الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونْ
ما معنى مذهبِ مالكِ الذي يقلَّدُ فيه ومذهبِ غيرِه من العلماء؟ فإِن قلتم: ما يقوله مِن الحقّ، أشكلَ ذلك بقوله: الواحدُ نصف الإثنين، وسائرِ الحسابيات والعقليات، وإِن قلتم: ما يقوله من الحق في الأمور الشرعية مما طلبَهُ صاحبُ الشرع، بطَلَ ذلك بأصولِ الدين وأصولِ الفقه، فإِنها أمورٌ طَلَبها صاحبُ الشرع، ولا يجوز التقليدُ فيها لمالكٍ ولا غيرِه.
فإِن قلتم: مذهبُ مالكٍ وغيرِه من العلماء الذين يقلَّدون فيه هو الفروعُ الشرعية. قلتُ: إِن أردتم جميعَ الفروع بطَلَ ذلك بالفروع المعلومة من الدين بالضرورة، كالصلوات الخمسِ، وصوم شهر رمضان، وتحريمِ الكذبِ والزِّنى والسرقةِ ونحوِها، فإِنها يَبطلُ فيها التقليدُ لكونها ضروريَّة، والمعلومُ من الدين بالضرورة يستحيلُ فيه التقليدُ، لاستواءِ العامَّةِ والخاصَّةِ فيه، وهي من الفروع.
وإِن أردتم بعضَ الفروع فما ضابطُه؟ ثم إِنْ بيَّنتُم ضابطَه لا يتمُ لكم المقصود؛ لأنَّ الحد حينئذ لا يكون جامعاً، فإِنه خرَجَ عنه ما تَقلَّدتم فيه من أسباب الأحكام وشروطِها، فإِنَّ أسبابَ الأحكام وشروطَها غيرُها، ولذلك قال العلماء: الأحكام مِن خِطابِ التكليف، والأسبابُ والشروطُ مِن بابِ خِطابِ الوضع، فهما بابانِ متباينان.
ولأجلِ هذه الأسئلةِ لا يكادُ فقيه من ضعفَةِ الفقهاء يُسألُ عن حقيقةِ مذهب إمامِه الذي يقلدُ فيه فيَعرفه على التحقيق، وهذا عامٌّ في جميع
المذاهبِ المقلَّدِ فيها الأئمة.
جَوَابُهُ
أنَّ ضابطَ المذاهب التي يقُلَّدُ فيها أنها خمسةُ أشياء لا سادسَ لها:
1 -
الأحكامُ الشرعية الفُروعيَّة الاجتهادية. 2 - وأسبابُها. 3 - وشروطُها.
4 -
وموانعُها. 5 - والحِجاجُ المثبِتةُ للأسباب والمشروطِ والموانعِ.
1 -
فقولنا: (الأحكامُ) احترازٌ عن الذوات.
وقولُنا: (الشرعية) احترازٌ عن العقلية كالحساب والهندسةِ والحِسيَّات وغيرِها.
وقولنا: (الفُروعيَّة) احترازٌ مِن أصول الدين وأصول الفقه، فإن الشرع طَلَب منا العلمَ بما يجبُ له سبحانه وتعالى، وما يستحيلُ عليه، وما يجوز. وطلَبَ منا العلمَ بأصول الفقه لاستنباط الأحكام الشرعية، فهي أحكامٌ شرعية لكنها أصولية ولا تقليد فيها.
فأخرجنا بقولنا: (الفروعية) الأحكامَ الشرعيةَ الأصولية، وهي أصولُ الدينِ وأصولُ الفقهِ المطلوبانِ شرعًا (1).
وأخرجنا بقولنا: (الاجتهادية) الأحكامَ الفروعيةَ المعلومةَ من الدين بالضرورة.
2 -
وقولُنا: (وأسبابُها) نريد به نحوَ الزوالِ ورؤيةِ الهلال والإِتلافِ سَبَبِ الضمان، ونحوَ ذلك من المتفَقِ عليه.
ومن المختلَفِ فيه: الرَّضْعةُ الواحدةُ سبَبُ التحريم عند مالك دون
(1) وقع في الأصول الخمسة كلها: (المطلوبينِ)!.
الشافعي، وضَمُّ غيرِ الربوي في نحوِ مسألةِ مُد عجوةٍ ودرهمٍ سبَبٌ للفساد عند مالك والشافعي، خلافًا لأبي حنيفة (1)، وحُلولُ النجاسة فيما دون القُلتينِ مع عدم التغيرِ سبَبُ التنجيسِ عند الشافعي وأبي حنيفة، خلافًا لمالك، ونحوُ ذلك.
3 -
(والشروطُ) نحوُ الحَوْلِ في الزكاة، والطهارةِ في الصلاة، من المجمَعِ عليه. والوليِّ والشهودِ في النكاح، من المختَلَفِ فيه.
4 -
و (الموانعُ) كالحَيْضِ يَمْنعُ الصلاة والصوم، والجنونِ والإِغماءِ يمنعُ التكليفَ، من المجمَعِ عليه، والنجاسةِ تمنعُ الصلاةَ، من المختلَفِ فيه، وكذلك مَنع الدَينِ الزكاةَ.
5 -
وقولُنا: (والحِجاجُ المثبِتةُ (2) للأسبابِ والشروطِ والموانعِ) نريد به ما يَعتمدُ عليه الحُكَّامُ من البيّنات والأقارير ونحوِ ذلك.
وهي أيضًا نوعان:
1 -
مجمَعٌ عليه: نحوُ، الشاهدينِ في الأموال، والأربعةِ في الزنا، والإِقرارِ في جميع ذلك إذا صدَرَ من أهله في محله، ولم يأتِ بعدَهُ رجوعٌ عن الِإقرار.
(1) يعني: لو باع مُدَّ تمر معه درهمٌ، بعشَرةِ دراهمَ مثلًا. فإذا لوحظ تقابلُ الدرهم بالدراهم العشرة كان ذلك ربًا، وإذا لوحظ تقابلُ مد التمر بتسعة دراهم ومقابلةُ الدرهم بالدرهم انتفى الربا وصَحَّ البيعُ عند أبي حنيفة، وهذا بشرط أن يكون ما مع الدرهم تَبلُغ قيمتُهُ تسعةَ دراهم، فإن لم تبلغ فالبيع مكروه، وإن لم تكن له قيمة فالبيع باطلٌ لتحقق الربا. كما في "الدر المختار" للحَصْكَفِي وحاشيته "رد المحتار" لإبن عابدين في كتاب الصرف 4: 239 من كتب الحنفية.
(2)
في نسخة (ر): (المبينة).
2 -
والنوع الثاني مختلَفٌ فيه، نحوُ الشاهدِ واليمين، وشهادةِ الصبيان في القتلِ والجِراح، والِإقرارِ إذا تعقَّبَه رجوع، وشهادةِ النساء إذا اقتُصِرَ منهن على اثنتين فيما يختَصُ بهن الإطّلاع عليه، كعيوبِ الفُروج واستهلالِ الصبي ونحو ذلك. وإِثباتِ القِصاص بالقَسامة، فإِن الشافعي يَمنعُه، ونحوِ ذلك.
فهذه الحِجاجُ يَثبُتُ بها عند الحكام الأسبابُ نحوُ القتل، والشروطُ نحوُ الكفاءة، وعدَمُ الموانع نحوُ الخُلُو عن الأزواج، ونحوِه. ونحن كما نُقلِّدُ العلماءَ في الأحكام وأسبابِها وشروطِها وموانِعها، فكذلك نُقلِّدُهم في الحِجاج المثبِتةِ لذلك كما تقدَّم.
فهذه الخمسة هي التي يقع التقليدُ فيها من العوامّ للعلماء، لا سادسَ لها، عملًا بالإستقراء، فمن سُئلَ عما يقُلَّدُ فيه العلماء فليذكر هذه الخمسة على هذا الوجه، يكونُ مجيبًا بالضابط الجامع المانع، وما عدا ذلك يكون الجوابُ فيه مختلاً بعدمِ الجمعِ أو بعدمِ المنع.
تنبيه
ينبغي أن يقال: إِنَّ الأحكامَ المجمَعَ عليها التي لا تَختَصُّ بمذهب، نحوُ جوازِ القِراض ووجوبِ الزكاة والصومِ ونحوِ ذلك: إِنَّ هذه الأمور مذهبُ إِجماعٍ من الأُمَّة المحمدية. ولا يقال: هذا مذهَبُ مالكٍ والشافعي إِلَّا فيما يختَصُ به؛ لأنه ظاهرُ اللفظ في الإِضافةِ والإِختصاص.
ألا تَرى أنه لو قال قائل: وجوبُ الخمس صلواتٍ في كلِّ يوم هو مذهبُ مالك، لنبَا عنه السمعُ ونَفَر منه الطبع، وتُدرِكُ بالضرورة فرقاً بين هذا القول وبين قولنا: وجوبُ التدليك في الطهارات مذهبُ مالك،
ووجوبُ الوتر مذهبُ أبي حنيفة، ولا يَتبادَرُ الذهنُ إِلَّا إِلى هذا الذي وقَعَ به الإختصاص، دون ما اشترك فيه السَّلَفُ والخَلَفُ والمتقدّمون والمتأخّرون.
كما أنه لا يقال: هذه طريقُ الزُّهَّاد إِلَّا فيما اختَصَّ بهم، دون ما يُشاركهم فيه الفُجَّار والكَفَرة، فالطُّرقُ المشتركةُ لا يَحسنُ إِضافتُها لآحادِ الناس إِلَّا توسُّعاً، وعلى التحقيقِ لا يُضافُ إِلَّا للمُختَصّ.
كذلك المذاهبُ إِنما هي طَرِيقٌ مَعْنَوِيّهٌ لا يُضافُ لعالمٍ منا إِلَّا ما اختَصَّ به. وكذلك يقال: المذاهبُ المشهورةُ أربعة، ولن يَحصُلَ التعدُّدُ إِلا بالإختصاصِ لا بالمشتَرَكِ بينها.
وعلى هذا ينبغي أن يزاد في الضابط هذا القيدُ، فإِذا قيل لك: ما مذهبُ مالك؟ فقُل: ما اختَصَّ به من الأحكام الشرعيةِ الفُرُوعيةِ الاجتهاديةِ، وما اختَص به من أسبابِ الأحكام والشروطِ والموانعِ والحِجاجِ المثبِتةِ لها. وهذا هو اللائق الذي يُفهَمُ في عرف الإستعمال، وما السؤالُ إِلا عنه.
وبهذا التلخيص تزداد المسألةُ غُموضاً والجوابُ عن السؤال بُعداً، وتقلُّ معرفةُ الجواب من كثيرٍ من الفقهاء (1).
تنبيه
اعلم أنَّا إِذا قلَّدنا آحاد العلماء في الأسباب، إِنما نُقلِّدهم في كونها أسبابًا لا في وقوعها، ففَرْقٌ بين قولِ مالك: اللِّواطُ مُوجِب للرَّجْم، وبين قوله: فلانٌ لاطَ، فنُقلِّدُه في الأول دون الثاني، بل الثاني من باب
(1) أي حيث تتوقَّفُ معرفةُ المذهب على معرفة ما اختَص به من الأحكام
…
وما اختَصَّ به من أسباب الأحكام
…
فإنَّ معرفة ذلك لا يَنهضُ بها إِلا الأفذاذُ من الفقهاء.
الشهادة، إِن شَهِدَ معه ثلاثةٌ ثَبَتَ الحكم وإِلا لم يَثبُت. وهو في هذا مُساوٍ لسائرِ العدول، ولا أثَرَ لكونه مجتهداً في هذا الباب لا هو ولا غيرُه من المجتهدين.
وكذلك نُقلدُه في أنَّ النبَّاش يقطعُ، ولا نُقلدهُ في أنَّ فلانًا نَبَشَ. وكذلك نُقلدُه في أنَّ النية شَرْطٌ في الطهارة، ولا نُقلدهُ في أن فلانًا نَوَى. ونُقلدُه في أن الدَّيْن مانعٌ من الزكاة، ولا نُقلدُه في أن فلانًا عليه دَيْن يستغرقُ مالَه (1)، بل لابُدَّ معه من شاهدٍ آخر. وهو في جميع هذه الأمور كسائرِ العدول، ولا أثر لكونه مجتهداً، بل هذا المعنى يكفي فيه مُطلَقُ العدالة (2).
(1) يعني المؤلف بقوله في هذه الفروع الأربعة: (ولا نُقلِّدُه في
…
) أي لا يجبُ علينا قبولُ قوله في ذلك، كما يَجبُ علينا قبولُ قوله: (في أن النَّبَّاش يقطع
…
).
(2)
قال المؤلف في "الفروق" 4: 5 في الفرق (203)، بعد ما تعرَّضَ لهذا البحث:"والقاعدةُ أنَّ كل إمام أخبَرَ عن حكمٍ بسببٍ اتُّبع فيه، وكان فُتيا ومذهبًا". أو أخبَرَ عن وقوع ذلك السبب فهو شهادة.
وإن المذهب الذي يقلد فيه الإِمامُ خمسةُ أمور لا سادسَ لها:
1 -
الأحكام، كوجوب الوتر.
2 -
والأسباب، كالمعاطاة.
3 -
والشروط، كالنية في الوضوء.
4 -
والموانع كالدين في الزكاة.
5 -
والحِجَاج، كشهادة الصبيان والشاهد واليمين.
فهذه الخمسة إِن اتُّفِقَ على شيء منها فليس مذهبًا لأحد، بل ذلك للجميع. فلا يقال: إن وجوب رمضان مذهبُ مالكٍ ولا غيرِه، بل ذلك ثابت بالإِجماع. فإنه إنما يفهم من مذهب الإِنسان في العادة ما اختَصَّ به، كقولك: هذا طريقُ زيد إذا اختَصَّ به. أو هذه عادته إذا اختَصتْ به. وإِذا اختُلِفَ في شيء من ذلك نُسِبَ إلى القائل به. وما عدا هذه الخمسة لا يقال: إنها مذهبٌ يُقلَّدُ فيه. بل هو إما رواية أو شهادة أو غيرهما، كما لو قال مالك: أنا جائع أو عطشان.
فليس كلِّ ما يقوله الإِمام هو مذهَبٌ له، بل تلك الخمسة خاصة. ولو قال إمامٌ: زيدٌ زَنَى. لم نوجب الرجم بقوله، بل نقول: هذه شهادة هو فيها أسوةُ جميعِ العدول، =
فإن قلتَ: فنحن نُقلدُه إِذا رَوَى لنا عن ماعزٍ أنه زَنى، وأنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رَجَمه (1). وكذلك الغامِدية (2). وكذلك قلَّدناه في سارقِ رِداءِ
= إن كمَلَ النصابُ بشروطه رجمناه، وإلا فلا".
(1)
روى مالكٌ خبرَ ماعِزٍ المشارَ إليه في "الموطأ" 2: 165 في أول كتاب الحدود فقال: "عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أن رجلًا مِن أسْلَم جاء إلى أبي بكر الصديق فقال له: إن الأَخِرَ زَنَى! فقال له أبو بكر: هل ذكرتَ هذا لأحدٍ غيري؟ فقال: لا، فقاله له أبو بكر: فتُبْ إلى الله واستَتِرْ بسِترِ الله، فإنَّ الله تقبَلُ التوبةَ عن عباده.
فلم تُقَرِّرْه نفسُه حتى أتى عمرَ بن الخطاب، فقال له: مثلَ ما قال لأبي بكر، فقال له عمر: مثلَ ما قاله له أبو بكر، فلم تُقرِّره نفسُه حتى جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: إنَّ الأَخِرَ زنى! فأعرَضَ عنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ثلاثَ مراتٍ، كلُّ ذلك يُعرِضُ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا أكثر عليه بَعَثَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله قال: أيشتكي أم به جِنَّة؟ فقالوا: يا رسول الله، واللهِ إنه لصحيح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبِكْرٌ أم ثَيب؟ فقالوا: بل ثَيِّب يا رسول الله، فأمَرَ به رسول الله صلى الله عليه وسلم فرُجِمَ".
قال السيوطي في "تنوير الحوالك على موطأ مالك" 2: 165 "هذا الحديث وصله البخاري ومسلم من طريق شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي سَلَمة، عن أبي هريرة. والرجلُ المذكور هو ماعِزٌ باتفاق الحفاظ. وقولُه: (إن الأَخِرَ زنى) هو بهمزةٍ مقصورة وخاء مكسورة، ومعناه: الأَرذَل والأبْعَد والأدْنَى، وقيل: اللئيم، وقيل: الشقي، وكلُّه متقارِب. ومرادُه نفسُه، فحقَرَها وعابَها لِما فعَلَ! ".
(2)
روى مالك في "الموطأ" 166:2 في أول كتاب الحدود "عن يعقوب بن زيد بن طلحة، عن أبيه زيد بن طلحة، عن عبد الله بن أبي مُليكة: أنه أخبره أن امرأةً جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرَتْه أنها زَنَتْ، وهي حامل، - أي من الزنى - فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تَضَعي، فلما وضعَتْ جاءته، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهبي حتى تُرضعيه، فلما أرضعته جاءته، فقال: اذهبي فاستودعيه، فاستودَعَتْه ثم =
صفوان، وأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قطَعَه (1).
وهذا كلُّه تقليدٌ في وقوعِ الأسباب، ويكفي في العمل بهذه الوقائع رِوايتُه وحدَه. وكذلك إِذا رواه غيرُه من العلماء وحدَه قلَّدناه ورَتَّبنا عليه الأحكام، فبطَلَ ما ذكرتموه من أن التقليدَ لا يَدخلُ في وقوع الأسباب.
بل أكثَرُ الشريعة مبنية على الأسباب الواقعة في زمانه عليه السلام من الظهار واللعان وغيرهما، وأجمَعَ الناسُ على أنه إِذا نَقَل إِلينا عالمٌ عَدْلٌ شيئًا من ذلك قلَّدناه فيه ورَتَّبنا عليه الأحكَام اللائقةَ به، وليس لكل مجتهدٍ طريقٌ إِلى معرفةِ الأدلة، وانتزاعِ الأحكام من الوقائع والأسباب إِلا بطريق التقليد لناقليها، فظهر أن وقوعَ الأسباب والشروط والموانع يُقلَّد فيها.
قلنا: ليس هذا مما نحن فيه لأنَّ هذا من باب الرواية، والروايةُ يكفي فيها الواحدُ على الصحيح من مذاهب العلماء، واشترَط بعضُهم اثنين، واشترَطَ بعضُهم في الأحاديثِ المتعلقةِ بالزِّنا أربعةَ رُواة. وإِذا اكتَفينا بالواحد في الرواية فمعناه أنَّا نُصدّقُه في وقوعِ ذلك السببِ أو ذلك الشرطِ أو ذلك المانع، من حيث إِنه يترتَّبُ عليه شَرْعٌ عامٌّ إِلى يوم القيامة لا يَختصُّ بأحد.
= جاءت، فأمَرَ بها فرُجمتْ". وعلَّقَ السيوطي على قوله: (أن امرأةَ
…
) فقال: وفي "صحيح مسلم": امرأةَ من غامِد، وهو بطن من جُهَينة".
(1)
روى مالك في "الموطأ" 2: 174 في كتاب الحدود في (باب تَرْكِ الشفاعة للسارق إذا بَلَغ السلطان): "عن ابن شهاب، عن صفوان بن عبد الله بن صفوان: أنَّ صفوان بن أُمَية قيل له: إنْ لم يُهاجِرْ هَلَك، فقَدِمَ صفوانُ المدينةَ فنامَ في المسجد وتوسَّد رداءَه، فجاء سارق فأخَذَ رداءه، فأخَذَ صفوانُ السارقَ فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمَرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن تُقطَعَ يدُه، فقال له صفوانُ: إني لم أُرد هذا يا رسول الله، هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلاً قبلَ أن تأتيني به؟! ".
ولا نُصدّقُه ونعتبرُ روايتَه في ترتب الحكم في تلك الصورة الجزئية التي رواها، فلا نَرجمُ غيرَ ماعزِ بقوله (1)، ولا نَقطعُ غيرَ سارِقِ رِدَاءِ صفوان بقوله، وإِن كنا نَرجُمُ الزانيَ بتلك الرواية إِلى قيام الساعة، ونقطعُ (2) السارقَ إِلى قيام الساعة بقوله، فلا تَثبُتُ الأحكامُ أبداً (3) في غيرِ ذلك الجزئي الذي رواه إِلا بطريق الشهادةِ وتكميلِ النصاب منه مع غيره، فافهم هذا الموضعَ فهوَ مزَلَّة لكثير من الفقهاءِ.
ولهذا السرّ قال علماء الأصول: إِنما اشتُرِطَ العددُ في الشهادة دون الرواية؛ لأنَّ العداوة تُتوقَّعُ في الصُّوَر الجزئية، وقد لا يُعلَمُ بها، وكذلك أسبابُ التُّهَم، فاشتَرطَ الشرعُ مع الواحد آخَرَ لتَبْعُدَ مظِنَّةُ العداوةِ والتُّهمة (4). قالوا: وأما عداوةُ الخَلْقِ إِلى يوم القيامة فَتَبْعُدُ جداً، فلذلك اكتَفى صاحبُ الشرع بالعدلِ الواحد؛ لأنَّ ظاهر العدالةِ الصدق.
فظهر حينئذٍ أنَّا إِنما نُقلّد العلماءَ في الوقائع الجزئية إِذا رَوَوْها فيما يَتعلَّقُ بها من غير أحكامها الواقعة فيها، أما في أحكامِها المتعلّقة بها فلا نُقلدُهم أصلًا، بل راويها شاهدٌ من الشهود، فهو مُقلدٌ فيها من وجهٍ دون وجه كما تقدَّم (5).
إِذا تقررَ أنَّا لا نُقلدُ العلماءَ في وقوع الأسباب في ترتيب أحكامها
(1) لفظُ (غَير) هنا ساقط من نسخة (ر).
(2)
من قوله: (غيرَ رداء صفوان إلى قوله: ونقطع) من نسخة (ر).
(3)
وقع في الأصول الخمسة، كلها هكذا: (أبدًا إِلا في غير
…
). وظاهرٌ أنه تكرارٌ خاطئ.
(4)
في نسخة (ر): (لسَدِّ مَظِنَّةِ العداوة
…
).
(5)
في ص 198، وفي هذه الصفحة.
الخاصَّة بها عليها، فاعلَمْ أنه قد وَقَع في المذاهب مسائلُ مبنيَّةٌ على تقليدهم في وقوع الأسباب في ترتيب أحكامها الخاصة بها عليها، كما اتَّفق المالكيةُ في نقضِ البِياعات، وإِبطالِ الِإجارات، وتعطيلِ الأخذ بالشُّفُعات في أراضي العَنْوَات كمصر ومكة والعراق ونحوِها.
فقال مالك: مِصرُ فُتِحَتْ عَنْوةً فعمَدَ فقهاء المذهب إِلى إِبطال البَيعِ والشُّفعةِ والإِجارةِ في أرض مصر، بناءً على قوله: فُتِحَتْ عَنْوة؛ لأنَّ من مذهبه أن أرض العنْوَةِ لا تُباعُ ولا تُؤجرُ ولا يُستَحقُّ فيها شُفعة.
فتقليدُهم له في أنَّ بيعَها وإجارتَها والشُّفعة فيها لا تصح تقليدٌ صحيح (1)؛ لأنه تقليدٌ في الأحكام. وتقليدُهم له في أنَّ الأرض إذا فُتحَتْ عَنْوةً اقتضت هذه الأحكامَ: تقليدٌ صحيح؛ لأنه تقليدٌ في سببيّةِ سَبَب.
وتقليدُهم له في أنَّ الأخذ قهرًا وعَنْوةً وقَعَ في أرض مصر ومكة تقليدٌ لا يصح؛ لأنه تقليدٌ في وقوع سبب لا يترتّبُ عليهُ أحكامٌ عامة ولا خاصة (2).
(1) وقعت العبارة في الأصول الخمسة كلها هكذا: (في أن بيعها لا يصح وإجارتها والشفعة فيها تقليد صحيح). وهو اتفاق عجيب! فأثبتها كما ترى.
(2)
قال المؤلف في "الفروق" 4: 4 - 6 في الفرق (203): "والقول بأن الدُّورَ وَقْفٌ إنما يتناول الدُّورَ التي صادفها الفتح، أما إذا انهدمت تلك الأبنية، وبنَى أهلُ الإِسلام دُورًا غيرَ دور الكفار، فهذه الأبنية لا تكون وقفًا إجماعًا. وحيث قال مالك: لا تُكْرَى دور مكة. يريد ما كان في زمانِهِ باقيًا من دور الكفار التي صادفها الفتح. واليومَ قد ذهبَتْ تلك الأبنية، فلا يكون قضاءُ الحاكم بذلك خطأ.
نعم يختص ذلك بالقضاء بذلك والشفعة في الأرَضِين، فإنها باقية. أو نقول: قولُ مالك - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: إنَّ البلد الفلاني فُتِحَ عنوةٌ. ليس هذا بفتيا يقلَّدُ فيها، ولا مذهباً =
أمَّا أنه لا يَترتَّب عليه أحكامٌ عامَّة لعموم الخلق كما قلنا في زِنا ماعز، لأنَّ ترتيبَ الأحكامِ العامَّة إِنما نشأ من أنَّ المباشِرَ لتلك الأحكام مَنْ فِعلُه
= له يجبُ على مقلِّديه اتباعُه فيه. بل هذه شهادة. وكذلك لو قال مالك: فلانٌ أُخِذَ مالُه غصبًا، أو خالَعَ امرأته، لم يكن ذلك فُتْيَا، بل شهادة.
فكذلك قولُه: فُتِحَتْ مصر أو مكة عنوةً، شهادةٌ. وإذا كانت شهادة فمالك لم يباشِر الفتح، فيتعين أنه نَقَل هذه الشهادة عن غيره، ولا يُدرَى هل أَذِنَ له ذلك الغير في النقل عنه أم لا؟ وإن سلمنا أنه أَذِن له، فقد عارضَتْ هذه البيّنَةَ بيّنةٌ أخرى، وهي أن الليث بن سعد والشافعي وغيرهما قالوا: الفتحُ وقع صُلحًا. فهل يمكن أن يقال: إن إحدى البينتين أعدل فتقدم؟ أو يقال: هذا لا سبيل إليه، والعلماءُ أجلُّ من أن نفاوت نحن بين عدالتهم؟
ولو سلَّمنا الهُجومَ عليهم في ذلك، فالمذهَبُ أنه لا يُقضَى بأعدل البينتين إلَّا في الأموال. والعَنْوَةُ والصُّلحُ ليسا من هذا الباب. فلم قلتم: إنه يُقضَى فيه بأعدل البينتين؟
ولا يمكن أن يقال: إن هذه الشهادة نقلًا عن أحد، بل هي استقلال ومستنَدُها السماع، لأنا نمنع أن هذه المسألة مما تجوز فيه الشهادة بالسماع. وقد عَدَّ الأصحاب مسائل السماع خمسةً وعشرين مسألة، ليست هذه منها
…
سلَّمنا أنها منها، لكن حَصَل المُعارِضُ المانعُ من الحكم بهذه الشهادة.
وبهذا التقرير يظهر لك أن من أفتى بتحريم البيع والإِجارة والشفعة في هذه البقاع، بناءً على قول مالك: إنها فُتِحَتْ عنوة، خطأ، وأنَّ هذا ليس مذهبًا لمالك، بل هي شهادةٌ لا يُقلَّد فيها، بل تجري مَجرى الشهادات.
وكما يَرِدُ هذا السُّؤَالُ على المالكية في العنوة، يَرِدُ على الشافعية في قول الشافعي: إنها فُتِحَتْ صُلحًا. ويبنون على ذلك: الفتيا بالإِباحة، ويجعلون هذا مما يُقلَّد فيه، وإنما هو شهادة أيضًا بالصلح. وقد بَسطتُ هذه المسائل في كتاب "الإِحكام في الفرق بيق الفتاوى والأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام". وهو كتاب نفيس، فيه أربعون مسألة من هذا النوع". انتهى. وسيأتي نقدُ قوله: لا يُقضَى بأعدلِ البنيتين في ص 204.
حُجَّة، وهو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فلو كان الراجمُ لماعزٍ مَنْ ليس فِعلُه حُجَّةً ما انتفعنا بروايته في ترتيب الأحكام العامة أصلًا.
وكونُ مِصرَ عَنْوَةً لم يُتصرَّف فيها بالوقفِ وإِبطالِ البيع: ليس ممن قولُه حُجَّةٌ ولا فِعلُه، بل إِنما وقع فتحُها في زمن الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يَثبت أنهم صرَّحوا بامتناع البيع في خصوصها، ولو ثبَتَ ذلك كان حُجَّة.
وأما أنه لا يترتب عليه أحكام خاصة، فلأنَّا قد بينَّا أنّ روايةَ وقوعِ الأسباب لا تقتضي أن تترتَّب عليها الأحكامُ الجزئيةُ الخاصة بها، كما لا يُرجَمُ ماعزٌ برواية واحدٍ ونحوِه.
والمالكيَّةُ يُثبِتون بفتاويهم وأقضيةِ حُكَّامِهم نقضَ هذه العقود، وإِبطالَ هذه الحقوق بناءً على قولِ مالك: إِنها فُتِحَتْ عَنْوة، بل كان يَتعيَّنُ عليهم أن يقفوا حتى يَكمُلَ نصابُ الشهادة عندهم، أو يَثبُتَ أنَّ هذه الأحكام في هذه الأراضي، حكَمَ بها أو أَفتَى مَنْ قولُهُ أو فِعلُهُ حُجَّة مِن نَبيّ أو صحابي، وحينئذ كانوا يُقْدِمون على الفتاوى والأحكام في تلك الوقائع.
وليت شعري أيُّ فرقٍ بين قوله: فُتِحتْ الأرضُ الفلانية عَنْوةً وقهرًا؟ وبين قوله: فلانٌ قُتِلَ قهرًا وَعُدْوَانًا وعَمْدًا؟ وثَوْبُ فلانٍ أُخِذَ غصبًا؟ وهل ذلك كلُّه إِلَّا إِخبارٌ عن وقوع فِعلٍ من فاعلِ موصوفٍ بالقهر والغلبة؟
وتَراهم إِذا قال لهم مالك: فلانٌ قُتِلَ عمدًا يَقتصُّون مِن قاتِله بمجرَّدِ قوله، ويُرتّبون جميعَ تلك الأحكامِ المتعلقةِ بتلك الواقعة الجزئية، أوْ لا يُرتّبون تلك الأحكام ويُجرونه مُجرَى الشهادة؟ فإِن رَتَّبوا بِتِلكَ خَرَقُوا الإِجماع، وإِن أجروه مُجَرى الشهادة، ووَقَفُوا ترتيبَ تلك الأحكام على
كمالِ نصاب الشهادة أو القَسَامة، فما الفرقُ بين ذلك وكونِ الأرض عَنْوَة، وإِخبارِه عن وقوعِ القهر فيها؟
فإِن قالوا: هو من باب الشهادة، فيقال لهم: إِنه رضي الله عنه لم يُباشِر الفتح، فلا تَصحُّ الشهادة إِلَّا بطريق المباشرة.
ولا يُمكنهم أن يقولوا: إِنَّ هذا من باب الشهادة بالسماع والإستفاضة، فإِنَّ الأصحاب قد عَدُّوا مسائلَ الشهادة بالسماعِ نحوَ سبعٍ وعشرين مسألة، ولم يَعُدُّوا هذا منها، فأين النَّقلُ الذي يُعتمَدُ عليه في أن مالكًا شَهِدَ في هذا بالسماع؟
ولا يُمكنهم أن يقولوا: حصَلَ له العلمُ بنقلِ التواتو بأنها فُتِحَتْ عَنْوة، وإِذا حَصَلَ العلمُ للشاهد جازت الشهادةُ، باشَرَ المشهودَ به أم لا، كما نَصَّ عليه صاحبُ "المقدِّمات"(1).
لأنا نقول لهم: حصولُ العلم له بعيدٌ في هذا بالتواتر، وظاهِرُ الحال يأباه، لأنه رضي الله عنه من أهل المدينة لا من أهل مصر، والليثُ بن سعد
(1) هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رُشد القرطبي، الإِمام العالم المحقق زعيم فقهاء عصره وقاضي الجماعة بقرطبة، المعروف بابن رُشدٍ الجَدّ. كان إليه المفزعُ في حل المشكلات، بصيرًا بالأصول والفروع والفرائض، متفننًا في العلوم كثيرَ الدين والحياء، مقدَّمًا عند أمير المسلمين. ومن تلامذته الكثيرين النجباء: الإِمامُ القاضي عياض.
له تآليف كثيرة من أجلِّها: "البيانُ والتحصيل لما في "المستخرَجَة" من "التوجيه والتعليل"، و "المقدِّمات الممهِّدات"، لبيان ما اقتضته رسوم "المدوَّنة" من الأحكام الشرعيات، وهو مطبوع مع كتاب "المدوَّنة"، وله "تهذيب مشكل الآثار للطحاوي". ولد سنة 450، وتوفي سنة 520 بقرطبة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
من أهلِ مصر (1)، وهو يقول: إِنها فُتِحَتْ صُلحًا لا عَنْوة، ووافَقه على ذلك جمعٌ كثيرٌ من العلماء وأهلِ التواريخِ والنقل، وأهلُ البلد أخبَرُ بحالِ بلدهم من غيرهم، فإِن يكن ثَمَّةَ تواترٌ فهُمْ أولى به.
فحيث جَزَموا بخلافه دَلَّ ذلك على أنَّ النقل لم يَصِل للتواتر عند مالك، بل إِنما وصَلَ إِليه مِمَّن يثقُ به بطريق أخبار الآحاد، فأخَبَرَ بما ظنَّه لا بما عَلِمَه.
سلَّمنا أنه حصَلَ له العلمُ، لكن يُمكن أن يقال: إِنَّ الليث أيضًا ومَنْ معه حصَلَ لهم العلمُ بطريقِ الأولى، فتتعارَضُ شهادةُ مالكٍ ومن وافقه، والليثِ بن سعد والشافعيِّ ومن وافقهما.
وإِذا تعارضَتْ البيّناتُ وجَسَرَ أحدُ الفقهاء وقال: مالكٌ أعدلُ وكذلك من وافقه، فيقال له: هل هذه المسألةُ مما يُحكَمُ فيها بأعدلِ البينتين؟ مع أنَّ مذهب المالكية أنه لا يُحكَمُ بأعدلِ البينتين إِلَّا في الأموال خاصَّة (2)، وهذا
(1) هو أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفَهْمىِ وَلاءً، أصلُه من أصبهان، ومولده في قَلْقَشَنْدَة على نحو ثلاثة فراسخ من القاهرة. كان إمامَ عصره في مصره، وهو الإِمام المحدِّث الفقيه المجتهد، قال الشافعي: الليثُ أفقهُ من مالك، إِلَّا أن أصحابه لم يقوموا به.
وقال ابن بكير: ما رأيتُ أكمل من الليث، كان فقيهَ البدن عربيَّ اللسان. وكان أحَدَ الكرماء الأجواد. ولد سنة 94، وتوفي سنة 175 في مصر - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
(2)
وقد قال هذا أيضًا في كتابه "الفروق" 4: 6، في الفرق (203) كما تقدَّم نقله تعليقًا في ص 200. وانتُقِدَ هذا الحصرُ على المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. قال الحَطَّاب في "شرح مختصر خليل" 6: 209 "تنبيه قال القرافي في كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام": ولا يُقضَى بأعدل البينتين إِلَّا في الأموال. ونقَلَه ابن فرحون. وهو مخالف لما ذكرناه في 208:6 من سماع يحيى ونقَلَه ابنُ عرفة، ونصُّه: قال ابنُ عرفة: =
وصفٌ وسبَبٌ شرعي ليس من الأموال في شيء.
فإِن قالوا: إنه نقَل الشهادةَ عن غيره، فيقال لهم: مِن شَرْطِ النقلِ في الشهادة أن يأذَنَ الأصلُ للفرع في التحمُّل، فهل ثبَتَ عند حكام المالكية أنَّ المنقولَ عنه أذِنَ لمالكٍ رحمه الله في النقل عنه؟ مع أنه لا يجوز لحاكمٍ أن يَحكمَ بشهادةِ فرعٍ حتى يَثبُتَ عنده شروطُ التحمُّلِ وجميعُ ما يَتعلَّقُ بتلك الواقعة.
وكذلك جميعُ قضايا الحُكّام، لابُدَّ من ثبوتِ كلِّ ما يَتوقفُ عليه ذلك الحكمُ عند الحاكم بطُرُقِه، فمنه ما يُحتاجُ فيه إِلى البيّنة، ومنه ما يُكتَفى فيه بمجرَّد إخبارِ الشاهدِ الفَرْعِ. وهذه كلُّها أمورٌ مشكلةٌ فتأمَّلْها.
واعلم أنَّ هذا ليس خاصًا بمذهبنا، بل الشمافعيَّةُ لهم مثلُ ذلك في أرضِ العراق وغيرِها، فيَرِدُ عليهم ما يَرِدُ علينا.
فتأمَّلْ هذه المباحث تَتيقَّنْ أنه ليس كلِّ ما يُنقَل عن العلماء يَدخله التقليد، بل يُقلَّدون في تلك الأمور الخمسة التي تقدَّمَ تلخيصُها (1)، وما عداه لا يَدخله التقليد.
وقد تَدخله الرواية إِن كان المنقولُ عنه مِمَّن فِعلُه حُجَّةٌ أو قولُه، وقد
= ولابن رشد في سماع يحيى من الشهادات: إن شَهِدَتْ إحدى البيِّنتين بخلاف ما شَهِدَتْ به الأخرى، مثلُ أن تشهد إحداهما بعتق، والثانيةُ بطلاقِ، أو إحداهما بطلاقِ امرأة، والثانية بطلاقِ امرأةٍ أخرى، وشِبهُ هذا، فلم يختلِف قولُ ابن القاسم بهما معًا، وروايةُ المصريين بأنه تهاتُرٌ من البيِّنتين وتكاذُبٌ يُحكَمُ فيه بأعدل البينتين، فإن تكافَئَتا سَقَطتا، ورَوَى المدنيُّون: يُقضَى بهما معًا استوَيَتا في العدالة أو إحداهما أعدل. انتهى".
(1)
في ص 192.
تَدخله الشهادةُ وهو الإِخبارُ عن وقوع الأسبابِ والشروطِ والموانع، وقد لا يَدخلُه تقليدٌ ولا روايةٌ ولا شهادة، وهو ما يذكرونه من أصولِ الفقه وأصولِ الدين أو غيرِ ذلك من الأمور الحِسيَّات أو العقلياتِ ونحوِها، وقد تقدّمَ تلخيصُ هذه الأقسام كلِّها على أحسنِ الوجوه (1).
(1) في ص 192 وما بعدَها.