الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ الخَامِسِ وَالْعِشْرُونْ
ما الفرقُ بين تصرُّفِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بالفُتيا والتبليغ، وبين تصرُّفِه بالقضاء، وبين تصرُّفِه بالِإمامة؟ وهل آثارُ هذه التصرُّفات مختلِفةٌ في الشريعة والأحكامِ أو الجميعُ سواءٌ في ذلك؟ وهل بين الرسالة وهذه الأمور الثلاثةِ فَرْقٌ أو الرسالةُ عَيْن الفُتيا؟ وإِذا قلتم: إِنها عَيْن الفُتيا أو غيرُها، فهل النُبوَّة كذلك أو بينها وبين الرسالة فَرْقٌ في ذلك؟ فهذه مقامات جليلة، وحقائقُ عظيمة شريفة، يَتعيَّن بيانُها وكشفُها والعنايةُ بها، فإِنَّ العلم يَشْرُفُ بشرف المعلوم (1).
جَوَابُهُ
أنَّ تصرُّف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفُتْيا هو إِخبارُه عن الله تعالى بما يَجِدُهُ في الأدلَّةِ من حُكم الله تبارك تعالى، كما قلناه في غيره صلى الله عليه وسلم من المُفتين.
وتصرُّفُهُ صلى الله عليه وسلم بالتبليغ هو مقتضى الرسالة، والرسالَةُ هي أَمْرُ الله تعالى له بذلك التبليغ. فهو صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ عن الحقّ للخلقِ في مقامِ الرسالةِ: ما وَصَل إِليه عن الله تعالى. فهو في هذا المقام مبلِّغٌ وناقلٌ عن الله تعالى. ووَرِثَ عنه صلى الله عليه وسلم هذا المقامَ المحدِّثون رُواةُ الأحاديثِ النبويةِ وحَمَلَةُ الكتابِ العزيز لتعليمه
(1) هذا السُّؤَالُ بتقاسيمه الأربعة وجوابه بالأمثلة والتفصيل، استقاه الإِمام ابن القيم في كتابه "زاد المعاد" 2: 456 - 458، وذكره بتلخيص وإجمال عَقِبَ ذكرِهِ غزوة حُنَين، دون أن يشير إلى مُنشئِه ومُفَصِّله الإمامِ القرافي - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -.
للناس، كما وَرِثَ المفتي عنه صلى الله عليه وسلم الفُتْيا.
وكما ظهَرَ الفرقُ لنا بين المفتي والراوي، فكذلك يكون الفرقُ بين تبليغه صلى الله عليه وسلم عن رَبِّه وبين فتياه في الدين. والفرقُ هو الفرقُ بعينه، فلا يَلْزَمُ من الفُتيا: الروايةُ، ولا مِن الرواية: الفُتيا، من حيث هما روايةٌ وفُتيا.
وأما تصرُّفُه صلى الله عليه وسلم بالحُكم فهو مغايرٌ للرسالة والفُتيا. لأنَّ الفُتيا والرسالة تبليغٌ محضٌ واتِّباعٌ صِرْف، والحكمُ إِنشاءٌ وإِلزامٌ من قِبلَهِ صلى الله عليه وسلم بحسب ما يَسْنَح من الأسباب والحِجَاج، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم:"إِنكم تختصمون إِلي، ولعلَّ بعضَكم أن يكون ألحنَ بحُجَّتِه من بعض؟ فمن قَضَيتُ له بشيء من حق أخيه فلا يأخذْه إِنما أقتطع له قطعةً من النار! "(1).
(1) رواه البخاري في ستة مواضع من "صحيحه" عن أم سَلَمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، في كتاب المظالم في باب إثم من خاصم في باطل وهو يعلم 5: 77 بشرح "فتح الباري"، وفي كتاب الشهادات في باب من أقام البينة بعد اليمين 5: 212، وفي كتاب الحِيَل في باب إذا غصَبَ جارية فزَعَم أنها ماتت 12: 299، وفي كتاب الأحكام في باب موعظة الإِمام للخصوم 139:13، وفي باب من قُضي له بحق أخيه فلا يأخذه 13: 151، وهنا استوفى الحافظ ابن حجر شرحَ هذا الحديث، وفي باب القضاء في
كثير المال وقليله 13: 156.
ورواه عنها أيضًا مسلم في "صحيحه" في كتاب الأقضية في باب بيان أن حكم الحاكم لا يُغَيِّرُ الباطنَ 12: 4 - 7 من "شرح صحيح مسلم" للنووي. وأبو داود أيضًا في الأقضية في باب في قضاء القاضي إذا أخطأ 3: 301 - 302. والنسائي في كتاب آداب القُضاة في باب الحكم بالظاهر 8: 233، وفي باب ما يقطع القَضاء 8: 247. والترمذي في أبواب الأحكام في باب ما جاء في التشديد على من يُقضَى له بشيء ليس له أن يأخذه 83:6. وابن ماجه في كتاب الأحكام في باب قَضِيَّة الحاكم لا تُحِلُّ حرامًا ولا تُحرِّم حلالاً 2: 777. =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ورواه عنها أيضاً مالك في "الموطَّأ" في كتاب الأقضية في باب الترغيب في القضاء بالحق 2: 106. والحاكم في "المستدرك" في كتاب الأحكام 4: 95، والدارقطني في (سننه) في كتاب الأقضية والأحكام 239:4. وأحمد في "مسنده" 6: 290 و 307 و 308 مختصراً، و 320 مطولاً. والطحاوي في "شرح معاني الآثار المختلِفَةِ المأثورة" في كتاب القضاء والشهادات في باب الحاكم يحكم بالشيء فيكون في الحقيقة بخلافه في الظاهر 2: 287 وفي "مُشْكِل الآثار" 1: 329 - 330. وروايةُ أحمد والطحاوي في "مشكل الآثار" أتمُّ الروايات جميعاً وهذه روايةُ أحمد في "مسنده" 6: 320، وما بين الهلالين زيادة من رواية الطحاوي والبخاري ومسلم وأبي داود والنسائي:
"عن أمّ سَلمَة رضي الله عنه اقالت: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم خصومةَ بباب حُجرته، فخرج فإذا رجلان من الأنصار جاءا يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريثَ بينهما قد دَرَستْ ليس عندهما بينة (إلا دعواهما، في أرضِ قد تقادَمَ شأنُها، وهلَكَ من يَعرف أمرَها)، فقال (لهما) رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنكم تختصمون إلي، وإنما أنا بَشَر، (ولم يُنزَل عليَّ فيه شيء، وإني إنما أقضي بينكم برأي فيما لم يُنزَل عليَّ فيه)، ولعل بعضكم (أن يكون) ألحن:(أبلَغَ) بحُجته - أو قال: لحُجتِه - من بعض، (فأحسَبُ أنه صادق فأقضي له)، فإني (إنما) أقضي بينكم على نحوِ ما أسمع، فمن قَضيتُ له من حق أخيه شيئاً (ظُلماَ بقوله) فلا يأخُذْه، فإنما أقطَعُ له قطعةَ من النار، (يُطوَّقُ بها من سَبع أرَضِين) يأتي بها سِطَاماً في عنقه يوم القيامة، (فليأخذها أو لِيَدَعها).
فبكى الرجلان (جميعاً لمَّا سَمِعَا ذلك) وقال كل واحد منهما: (يا رسول الله) حَقِّي (هذا الذي أطلُبُ) لأخي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمَا إذْ قلتما (هذا) فاذهبا واقتسما، ثم توخَّيا الحق (فاجتهِدَا في قَسمِ الأرض شَطْرَين)، ثم اسْتَهِما، ثم ليُحَلل كلُّ واحد منكما صاحبَه".
وقولُه صلى الله عليه وسلم: (سِطَاماً) قال ابن الأثير في "النهاية" في تفسيره: "السِّطامُ، - ويُروَى: الإِسْطام - هي الحديدةُ التي تُحرَّكُ بها النار وتُسَعَّر. أي أقطَعُ له ما يُسَعَّرُ به النارَ على نفسِه ويُشعلُها، أو أقطعُ له ناراً مُسعَّرة، وتقديرُهُ: ذاتَ إسطام". انتهى. ويقع هذا =
دَلَّ ذلك على أن القضاء يَتْبَعُ الحِجاجَ وقوَّة اللَّحَنِ بها، فهو صلى الله عليه وسلم في هذا المقام مُنشِئ، وفي الفُتيا والرسالةِ مُتَّبِعٌ مُبلِّغٌ، وهو في الحكم أيضاً مُتبعٌ لأمرِ الله تعالى له بأنْ يُنشِئَ الأحكام على وَفْق الحِجَاجِ والأسباب،
= اللفظ الكريم محرَّفاً كثيراً لغرابته، كما وقع فيإ تفسير ابن كثير" 1: 550 في تفسير سورة النساء عند قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ
…
} فقد وقع فيه (يأتي بها انتظاماً في عنقه). وقد استدل به الحافظ ابن كثير لمن قال من علماء الأصول: إنه صلى الله عليه وسلم كان له أن يَحكُم بالإجتهاد.
وإنما أطلتُ في تخريج هذا الحديث، واستوعبتُ رواياته، وذكرت عناوين الأبواب التي أوردها العلماء فيها، لأن هذا الحديث دستور نبوي من دساتير القضاء في الِإسلام، والكتابُ:"الإِحكام" كتابُ قضاء، فمن النافع جداً أن يُذكر فيه هذا الدستور العظيم عند صِدق المناسبة، وأردتُ بذكر عناوين الأبواب - وهي بمثابة شرح وجيز لمضمونه - بيانَ أفهام مُحدثينا وفقهائنا لهذا الحديث وطُرُقِ استنباطِهم، - رَحِمَهُمْ اللهُ تَعَالَى - وجزاهم عن الإسلام خيراً.
فائدة وتتمة، تتعلَّقُ بسِياقَة حديثِ أم سَلَمَة حيث أدخلتُ بعضَ رواياتِهِ في بعض، وذلك جائز:
قال الحافظ ابن كثير - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "اختصار علوم الحديث" ص 164، في فروع (النوع السادس والعشرين): "فَرْعٌ آخرَ: إذا رَوَى الحديثَ عن شيخينِ فأكثَر، وبين ألفاظِهم تبايُن، فإن ركَبَ السِّيَاقَ من الجميع، كما فَعَل الزهريُّ في حديثِ الإِفك، حين رواه عن سعيدِ بن المسيب وعُرْوَةَ وغيرِهما عن عائشة، وقال: كل قد حدَّثني طائفةَ من الحديث، فدَخَلَ حديثُ بعضِهم في بعض، وساقَهُ بتمامِهِ: فهذا سائغ، فإن الأئمةَ تلقوْهُ عنه بالقبول، وخرَّجوه في كتبهم الصِّحاحِ وغيرِها.
وللراوي أن يُبينَ كل واحدِ منها عن الأخرى، ويذكُرَ ما فيها من زيادة أو نقصان
…
، وهذا مما يُعنى به مسلم في "صحيحه"، وأما البخاري فلا يُعرِّجُ عليه، ولا يلتفِتُ إليه إلا نادراً". انتهى باخصار. ونحوُهُ في "تدريب الراوي" للحافظ السيوطي ص 330 - 331، في آخر فروع (النوع السادس والعشرين).
لا أنه مُتَّبعٌ في نَقْلِ ذلك الحكمِ عن الله تعالى، لأنَّ ما فُوِّضَ إِليه من الله تعالى لا يكون منقولاً عن الله تعالى.
ثم الفَرْقُ من وجه آخر بين الحكم والفُتيا: أن الفُتيا تَقْبَلُ النَّسْخ، والحكمُ لا يقبلُهُ، بل يقبلُ النقضَ عند ظهور بطلان ما رتِّبَ عليه الحكم، والفُتيا لا تَقْبلُه، فصار مِن خصائص الحكم: النقضُ، ومن خصائص الفُتيا: النَّسخُ.
وهذا في فُتياه عليه السلام خاصّةً ومَنْ كان في زمانه. وأمّا الفتيا (1) بعد وفاته صلى الله عليه وسلم فلا تَقبل النسخ لتقرُّر الشريعة. فهذا أيضاً فَرقٌ حسن بين القضاء والفُتيا من حيث الجملةُ في جنسيهما، غير أنه لا يتَقرُّرُ في كل فردٍ من أفراد الفُتيا، ومتى ثَبَت الفرقُ بين الجنسين حصَلَ الفرقُ بين الحقيقتين فلا لَبْس.
وأما الرِّسَالةُ من حيث هي رسالة فقد لا تَقبلُ النسخ، بأن تكون خبراً صِرْفاً. فإنه تقبل التخصيص دون النسخ على الصحيح من أقوال العلماء، وقد تَقبَلُه إِن كانَتْ متضمِّنةً لحكم شرعي. فصارت الرسالةُ أعمَّ من الفُتيا ومُبايِنةً لها. فظهرت الفروق بين الرسالة والفتيا والحكم.
وأما النبوَّة فكثيرٌ من الناس مَنْ يَعتقدُ أنها عبارةٌ عن مجرَّدِ الوحي من الله تعالى للنبي، وليس كذلك، بل قد يَحصُلُ الوحيُ من الله تعالى لبعض الخلق من غير نبوّة، كما كان الوحيُ يأتي مريمَ ابنةَ عمران رضي الله عنها في قصه عيسى عليه السلام، وقال لها جبريل عليه السلام:{إِنما أنا رَسُولُ رَبّك ليَهَبَ (2) لكِ غُلاماً زكيَّاً} (3). وقال في موضع آخر: {إِن الله
(1) في نسخة (ر): (وأما القضاء
…
).
(2)
هذه قراءة نافع.
(3)
من سورة مريم، الآية 19.
يُبَشركِ} (1). مع أنَّ مريم رضي الله عنها ليسَتْ نبيَّةً على الصحيح.
وفي"مُسْلم": "إن الله تعالى بَعَثَ مَلَكاً لرجُلٍ على مَدْرَجَتِه، وكان خَرَج لزيارة أخٍ له في الله تعالى، وقال له: إنَ الله تعالى يُعْلِمُك أنه يُحِبُّك لحبّك لأخيك في الله تعالي"الحديث بطوله (2)، وليس ذلك نُبوَّة.
ولو بَعَثَ الله تعالى لأحدِنا مَلَكاً يُخبره بمذهب مالك في واقعة معيَّنةٍ، أو بضالةٍ ذهبَتْ له: لم يكن ذلك نُبوة، وإنما النبوة - كما قاله العلماء الربانيون - أن يُوحِي الله تعالى لبعضِ خَلْقه بحُكمٍ أُنْشئ لمسألةٍ، يختصُ به، كما أوحى الله تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} (3).
فهذا تكليفٌ لمحمدٍ يَختصُّ به في هذا الوقت. قال العلماء: فهذه نبوَّة وليسَتْ رسالة، فلمَّا أنزل الله تعالى عليه:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} (4). كان هذا رسالة، لأنه تكليف يتعلَّقُ بغير الموحَى إليه، فتقدَّمَتْ نبوَّةُ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم على رسالتِه بمُدَّة، ولذلك قال العلماء: كلُّ رسولٍ نبي، وليس كلُّ
(1) من سورة آل عمران، الآية 45.
(2)
ولفظُه في "صحيح مسلم" في كتاب البِر والصِلَة والآداب في باب فضل الحب في الله تعالى 16: 124 "عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً زار أخاً له في قَرْيةٍ أخرى، فأرصَدَ - أي أقعَدَ - الله له على مَدْرجتِه - أي طريقِهِ - مَلَكاً، فلما أتى عليه قال: أين تُريد؟ قال: أريدُ أخاً لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمةٍ تَرُبُّها - أي تقومُ بإصلاحها وتَنهضُ إليه بسببها -؟ قال: لا، غيرَ أني أحببتُه في الله عز وجل، قال: فإني رسول الله إليك بأن الله قد أحبَّك كما أحببتَه فيه".
(3)
من سورة العلق، الآية 1 - 2.
(4)
من سورة المدثر، الآية 1 - 2.
نبيّ رسولاً، لأنَّ كلَّ رسولِ كُلِّفَ تكليفاً خاصاً به وهو تبليغُ ما أُوحي إِليه. فظهَرَ الفرقُ بين النُّبوَّة وبين الرسالة والفتيا والحكم.
وأما تصرُّفه صلى الله عليه وسلم بالإِمامةِ فهو وصفٌ زائد على النبوَّةِ والرسالة والفُتيا والقضاءِ، لأنَ الإِمام هو الذي فُوّضَتْ إِليه السياسةُ العامةُ في الخلائق، وضَبْطُ مَعاقِدِ المصالح، ودَرْءُ المفاسد، وقَمْعُ الجُنَاة، وقَتْلُ الطُّغَاة، وتوطينُ العِبَاد في البلاد، إِلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس.
وهذا ليس داخلاً في مفهوم الفُتيا ولا الحُكمِ ولا الرسالةِ ولا النبوَّة، لتحققِ الفُتيا بمجرد الِإخبار عن حُكمِ الله تعالى بمقتضى الأدلة، وتحقُّقِ الحُكم بالتصدّي لفَصْل الخصومات دون السياسة العامَّة، لا سيما الحاكمُ الذي لا قُدْرة له على التنفيذ كالحاكمِ الضعيفِ القُدرة على الملوك الجبابرة، بل يُنشيءُ في نفسه الإِلزام على ذلك المَلِك العظيم، ولا يَخْطُرُ له السعيُ في تنفيذه، لتعذُّر ذلك عليه.
بل الحاكُمِ من حيث هو حاكمٌ: ليس له إلَّا الإنشاء، وأما قُوَّةُ التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً، فقد يُفوضُ إِليه التنفيذ، وقد لا يَندرجُ في وِلايته (1)، فصارَتْ السَّلْطَنَةُ العامَّة التي هي حقيقةُ الإمامةِ مباينةً للحُكم من حيث هو حُكم.
أمَّا إِمامٌ لم تُفوَّض إليه السياسةُ العامة فغيرُ معقولٍ إِلَّا على سبيل إِطلاقِ الِإمامةِ عليه مجازاً، والكلامُ إِنما هو في الحقائق.
وأمَّا الرسالَةُ فليس يَدْخُل فيها إِلَّا مجردُ التبليغِ عن الله تعالى، وهذا
(1) هذه العبارة من قوله في هذا المقطع: (لا سيما الحاكمُ
…
) إلى هنا منقولة بتصرف يسير في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13.
المعنى لا يَستلزم أنه فُوِّضَ إِليه السياسةُ العامة، فكم من رُسُلٍ للَّهِ تعالى على وجهِ الدهرِ قد بُعثوا بالرسائل الربانيَّة، ولم يُطلَب منهم غيرُ التبليغ لِإقامة الحُجَّةِ على الخَلْق، من غير أن يُؤمَروا بالنظر في المصالح العامة.
وإِذا ظهر الفرقُ بين الِإمامة والرسالةِ فأولَى أن يَظهر بينها وبين النبوَّة، لأنَّ النبوَّة خاصةٌ بالموحَى إليه لا تعلقَ لها بالغير، فقد ظهَر افتراقُ هذه الحقائق بخصائصها (1).
(1) هذا، وليس من هذه التصرفات جميعاً ما قاله صلى الله عليه وسلم في ترك تأبير النخل، وإنما هو من أمور الدنيا فحسْب، ولذلك فوضه إلى العالِمين به قائلَا لهم:"أنتم أعلمُ بأمْرِ دنياكم".
روى مسلم في "صحيحه" 116:15 - 117، في كتاب الفضائل، في (باب وجوب امتثال ما قاله شرعاً دون ما ذكره عيَنِ من مَعَايِشِ الدنيا على سبيلِ الرأي):"عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: مررتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقومِ على رُؤُوسِ النَّخْل، فقال: ما يَصنعُ هؤلاء؟ فقالوا: يُلقِّحونَهُ يجعلون الذكَرَ في الأنثى فتَلْقح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أظنُّ يُغني ذلك شيئاً، قال: فأخبِروا بذلك فتركوه، - فخرج شِيْصَاً، أي رديئاً ضعيفاً - فأخبِرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: إن كان يَنفعُهم ذلك فليصنعوه، فإني إنما ظَنَنْتُ ظناً، فلا تؤاخذوني بالظنّ، ولكنْ إذا حدَّثتكم عن الله شيئاً فخُذُوا به، فإني لن أكذِبَ على الله عز وجل ".
وجاء بعدها في روايةِ رافع بن خَدِيج: "قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيراً، فتركوه فنفَضَتْ - أي أَسْقَطَتْ النخلُ ثَمرَها -، قال: فذكروا ذلك له فقال: إنما أنا بَشَر، إذا أمرتكم بشيء من دِينِكم فخذوا به، وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بَشَر". وفي روايةِ عائشة وأنسِ: "قال: أنتم أعلَمُ بأمْرِ دنياكم".
قال النووي في "شرح صحيح مسلم" تحت عنوان هذا الباب الذي بوَّبه على الحديث المذكور 116:15 "قال العلماء: قولُه صلى الله عليه وسلم (من رأيي) أي في أمرِ الدنيا ومَعَايِشِها، لا على التشريع. فأمَّا ما قاله باجتهاده صلى الله عليه وسلم ورآه شرعاً يجبُ العمل به. وليس =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= إبارُ النخل من هذا النوع، بل من النوع المذكور قبله. قال العلماء: ولم يكن هذا القولُ خبراً، وإنما كان ظناً، كما بينه في هذه الروايات. قالوا: ورأيُه صلى الله عليه وسلم في أمور المَعَايِش وظَنُّه كغيره، فلا يَمتنعُ وقوعُ مثلِ هذا، ولا نَقْصَ في ذلك، وسبَبُه صلى الله عليه وسلم في هَمَّهِ بالآخرةِ ومَعَارِفِها، والله أعلم".
وقال المناوي في "فيض القدير" 3: 51 "قال بعض العلماء: تبين من قوله صلى الله عليه وسلم: أنتم أعلم بأمر دنياكم" أن الأنبياء وإن كانوا أحذَقَ الناس في أمرِ الوحي والدعاءِ إلى الله تعالى، فهم أسْذَجُ الناس قلوباً من جهة أحوال الدنيا، فجميعُ ما يَشرعونه إنما يكون بالوحي، وليس للأفكارِ عَليهم سُلطان". انتهى.
قال الشوكاني في "إرشاد الفحول" ص 238 و 2: 313، "وأجمعوا على أنه يجوزُ للأنبياءِ صلواتُ الله عليهم الإجتهادُ فيما يتعلقُ بمصالح الدنيا وتدبيرِ الحروب ونحوِها، حكَى هذا الإِجماعَ سُلَيم الرازي وابنُ حزم. وذلك وقَعَ من نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنه ما كان قد عَزَم عليه من تركِ تلقيح ثمار المدينة".
ومن لوازم أحكام الإجتهاد جوازُ المخالفة، إذ لا قَطْعَ بأن ما يكونُ اجتهاداً هو حُكمُ الله تعالى في تلك المسألة، لكونِ الاجتهادِ مُحتمِلاً للإصابةِ ومُحتمِلاً للخطأ. كيف وقد صرح صلى الله عليه وسلم بقوله:"وإذا أمرتكم بشيءٍ من رأيي فإنما أنا بَشَر".
ومن اجتهاده صلى الله عليه وسلم في تدبير الحروب: ما وقع منه صلى الله عليه وسلم في غزوة بَدْر، إذ نَزَل على أدنى ماءٍ من مِياهِ بَدْر إلى المدينة، فقال له الحُبَابُ بن المُنْذِر: يا رسول الله، أهذا مَنْزِلٌ أنزلكَهُ اللهُ، ليس لنا أن نتقدَّمَه ولا نتأخَّرَ عنه؟ أم هو الرأيُ والحَرْبُ والمَكِيدة؟ فقال: بل هو الرأيُ والحَرْبُ والمكيدة.
فقال: يا رسول الله، إن هذا ليس بمنزل، فانهَضْ بنا حتى نأتيَ أدنَى ماء من القومِ فنَنْزِلَه، ونُغَوِّرَ ما وراءه من القُلُب - أي الآبار -، ثم نبنيَ عليه حَوْضاً فنملأه، فنَشرَبُ ولا يشربون. فاستحسَنَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هذا الرأي وفعَلَه. كما في "البداية والنهاية" لإبن كثير 3: 267، وغيرِها.
وأما آثارُ هذه الحقائق في الشريعة فمُخْتلفة:
فما فَعَله عليه السلام بطريق الإِمامةِ كقسمةِ الغنائم، وتفريقِ أموال بيت المال على المصالح، وإقامةِ الحدود، وترتيبِ الجيوش، وقتالِ البُغَاة، وتوزيع الإِقطاعات في القُرى والمعادن، ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدٍ الإِقدامُ عليه إلَّا باذنِ إِمامِ الوقت الحاضر (1)، لأنه صلى الله عليه وسلم إِنما فَعَله بطريقِ الإمامة، وما استُبِيحَ إِلَّا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرراً لقوله تعالى:{وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} (2).
وما فَعَله عليه الصلاة والسلام بطريق الحكم كالتمليكِ بالشفعة، وفسوخِ الأنكحةِ والعقود، والتطليقِ بالإِعسار عند تعذُرِ الإِنفاقِ والإِيلاء والفَيئة (3). ونحو ذلك: فلا يجوز لأحدِ أنْ يقدِم عليه إِلا بحكم الحاكم في الوقت الحاضر (4)، اقتداءَ به صلى الله عليه وسلم، لأنه عليه السلام لم تقرر تلك الأمور إلا بالحكم، فتكون أمَّتُه بعدَهُ صلى الله عليه وسلم كذلك.
وأما تصرُّفُهُ عليه الصلاة والسلام بالفُتيا والرسالةِ والتبليغِ، فذلك شَرْعٌ يَتقرّرُ على الخلائق إلى يوم الدين، يَلزمُنا أن نَتْبَع كلَّ حُكمِ مما بلَّغه إِلينا عن ربِّه بسببه، من غير اعتبار حُكمِ حاكمٍ ولا إِذن إِمام، لأنه صلى الله عليه وسلم مبلِّغٌ لنا ارتباطَ ذلك الحكمِ بذلك السبب، وخَلَّى بين الخلائق وبين ربِّهِم.
(1) هذه العبارة من قوله في أول هذا المقطع: (كقسمة الغنائم
…
) إلى هنا منقولة بتصرف يسير في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13.
(2)
من سورة الأعراف، الآية 158.
(3)
في نسخة (ر): (والتطليق والإيلاء عند تعذُّر الإنفاق والفَيئة).
(4)
في نسخة (ر): (في الوقتِ الخاصّ).