه النسبة واشتهر بها. هذا ما حكاه ابن فرحون في ترجمته في "الديباج المُذْهَب".
وقال القرافي نفسُهُ غيرَ هذا في كتابه "العِقد المنظوم في الخصوص والعموم" إذ قال فيه: ؤالبابُ الثالثُ في صِيَغ العموم المستفادةِ من النقل العُرْفي دون الوضع الُّلغَوي، وهذا البابُ يكون العموم فيه مستفاداً من النقل خاصة، وذلك هو أسماء القبائل التي كان أصلُ تلك الأسماء فيها لأشخاصِ معينة من الآدميين، كتميم وهاشم، أو لامرأةِ كالقَرَافة، فإنَّه اسم لجَدَّةِ القَبِيلَة المسماة بالقَرَافَة.
ونزلَتْ هاته القَبِيلةُ بصُقْع من أصقاع مصر لما اختطها عَمْرو بن العاص ومن
معه من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين -، فعُرِف ذلك الصُقع بالقرافَة، وهو الكائن بين مصر وبِركة الأشراف والمسمَّى بالقرافة الكبيرة.
واشتهاري بالقَرافي ليس لأني من سُلالة هذه القبيلة بل للسُّكنى بالبقعة الخاصة مُدَةَ يسيرة، فاتفق الإشتهارُ بذلك، وإنما أنا من صِنهاجة الكائنة في قُطر مُرَّاكش بأرض المغرب ونشأتي ومولدي بمصر". نقله العلامة جُعَيط التونسي في أول حاشيته على "شرح تنقيح الفصول" 1: 6 - 7. فهو المعتَمدُ في بيان سبب نسبته باسم القرافي لا سِوَاه.
وقد آتاه الله من المواهب الفذة النادرة ما أهَّله أن يتلقى العلم عن فحول علماء عصره، وأئمة جهابذة دهره. ومن أشهر شيوخه الِإمامُ عز الدين بن عبد السلام الشَّافعي الملقَّب بسلطان العلماء، والِإمامُ شرف الدين محمد بن عمران الشَّهير بالشريف الكَرْكي، وقاضي القضاة شمس الدين أبو بكر محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد الِإدريسي، والشيخ شمس الدين الخُسْرُوشَاهِي، والإِمام جمال الدين ابن الحاجب، وغيرُهم - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى -.
وقد لازَمَ الشيخَ عزِّ الدين بنَ عبد السلام وأخَذَ عنه أكثر فنونه، واقتبَسَ منه العقليةَ العلمية، والفكرَ الحُرَّ المتزنَ المستنير. وكان الشيخ عز الدين قَدِمَ من الشام إلى مصر سنة 639، وكان القرافي حينذاك في مطلع شبابه يبلغ من العمر نحو 15 عامًا، فلازمه حتى وفاته سنة 660 نحوَ عشرين سنة.
وقد مَلَك الشيخُ عليه قلبَه ولُبَّه، بغزارة علمه، وثقابة ذهنه، ومتانة دينه، وقوة شخصيته، وبسالته في نُصرة الحق، وكريم تواضعه وورعه وفضله، فألقى القرافيُّ إليه بالمقاليد، ونَهَل منه وعَلَّ، وأكثر النقلَ والحديثَ عنه في كتبه، وأثنى عليه في كل مناسبة في مواضع كثيرة من تآليفه ثناءَ المرتوي من منهله، والعابِّ من بحر علمه الغزير النَّمِير، فقال في كتابه "الفروق" 2: 197 في آخر الفرق (95) بعد أن تحدَّثَ عن قاعدة من قواعد الشريعة، ودفَعَ ما يَرِدُ عليها من إشكالات قال:
"وهو من المواطن الجليلة التي يَحتاج إليها الفقهاء، ولم أر أحداً حرَّرهُ هذا التحرير إلَّا الشيخ عز الدين بن عبد السلام رحمه الله وقدَّسَ روحَه، فلقد كان شديدَ التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة معقولها ومنقولِها، وكان يُفتَحُ عليه بأشياء لا توجد لغيره، رحمه الله رحمة واسعة".
وقال في 4: 251 (ولقد حضرتُ يومًا عند الشيخ عز الدين بن عبد السلام، وكان من أعيان العلماء، وأولي الجِدّ في الدين، والقيام بمصالح المسلمين خاصَّةَ وعامَّة، والثبات على الكتاب والسنة، غير مكترث بالملوك فضلاً عن غيرهم، لا تأخذه في الله لومة لائم". انتهى.
فهو الشخصيَّةُ الفَذَّةُ القُدوةُ التي ملأتْ من القرافي السمعَ والبصرَ والفؤادَ جميعاً، ولذا تراه يتأسَّى به قلباً ورُوحاً وفكراً وعلماً وتأليفًا ومنهجاً. وما أكثر التشابُهَ بين هذين الإِمامين؟ - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -.
ولقد جَدَّ القرافي في تحصيل العلوم ومعرفتها حتى أتقن جملةَ من العلوم إتقاناً بلَّغه الِإمامة فيها، وآتاه الله براعةَ فائقة وبياناً عجيباً يأخذ بالباب الطلبة والمحصِّلين في توضيح المسائل وتحقيق الدلائل، وكشفِ المعضِلات وحل المشكلات، وخَصْمِ المخالفين، وقطع المكابرين والمبطلين، وقُدرةَ عجيبة في سرعة التأليف، فقد حرَّرَ أحَدَ عشر علماً في ثمانية أشهر.
ومما يلاحظ عليه - على إمامته في جملة من العلوم - خِفَّةُ ذات يده من علم الحديث، وقد أفصح بذلك في "الفروق" 4: 208 فقال في حديث: سألتُ عنه جماعةَ من المحدثين
…
فقالوا لي: لم يصح". انتهى.
ووقفتُ له على طائفة من الأحاديث بعضُها موضوع، وبعضُها يقاربه، فمن الموضوع ما في "الفروق" 4: 224 "المَعِدَةُ بيتُ الداء والحِمْيَةُ رأسُ الدواء وصلاحُ كل جسمِ ما اعتاد". ليس بحديث، هو من كلام الحارث بن كَلَدة الثَّقَفِي طبيبِ العرب. وفي 4: 264 "الناسُ كلُّهم هَلْكَى إلَّا العالِمون
…
" هو موضوع كما في كتب الموضوعات.
ومما يُعَدُّ من الموضوع ما جاء في 1: 76 "الطلاقُ والعَتَاقُ من أيمانِ الفُسَّاق" و "من حَلَفَ واستثنى عاد كمن لم يَحِلف" كما يُعلَم من الكشف عنهما من كتب الموضوعات وغيرِها. وفي 4: 236 "عن أبي موسى الأشعري أنَّه كان يقول: إنا لنَكْشِرُ في وجوه أقوام وإن قلوبنا لتلعنهم". هو من كلام أبي الدرداء كما في "صحيح البُخاريّ" 10: 437. وهناك غيرها وما ذكرتُهُ كنموذج. ولا غرابة في هذا، فكم من عالمٍ إمامٌ في علمٍ عاميٌّ في علم آخر، وشواهدُه كثيرة، ولا يُلحَقُ بالعالم عالب في هذا، قال الله تعالى:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} ، وقال سبحانه:{وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} .
وقد تحلَّت مصنَّفاتُه كلُّها بالإبتكار والتميُّز: لغةً وأسلوباً، وبحثاً وتنقيباً، ونخلاً وتحقيقاً، وجمعاً وتنسيقاً، حتى ألزَمَتْ البعيدَ والقريب بالِإذعان لِإمامته، ولو لم يكن له من التآليف سوى كتابه "الفروق" لكفى دليلاً على علو كعبه في العلم، فهو كتابٌ نَسيجُ وحدِهِ، جاء فيه بالعجب العجاب، لم يُسبَق إلى مثله، ولا أتى أحد بعده بشِبهه، فكيف ومؤلفاته أربت على عشرين مؤلَّفاً في فنون متعددة، وفيها النفائس والدُّرَر.
وكان رحمه الله رُحلةً، يَرحَل إليه العلماء من الآفاق البعيدة، ويقصدونه للقاء والمشافهة. وممن رحل إليه: الإمام أبو عبد الله محمد بن إبراهيم البقُّوري الأندلسي المراكشي المتوفَّى فيها سنة 707، صاحبُ "إكمال الِإكمال على صحيح مسلم للقاضي عياض"، رحل إليه إلى مصر وأخذ عنه، واختصر كتابه "الفروق" ورتَّبه وهذَّبه كما في "شجرة النور التركية" لمحمد مخلوف ص 211 و "الديباج المُذْهَب" لإبن فرحون ص 322.
وممن رحل إليه أيضاً: الِإمام ابن راشد محمد بن عبد الله بن راشد البكري التونسي شارح "مختصر ابن الحاجب"، كما في "نيل الابتهاج" للتُّنبُكْتِي ص 235، حَكَى عن نفسه سيرتَه في طلب العلم فقال: "أدركتُ بتونس أجلَّة من النبلاء وصدوراً من النحاة والأدباء فأخذتُ عنهم، ثم رحلتُ إلى الإسكندرية
فلقيت بها صدوراً أكابر وبحُوراً زواخر، كقاضي القضاة ناصر الدين ابن المنيِّر، والكمال التَّنَسِي، وناصر الدين ابن الأبياري، وضياء الدين بن العلاق، ومحيي الدين حسَّان رأسِه، فأخذتُ عنهم.
ثم رحلتُ للقاهرة إلى شيخ المالكية في وقته، فَقِيدِ الأشكال والأقران، نَسيجِ وحده وثَمَر سَعْده، ذي العقلِ الوافي، والذهنِ الصافي، الشهابِ القَرَافي، كان مُبرِّزاً على النُّظَّار، مُحرِزاً قَصَبَ السَّبْق، جامعاً للفنون، معتكفاً على التعليم على الدوام، فأحلَّني محل السوادِ من العين، والرُّوح من الجسد
…
".
فهو إمامٌ رُحلة قُدوة، أُجمِعَ على إمامته في عصره من المالكية وغيرهم، قال قاضي القضاة تقي الدين ابنُ شُكر: أجمع الشافعية والمالكية على أن أفضل أهل عصرنا بالديار المصرية ثلاثة: القرافيُّ بمصر القديمة، والشيخُ ناصر الدين ابنُ المنير بالإسكندرية، والشيخ ابنُ دَقِيق العِيْد بالقاهرة المُعِزِّيَّة" نقله ابن فرحون في "الديباج المُذْهَب" ص 65.
قلت: بل قد عَدَّه الإمام السيوطي في "حسن المحاضرة" 1: 127 في طبقة من كان بمصر من المجتهدين وترجَمَهُ فيهم، ولم يترجمه في جملة العلماء الملتزمين للمذاهب الأربعة، ونقَلَ قولَ قاضي القضاة ابنِ شُكرٍ أيضاً. وهذا نظرٌ سديد من الِإمام السيوطي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
وكان - إلى جانب إمامته وتبحره في علوم الشريعة وفنونها - من الفلكيين الرياضيين، النَّبَغَةِ البارعين النوادر في عمل التماثيل المتحركة في الآلاتِ الفلكية.
قال في كتابه "نفائس الأصول في شرح المحصول" 1: 108 من النسخة المخطوطة في ثلاثة أجزاء بدار الكتب المصرية، وهو يبحث في فصل (الكلام في اللغات) عن الدلالة الصوتية: هل مجرَّدُ الصوت يَدُلُّ على صاحبه؟ فبيَّن أنَّه لا يكفي أن نسمعَ الصوت فنقول: إنه لا بد من شخصٍ صاحبٍ لهذا الصوت، لأنَّ الصوت يُصنعُ في غير الإنسان. ثم قال:
"بلغني أنَّ الملِكَ الكامل وُضِع له شَمْعَدان - هو عَمُودٌ طويلٌ من نحاس له مراكز يوضع عليها الشمعُ للإِنارة - كلما مَضَى من الليل ساعةٌ انفتح بابٌ منه، وخرج منه شخصٌ يقِفُ في خدمة الملِك، فإذا انقضَتْ عشرُ ساعات طلع الشخص على أعلى الشمعدان وقال: صبَّح الله السلطان بالخيرِ والسعادة، فيَعلمُ أن الفجر قد طلع.
قال: وقد عَمِلتُ أنا هذا الشَمْعَدَانَ، وزِدتُ فيه أنَّ الشمعة يتغيَّرُ لونُها في كل ساعة، وفيه أسَدٌ تتغيَّر عيناه من السَّوَادِ الشديد إلى البياض الشديد إلى الحُمرة الشديدة، في كل ساعة لها لون، وتَسقُطُ حَصَاتان من طائرين، ويَدخل شخصٌ ويَخرج شخصٌ غيرُه، ويُغلَقُ بابٌ ويُفتحُ باب، فإذا طلع الفجر طلع الشخص على أعلى الشمعدان، وإصبعُه على أُذُنِه يُشِيرُ إلى الأذان ولكني عَجَزْتُ عن صَنْعَةِ الكلام، ثم صَنَعْتُ صُورةَ حيوانِ يمشي ويلتفِتُ يمينًا ويساراً، ويُصَفِّرُ، ولا يتكلَّم (1).
وهذا ذكاء خارق عجيب ومهارةُ يَدٍ صَنَاعٍ فائقة من الإمام القرافي (2).
(1) ونقله العلامة أحمد تِيمور باشا في كتابه "التصوير عند العرب" ص 79 و 104 عن ابن طولون في رسالته "قطرات الدمع فيما ورد في الشمع".
ولا يَرِدُ على الِإمام القرافي الفقيهِ العبقريِّ الفَذّ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: كيف صَنَع تمثالاً، والتماثيلُ محرَّمةْ في الإسلام تحريماً قاطعاً، وهو من أعلم النَّاس بذلك، لأنَّ ما صَنَعه لا يزيدُ على آلةِ ذاتِ أجزاء متقطعة - تَعملُ بحركةِ منتظِمة - لا يمكنُ أن تعيش بذلك، والقرافي إمامٌ فقيه ورعٌ، لا يمكن أن يُقدِم على صُنع شيء محرَّم بالنص قطعاً.
وانظر مقالاً ماتعاً للأستاذ عبد المجيد وافي بعنوانِ (علماء فَنَانون: الِإمام القرافي) في "مجلة الوعي الإسلامي" التي تصدرها وزارة الأوقاف الإسلامية في الكويت في عددها 40 من سنتها الرابعة سنة 1388= 1968 ص 54 - 59.
(2)
وهذه المهارة العجيبة وأمثالُها وأشباهُها، تُوجَدُ في أفراد من العلماء الأفذاذ في الأحيان المتباعدة، يتميزون بها عن سواهم من ذوي العلم والمعارف، ولي صديقٌ عزيزٌ رَحَلَ =