الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونْ
إذا قلتم: إنَّ حُكم الحاكم لا يُنقَض، فهل معناه أنَّ الحاكم لا يَنْقُضُه وللمفتي أنَّ يُفتي بما يخالفه كما كان قَبْل الحكم، أو تَبْطُلُ الفُتيا بمخالفته وتصيرُ مسألةَ اتفاقٍ بعد الحكم؟
فإن قلتم: تَبْطُل الفُتْيا أيضاً مع الحكم، فيُشكِلُ ذلك بما قاله صاحبُ "الجواهر"(1) في قوله في كتاب الأقضية في نقض الأحكام فيما يُنقَضُ منها، قال:
"الفَرْعُ الرابعُ أنَّ القضاء وإن لم يُنْقَض فلا يَتغيَّرُ به الحكمُ الباطن، بل هو على المكلَّف على ما كان قبلَ قضاءِ القاضي، وإِنما القضاءُ إِظهارٌ لحُكم الشرع لا اختراعٌ له، فلا يَحِل للمالكي شُفعةُ الجار إِذا قَضَى له بها الحنفي، ولا يَحِلُّ لمن أقام شهودَ زُور على نكاح امرأة فحكمَ له القاضي - لإعتقادِه عدالتَهم - بنكاحِها وإِباحةِ وطئها: أن يطأها، ولا أن يَبْقَى على نكاحها".
(1) هو الإِمام جمال الدين أبو محمد عبد الله بن محمد بن نجم بن شَاس بن نزار الجُذَامي السَّعْدي المصري، كان جدُّه شَاس من الأمراء، وكان هو إمامَ المالكية في عصره، وكان محدِّثاً حافظاً ورعاً، حدَّث عنه الحافظ زكي الدين المنذري. وكتابه المشارُ إليه اسمه "الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة"، على ترتيب كتاب "الوجيز" للإِمام الغزالي، وهو من أجمع كتب الفروع عند السادة المالكية وأكثرِها فوائد. وله كتاب "كرامات الأولياء". وكان يُدرَّسُ بمصر في المدرسة المجاورة للجامع العتيق جامع عمرو بن العاص، فلما نَزَل الإِفرنجُ على ثغر دمياط وحاصروها، توجَّه الشيخ إليها بنية الجهاد والقتال في سبيل الله، فتوفي هناك سنة 616، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
هذا نصُه في "الجواهر". ومع هذا النص كيف يقولون: إِن الفُتيا تَبْطُل بحكم الحاكم؟ وهو يقول: الحكُم في الباطن على المكلَّف على ما كان عبيه، وإِنَّ المالكيَّ إِذا حَكَم له الحنفيُّ بشفعة الجار لا يجوزُ له أخذُها، فلو كانت الفُتيا تَبْطُلُ بالحكم وتصيرُ المسألةُ إِجماعيةً لجاز للمالكي أخْذُ شفعةِ الجار، ولا سبيلَ حينئذٍ إِلى القول بتغيير الفتاوى لقضاء الحكام بخلافها؟
جَوَابُهُ
اعلم أنَّ جماعةً من أعيان المالكية اعتقدوا بسبب هذا الفرع، أنَّ حكم الحاكم في مسائل الخلاف لا يُغَيرُ الفتاوى، فإِذا حَكَم فيها بالحِلِّ مثلاً بقي المُفتِي بالتحريم يُفتي به بعد ذلك. فالقائلُ: إِنَّ وَقْفَ المُشاع لا يجوز، أو إِنَّ الوقفَ لا يجوز، إِذا حكم حاكمٌ بالجوازِ والنفوذِ واللزومِ بَقي للآخرَ أن يُفتي بجواز بيعِ ذلك الموقوف، والممتنعُ النقضُ دون الفُتيا.
وكذلك إِذا قال: إِن تزوَّجتُكِ فأنتِ طالق، فتزوجَها وحكمَ حاكمٌ بصحةِ العقد وبقاءِ النكاح وعدَمِ لزوم الطلاق: إِنَّ لِمخالِفه أن يُفتي بعد ذلك أنها حرام عليه. وهذا أعتقدُه خلافَ الإِجماع، ولم أجد هذا النقلَ الذي في "الجواهر" لغيره، مع أني بذلتُ جهدي في تتبُّعِ المصنَّفات. والظاهرُ أنَّ عبارته رضي الله عنه وقَعَ فيها توسُّعٌ، ومقصودُهُ إحدى مسألتين في المذهب:
إِحداهما: أنَّ الحكم إِذا لم يصادف سبَبه الشرعي فإِنه لا يُغَيِّرُ الفُتيا، كالحكمِ بالطلاقِ على من لم يُطلِّق، إِمَّا لخطأ البيِّنة وإِما لتعمُّدها الزُّور. وقد ذكَرَها في "الجواهر" في عين الفرع كما تَقدَّم الآن نقلُه، أو بالقِصاصِ أو غيرِه مع انتفاء سببه، فإِنَّ الفتاوى عندنا على ما كانت عليه قبلَ الحكم خلافاً لأبي حنيفة.
والمسألة الثانية: ما هو على خلافِ القواعد أو النصوص، كما قال ابنُ يونس (1): قال عبدُ الملك (2): معنى قولِ مالكِ: "لا يُنقَضُ قضاءُ القاضي": إِذا لم يُخالِف السُّنَّة، أما إِذا خالَفَها نُقِضَ:
كاستسعاءِ العبد بعِتْقِ بعضه، فيقضِي باستسعائه فيُنْقَضُ ويُرَدُّ له ما أدَّى، ويَبقى العبدُ مُعتَقاً بعضُه.
وكالشُّفْعَةِ للجار أو بعدَ القسمة، أو الحكمِ بشهادةِ النصراني، أو ميراثِ العمَّة أو الخالة أو المَوْلى الأسفَل، وكل ما هو على خلاف عمل أهل المدينة ولم يقل به إِلَّا الشذوذُ من العلماء، أو طلَّقها البتة فرآها الحاكمُ واحدةً وتزوَّجها الذي أبتَّها فلغيره التفريق.
(1) هو أبو بكر محمد بن عبد الله بن يونس التميمي الصَّقِلي المالكي. كان إماماً حافظاَ نطاراً أحدَ أئمةِ الفقهِ والترجيح، وكان إلى إمامته في الفقه والعلم ملازماً للجهاد في سبيل الله موصوفاً بالنجدة، ألَف كتاباً حافلاً جامعاً على "المدونة"، أضاف إليها غيرَها من الأمهات، فأصبح معتمد طلبة العلم لما حواه من الفوائد والزيادات، وله كتاب في الفرائض. توفي سنة 451 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
(2)
هو أبو مروان عبد الملك بن حبَيب بن سليمان السُّلَمي القرطبي المالكي، رحَلَ إلى المشرق وأخَذَ عن علمائه، ثم رجع إلى المغرب بعلم كثير عظيم، وأصبح عالم الأندلس وفقيهها، نحوياً لغوياً نسَّابة أخبارياً عروضياً شاعراً محسناً. وألَّف كتباً حِساناً كثيرة في الفقه والحديث والتاريخ والأنساب والأدب وغريب الحديث والمواعظ والطب والنجوم.
ومن أشهر كتبه: "تفسير موطأ مالك" و"الواضحة" في السنن والفقه، قال العُتْبيُّ - وذَكَر الواضحة - رحم الله عبد الملك، ما أعلم أحداً ألَّف على مذهب أهل المدينة تأليفَه، ولا لطالب العلم أنفَعَ من كتبه. ولا أحسَنَ من اختياره. توفي عبد الملك في قرطبة سنة 238 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
فهذه نحوُ عَشْر مسائل نقَلها ابنُ يونس، وإِنَّ الفتاوى تتقى فيها، ويُنقَضُ الحكمُ (1). فيَبقى قولُ صاحبِ "الجواهر":"إِنا إِذا قلنا: لا يُنْقَض الحكمُ لا يأخذ المالكيُّ شُفعة الجار". مع أنَّ ابن يونس ما نقَلَها إِلَّا في أنَّ الحكم يُنقَض، فبَيْنَ النقلينِ تنافٍ كما ترى.
فإِن كان مرادُ صاحب "الجواهر" هاتين المسألتين فهو صحيح، غير أن عبارتَه وتفريعَه على عدمِ نقضِ الحكم يأبى ذلك، مع أنه لم يُمثّل إلَّا بشُفعةِ الجار ومَنْ طُلِّقَ عليه بشهادة الزُّور. وكونُهُ لم يُمثل إِلَّا بالمسألتين يُشعِرُ بأنه لم يُرد إِلَّا إِياهما، وتفريعُهُ على عدم النقض في الحكم يأبى ذلك. فهذا اضطراب لم يوجد لغيره، مع أنَّ نُقولَ المذهب تأباه، وذلك في مسائل:
إِحداها: أنَّ الساعي إِذا أخَذَ شاة من أربعين شاة لأربعين مالكاَ، مقلِّداً لمذهبِ الشافعي، قال الأصحاب بتوزيع الشاة على الأربعين مالكاً، وأفتَوْا قبل أخْذِ الساعي لها أنَها - إِنْ أخَذَها غيرَ متأوِّلٍ ولا حاكمٍ - مَظْلَمة (2)، ولا تُوزَّع، وتَختصُّ بمن أُخِذَتْ منه. فقد تغثرتْ فُتياهم باعتبارِ مقتضى مذهبهم، وباعتبارِ طرَيَانِ الحكم (3)، فدَلَّ ذلك على أنَّ حُكم الحاكم يرفعُ الفتاوى، وتصيرِ المسألةُ كالمجمَعِ عليها بسبب اتصالِ حكمِ الحاكم بها.
وثانيها: في "المدوَّنة": إذا كان لأحدِهما أحَدَ عَشَر، وللآخَرِ مئةٌ
(1) وخالف في ذلك ابنُ عبد الحكم تلميذُ مالكِ فقال: لا يُنقَضُ قضاءُ القاضي في هذه المسائل، كما نقله عنه المؤلف القرافي في كتابه "الفروق" 4: 41 في الفرق (223) فقال بعدَ ذكرِها: "وخالَفَ ابنُ عبد الحكم وقال: لا تنقَضُ شُفْعَةٌ وما ذُكِرَ معه من الفروع، لضعفِ مُوجِبِ النقضِ عنده، وجمهورُ الأصحابِ على خلافِه".
(2)
في الأصول الخمسة: (أنها مَظلمة).
(3)
أي طروئه وحُدوثه.
وعشرة، قال صاحبُ "الطِّرَاز" (1) وغيرُه: لا شيء على صاحبِ الأحَدَ عَشَر إِلَّا أن يأخذها الساعي حاكماً بمذهب من يقلدُه في ذلك فتتوزَّع على الجميع (2).
وثالثُها: قال سَنَدٌ (3) - في صلاة الجمعة -: إِذا نَصَب السُّلطانُ فيها إِماماً مِن قِبَلِه لا تَصحُّ إِلَّا من نائبِ السلطان، لأنَّ افتقارَ إِقامة الجمعة إِلى إِذن السلطان مسألَةُ خلاف، فإِذا اتَصَل بها حكمُ حاكم لم تَصح إِلَّا بنائبِ السلطان. وهذه كلُّها فتاوى تغئرتْ بسبب حكم الحاكم.
(1) هو الإِمام الفقيه النظَّار أبو علي سَنَدُ بن عِنان الأسدي المصري المالكي، كان من زهاد العلماء وكبار الفقهاء، تولى تدريسِ المذهب المالكي في مدينة الإِسكندرية بعد وفاة شيخه الإِمام أبي بكر الطُّرْطُوشي، وانتفع الناس به، وألف كتاب "الطِّراز"، شرَحَ به كتاب "المدوَّنة" في ثلاثين سفراً، وتوفي قبل إكماله، وله تأليف غيره. ومن مليح شعره قولُه:
وزائرةِ للشيب حَلَّتْ بمَفرِقي
…
فبادَرْتُها بالنَّتْفِ خَوْفاً من الحَتْفِ
فقالت: على ضعفي استَطلتَ ووَحدتي
…
رُويدَكَ للجيشِ الذي جاء مِن خَلْفِي!
توفي في الِإسكندرية سنة 541 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
(2)
عبارة "المدوَّنة" في باب (زكاة ماشية الخلطاء) 1: 279 "قلت: فإن كانا خليطين لواحدٍ عشرة ومئة، وللآخر إحدى عشرة، فأخَذَ الساعي شاتين؟ قال: يَلزَم كلَّ واحد منهما على قدر ما لكل واحد منهما من الغنم. وإنما ذلك بمنزلة ما لو كان لكل واحد منهما عشرون عشرون فصارت أربعين، فأخَذَ منها شاةً، فهي عليهما جميعاً. ألا ترى أن صاحب العشرة ومئة، لولا خَلْطُ صاحب الإِحدى عشرة لم تكن عليه إِلَّا شاة واحدة، فدخلَتْ المَضَرَّةُ عليه منه، كما دخلت على صاحبي الأربعين، أدخَل كل واحد منهما على صاحبه المضرة، فلزمهما جميعاً، فكذلك لَزِم هذين".
(3)
هو صاحبُ "الطراز"، وتقدمت ترجمته قبل أسطر.
ورابعها: قالوا في تخالُفِ المتبايعَيْنِ (1): هل يقتضي الفسخَ أو حتى يَحكمَ به الحاكم؟ قالوا (2): ويُبْنَى على الخلاف هل لأحدهما أن يُمضي العقد بما قال الآخَرُ قَبْلَ الحكم أم لا؟ فقد تغيَّرت الفُتيا بجواز إِمضاء العقد بما قال الآخر بسبب الحكم.
وخامسها: في "المدوَّنة ": أنَّ المُعتِق إِذا كان مُعسِراً ثم طرأ اليسارُ بعدَه قُوِّمَ عليه، إِلَّا أن يَتقدَّم حُكمٌ بسقوط التقويم عليه، فلا يَلزمه تقويم. فقد أَفتى مالك في الكتاب بالتقويم، ثم أَفتى بعدمه لتقدُّمِ الحكم، فقد غيَّرَ الحُكمُ الفتيا.
وسادسها: قال مالك في "المدوَّنة" في العتق الأوَّل إِذا رَدَّ الغرماءُ عِتقَ المعسِر: ليس لهم ولا له بيعُ العبيد المعتَقين حتى يُرفَع للإِمام، فإِن فَعَل أو فَعَلوا ثم رُفعَ للإِمام بعد أن أيسر: رَدَّ البيعَ ونَفَذَ العتقُ لحدوث اليُسر، فإِن باعهم الإِمام ثم اشتراهم المعتِقُ بعد يُسرِه كانوا له أرقَّاء (3).
(1) وقع في الأصول الأربعة: (تحالُف)، أي بالحاء المهملة. وجاء في نسخة
(ر): (تَخَالُف المتبايعينِ)، أي بالخاء المعجمة، وهو الصواب فأثبته.
(2)
جاء في الأصول الخمسة كلها: (قال). فأثبتُها كما ترى.
(3)
عبارة "المدوَّنة" 2: 377 أتمُّ مما هنا وأوضح وهذا نصُّها: "قلتُ: أرأيتَ من أعتَقَ رقيقَه ولا مالَ له غيرُهم، وعليه دَين يغترقُهم، فيقُوم عليه الغرماء: أيكونُ له أن يبيعهم دون السلطان أو يكونُ ذلك للغرماء؟ قال: قال مالك: لا يكون له أن يبيعهم، ولا لهم، دون السلطان.
قلتُ: فإن باعهم بغير أمر السلطان، ثم أفاد مالاً، ثم رُفع أمرُهم إلى السلطان؟ قال: يَردُّ بيعَهم وتمضي حُزيَتُهم، وإنما يَنظر السلطانُ في ذلك يومَ يُرفَع إليه، فإن كان أَعتَقَ وهو موسِرٌ ثم أفلس لم يَردَّ عتقَهم، وإن كان أَعتَقَ وهو مفلس ثم أَيسر لم يَردَّ عتقَهم أيضاً.
قلتُ: فإن باعهم السلطان في دَينه، ثم اشتراهم سيدُهم الذي كان أعتقهم بعد ذلك، أيَعتقون عليه في قول مالك؟ قال: قال مالك: لا يَعتقون عليه، وهم رقيق".
فتغيَّرت الفُتْيا ببيعِ الحاكم لأنه مُستلزِمٌ للحكم، وبطَلَ العتقُ، وكانت الفُتيا في بيعِ الغرماء وبيعِ المعتق أن البيع يَبطل باليسار، ويَنْفُذُ العتق، وفي الصُّورتين بَيْع، وفي الصورتين تعلُقُ حق الغرماء، وفي الصُّورتين طَرَيانُ اليُسرِ بعدَ العُسر، ولا فارقَ في تغيُّر الفُتيا إِلَّا حكمُ الحاكم.
وسابعها: قال مالك: إِن خُرِصَتْ الثمارُ فنَقَصت لم يُعتبَر النقصُ، لأنَّ الخارص حاكم، ولو لم تُخرَص الثمار وكانت عند وقت الوجوب أقلُّ من النصاب: لم تجب الزكاة، وهاهنا هي في وقت الوجوب أقلُّ من النصاب، وقد أفتى بوجوب الزكاة لأجلِ حُكم الحاكم.
فقد تغيَّرت الفُتيا لأجل الحكم، وهذا مع تبيُّن خطئه، وكلامُنا في الحاكم إِذا لم يَتبيَّن خطؤه، فهو أولى وأحرى بأن تَتغيَّر الفُتيا لأجله (1).
وثامنها: ما قال ابنُ يونس عن جماعة من الأصحاب في كتاب إِحياء المَوَات: إِذا شَرَع اثنانِ في بناءِ بئرينِ لكل واحدٍ منهما بئر، بعد تنازعٍ بينهما في الحَرِيم لذينك البئرين ونفيِ الضرر عنهما، فحكمَ حاكمٌ بعدَمَ الضرر، ثم تبيَّن الضَّررُ: إِنه ليس للمضرور منهما إِزالةُ الضرر، وقد سَقَط حقُّه منه، لأنه بحكم حاكم.
وقولُهم: (سَقَط حقُّه) فُتْيَا، فقد تغيَّرت الفُتيا بسبب حكم الحاكم، فإِنه لولا حُكْم الحاكم لكان له دَرْءُ الضرَّرِ عن نفسه، وكُنَّا نُفتيه بذلك اتفاقاً.
فإِذا تغيَّرت الفُتيا للحكم وإِن تبيَّنَ خطؤه فأولى أن تتغيَّر بالحكم الذي لم يتبيَّن خطؤه. وما وقع في هذه المسألةِ وفي مسألةِ الخَرْص التي قبلَها بَيْنَ
(1) سيأتي بحثُ الخَرْص موشَعاً في جواب (السؤال الثالث والثلاثون) في الرتبة الثالثة عشرة ص 174، فانظره.
الأصحاب من الخلافِ إِلَّا لكونِ الحُكم تبيَّن خطؤه، ولو اتَّفقوا على عدم الخطأ لاتَّفقوا على تغيُّر الفُتيا، وإِنما الخلافُ بينهم في نقض هذا الحكم لتبين خطئه فقط. فظهر أنهم لا يختلفون في الحكم الذي لم يَتبيَّن خطؤه أنه تتغيرُ الفُتيا باعتباره.
فإِن قيل: إِنما المعنى في هذه المسائل كلِّها أنَّ الحكم لا يُنقَضُ، وليس بتغيُّرِ فُتيا؟
قلنا: النقضُ وظيفةُ حاكمٍ آخر غيرِ الحاكم الأوّل، لا وظيفةُ المفتي، والمفتي في هذه المسائل يُسألُ ويُخبِرُ عن الله تعالى بأنَّ ذلك له أو ليس له، وأنَ ذمَّته تَعفَرَتْ بالزكاة أو ما تَعفَرَتْ. وهل هذا إِلَّا فُتْيَا صِرْفَة؟ وإِلَّا فلا معنى للفُتيا غيرُ قولِنا: هذا حلال، هذا حرام، هذا واجب، هذا غير واجب، هذا مأذون فيه، هذا غير مأذون فيه، إِلى غير هذا. فهذا تغيُّرٌ للفتاوى جزماً، لا امتناعٌ مِن نَقْضِ الحكم.
وتاسعها: في الكتاب (1): لا يَجزي أن يُؤخَذ في الزكاة ذاتُ العَوَار (2) ولا التَيْسُ، فإِنْ رأى السَّاعي أجزأ، فأفتى بالِإجزاء بعد أخذِ الساعي، وبعَدَمِه قبلَه، وهذا تغيُّرٌ في الفُتيا لأجلِ حكم الحاكمِ، لأن الساعي عند مالك حاكم.
وعاشرها: قال سَنَدٌ في كتاب الخِلْطة: لو كان لكلّ واحدٍ من الخُلَطاء أربعون شاة، فأُخِذَ من أحدهم ثلاثُ شياه، رَجَعَ على صاحبيه بثلثي شاة، لأنه لا تجب في مئة وعشرين إِلَّا شاة، عليه ثلثُها، وعلى صاحبيه ثلثاها، فإِن أُخِذَ الثلاثُ شياه على رأي من لا يَرى بالخلطة كأبي حنيفة: رَجَع على كل واحد بشَاةٍ.
(1) يعني: "المدوَّنة" 1: 267.
(2)
أي ذات العيب. وفي نسخة (ر): (ذاتُ العَوَر).
فقد تغيَّرت الفتيا بعد فعل الحاكم، وليس هذا من باب عدم النقض، لأن النقض إِنما هو للحكام. وأمَّا قولُ العالمِ: لك الرجوعُ، ليس لك الرجوع، إِنما هو فتيا.
ونظائرُ هذه المسائل كثيرةٌ في المذهب جداً. وإِنما قَصدتُ بهذه النبذةِ التنبيهَ على المطلوب، وأنَّ المسألةَ - فيما أظنُ - مجمَعٌ عليها، وكيف يمكنُ الخلافُ فيها وبقاءُ الفُتيا بعد الحكم؟
وقد تقدَّم (1) أنَّ الله تعالى استناب الحُكَامَ في إِنشاء الأحكام في خُصوصيات الصور في مسائل الخلاف، فإِذا حكَمَ الحاكم بإِذْنِ الله تعالى لَهُ، وصح حكمُه عن الله تعالى: كان ذلك نصاً وارداً من الله تعالى على لسان نائبه الذي هو نائبُه في أرضه، وخليفةُ نبيّه في خصوص تلك الواقعة، فوجَبَ حينئذٍ إِخراجهُا من مذهب المخالِفِ في نوع تلك المسألة.
فإِنَّ الدليل الشرعي الذي وجدَه المخالفُ في ذلك النوع عامٌ فيه، وهذا النصُّ خاص ببعض أفراد ذلك النوع، فيَتعارضُ في هذا الفرد من هذا النوع دليل خاصّ وهو حكمُ الحاكم، ودليلٌ عامٌ وهو ما اعتقده المخالِف في جملة النوع، فيُقدَّمُ الخاصُ على العام كما تَقرَّر في أصول الفقه.
وهذا هو السرُّ في أنَّ الحكم لا يُنقَض، لا ما يعتقده بعضُ الفقهاء من أنَّ النقض إِنما امتنَع لئلا تنتشرَ الخصومات، فإِنَّ ما تقدَّم شَهدَتْ له قاعدةٌ أصولية، وما ذكروه لم يَشهد له قاعدة أصولية. والمعضودُ بالشهادة أَولى، وإِن سلمنا صِحَّتَه فيَتعاضَدُ هو والمشهودُ له، لأن المَدَاركَ قد تَجتمع، إِلَّا أنه لا ينبغي أن يُلغَى ما شهدَتْ له القواعدُ إِلَّا لمعارضٍ أرجحَ منه.
(1) في ص 80 - 81.