الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ
ينبغي للمفتي: أن يكون حسَنَ الزِّيّ على الوضع الشرعي، فإِنَّ الخَلْقَ مجبولون على تعظيم الصُّوَر الظاهرة، ومتى لم يَعظُم في نفوس الناس لا يقبِلون على الإهتداء به والإقتداء بقوله.
وأن يكون حسَنَ السيرَةِ والسَّريرة، فمن أسَرَّ سريرةً كساهُ الله رِداءها. ويقصِدُ بجميع ذلك التوسُّلَ إِلى تنفيذِ الحق وهدايةِ الخلق، فتصِيرُ هذه الأمور كلُها قُرُباتِ عظيمة. وإليه الإِشارةُ بقوله تعالى حكايةً عن إِبراهيم عليه السلام:{وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} (1). قال العلماء: معناه ثناءٌ جميلٌ حتى يقتدِيَ بي الناس. وكذلك قولُ عمر رضي الله عنه: أحَبُّ إِليَّ أن أنظرَ القارئَ أبيضَ الثياب. أي لِيعْظُمَ في نفوس الناس، فيَغظُمَ في نفوسهم ما لديه من الحق (2).
(1) من سورة الشعراء، الآية 84.
(2)
وقال العلامة القاضي المالكي أبو عبد الله محمد بن عيسى بن محمد بن أصبغ الأزدي القرطبي الشهير بابن المُنَاصِف المتوفى سنة 625 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام" وهو يتحدَّثُ عما يَلزمُ القاضيَ في خاصة نفسه: "اعلم أنه يجبُ على من تولى القضاء أن يُعالج نَفْسَه، ويجتهدَ في صلاح حاله، ويكونَ ذلك من أهمّ ما يجعلُه من باله، فيَحمل نفسه على أدبِ الشرع، وحفظِ المروءة، وعلوِّ الهمَّة، ويَتوقَّى ما يَشينُه في دينه ومُروءَتِه وعقلِه، ويَحُطُّه عن منصبه وهِمَّته، فإنه أهلٌ لأنَّ يُنظر إليه ويُقتدى به، وليس يَسَعُه في ذلك ما يَسعُ غيره، فالعيونُ إليه مصروفة، ونفوسُ الخاصَّة على الإقتداء بهَدْيه موقوفة. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ولا ينبغي له بعد الحصول في هذا المنصِب سواءٌ وصل إليه برغبةِ فيه وطَرَحَ نفسَه عليه أو امتُحِنَ به وعُرِضَ عليه؛ أن يَزهدَ في طلب الحظّ الأخلَص، والسَّنَن الأصلح، فربما حَمَله على ذلك استحقارُ نفسِه، لكونهِ ممن لا يَستحق هذا المنصب، أو زُهدُهُ في أهل عصره ويأسُه من استصلاحهم، واستبعادُ ما يرجو من عِلاج أمرِهم وأمرِه أيضاً، لِمَا يراه من عموم الفساد وقفَة الإلتفات إلى الخير، فإنه إن لم يَسْعَ في استصلاح أهل عصره، فقد أَسلَم نفسَه وأَلقى بيده إلى التهلكة، ويَئِسَ مِن تداركِ الله تعالى عبادَه بالرحمة، فيُلجئُهُ ذلك إلى أن يمشيَ على ما مَشَى عليه أهلُ زمانه، ولا يُبالي بأيّ شيء وقع فيه لإعتقاده فسادَ الحال.
وهذا أشَدُّ من مصيبةِ القضاء، وأدهى من كلِّ ما يَتوقعُ من البلاء، فليأخذ نفسَه بالمجاهدة، ويَسعى في اكتساب الخير ويطلبه، ويستصلح الناسَ بالرهبة والرغبة، ويُشَدِّدُ عليهم في الحق، فإن الله تعالى بفضله يجعلُ له في ولايتِهِ وجميعِ أموره فَرَجاً ومخرجاً. ولا يَجعَلْ حظه من الولاية المباهاة بالرئاسة وإنفاذِ الأمور، والإلتذاذِ بالمطاعم والملابس والمساكن، فيكونَ ممن خُوطب بقوله تعالى:{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} !
وليجتهد أن يكون جميلَ الهيئة، ظاهرَ الأبهة، وَقُورَ المِشية والجِلسة، حَسنَ النُطقِ والصَّمْت، محترِزاً في كلامه من الفضول وما لا حاجةَ به، كأنما يَعُدُّ حروفَه على نفسه عدّاً، فإنَ كلامه محفوظ، وزلَلَه في ذلك ملحوظ. وليكفلْ عند كلامه الإِشارة بيده والإلتفاتَ بوجهه، فإنَّ ذلك من عملِ المتكلِّفين وصُنْعِ غير المتأدَّبين. وليكن ضَحِكُه تبسُّماً، ونظرُهُ فِراسةَ وتوسُّماً، وإطراقُه تفهُماً.
وليكن أبداً متردّياً بردائه، حسَنَ الزِّيّ، وليلبَسْ ما يليق به، فإن ذلك أهيبُ في حقّه، وأجملُ في شكله، وأدلُّ على فضلِه وعقلِه، وفي مخالفةِ ذلك نُزولٌ وتبذُّل. وليلزَم من السَّمت الحسنِ والسكينةِ والوقارِ ما يَحفظُ به مرُوءتَه، فتَمِيلُ الهِمَمُ إليه، ويَكْبُرُ في نفوسِ الخصومِ الجَراءةُ عليه، من غير تكبُّرِ يُظهرُه، ولا إعجابِ يَستشعرُه، فكلاهما شَيْنٌ في الدَّين، وعيبٌ في أخلاق المؤمنين"، نقله العلَّامة ابن فرحون في =
وأن يكون صَدُوعاً بالحق لأُولي المهابة والسَّطوة، لا تأخذُه في الله لومةُ لائم.
وأن يَجتهد في إِيصال الحق بالتلطّفِ إِن أمكن فهو أولى، لقوله صلى الله عليه وسلم:"من أَمَر منكم بمعروفٍ فليكن أمرُه ذلك بالمعروف"(1). وقال الله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (2). هذا هو الأصل. وفي بعضِ الأحوال يَتعيَّنُ الإِغلاظُ والمبالغةُ في النكير، إِذا كان اللَّينُ يُوهِنُ الحقَّ ويُدحِضُه، وبالجملة فلْيسلُك أقربَ الطرق لرواج الصواب بحسَبِ ما يتَّجهُ
= "تبصرة الحكام" 21 - 22، 23 - 24. وذكره باختصار صاحب "معين الحكام" فيه ص 14 - 15، 16 - 17. دون أن يعزوه إلى قائله أو ناقله!!
وقال الإِمام الحارث بن أَسَد المُحَاجي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: يُسألُ العالِمُ يوم القيامة عن ثلاثة أشياء: هل أَفتَى بعلمٍ أم لا؟ وهل نَصَح في الفُتْيَا أم لا؟ وهل أخلَصَ فيها لله أم لا؟ نقله العلامة ابن أمير الحاج الحلبي في فاتحة كتابه "حَلْبَة المُجَلي في شرح مُنْيَةِ المُصَلي". (مخطوط).
وقال الإمام أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "الفُتْيَا ثلاثٌ، فمن أصاب خلَّصَ نَفْسَه، ومن أَفتَى بغيرِ علمِ - أي نصٌّ ولا قياسِ - هلَكَ وأَهلك، والثالثُ جاهل يُريدُ العُلُؤَ، لم يَعلم ولم يَقِسْ، فقيل له عند ذلك: وهل عُبِدَتْ الشمسُ إلَّا بالمقاييس؟! فقال: غَفَر الله لك، الفهمَ الفهمَ، ثم القِيَاسَ على العلم، وسَلِ الله التوفيقَ للحق". انتهى من "الجواهر المضية في طبقات الحنفية" للحافظ عبد القادر القرشي 2: 164، في ترجمة (خالد بن يزيد الزيات).
(1)
رواه البيهقي في "شعب الإِيمان" عن عبد الله بن عمرو بن العاص دون لفظ (منكم) كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. وقال شارحه المُناوي في شرحه "التيسير بشرح الجامع الصغير" 2: 405 "إسنادُهُ ضعيف".
(2)
من سورة طه، الآية 44.
في تلك الحادثة.
وأن يكون قليلَ الطمع، كثيرَ الورع، فما أفلَح مستكثرٌ من الدنيا ومُعَظمٌ أهلَها وحُطامَها.
ولْيَبدأ بنفسه في كلّ خيرٍ يُفتي به، فهو أصلُ استقامةِ الخَلْقِ بفعلِهِ وقوله، قال الله تعالى:{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} (1). ومتى كان المفتي مُتَّقِياً لله تعالى وضَعَ الله البركةَ في قوله، ويسَّرَ قبولَه على مستمِعه (2).
(1) من سورة البقرة، الآية 44.
(2)
مَزجَ المؤلفُ - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في هذا التنبيه بين ما ينبغي للمفتي أو القاضي في خاصة نفسه، وفي سيرته مع الخصوم، وفي سيرته في الأحكام وما إلى ذلك، والخطبُ في ذلك سهل. وقد رأيت من المفيد أن أتمم مقاصده بذكر جُمَلٍ نافعة في الباب، انتقيتُها من "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 22 - 37، 25 - 40. رجاءَ النفع بها لمن زاول القضاء أو الإفتاء، فإنه أحوجُ ما يكون إلى التسديد والعون على هذه المهمة العالية، والله وليُّ التوفيق.
قال القاضي ابن فرحون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "ويَلزمُ القاضيَ في خاصَّة نفسِهِ أمور:
1 -
منها: أنه لا يقبل الهدية وإن كافا عليها أضعافَها إِلَّا من خواصّ القرابة، كالولدِ والوالدِ والعمَّةِ والخالةِ وبنتِ الأخ وشِبههم، لأنَّ الهدية تُورث إدلالَ المُهدِي وإغضاءَ المُهدَى إليه، وفي ذلك ضررُ القاضي ودخولُ الفساد عليه. وقيل: إنَّ الهدية تُطفئ نُور الحكمة. وقال ربيعة: إياك والهدية فإنها ذَرِيعة الرشوة.
وقال محمد بن محمد الحكم: لا بأس أن تقبلها من إخوانه الذين كان يُعرَف له قبولُها منهم قبل الولاية، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه تقبل الهدية من إخوانه، وقيل: لا يَسوغُ له قبولُها منهم.
وقال ابن حبيب: لم تختلف العلماء في كراهية الهدية إلى السلطان الأكبر وإلى القُضاة والعُمَّال وجُباةِ المال، وهذا قول مالك ومن تبعه من أهل العلم والسنة، وكان =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= النبي صلى الله عليه وسلم يقبل الهديَّة. وهذا من خواصه صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم مما يُتَّقَى على غيره منها. ولما رَدَّ عمرُ بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه الهديَّة قيل له: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقْبلُها، فقال: كانت له هديةً ولنا رشوة، لأنه كان يُتقرَّبُ بها إليه لنبوتِه لا لِولايته، ونحن يُتقرَّبُ بها إلينا لولايتنا.
2 -
ومنها: أنه لا يَحضُر وليمةَ إِلَّا وليمةَ النكاح للحديث، لأن في المسارعة
إلى إجابة الدعوة والتسامح بذلك مذلَّةَ وإضاعةَ للتصاون وإخلاقاً للهيبة عند العوام.
وقال أشهب: لا بأسَ أن يُجيب الدعوة العامة إن كانت وليمةً أو صنيعاً عاماً لفَرَح، فأما أن يُدعى مع عامة لغير فرح فلا يجيب، وكأنه إنما دُعي خاصة وكان ذلك لأجله. وقال سُحنون: يجيب الدعوةَ العامَّة دون الخاصَّة، وتنزهُهُ عن الدعوة العامة أحسن، إلَّا أن يكون لأخ في الله وخاصَّةِ أهله أو ذي قرابة، وكَرِة مالك رضي الله عنه لأهل الفضل أن يُجيبوا كلِّ من دعاهم.
3 -
ومنها: أنه ينبغي له أن يجتنب بِطانةَ السوء، لأنَّ أكثر القضاة إنما يُؤتَى عليهم من ذلك، ومن بُلِيَ بذلك عَرفَه حَق المعرفة، وينبغي له أن يَستبطِنَ أهلَ الدين والأمانة والعدالة والنزاهة، ليستعين بهم على ما هو بسبيله، وتقوَى بهم على التوصل إلى ما يَنوبُه، ويُخففُوا عنه فيما يَحتاج إلى الإستنابة فيه، من النظر في الوصايا والأحباس والقِسمةِ وأموال الأيتام وغيرِ ذلك مما يَنظُرُ فيه.
4 -
ومنها: أنه يجب أن يكون أعوانُه في زِفي الصالحين، فإنه يُستدَلُ على المرءِ بصاحبه وغلامه، ويأمرُهم بالرفق واللين في غير ضعف ولا تقصير، فلا بد للقاضي من أعوان يكونون حوله، ليزجروا من ينبغي زجرُهُ من المتخاصمين، وينبغي أن يُخفَّفَ منهم ما استطاع. وقد كان الحسن البصري رضي الله عنه يُنكِرُ على القضاة اتخاذَ الأعوان، فلما وَلِيَ القضاءَ وشَوَّش عليه ما يقَعُ من الناس عنده قال: لابُدَّ للسلطانِ من وَزَعَة، وإن استغنى عن الأعوان أصلاً كان أحسن.
قال المَازِريُّ: ولا يكون العَوِينُ إلَّا ثقةً مأموناً، لأنه قد يَطَّلع من الخصوم على ما لا ينبغي أن يطلع عليه أحدُ الخصمين، وقد يُرشَى على المنع والإِذن، وقد يُخاف منه =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= على النسوان إذا احتَجْنَ إلى خصام، فكلُّ من يستعين به القاضي على قضائه أو مشورته لا يكون إِلَّا ثقةً مأموناً.
وينبغي ألا يُصغِيَ بإذنه للناس في الناس، فيفتَحَ على نفسه بذلك شرّاً عظيماً، وتَفسُدَ عقيدتُه في أهل الفضل البُرَءاء مما قيل فيهم عنده. وينبغي أن يتخذَ من يُخبره بما تقولُ الناس في أحكامه وأخلاقه وسيرته، فإذا أخبره بشيء فحَصَ عنه، فإنَّ في ذلك قوَّةَ على أمره.
5 -
ومنها: ألا يجلسَ على حالِ تشويشِ من جُوع أو شبع أو غضب أو همّ،
لأنَّ الغضبَ يُسرع - أي يَشتذُ ويقوى - مع الجوع، والفهم ينطفئُ مع الشبع، والقلبَ يشتغلُ مع الهم. وينبغي له أن لا يتضاحك في مجلسه، ويَلزمُ العبوسةَ من غير غضب، ويَمنع مِن رفعِ الصوت عنده. ولا يكثر من القضاء جداً حتى ياخذه النعاس والضَّجَر، فإنه إذا عَرَض له ذلك ربما أحدث ما لا يَصلح. وقد قال مالك رضي الله عنه لرجلِ كان يقضي بين الناس في المدينة: لا تكثِر فتُخطئ.
6 -
ومنها: أن يَجعلَ للرجال مجلساً وللنساء مجلساً إذا كانت حكومة كل نوع مع نوعه، فإذا اجتمعت الرجالُ والنساء في مجلس واحد لخصومة عرضَتْ لهم، أفرَدَ لهم مجلساً، أو جعَلَ مواعيدَ قضايا الأزواج والنساء في وقتِ لا يزدحم فيه المراجعون والمتقاضون، سَتْراً لأحوال الناس وحُرَمهم.
ويلزم القاضي في سيرته في الأحكام أمور:
1 -
منها: ألا يقضيَ حتى لا يَشُكَّ أن قد فَهِم، فأما أن يَظن أنْ قد فَهِم ويَخاف أن لا يكون فَهِم لما يجد من الحَيْرةِ فلا ينبغي أن يقضي بينهما وهو يجدُ ذلك.
2 -
ومنها: أن القضية إذا كانت مشكلة فيكشِف عن حقيقتها في الباطن، ويستعين بذلك على الوصول إلى الحق. وقد أجاب الشيخ أبو عبد الله بنُ عَتَّاب بعضَ الحكام في قضية أشكلَتْ بأن قال: ووَجْهُ الخلاص في هذا على ما كانت القضاة تفعله في شِبهِ ذلك أن تكشِفَ في الباطن عن ذلك، فإذا انكشف لك أمرٌ اجتهدتَ على حسب ما انكشف لك، وفعلتَ ما يجب في ذلك، فقد كانت القضاةُ - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى - =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يستعينون بالكشف عن باطن القضية، ولا يَخرجون في ذلك عن الواجب.
3 -
ومنها: ما قال مالك رضي الله عنه: لا يُفتي القاضي في مسائلِ القَضاء، وأما في غير ذلك فلا بأس به. وكان سحنون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - إذا أتاه رجل يسأله عن مسألة من مسائل الأحكام لم يُجبه وقال: هذه مسألةُ خُصومة.
4 -
ومنها: إذا أَشكَلَ عليه كلامُ الخصمين فيأمرهما بالإِعادة حتى يَفهم عنهما، وقد يَفهمُ عنهما ويشكِلُ عليه وجهُ الحكم، وهذا هو معنى قولهم: إذا أَشكل على القاضي حُكمٌ تركه، ولا يحل له الإِقدام عليه باتفاق. ثم للقاضي حينئذٍ أن يُرشدهما للصلح، فإن تبيَّن له وجهُ الحكم فلا يعدل إلى الصلح، وليقطَعْ به.
فإن خشي مِن تفاقم الأمر بإنفاذ الحكم بين الخصمين، أو كانا من أهل الفضل، أو بينهما رَحِمٌ: أقامهما وأمرَهُما بالصلح، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رَدَّدُوا القضاءَ بين ذوي الأرحام حتى يصطلحوا، فإنَّ فَضلَ القضاء - يعني بينهم - يُورِثُ الضغائن. وقال بعضهم: قولُ عمر هذا محمولٌ على أنه إنما يجب أن يُرَدَّدَهما، ما لم يجب الحقُّ لأحدهما، فإذا وجب الحق لأحدهما فلا ينبغي للقاضي أن يؤخِّر إنفاذَه.
5 -
ومنها: أن لا يقضيَ إلَّا بحضرة أهل العلم ومَشُورتهم. لأنَّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . قال الحسن البصري: كان صلى الله عليه وسلم مستغنياً عن مُشاورتهم ولكنه أراد أن تصيرَ سُنَّةً للحكام. قال أشهب: إِلَّا أن يخافَ المضرَّة من جلوسِهم، ويَشتغلَ قلبُه بهم وبالحَذرِ منهم، حتى يكون ذلك نقصاناً في فهمه، فأحَبُّ إليَ أن لا يجلسوا إليه. قال سُحنون: لا ينبغي للقاضي أن يكون معه في مجلسه من يَشغله عن النظر، سواء كانوا أهلَ فقه أو غيرَهم، فإنَ ذلك يُدخل عليه الحَصَرَ والإهتمامَ بمن معه، ولكن إذا ارتفع عن مجلس القضاء شاوَرَ.
ويلزم القاضي في سيرته مع الخصوم أمور:
1 -
منها: أنه إذا حَضَر الخصمانِ بين يديه فليُسوِّ بينهما - وإن كان أحدُهما ذمياً - في النظر إليهما والتكلمِ معهما، ما لم يتعدَّ أحدُهما فلا بأس أن يَسوءَ نظرُهُ إليه تأديباً له، ويرفَعَ صوتَه عليه لما صَدَر منه من اللَّدَد ونحوِ ذلك، وهذا إذا عَلِمَ الله تعالى =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= منه أنه لو كان ذلك مِن صاحبه فَعَل به مثلَ ذلك.
ويَحضُّهما عند ابتداء المحاكمة على التؤدة والوقار، ويُسكِّنُ جأشَ المضطرب منهما، ويؤمنُ رَوع الخائف والحَصِرِ في الكلام حتى يذهب عنه ذلك. ولا يُقبِلُ عليه دون خصمه، ولا يميلُ إلى أحدهما بالسلام فيخصُّه به ولا بالترحيب، ولا يَرفعُ مجلسَه، ولا يَسألُ أحدَهما عن حاله ولا عن خبره، ولا عن شيء من أمورهما في مجلسهما ذلك، ولا يُساررهما جميعاً ولا أحدهما، فإن ذلك يُجزئهما عليه ويُطمِعُهما فيه، وما جَرَّ إلى التهاونِ بحدودِ الله تعالى فممنوع.
وإذا سلَّمَ عليه خصمانِ لم يَزد على أن يقول: عليكم السلام، فإن زاد أحدُهما في ذلك لم يَزد القاضي على ردّ السلام شيئاً. وله أن يَشُدَّ عضدَ أحدهما إذا رأى منه ضعفاً، أو يراه يَخافُهُ لينشَطَ وينبسط أملُه في الإِنصاف.
2 -
ومنها: أنه يحكمُ بين الخصوم فيقدمُ المسافرين والمضرورين ومن له مُهمٌّ يَخافُ فواتُه. وينبغأنه أن يُسهّلَ إذنَ البينات ولا يَمطُلَهم فيتفرقوا فيعسُر جمعُهم، وربما أدَّى ذلك إلى ضَجَر صاحب الحق، فيترك حقَّه أو بعضَه بالمصالحة عنه، لما يدركه من المشقة، فإذا حضروا آنَسَهم وقرَّبهم وبَسَطهم وسألهم عن شهادتهم، فإذا كانت تامَّة قيَّدها، كان كانت ناقصة سألهم عن بقيتها، وإن كانت مجملةً سألهم عن تفسيرها، وإن كانت غيرَ عاملةِ - أي غيرَ مُجديةِ مفيدة على تقدير صحتها - أعرض عنها إعراضاً جميلاً، وأعلم المدَّعي أنه لم يأت بشيء.
3 -
ومنها: إذا شَتَم أحدُ الخصمين صاحبَه زجره، ولا يَحِلُّ له تركُه لأنَّ الحقَّ فيه لله تعالى، لأنَّ السبابَ انتهاكٌ لحرمة مجلس القاضي والحكم، وليس تكذيبُ أحدهما للآخر من السباب ولو كان بصيغةِ كَذَبْتَ وشِبهها.
4 -
ومنها: أنه ينبغي له موعظةُ الخصمين وتعريفُهما بأن من خاصم في باطل فإنه خائض في سخط الله تعالى، ومن حلَفَ لِيقتطعَ مالَ أخيه بيمينِ فاجرة فليتبوَّأ مقعدَه من النار. ويعظُ الشهودَ أيضاً، رُوي عن شُرَيح أنه كان يقول لمن يشهد عنده: إنما يَقضِي على هذا المُسْلِم أنتما بشهادتكما، وأني متقٍ بكما النار، فاتقيا الله والنار. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ويُستحبُّ له أن يراقبَ أحوالَ الخصوم عند الإدلاء بالحجج ودعوى الحقوق، فإنْ توسَّم في أحد الخصمين إنّه أبطَنَ شُبهة، أو اتهمه بدعوى الباطل إِلَّا أن حُجَّته في الظاهر متَجهة، وكتابَ الحقّ الذي بيده موافقٌ لظاهر دعواه، فليتلطَّفْ القاضي في الفحصِ والبحثِ عن حقيقة ما تَوهَّم فيه، فإن الناس اليوم كثرَتْ مُخادعتُهم، واتُّهمَتْ أمانتُهم.
فإن لم ينكشف له ما يقدَحُ في دعواه فحسَنٌ أن يتقذَم إليه بالموعظة إن رأى لذلك وجهاً، ويُخوَّفُه الله سبحانه، ويذكُرُ قوله تعالى:{وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} . فإن أناب وإلا أَمضَى الحكمَ على ظاهره، كان تزايدت عنده بسبب الفحص عن ذلك شبهة فليقِفْ، ويوالي الكشف ويُردَّدُهُ الأيامَ ونحوَها، ولا يُعجَّلُ في الحكم مع قوة الشبهة، وليجتهد في ذلك بحسب قدرته، حتى يتبيَّن له حقيقةُ الأمر في تلك الدعوى أو تنتفي عنه الشبهة". انتهى. ومن أخلَص لله هداه الله. {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} " انتهى كلام القاضي ابن فرحون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. وأختم هذه الجُمَل النافعة بفوائد غالية نفيسة، تتعلق بمسائل هامة تَعرِض للقاضي والمفتي، تعرّض لها إمام من أئمة السادة الحنفية، وهي: كيف يعمل القاضي - وكذلك الفقيه بفتواه لنفسه - إذا تغير اجتهاده في المسألة الواحدة مرتين أو ثلاثاً؟ وكيف يعمل المستفتي إذا أُفتِي برأي ومَضَى في تنفيذه، ثم أُفتِيَ من عالم غير الأول برأي مخالف له؟ وكيف يعمل المَقْضِي عليه والمَقْضِي له إذا كانا من أهل الإجتهاد وتخالَفَ رأيُهما ورأيُ القاضي في المسألة؟ وكذلك المقلِّدُ إذا اختلفت عليه الفتوى والقضاء فبأيهما يعمل؟
قال الإِمام علاء الدين الكاساني الحنفي في كتابه "بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع" 7: 5 - 6 في باب القضاء: "وإن قَضَى القاضي في حادثة - وهي محلُّ الإجتهاد - برأيه، ثم رُفِعَتْ إليه ثانياً فتحؤَلَ رأيُه، يَعمَلُ بالرأي الثاني، ولا يُوجِبُ هذا نقضَ الحكم بالرأي الأول، لأنَّ القضاء بالرأي الأول قَضَاءٌ مجمَع على جوازِه، لإتفاقِ أهل الإجتهاد على أن للقاضي أن يقضِيَ في محل الإجتهاد بما يؤدي إليه اجتهادُه، فكان هذا قضاءً متفَقَاً على صحته، ولا اتفاقَ على صحة هذا الرأي الثاني فلا يجوز نقضُ المجمَع =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= عليه بالمختلَف فيه.
ولهذا لا يجوز لقاضِ آخَرَ أن يُبطِلَ هذا، القضاء، كذا هذا، وقد رُوي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قَضَى في حادثة، ثم قَضَى فيها بخلافِ تلك القضية، فسُئِلَ؟ فقال: تلك كما قضينا وهذه كانقضي.
ولو رُفِعَتْ إليه ثالثاً فتحوَّلَ رأيُه إلى الأوَّل يَعمَلُ به، ولا يَبْطُلُ قضاؤه بالرأي الثاني بالعمل بالرأي الأوَّل، كما لا يَبْطُلُ قضاؤه الأول بالعمل بالرأي الثاني لما قلنا.
ولو أنَّ فقيهاً قال لامرأته: أنتِ طالق البتة، ومِن رأيه أنه بائن، فأمضى رأيَه فيما بينه وبين امرأته، وعزَمَ على أنها قد حَرُمَتْ عليه، ثم تحوَّل رأيُه إلى أنها تطليقةٌ واحدةٌ يَملِكُ الرجعة، فإنه يَعمَلُ برأيه الأول في حق هذه المرأة وتَحْرُم عليه، وإنما يَعمَلُ برأيه الثاني في المستقبل في حقّها وفي حق غيرها، لأنَّ الأوَّل رأيٌ أمضاه بالإجتهاد، وما أُمضِيَ بالإجتهاد لا يُنْقَضُ باجتهادِ مثلِه.
وكذلك لو كان رأيُه أنها واحدةٌ يملِكُ الرجعة، فعزَمَ على أنها منكوحةٌ - أي ما تزالُ في عصمته وله مراجعتُها -، ثم تحؤَل رأيُه إلى أنه بائن، فإنه يَعمَلُ برأيه الأول، ولا تحرُمُ عليه لما قلنا.
ولو لم يكن عزَمَ على الحرمة في الفصل الأول، حتى تحوَّلَ رأيُهُ إلى الحل لا تَحرُمُ عليه، وكذا في الفصل الثاني لو لم يكن عزَمَ على الحل حتى تحوَّلَ رأيُه إلى الحرمة تَحرُمُ عليه، لأنَّ نفسَ الإجتهاد محلُّ النقض، ما لم يَتَّصِلْ به الإِمضاء واتصالُ الإِمضاء بمنزلة اتصال القضاء، واتصالُ القضاء يَمنع من النقض، فكذا اتصالُ الإِمضاء.
وكذلك الرجلُ إذا لم يكن فقيهاً، فاستَفتَى فقيهاً فافتاه، بحلالِ أو حرام، ولو لم يكن عزَمَ على ذلك حتى أفتاه فقيهٌ آخرُ بخلافه، فأخَذَ بقوله وأمضاه في منكوحته، لم يَجُزْ له أن يَترك ما أمضاه فيه ويَرجعَ إلى ما أفتاه به الأول، لأن العمل بما أَمضَى واجب، لا يجوز نقضُه مُجتهِداً كان أو مقلِّداً، لأنَّ المقلّد متعبَّدٌ بالتقليد، كما أن المجتهِدَ متعبَّدٌ بالإجتهاد، ثم لم يَجُزْ للمجتهِدِ نَقْضُ ما أمضاه، فكذا لا يجوز ذلك للمقلِّد. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ثم ما ذُكِرَ من نفاذِ قضاءِ القاضي - في محل الإجتهاد - بما يؤدي إليه اجثهادُه: إذا لم يكن المَقْضي عليه والمَقْضِي له من أهل الرأي والإجتهاد، أو كانا من أهلِ الرأي والإجتهاد، ولكن لم يُخالِف رأيُهما رأي القاضي.
فأمَّا إذا كانا من أهل الإجتهاد وخالَفَ رأيُهما رأيَ القاضي، فجملةُ الكلام فيه أن قضاء القاضي يَنْفُذُ على المقضيِّ عليه في محل الإجتهاد، سواء كان المقضيُّ عليه عاميَّاً مقلِّداً، أو فقيهاً مجتهداً يُخالِفُ رأيُه رأيَ القاضي بلا خلاف، أمَّا إذا كان مقلِّداً فظاهر، لأنَّ العاميَّ يلزمُه تقليدُ المفتي، فتقليدُ القاضي أولى، وكذا إذا كان مجتهداً، لأنَّ القضاء في محل الإجتهاد بما يؤدِّي إليه اجتهادُ القاضي قضاءٌ مجمَعٌ على صِحَتِه على ما مَرّ، ولا معنى للصحة إلَّا النَّفاذُ على المقضيِّ عليه.
وصُورةُ المسألة: إذا قال الرجلُ لامرأته: أنتِ طالق البتة، ورأيُ الزوج أنَّهُ واحدةٌ يَملِكُ الرجعة، ورأيُ القاضي أنه بائنٌ، فرافعَتْهُ المرأة إلى القاضي فقَضَى بالبينونة، يَنفُذُ قضاؤه بالإتفاق لما قلنا.
وأمّا قضاؤه للمقضِّي له بما يُخالِفُ رأيَه هل يَنفُذُ؟ قال أبو يوسف: لا يَنفُذُ، وقال محمد يَنْفُذُ، وصورةُ المسئلة إذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق البتة، ورأيُ الزوج أنه بائن، ورأيُ القاضي أنه واحدةٌ يَملِكُ الرجعة، فرافَعَتْهُ إلى القاضي، فقضى بتطليقةِ واحدةِ يَملِكُ الرجعة، لا يَحِل له المُقامُ معها عند أبي يوسف، وعند محمد يَحِلُّ له.
وَجْهُ قول محمد: ما ذكرنا أن هذا قضاء وقع الإتفاقُ على جوازه، لوقوعه في
فَضلِ مجتهدٍ فيه، فيَنفُذُ على المقضيّ عليه والمقْضِي له لأن القضاء له تعلقٌ بهما جميعاً، ألا تَرى أنه لا يصح إلَا بمطالبة المقضيّ له.
ولأبي يوسف: أنَّ صحة القضاء إنفاذُهُ في محل الإجتهادِ يَظهرُ أثرُهُ في حقّ المقضيّ عن، لا في حق المقضى له، لأنَّ المقضي عليه مجبورٌ في القضاء عليه، فأمَّا المقضيُّ له فمختارٌ في القضاء له، فلو اتَبعَ رأيَ القاضي إنما يَتَبعُه تقليداً. وكونُهُ مجتهداً يمنعُ من التقليد، فيجبُ العملُ برأي نفسِه.
وعلى هذا: كلُّ تحليل أو تحريم، أو إعتاقٍ، أو أخذِ مال، إذا قَضَى القاضي بما =
وينبغي للمفتي: إذا جاءته فُتيا في شأنِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو فيما يَتعلَّقُ بالرُّبوبيّه، يُسالُ فيها عن أمور لا تَصلحُ لذلك السائل، لكونه من العوامّ الجلْف، أو يَسألُ عن المعضِلاتِ ودقائقِ أصول الدِّيانات، ومُتشابِهِ الآيات، والأمورِ التي لا يخوض فيها إِلَّا كبارُ العلماء، ويَعلمُ أنَّ الباعثَ له على ذلك إِنما هو الفراغُ والفضولُ والتصدّي لما لا يَصلحُ له:
فلا يُجيبُه أصلاً (1)، ويُظهِرُ له الإِنكارَ على مثلِ هذا، ويقول له:
= يُخالفُ رأيَ المَقْضِيّ عليه أو له، فهو على ما ذكرنا من الإتفاق والإختلاف. وكذلك المقَلِّدُ إذا أفتاه إنسان في حادثة، ثم رُفِعَتْ إلى القاضي فقَضَى بخلاف رأي المفتي، فإنه يأخذ بقضاء القاضي، ويَترُكُ رأيَ المفتي، لأنَّ رأيَ المفتي يصير متروكاً بقضاء القاضي، فما ظَنُّك بالمقلد؟ " انتهى كلام الإمام الكاساني - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
(1)
كأن يَسأل: كيف هبط جبريل؟ وعلى أي صورة رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟ وحين رآه على صورة البشر هل بقي ملَكاً أم لا؟ وأين الجنة والنار؟ ومتى الساعةُ ونزولُ عيسى عليه السلام؟ وإسماعيلُ أفضلُ أم إسحاق؟ وأيهما الذبيح؟ وفاطمةُ أفضلُ من عائشة أم لا؟ وأبوا النبي صلى الله عليه وسلم كانا على أيّ دين؟ وما دينُ أبي طالب؟ ومَنْ المَهْدِي؟ إلى غير ذلك مما لا حاجةَ بالإِنسان إليه، ولا ينبغي أن يَسأل عنه لأنه ليس تحته عَمَل، ولا تجبُ عليه معرفتُه، ولم يَرد التكليفُ به. كما ذكره العلَّامة ابن عابدين في حاشيته "رد المحتار على الدر المختار" 5: 480 - 481.
وقد أرشد ابن عباس رضي الله عنه مولاه عكرمة إلى قاعدة هامة في أمر الفتوى حين أمَره أن يفتي الناس، فقال له:"انطلق فأفتِ الناس وأنا عون لك، فمن جاءك يسألك عما يَعنيه فأفته، ومن سألك عما لا يَعنيه فلا تُفته، فإنك تَطرَحُ عنك ثُلُثَيْ مَؤُنةِ الناس". ذكره الحافظ ابن حجر في "تهذيب التهذيب" 7: 265 في ترجمة عكرمة.
وقال القاضي إياس بن معاوية: من المسائل ما لا ينبغي للسائل أن يَسأل عنها، ولا للمسؤول أن يُجيبَ فيها. ذكره ابن خلكان في كتابه "وفيات الأعيان" 2: 419، في =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ترجمة (سليمان بن حرب البصري). وقد عقَدَ الإِمامُ الشاطبي في "الموافقات" 319:4 - 321 فصلاً حَسَناً، ساق فيه عشرة نماذج مختلِفة للأمور التي يُكرَهُ السؤال فيها، ثم قال:"ويقاسُ عليها ما سواها". وكأنه قعَّدَ فيها ما رسَمَه القرافيُّ هنا، - رحمةُ الله عليهما -، فعُن إليها، فإنها مما يُسافَرُ إلى تحصيله.
ومن سؤال الفراغ والفضول! ما وقع للإِمام الشعبي، فقد أتاه رجل فقال له: ما اسمُ امرأةِ إبليس؟ قال: ذاك عُرس ما شَهِدتُه! كما نقله الحافظ الذهبي في "تذكرة الحفاظ" 1: 88.
ومن سؤال الفراغ أيضاً ما وقع لأحد كبار السادة المالكية (زياد بن عبد الرحمن القرطبي الملَقب بشَبْطون) تلميذ مالك، حكى القاضي عياض في ترجمته في "ترتيب المدارك" 3: 125 ما يلي: "قال حبيب: كنا جلوساً عند زياد، فأتاه كتابٌ من بعض الملوك، فمَدَّه مدَّةَ - أي بل قلَمه بلَّةَ من الحِبر - فكتَبَ فيه، ثم طبع الكتاب ونفَذَ به الرسول.
فقال زياد: أتدرون عفا سال صاحب هذا الكتاب؟ سال عن كفتَيْ ميزان الأعمال يوم القيامة، أمن ذهب هي أم من وَرِق؟ فكتبتُ إليه: حدثنا مالك، عن ابن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه". وسَتَرِدُ فتعلم".
وجاء في "ترتيب المدارك" للقاضي عياض في باب تحري مالك في العلم والفتيا والحديث وورعه فيه وإنصافه 1: 191 و 2: 30 "وسأل مالكاً رجل عن رجل وطِئَ دجاجة ميتة، فاُخرِجَتْ منها بيضة، فأفْقِسَتْ البيضة عنده عن فرخ، أياكلُه؟ فقال مالك: سَلْ عما يكون، ودع ما لا يكون. وسأله آخر عن نحو هذا فلم يُجبه، فقال له: لم لا تجيبني يا أبا عبد الله؟ فقال له: لو سألت عما تنتفعُ به لأجبتك".
وجاء في 2: 145 منه "وسأله رجل عمن قال لآخر: يا حِمَار؟ قال: يُجْلَدُ. قال: فإن قال له: يا فَرَس؟ قال: تُجلَدُ أنت، ثم قال: يا ضعيف! وهل سمعت أحداً يقول لآخر: يا فرس؟! ".
وجاء في "الآداب الشرعية" لإبن مفلح الحنبلي 76:2 "قال أحمد بن حنبل:=
اشتغِلْ بما يَعنيك من السؤالِ عن صَلاتِك وأمورِ معاملاتك، ولا تَخُضْ فيما عساه يُهلِكُك لعدمِ استعدادك له.
وإِن كان الباعثُ له شُبهةً عَرضَتْ له: فينبغي أن يقبِلَ عليه، ويَتلطَّفَ به في إِزالتها عنه، بما يَصلُ إِليه عقلُه، فهدايةُ الخلق فَرضٌ على من سُئل.
والأحسَنُ أن يكون البيانُ له باللفظِ دون الكتابة، فإِنَّ اللسان يُفهِمُ ما لا يُفهِمُ القلمُ، لأنَه حَيٌ والقَلَمُ مَوَات، فإِن الخَلْقَ عِيالُ الله، وأقرَبُهم إِليه أنفعُهم لِعياله، لا سيَّما في أمرِ الدين وما يَرجِعُ إِلى العقائد.
وهذا آخِرُ كتاب "الإِحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفاتِ القاضي والإِمام" كتبتُه إِليكم معاشِرَ الِإخوان في الله تعالى، وعليكم السلامُ ورحمة الله وبركاته، وهو حسبُنا ونعم الوكيل، ونسألُه أن يَتغمَّدنَا بعفوِه ورحمتِه أجمعين.
وكان الفراغُ من تعليقه في شهر صفر من شهور سنةِ ثمانِ وثلاثين وسبع مِئة. والحمدُ لله رب العالمين، وصلواتُه وسلامُه على سيدنا محمّد (1).
= سألني رجل مرة عن ياجوج ومأجوج، أمسلمون هم؟ فقلت له: أحْكَمْتَ العلم - كلَّهُ - حتى تسأل عن ذا؟! ".
قال الحافظ ابن حجر: "وقد ذَمَّ السلف البحثَ عن أمورِ معيَّنة، ورد الشرعُ بالإيمان بها، مع تركِ كيفيتها، ومنها ما لا يكون له شاهدٌ في عالَم الحِسّ، كالسؤالِ عن الساعة، والرُّوح، ومُدَّةِ هذه الأمة، إلى أمثالِ ذلك، مما لا يُعرَفُ إلَّا بالنقل الصِّرْف، وأكثَرُ ذلك لم يَثبُت فيه شيء، فيجب الإيمانُ به بغير بحث". انتهى من "فيض القدير" للمناوي 6: 355 عند حديث "هلك المتنطعون".
(1)
هذه خاتمة مخطوطة الأحمدية بحلب، التي سبق الحديثُ عنها وعن أخواتها في "التقدمة". وكاتبُها هو ناسخ كتاب "الأُمنِيَّة في إدراك النيَّة" للقرافي أيضاً الذي يلي =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= كتابَ "الإِحكام" هذا في المخطوطة كما تَشهد بذلك وَحْدَةُ الخط في الكتابين، والكاتبُ كما جاء في آخر كتاب "الأمنية" هو:" العبدُ الفقير إلى الله تعالى عبد الرحمن بن عباس بن عبدالرحمن". نسخهما في صفر من سنة 738. وكتِبَ في نهاية نسخة "الإحكام" بقلم ناسخها المذكور بحبرِ مغاير ما نصُّه: "بلغَتْ المعارضَةُ له مطالعةً مع مراجعةِ المنقولِ منه، وكان فيه سَقَمٌ فصَحَّتْ هذه النسخة بحسب الإِمكان ولله الحمد والمنة".
أمَّا مخطوطة مكتبة شيخ الإِسلام عارف حكمت في المدينة المنورة، فهذه خاتمتها:"وهذا آخِرُ كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإمام. والحمدُ لله حق حَمْدِه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، وكتبما إبراهيمُ بن نباتة عفا الله عنه".
وجاء بعد هذا في حاشية الصفحة إلى اليمين بخطٍّ مغربي: "بلغَتْ المقابلةُ بأصله جهدَ الإستطاعة والحمدُ لله" ثم كتِبَ تحت العبارة السابقة بخط عادي: "بلَغَ مقابلةَ بنسخةِ أخرى". وجاء في مواضع كثيرة من حواشي النسخة الإشارة إلى مجالسِ قراءتها بهذه العبارة: "بلغَ مقابلةً مرَّة ثانية".
وأما خاتمةُ مخطوطة مكتبة الأزهر فهي: "وهذا آخِرُ كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرُّفِ القاضي والإِمام. كتبتُه إليكم معاشرَ الإِخوان في الله تعالى عليكم السلام. نَجَزَ في يوم الثلاثاء المبارك تاسع عشر ربيعٍ الآخِرِ سنة خمسِ وألْفٍ خُتِمَتْ بالخير الصِّرفْ، بجاه سيدنا محمد وآله وصحبه، وشيعته ووارثيه وحِزبه، على يدِ فقيرِ رحمة ربّه وأسيرِ وَصْمَةِ ذنبِه، محمد بن محمد بن عبد الباقي بن عبد المنعم بن برهان الدين بن فتح الدين الخالدي القرشي المالكي، خادم الشريعة الطاهرة يومئذِ ببابِ الشَّعْريَّة بمصر المحميَّة، القاهرة المحروسة، لا زالتْ ربوعُها مأنوسة، بجاه خير الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم والتابعين آمين".
وجاء في خاتمة مخطوطة دار الكتب المصرية، وهي أصل النسخة التي طبعت بمصر عام 1357: "قال ناسخه: وهذا آخِرُ كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= وتصرُّف القاضي والإِمام كتبته إليكم معاشَر الإِخوان في الله تعالى عليكم السلام. تحريراً في يومِ الأربعِ 11 من شهر صفر 1173 والله الموفق للإِتمام، والميسر للإختتام وصلَّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلَّم".
يقول العبدُ الفقير إلى الله تعالى عبد الفتاح بن محمد أبو غدة - عفا الله عنه وعن والديه، وأكرمهم بإحسانه يوم القدوم عليه -: فرغتُ من خدمةِ هذا الكتاب والمقابلةِ بين نُسَخِه والتعليقِ عليه بما تيسَّر، في أواخر رجب من سنة 1386، في السجن الحربي في بلدة تَدمُر في قلبِ بادية الشام قُربَ مدينة حمص، معتقلاً في سبيل الله والإِسلام.
وقد داهمني الظَّلمَةُ ليلاً، وكان أقربَ شيء إليَّ وأنا أَخرجُ بعد منتصف الليل من بيتي إلى المعتقل: كتابُ "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام" من نسختي التي نسختها وقابلتها بأربع نُسَخ مخطوطة، وأَثبتُّ عليها كلَّ المغايرات بين النسخ، فاصطحبتُها معي، وكتابٌ آخرُ هو كتابُ "قواعد في علوم الحديث" لشيخنا العلامة المحدِّث الفقيه الجليل مولانا الشيخ ظَفَر أحمد التَّهَانَوِي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
ولمَّا أُودِعتُ في المعتقل قرأتُ هذا الكتاب "الإِحكام"، قراءة بحث ودرس لنصوصه ومغايراتِ نُسَخِه، وعلَّقتُ عليه بما يُستطاع لمثلي في تلك الحال. ثم فرَّج الله عني بعد سنةٍ إِلا شهراً، فأضفتُ إليه بعد خروجي من المعتقل، في بلدي حلب: بعض التعليقات المتمِّمة، فاكتمل بحمد الله على الوجه الذي خَرَج عليه في الطبعة الأولى سنة 1387، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، ونعوذ بالله من حال أهل النار.
وهذه الطبعة الثانية الممتازة عن الطبعة الأولى بزيادةِ التعليقاتِ والتصويباتِ الكثيرة الهامة جداً، التي استفدتها من النسخة المخطوطة المغربية - الخامسة - التي وقفتُ عليها في الخزانة العامة بالرباط في المغرب: فرغتُ من النظر فيها ومن خدمتها للطباعة - سوى مراجعات يسيرة - في مدينة فان كوفر من كندا سنة 1409. ثم لم يتيسر في إتمام إنجازها لشواغل علمية، وأسفار اضطرارية، إِلا في مدينة تورنتو من كندا أيضاً سنة 1414، فأكرمني الله تعالى بإتمام خدمتها وإكمال نَضْرَتها على الوجه الذي يراه القارئ الكريم. راجياً من الإخوة المستفيدين دعواتِهم، ومن الأفاضل العلماء المفيدين إفاداتِهم، والله يجزي المحسنين، والحمد لله رب العالمين.