الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونْ
ما الصحيحُ في هذه الأحكامِ الواقعةِ في مذهبِ الشافعي ومالكٍ وغيرِهما، المرتَّبةِ على العوائدِ والعُرفِ اللَّذينِ كانا حاصلينِ حالةَ جزمِ العلماء بهذه الأحكام؟ فهل إِذا تغيَّرتْ تلك العوائد، وصارت العوائدُ تَدُلُّ على ضِدّ ما كانت تدلُّ عليه أوَّلًا، فهل تَبْطُلُ هذه الفتاوى المسطورةُ في كتب الفقهاء ويُفتَى بما تقتضيه العوائد المتجدِّدة؟ أو يقال: نحن مُقلِّدون، وما لنا إِحداثُ شرعِ لعدَمِ أهليتنا للإجتهاد، فنُفتِي بما في الكتب المنقولة عن المجتهدين (1)؟
جَوَابُهُ
أنَّ إِجراءَ الأحكام التي مُدْرَكُها العوائدُ مع تغيُّرِ تلك العوائد: خلافُ الإِجماع وجهالةٌ في الدّين، بل كلُّ ما هو في الشريعةِ يَتْبَعُ العوائدَ: يَتغيَّرُ الحكمُ فيه عند تغيُّرِ العادةِ إِلى ما تقتضيه العادَةُ المتجدِّدةُ (2)، وليس هذا تجديدًا للإجتهاد من المقلِّدين حتى يُشترَطَ فيه أهليةُ الإجتهاد، بل هذه
(1) هذا السؤال وجوابه بكماله منقول في "تبصرة الحكام" 2: 70 - 73، 60 - 64، وأورده صاحبُ "معين الحكام" فيه ص 126 - 127، 161 - 162 باختصار.
(2)
انظر في صدد تغيُّر العرف والعوائد وتغيُّر الأحكام المبنية عليهما كتاب "الفروق" للمؤلف 3: 161 في آخر الفرق (161)، و 3: 283 - 288 في الفرق (191) بين قاعدةِ ما يتبع العقد عرفًا وقاعدة ما لا يتبعه.
قاعدةٌ اجتهدَ فيها العلماء وأجمعوا عليها، فنحن نَتْبَعُهم فيها من غيرِ استئنافِ اجتهاد.
ألا تَرى أنهم أجمعوا على أنَّ المعاملات إِذا أُطلِقَ فيها الثَّمَنُ يُحمَلُ على غالب النقود، فإِذا كانت العادةُ نقدًا معيَّنًا حمَلْنا الإِطلاقَ عليه، فإِذا انتقلتْ العادةُ إِلى غيرِه عيَّنَّا ما انتقلتْ العادَةُ إِليه، وأَلغينا الأوَّلَ (1)، لإنتقالِ العادة عنه.
وكذلك الإِطلاقُ في الوصايا والأَيمانِ وجميعِ أبواب الفقه المحمولة على العوائد، إِذا تغيَّرتْ العادةُ تغيَّرتْ الأحكامُ في تلك الأبواب. وكذلك الدَّعاوى إِذا كان القولُ قولَ من ادَّعى شيئًا لأنه العادَة، ثم تغيَّرت العادةُ: لم يَبق القولَ قول مُدَّعِيه بل انعكسَ الحالُ فيه.
بل ولا يُشترطُ تغيُّرُ العادة، بل لو خرجنا نحن من ذلك البلد إِلى بلَدٍ آخر، عوائدُهم على خلافِ عادةِ البلد الذي كنا فيه أفتيناهم بعادةِ بلدهم، ولم نعتبر عادةَ البلد الذي كنا فيه. وكذلك إِذا قَدِمَ علينا أحدٌ من بلدِ عادَتُه مُضَادَّةٌ للبلد الذي نحن فيه لم نُفتِه إِلَّا بعادةِ بلدِه دون عادةِ بلدنا.
ومن هذا الباب ما رُوي عن مالك: إِذا تنازع الزوجان في قبضِ الصَّداقِ بعد الدخول: أنَّ القولَ قولُ الزوج، مع أنَّ الأصلَ عدَمُ القَبْض. قال القاضي
(1) قال شيخنا وأستاذنا العلَاّمة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء حفظه الله تعالى
ورعاه، فيما كتبه إليَّ تعليقًا على هذا الموضع، ما يلي:
"أي ألغينا اعتبارَ النقدِ الأول، فلا نحمِلُ عليه العقودَ الجديدةَ إذا أُطلِقَ فيها النقدُ المتعاقَدُ به، بل نحمِلُها على النقدِ الذي أصبح هو الغالبَ الرواجِ في العادةِ والتعامل. وليس مُرادُهُ أننا نُلِغي العقدَ الأولَ الذي وقع في ظلِّ العادةِ القديمةِ منصرِفًا إلى ذلك النقدِ السابق، فإنَّ ذلك يَبقَى منصرِفًا إلى النقدِ السابق الذي كان غالبًا عند ذاك التعاقد".
إِسماعيل (1): هذه كانت عادتَهم بالمدينة: أنَّ الرجلَ لا يَدخلُ بامرأته حتى تَقبِضَ جميعَ صَداقها، واليومَ عادتُهم على خِلافِ ذلك، فالقولُ قولُ المرأة مع يمينها، لأجلِ اختلافِ العوائد.
إِذا تقرَّرَ هذا فأنا أسرُدُ لك أحكامًا نَصَّ الأصحابُ على أنَّ المُدْرَك فيها العادة، وأنَّ مُستنَدَ الفُتيا بها إِنما هو العادة، والواقعُ اليومَ خلافُه، فيتعيَّنُ تغيِيرُ الحكم على ما تقتضيه العادَةُ المتجدّدة.
وينبغي أن يُعلَم أنَّ معنى العادة في اللفظ: أن يغلِبَ إِطلاقُ لفظٍ واستعمالُه في معنى حتى يَصِيرَ هو المتبادِرَ من ذلك اللفظ عند الإِطلاق، مع أنَّ اللغة لا تقتضيه، فهذا هو معنى العادة في اللفظ، وهو الحقيقةُ العُرفيَّة،
(1) هو أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن حَمَّاد بن زيد الجَهْضَمي الأزدي، البغدادي القاضي المالكي، من أرفع بيوت العراق علمًا وسُؤددًا في الدين والدنيا. أصلُه من البصرة وبها نشأ، ثم استوطن بغداد وأخذَ عن شيوخها وفقهائها ومحدِّثيها، ورَوَى الحديث ورُوِي عنه، وغدا إمامًا فقيهًا حافظًا محصِّلًا درجةَ الإجتهاد، معدودًا في طبقات القراء وأئمة اللغة، من نظراء المبرِّد، وكان المبرِّد يقول: لولا اشتغالُه برئاسةِ الفقه والقضاء لذهب برئاستنا في النحو والأدب.
تفقَّهَ به أهلُ العراق من المالكية، وعنه انتشر مذهب مالك هناك، وتولَّى قضاء بغداد، وأضيف إليه قضاء المدائن والنهروانات، ثم تولَّى قضاءَ القضاةِ في بغداد إلى آخر حياته، وقد أقام في القضاء نحو خمسين سنة.
له التآليف الكثيرة في مختلِف العلوم، منها "موطأه" و "مسند حديث مالك بن أنس" و "مسند حديث أبي هريرة" و "مسند حديث ثابت البُنَاني" و "كتاب السنن" و "أحكام القرآن" و "معاني القرآن وإعرابُه"، و "المبسوط" في الفقه، وكُتبٌ في الرد على أبي حنيفة ومحمد بن الحسن والشافعي، و "كتاب الأصول" و "كتاب الأموال". ولد سنة 200، وتوفي سنة 282 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
وهو المجازُ الراجحُ في الأغلب، وهو معنى قولِ الفقهاء: إِنَّ العُرف يُقدَّمُ على اللغة عند التعارض، وكلِّ بها يأتي من هذه العبارات.
الحكمُ الأول: بعضُ ألفاظ المُرابحة، وهو قول البائع: بعتُك بوضِيعةِ العشرةِ أحدَ عشر، أو بوَضِيعةِ العشرةِ عشرين أو أكثرَ من ذلك (1). قال الأصحاب: هذا اللفظ يقتضي عادةً أن يأخد لكلِّ أحدَ عشَرَ عشرةً، ويَحُطَّ نصفَ الثمنِ في اللفظ الآخر، ويُلزِمون ذلك المتعاقدَيْنِ من الجانبين بمجرَّد هذا اللفظ لأنه العادة.
وهذه عادةٌ قد بطَلَتْ ولم يَبق هذا اللفظُ يُفهَمُ منه اليومَ هذا المعنى البتة، بل أكثرُ الفقهاء لا يَفهمه فضلًا عن العامَّة، لأنه لا عادَةَ فيه، ولا يُفهَمُ منه ثَمَنٌ معيَّنٌ باعتبار اللغة أيضًا.
فينبغي إِذا وقع هذا العقد بين العامَّة في المعاملات أن يكون العقدُ باطلًا، فإِنه ليس عادتُهم استعمالَه البتة، لأنا طُولَ عُمرِنا لم نسمعه إِلَّا في كتب الفقه، أما في المعاملات فلا. وإِذا لم يكن الثمنُ معلومًا بالعادةِ ولا باللغةِ كان العقدُ باطلًا.
الحكمُ الثاني: في المُرابحة إِذا قال: (بعتُكَ بما قامتْ عليَّ). قالوا: يَصحُّ البيع، ويكون للبائع مع الثمن ما بذَلَه من أُجرة القِصارةِ والكِمادة (2) والطِّرازةِ والخِياطةِ والصَّبغِ ونحوِ ذلك، مما له عينٌ قائمة، ويَستحقُّ له حِصَّتَه من الربح إِن سَمَّى لكلِّ عَشَرةٍ ربحًا (3).
(1) تعرَّض المؤلف لهذا المبحث في كتابه "الفروق" 3: 287 في آخر الفرق (191).
(2)
هي دَقُّ الثوب.
(3)
تعرَّض المؤلف لهذا المبحث في كتابه "الفروق" 3: 286 - 288 في آخر الفرق (191).
وما ليس له عينٌ قائمة إِلَّا أنه يُؤثّر في السُّوقِ زيادةَ رغبةٍ فيه وتنميةً للثمن: فإِنه يَستحقُّهُ ولا يَستحقُّ له حصةً من الربح، نحوُ كِراءِ الحُمولاتِ في النقلِ للبُلدانِ ونحوِه، وما لا يُؤثّر في السوقِ لا يستحقُّه، ولا يكونُ له ربحٌ كأجرةِ الطيّ والشدّ وكِراءِ البيت ونفقةِ البائع على نفسِه.
وهذا التفصيلُ لا يفيده قولُه: (بما قامَتْ على) لغةً، بل يصحُّ هذا البيعُ بهذه العبارة إِذا كان هذا اللفظُ يقتضيه عادةً، فيصيرُ الثمنُ معلومًا بالعادة فيصحُّ البيع، أمَّا اليومَ فلا يُفهَمُ هذا في العادة، ولا يَتعامَلُ الناسُ في أسواقهم بهذه العبارة فلا عادةَ حينئذٍ، فهذا الثمنُ مجهولٌ، فلا يُفتَى بما في الكتب من صحتِهِ وتفاصيله، لإنتقالِ العادة.
الحكمُ الثالث: ما وقع في "المدوَّنة": إِذا قال لامرأته: أنتِ عليَّ حرام أو خَلِيَّة أو بَرِيَّة أو وهبتُكِ لأهلِكِ: يَلزمُه الطلاقُ الثلاثُ في المدخولِ بها، ولا تنفعُه النيَّة أنه أراد أقلَّ من الثلاث (1).
وهذا بناءٌ على أنَّ هذا اللفظ في عُرف الاستعمال اشتَهر في إِزالة العصمة، واشتَهر في العَدَد الذي هو الثلاث، وأنه اشتَهر في الإِنشاء للمعنيين، وانتَقَل عما هو عليه من الإِخبار عن أنها حرامٌ، لأنه لو بقي على ما يَدلُّ عليه لغةً لكان كذِبًا بالضرورة، لأنها حلالٌ له إِجماعًا، فالإِخبارُ عنها بأنها حرام كذبٌ بالضرورة.
وليس مدلولُ هذا اللفظ لغةً إِلَّا الإِخبارَ عن أنها محرَّمة عليه، وأنَّ
(1) توسَّع المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في هذا البحث، في كتابه "الفروق" 3: 152 - 163، في الفرق (161) بين قاعدة ما هو صريح في الطلاق وبين قاعدةِ ما ليس بصريح فيه. فانظره إذا شئت.
التحريم قد دخَلَ في الوجود قَبْلَ نُطقِهِ بهذه الصيغة. وهذا كذِبٌ قطعًا، فلا بُدَّ حينئذٍ أن يقال: إِنها انتقلَتْ في العُرفِ لثلاثة أمور: إِزالةِ العِصمة، والعَدَدِ الثلاث، والإِنشاءِ، فإِنَّ ألفاظ الطلاقِ إِن لم تكن إِنشاءً أو يُرادُ بها الإِنشاء، لا تُزيلُ عصمةَ البتة (1).
وملاحظةُ هذه القاعدة هي سبَبُ الخلاف بين الخَلَف والسلف في هذه المسألة.
إِذا تقرَّرَ هذا: فأنت تعلمُ أنك لا تجدُ الناسَ يَستعملون هنذه الصِّيَغ المتقدمة في ذلك، بل تَمضي الأعمارُ ولا يُسمَعُ أحدٌ يقول لامرأته إِذا أراد طلاقها: أنتِ خَلِيَّة، ولا: وَهَبْتُكِ لأهلك، ولا يَسمَعُ أحدٌ أحدًا يَستعملُ هذه الألفاظ في إِزالة عِصمةٍ ولا في عَدَدِ طَلاقات، فالعُرف حينئذٍ في هذه الألفاظ متفِ قطعًا، وإِذا انتَفى العُرف لم يَبق إِلَّا اللغة، لأنَّ الكلام عندَ عدَم النيَّةِ والبِساط (2).
(1) في نسخة (ر): (فإن ألفاظَ الطلاقِ مَهْمَا لم تكن
…
). و (مَهْما) هنا بمعنى (إذا)، كما هو المرادُ هنا من لفظِ (إن لم تكن
…
).
(2)
البِساطُ أو بِساطُ اليمين - كما ذكره السادة المالكية في باب الأَيمان - هو فيما إذا عُدِمَتْ النيَّةُ الصريحة للحالف اعتُبِر بِساطُ يمينه في تخصيص كلامه أو تقييده أو تعميمه، كما يُعمَل على النيَّة من بِرّ أو حِنثِ فيما يُنَوَّى فيه وغيرِه.
والبِساطُ: هو السبَبُ الحاملُ على اليمين. وليس هو بانتقالٍ عن النية، إنما هو مَظِنَّةٌ لها وتحويمٌ عليها، فهو متضمن للنية بل هو نيَّةٌ حُكمية ضِمنيةٌ محفوفة بالقرائن، بحيث إذا تذكرها الحالفُ وجدَهُ - أي البساطَ - مناسِبًا لها.
وضابطُهُ: صِحةُ تقييدِ يمينِ الحالف بقوله: (ما دام موجودًا). أي ذلك الشيءُ الحاملُ له على اليمين. بشرطِ أن لا يكون للحالف مدخلٌ في السبب الحامل على اليمين. =
واللغةُ لم توضع فيها هذه الألفاظ لهذه المعاني التي قرَّرها مالك في "المدوَّنة" بالضرورة. ولا يَدَّعي أنها مدلولُ اللفظ لغةً إِلَّا من لا يَدري اللغة،
= وأمثلته: ما إذا حلف: لا أشتري لحمًا، أو: لا أبيعُ في السوق. من أجل وجودِ الزحمة فيها، أو من أجل وجود ظالم حمله على الحلف. لصحة تقييد يمينه بقوله:(ما دامت هذه الزحمة موجودة) أو (ما دام هذا الظالم موجودًا). وكما لو كان خادمُ المسجد أو الحمَّام يؤذي إنسانًا كلَّما دخله، فقال ذلك الإنسان: واللهِ لا أدخلُ المسجد أو هذا الحمَّام. فإنه يصح أن يقيَّد بقوله: (ما دام هذا الخادمُ موجودًا) وكما لو كان فاسق في مكان، فقال الزوجُ لزوجته: إن دَخَلْتِ هذا المكانَ فأنتِ طالق. فإذا زال الفاسقُ منه ودخلَتْه لم يحنث، لأنه في قوَّة قوله:(ما دام هذا الفاسقُ موجودًا في ذلك المكان).
وكما لو قيل له: لحمُ البقر داءٌ كما ورد في الحديث، فلا تأكُلْ منه فإنه يؤذيك، فحلف: لا آكل لحمًا. ولم ينو تعميمًا ولا تخصيصًا. فالسبَبُ الحاملُ له على اليمين هو اللحمُ المؤذي، فيُخصَّصُ العامُّ بلحم البقر، فلا يحنث بلحم الطيرِ والضأنِ ونحوِهما.
ومثال التعميم لكلام الحالف: ما إذا مَنَّ رجلٌ على آخَرَ، فحلف الذي امتُنَّ عليه أنه لا يَشرَبُ لذلك المانِّ عليه ماءً، فإنه يحنثُ بكل شيء انتفع به منه ولو خيطًا.
بخلاف ما لو سَبَّهُ إنسان، فحلف: لا أكلمه، أو تشاجَرَ مع جاره فحلف: لا يدخل بيته، أو تنازَعَ مع زوجتِهِ أو ولدِهِ فحلَفَ أنه لا يدخل عليه دارًا، ثم زال النزاعُ بينهما، فإنه يحنث بفعل ما حَلَف على تركه، لأن له - أي للحالف - مَدْخلًا في السبب.
فالبساط هنا غيرُ نافع، كما أنه لا ينفع فيما نُجِّزَ بالفعل، كما لو تشاجرَتْ زوجتُه مع أخيه فطلَّقها، ثم مات أخوه فلا يرتفعُ الطلاق، لأن رفع الواقع مُحال. ومثلُ ذلك ما لو دخل على زوجته مثلاً فوجدها أفسدت شيئًا في اعتقاده، فنجَّز طلاقها، ثم تبيَّن له أنه لم يَفسُد، فليس هنا بساطٌ بل تنجيزٌ لطلاق لا يمكن رفعه.
انتهى ملخصًا من "الشرح الصغير" للعلَّامة الدَّرْدِير بحاشية الصَّاوِي 1: 381 و "شرح الخَرْشي لمختصر خليل" بحاشية العَدَوِي 3: 69.
وإِذا لم تُفِد هذه الألفاظ هذه المعانيَ لغةً ولا عُرفًا، ولا نيَّةً، ولا بِساطًا، فهذه الأحكامُ حينئذٍ بلا مستنَد، والفُتيا بغيرِ مستنَد باطلةٌ إِجماعًا، وحرامٌ على قائلها ومعتقِدِها.
نعم، لفظةُ الحرام في عُرفنا اليوم لإِزالة العصمة خاصةً دون عَدَد (1)، وهي مشتهرةٌ في ذلك، بخلاف ما ذُكِرَ معها من الألفاظ، ومقتَضَى هذا أن يُفتَي بطلقةٍ رجعية ليس إِلَّا، ويُنوَّى في غيرها من الألفاظ التي ذُكِرتْ معها، فإِن لم يكن له نيَّةٌ ولا بِساط لم يلزمه شيء، لأنها من الكنايات الخفية على هذا التقدير.
لكنَّ أكثرَ الأصحابِ وأهل العصر لا يُساعدون على هذا وينكرونه. وأعتقدُ أنَّ ما هم عليه خلافُ إِجماعِ الأئمة، وهذا الكلامُ واضحٌ لمن تأمَّلَه بعقلٍ سليم، وحُسنِ نظرٍ سالمٍ من تعصُّباتِ المذاهب التي لا تليقُ بأخلاق المتَّقين لله تعالى.
والعجَبُ منهم أنهم إِذا قيل لهم: إِذا قال الرجل لامرأته: أنتِ طالق، يَفتقرُ إِلى نية؟ يقولون: لا، لأنه صريحٌ لغةً في إِزالة العصمة، لأنَّ الطاءَ واللام والقاف لِإزالة مُطلقِ القيد، ولذلك يقال: لفظٌ مُطلَق، وحلالٌ طِلْق، ووجهٌ طَلْق، وأُطلِقَ فلانٌ من الحَبْس، وانطلقَتْ بَطْنُه. وعَقْدُ النكاح أحَدُ أنواعِ القيد، فإِذا زال مُطلَقُ القيدِ زال قَيْدُ النكاح بالضرورة (2).
فيقال لهم: إِن قال لها: أنتِ مُنْطَلِقة، فيها جميعُ هذا؟ فلا يجدون
(1) وقع في الأصول كلها (لفظُ الحرام
…
)، فأثبتُها كما ترى.
(2)
وقعت العبارة في الأصول الخمسة: (فإذا زال مطلقُ القيد أو قيدُ النكاح زال قيدُ النكاح بالضرورة). وهو تكرار خاطئ.
جوابًا إِلَّا أنه مهجورٌ في عُرف الإستعمال، لا يُستعمل في الطلاق، فلا يُفيد الطلاقَ إِلَّا بالنيَّة.
فيقال لهم: فإِن اتَّفق أن يكون لفظُ مُنْطَلِقة مشتهرًا في عصرٍ أو في مصرٍ في إِزالة العصمة، وأنتِ طالقٌ لم يشتهر في إِزالة العصمة عندهم ما الحكمُ؟
فيتعيَّنُ أن يقولوا: يَلزمُهم الطلاقُ بمُنْطَلِقةً دون طالق، إِلَّا أن ينوي بطالقٍ إِزالةَ العصمة، عكسُ ما نحنُ عليه اليوم.
فيقال لهم: وكذلك لَفْظُ الحرام ينبغي أن تدور الفُتيا فيها وفي أخواتِها مع اشتهارها في العُرفِ وجودًا وعَدمًا، ففي أي شيء اشتَهَرت حُمِلَتْ عليه بغير نيَّة، وما لم تَشتَهِر فيه لم تُحمَل عليه إِلابنيَّة.
ولا يكفي في الإشتهار كونُ المفتي يعتقدُ ذلك، فإِنَّ ذلك نشأ عن قراءةِ المذهب ودراستِه والمناظرةِ عنه.
بل الاشتهار أن يكون أهلُ ذلك المصر لا يفهمون عندَ الإِطلاق إِلَّا ذلك المعنى، لا مِن لفظِ الفقهاء بل باستعمالهم هم لذلك اللفظ في ذلك المعنى.
فهذا هو الإشتهار المفيدُ لنقل اللفظِ من اللغة للعُرف.