المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السؤال الثامن والثلاثون - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌تقدمة الطبعة الثانية:

- ‌تقدمة الطبعة الأولى:

- ‌أصول الكتاب وعملي فيه

- ‌تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشاراً للمطبوع منها

- ‌السُّؤَالُ الأَوَّلُ

- ‌السُّؤَالُ الثَّانِي

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِعُ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسُ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّانِي

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّالِثْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَال الرَّابِعْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الخَامِسْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّادِسْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّابِعْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّامِنْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ التَّاسِعْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ العَاشِرْ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ الْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّوَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِع وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسِ وَالْعِشْرُونْ

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الحَادِي وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِعْ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الأَرْبَعُونْ

- ‌التَّنْبِيهُ الأَوَّلُ

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّانِي

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ

- ‌التَّنْبِيهُ الرَّابِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الخَامِسُ

- ‌التَّنْبِيهُ السَّادِسُ

- ‌التَّنْبِيهُ السَّابِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ

- ‌التَّنْبِيهُ التَّاسِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ

- ‌بيانُ رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الِإشكال الواقع في كلام الإِمام القرافي

- ‌إلحاقةٌ متصلة بترجمة الإِمام القَرَافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

- ‌الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكُرْدِي(كما عَرَفتُهُ)

- ‌مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌السؤال الثامن والثلاثون

‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونْ

ما معنى قولِنا في الفتاوى: مَسْحُ جميعِ الرأس واجب، والغِناءُ حرام، وسَبُعُ الطيرِ مُباح، إِلى غير ذلك من الفتاوى المختلَفِ فيها؟ هل معنى ذلك أنَّ مسحَ جميع الرأس واجبٌ على جميع الخلائق أو على المالكيّ خاصَّة؟

وإِن قلتم: على المالكيّ خاصَّة، فالدليلُ الدالُّ على ذلك ما دلَّ إِلَّا على عمومِ وجوبِه على عموم الخلق، فكيف خصَّصتموه؟

وإن قلتم: على عامَّة الخلق، فيكون الشافعي قائمًا بتركِ الواجبِ عليهِ ويُصِرُّ على ذلك، والإِصرارُ على تركِ الواجب فُسوقٌ وعِصيان. فيَلزمُ أن يكون الشافعيُّ عاصيًا وفاسقًا عند مالكٍ والمالكية، وأن يكون مالكٌ وشِيعتُه عُصاةٌ عند الشافعي بتركِ البسملة في الصلاةِ، ونحوِها.

وكذلك جميعُ المذاهب، فلا يَبقى أحدٌ من الفِرَق إِلَّا عاصيًا لله تعالى بتركِ ما عليه مخالِفُه، وهذا بعيدٌ جدًا. والتخصيص في الأدلَّةِ الدالَّةِ أيضًا على العموم وجعلُها خاصةً: تحكُمٌ محض.

وهذه خُطَّتا خَسْفٍ لا خُروجَ عنهما (1)، فكيف التخلُّصُ منهما؟ وما يَعتمدُ أحدُكم في فُتياه إِذا أَفتى بالوجوبِ مثلًا يَنوي بذلك العمومَ

(1) أي أمرانِ صعبان أو حالتان صعبتان، يَعسُرُ الخروجُ منهما. والخَسْفُ: الذُّلُّ، والظُّلم، والنَّقِيصة. وقوله:(هذه خُطَّتا خَسْفٍ) مَثَلٌ عربي، معناه ما ذكرتُه.

ص: 207

أو الخصوص؟ أوْ لا يَخطرُ ببالكم شيءٌ من ذلك؟ وأنتم عن هذه الأمورِ العظامِ غافلون!

جَوَابُهُ

أنَّ السؤال الذي تتَرتَّبُ عليه الفُتيا له أربعةُ أحوال:

1 -

تارةً يُسألُ عن وجوب مسح الرأس مثلًا في نفس الأمر على المكلَّفين، من غير تعرُّضِ لمن قَلَّد.

2 -

وتارةً يُسألُ عنه في حقّ من قلَّدَ القائلَ بالوجوب.

3 -

وتارةَ يُسألُ عنه في حقّ من قلّدَ المخالِفَ للقائلِ بالوجوب.

4 -

وتارةً يُسألُ عنه في حق مجتهدٍ لم يَنظر بعدُ في المسألة.

ا - فإن وقع السؤالُ عن الوجوب في نفس الأمر عمَّمنا الفُتيا، لأنَّ الدليل دلَّ بعمومه في نفسِ الأمر على جميع الخلائق، إِلى يوم القيامة، في جميع الأعصار والأمصار، ما لم يَعرِض تقليدٌ لمخالِفِ ولَهُ دليلٌ مُعارِضٌ لهذا الدليل، فإنه يُصرَفُ موجَبُ هذا الدليل عن ذلك المخالف، لأنه أرجحُ عنده في ظنّه، والله سبحانه وتعالى إِنما كلَّفَ كلَّ واحدٍ بما غَلَب على ظنّه.

2 -

وإِن وقع السؤالُ عن الوجوب في حقّ من قلَّد القائلَ به أفتيناه بالوجوب، ولا غَرْوَ في ذلك، لأنَّ إِمامه يَعتقدهُ لدليلٍ راجحٍ عنده، وهو قد التَزمَ مذهبَه فيَلزمُه ما التزمه، ولذلك إِذا سألَنا الإِمامُ نفسُه الذي أدَّاه اجتهادُه للوجوب قلنا له: حُكمُ الله تعالى عليك وعلى مَنْ قلَّدك الوجوبُ، بسبب ما غلَبَ على ظنّك من الوجوب، وأنت مكلَّفٌ بظنّك، وكذلك من قلَّدك تَبَعٌ لك في ذلك.

ص: 208

3 -

وإن وقع السؤالُ عن مَسْح الرأس في حقّ من قلَّد الشافعيَّ القائلَ بعدمِ الوجوب مثلًا، أفتيناه بعدمِ الَوجوب، لأنَّ الأُمَّة مجمعة على أنَّ المجتهد إِذا أدَّاه اجتهادُه إلى حُكم، فهو حُكمُ الله في حقه وحقِّ من قلَّده إِذا قام به سبَبُه.

وقولُنا: (إِذا قام به سَبَبُه) احترازٌ من أن يَجتهد في الزكاةِ ولا مالَ له، أو في النكاحِ ولا مَوْلِيَّةَ له، أو في القَضَاءِ ولا منصِبَ له. وإِذا انعقد الإِجماعُ على ذلك فلو أفتيناه بخلافه كنا خارقين للإجماع، بل هذا حُكمٌ مجمَعٌ عليه لا يجوز لأحد خِلافُه.

ونظيرُ هذه المسألة: عَشَرَةٌ اجتهدوا في طلب القِبلة، فأدَّى كلًا منهم اجتهادُه إلى جهةٍ غير الجهة التي أدَّى إِليها اجتهادُ التسعة الأُخَر، وبقي مع هذه العَشَرةِ جماعاتٌ عوامٌّ لا يُحسنون الإستدلالَ على القِبلة، فاتَّبَع كلَّ واحدٍ من العشرة جماعةٌ من أولئك العوامّ، فإِنَّ كلَّ واحدٍ من تلك العشرة العلماءِ بالإستدلال، الذين اختَلفتْ فيه ظنونُهم، واختار كلٌّ منهم جهةً غيرَ التي اختارها الآخَرُ، إِذا سأل التسعةَ الباقيةَ الذين خالفوه:

هل يَحْرُمُ عليَّ أن أُصلّي إِلى الجهة التي غلَبَ على ظني أنَّ الكعبة فيها أم لا؟ فإنهم يُفتونه بأنك يجبُ عليك وعلى من اتَّبَعك الصلاةُ للجهة التي غلَبَ على ظنّك أنَّ الكعبة فيها، ولا يَحرُمُ عليك، ونحن يَحرُمُ علينا أن نُصلّي إِليها، وكذلك من قلَّدَنا، لأنا نعتقد أنَّ الكعبة ليست فيها، فيصير إِجماعُ تلك العَشَرَةِ منعقِدًا على أنَّ حُكمَ الله في حقّ كلٍّ منهم ما أدَّى إليه اجتهادُه من تلك الجهات.

فكذلك الأحكامُ الشرعية، وتكونُ المرأةُ المتزوِّجةُ بغير وليّ،

ص: 209

أو لَحْمُ السَّبُعِ مثلًا: حرامًا لقومِ حلالًا لقوم، كما جعَلَ الله تعالى الميتةَ حلالًا للمضطرّين حرامًا على المختارين، ويكونُ اختلافُ ظنونِ المجتهدين القائمةِ بهم كاختلافِ أحوالِ المضطرين والمختارين بالإضطرارِ والإختيار، فاختلافُ الصَّفَتَينِ في المحلَّينِ رتَّبَ الله تعالى عليه حُكمين متضادَّين، وهذا حقٌّ واضحٌ لا خَفَاء فيه.

فكذلك متى سُئلنا عن الشافعية هل يجب عليهم مسحُ الرأس بكماله؟ نقول: لا (1)، ونُفتي الحنفيةَ بأنه يجبُ عليهم الرُّبعُ، ولا نُفتي في مذهبِنا بخلافِ مذهبِنا (2)، لِكلِّ فرقةٍ مذهبُ إِمامِها يخالِفُنا بما يخالفُنا ويخالفُ مذهبَنا، لأنه مجمَعٌ عليه.

غيرَ أنه يُستثنى من هذا أربَعُ صُوَر خاصَّة، وهي الصُّوَر التي يُنقَضُ قضاءُ القاضي فيها: ما كان على خلافِ الِإجماعِ، أو القواعدِ، أو النصوصِ، أو القياسِ الجليّ، إِذا سَلِمَ كلٌّ مِن هذه الثلاثة عن مُعارِض راجحٍ له (3).

فإِذا غلَبَ على ظنّنا أنَّ مخالِفَنا في المسألة قد وقع في فُتياه - بما خالَفنا فيه - أحَدُ هذه الأربعة فإِنا لا نُفتي مقلِّديه في تلك المسألة الواقعة على خلافِ أحد الأمور الأربعة إِلَّا بمذهبنا، لأنَّ خلافَه غيرُ مُعتدّ به،

(1) لأنَّ مذهبَهم فرضيةُ مَسْحِ بعض الرأس، كما أنَّ مذهب الحنفية فرضيةُ مسحِ رُبعِ الرأس، فنفتي كلَّ واحدِ من الشافعية والحنفية بمذهبه.

(2)

جاءت العبارة في النسخ قالها: (ونُفتي في مذهبنا بخلافِ مذهبنا). والظاهر أن الصواب فيها: (ولا نُفتي في مذهبنا بخلافِ مذهبنا) كما أثبتُّه.

(3)

الثلاثة هي: القواعد، والنصوص، والقياس الجلي. وقد تقدمت الصُّوَر الأربعة مشروحة في ص 135 - 141.

ص: 210

ولا يَتقرَّرُ شرعًا عامًّا للمكلَّفين، لأنَّ ما لا نُقرُّه إذا حَكَم به حاكم وتأكَّد بالحُكم، أَولى أن لا نُقرَّه إذا لم يتصل به حُكمُ حاكم.

وكذلك أنَّ كلَّ من قال بجوازِ الإنتقال في المذاهب استَثنَى هذه الأمورَ الأربعة وقالَ: يجوزُ التقليدُ للمذاهب، والإنتقالُ فيها بشرط أن لا يكون على خلافِ الإِجماعِ أو القواعد، أو القياس الجليّ، أو النصّ، السالمةِ عن المُعارضِ الراجحِ عليها.

4 -

الحالةُ الرابعة: أن يقع السؤالُ عن وجوب مَسْحِ جميعِ الرأس في حقّ مجتهدٍ له أهليَّةُ الإجتهاد، كالشافعي ونحوِه، فلا نُفتيه بالوجوبِ ولا عدمِ الوجوب، بل نقولُ له: حُكمُ الله تعالى عليك أن تَجتهدَ وتَنظرَ في أدلَّةِ الشريعة ومَصادِرها ومَوارِدها، فأيُّ شيء غَلَب على ظنّك فهو حُكمُ الله تعالى في حقِّك وحق من قلَّدك، ما لم تخالِف أحدَ الأمور الأربعة التي يُنقَضُ قضاء القاضي إِذا خالَفَها.

فإِذا خالفتَ أحدَ الأمورِ الأربعةِ ولم تطَّلع عليه، وجَبَ عليك أن تَبقى على ما غلَبَ على ظنك، وإِن كنتَ على خلافِ الإِجماع في نفس الأمر. وقد قال الغزاليُّ (1) في كتاب "المستصفَى" في كتاب الإجتهاد: إِن الإِجماعَ

(1) هو أبو حامد محمد بن محمد الغزالي الملقَّب بحجة الِإسلام وزين العابدين، الطُّوسي الشافعي، الإِمام الفقيه الأصولي المفسر المتكلم النظَّار الصوفي الفيلسوف الواعظ، ذو المؤلفات العديدة، والشهرة العريضة، التي طبَّقَت الآفاق. ولد في مدينة طوُس سنة 450، وأَخَذَ عن علمائها، ثم قدم نيسابور وأخذ عن إمام الحرمين أبي المعالي الجُوَيني، وجَدَّ في التحصيل حتى بلغ الدرجة الرفيعة في سعة العلم، واستنارةِ العقل ومُقارعةِ الملاحدة وخصومِ الإِسلام، والظَّفَرِ والغلبةِ عليهم.

وألَّف المؤلفات الكثيرة النافعة. وأشهرُ مؤلفاته في الفقه: "الوجيز" و "الوسيط" =

ص: 211

منعقِدٌ على أنَّ من خالفَ الإِجماعَ ولم يَطَّلع عليه، وجَبَ عليه بالإِجماع أن يَبقى على مُخالفةِ الإِجماع، حتى يَطَّلعَ على أنه خالَفَ الإِجماع (1).

ونقولُ له: فإِذا اطَّلعتَ على أنَّك خالفتَ أحدَ الأمور الأربعة وجَبَ عليك استئنافُ الإجتهاد، ولا نُفتيه أيضًا بالوجوبِ ولا بعَدمِه.

وكذلك نُفتي مقلِّديه أنهم إِن لم يَطَّلعوا على أنه خالَفَ أحدَ الأمور الأربعة، فحُكمُ الله تعالى في حقِّهم ما ذهَبَ إِليه، وإِن اطلَّعوا على أنه خالَفَ أحدَ الأمور الأربعة حَرُمَ عليهم موافقتُه، ويُخيَّرون في بقية المذاهب، يُقلِّدون من شاؤوا فيها.

ويجبُ هاهنا الإنتقالُ والجمعُ بين مذهبَينِ، أو الإنتقالُ إِلى جملةِ

= و "البسيط". وفي أصول الفقه "المستصفى" و "المنخول من علم الأصول". وفي الكلام "الإقتصاد في الاعتقاد" وفي التصوف "إحياء علوم الدين". وفي الفلسفة "مقاصد الفلاسفة" و "تهافت الفلاسفة". وغيرُها.

وبعد أن سارت بذكره الركبان، وملأت شهرته الأسماع والأصقاع، اعتزل التدريس في أواخر حياته سنة 488، وسلك طريق الزهد والإنقطاع للعبادة، وحجَّ إلى بيت الله تعالى، ومال إلى زيارة البقاع الكريمة والأماكنِ المعظمة، فدخل الشام وبيت المقدس والِإسكندرية، وأقام في كلِّ منها زمنًا.

ثم أُلزِمَ بالعودة إلى نيسابور والتدريس فيها بالمدرسة النظامية، فأجاب إلى ذلك بعد تكرار المعاودة عليه، ثم ترك التدريس وعاد إلى بلده طوس، واتخذ فيها مقرًا للصوفية، ومدرسةً للمشتغلين بالعلم في جواره، ووزَّع أوقاته على وظائف الخير من ختم القرآن، ومجالسة أهل القلوب، والقعود للتدريس، إلى أن توفي سنة 505 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

(1)

لم أقف على هذا النص أو مضمونه في أبواب الإجتهاد من "المستصفى"، فلعله قاله في موضع آخر من أبواب الكتاب؟

ص: 212

المذهبِ الثاني الذي هو أحَدُ المذاهب الصحيحة، لأنه لا سبيلَ إِلى تركِ التقليد في مسحِ الرأس في حقّ العامي، لأنه يُضطَرُّ إِليه في صلاته، والتقديرُ أنه لم يجده في مذهبه (1)، فيَتعيَّنُ عليه أحدُ الأمرين: إِما الجمعُ بين مذهبِه الذي كان عليه فيما عدا هذا الفرع وبين غيرِ مذهبه في هذا الفرع، أو ينتقلُ عن مذهبه الأول بالكلية إِلى مذهب آخر.

وهذه الصُّورةُ ينبغي أن يَتنبَّه لها كلُّ من يقول بالمنع من الإنتقالِ في المذاهب، ويقولُ باستثنائها عن قاعدتِه في عدمِ الإنتقال، فهي ضرورة وموضعُ حاجةِ لا انفكاكَ عنها.

فهذه صُورةُ ما يُفتي به المفتون في جميع المذاهب، تارةً تكون الفُتيا عامَّة، وتارةَ تكون خاصَّة، وتارةً تكون بضدّ ما عليه مذهبُ المفتي في نفسه.

ومن جَهِلَ هذا وهو يُفتي فقد جَهِلَ أمرًا عظيمًا يتعلَّقُ بمنصِب الفُتيا، ربما وقع في خلافِ الإِجماع في فتاويه وهو لا يَشعرُ إِذا عَرَضَ له مثلُ هذه الأمور الخفيَّة التي لا يكادُ يجدها في الكُتُب، فكم من علمٍ لا يوجد مسطورًا بفَصّه ونَصّه أبدًا (2)، ولا يُقدَرُ على نقله، وهو موجودٌ فيما نُصَّ من القواعد ضِمنًا على سبيل الاندراج، يتفطَّن لاندراجه آحادُ الفقهاءِ دون عامَّتِهم (3).

(1) جاء في الأصول الخمسة كلها: الم يجد في مذهبه). فأثبته كما ترى.

(2)

فَصُّ الأمر: أصلُه وحقيقتُه، يقال: أنا آتيك بالأمر من فَصِّه، يعني مِن مَخْرَجِهِ الذي قد خَرَج منه.

(3)

رحم الله المؤلف وأغدَقَ عليه الكرامةَ والرضوان، ما أدقَّ نظرَه، وما أغوَصَ خاطرَه على كشفِ الحقائق وتسجيلها، بعبارةٍ سلسةٍ عَذْبةٍ تَلِجُ العقلَ والفهمَ سريعًا، ولقد جاء في هذا الكتابِ بشيء كثير من هذا النمطِ الذي لا يوجد في الكتب، ومنه ما قالَه هنا في هذا المقطع.

ص: 213

مسْألة بعيْدة الغَور معضِلة

نقَلَ الشافعية أنه سُئِلَ عنها الشافعيُّ رضي الله عنه، ولم أرهم نقَلُوا جوابَه فيها (1)، وهي أنَّ المقلِّدين لأرباب المذاهب يجوز أن يُصلّي بعضهُم خلفَ بعضِ، وإِن كان كلٌّ منهم يعتقدُ أنَّ مخالِفَه فَعَلَ ما لو فعلَه هو لكانت صلاتُه باطلة، كمن مَسحَ بعضَ رأسهِ، أو تَرَك البسملةَ أو التدليكَ في الطهارة، ونحوِ ذلك. وكذلك يجوز لأحدِ المجتهدِين في هذه المسائل أن يُصلّي خلفَ من يخالفُه من المجتهدين، ويُحكَى أنَّ ذلك جائزٌ إجماعًا، وأنَّ الخلافَ فيه مسبوقٌ بالإِجماع.

ثم انعقدَ الإِجماعُ على خلافِ ذلك في المجتهدين في الأواني والقِبلةِ والثيابِ المختلطِ نجِسُها بطاهرِها ونحوِ ذلك، إِذا أدَّى اجتهادُ أحدِ الشخصين إِلى خلافِ ما أدَّى إِليه الآخر: أنَّه لا يجوز تقليدُهُ له، ولا أن يُصلّي خلفَه، لأنه يَعتقدُ بطلانَ صلاته باعتبار ما خالفه فيه.

فما الفرقُ بين البابين؟ ولم يُنقَل عن الشافعي رضي الله عنه فيها جواب.

وأجاب بعض متأخّري الشافعية (2) بأنَّ القِسمَ الأولَ لو مَنَعْنا الإقتداء

(1) توسع المؤلف في كتابه "الفروق" 2: 100 - 102 في الفرق (76)، بإيراد هذه المسألة والتوجيهِ فيها بما لم يذكره هنا، فتراجع فيه هناك للمستزيد.

(2)

هو شيخ المؤلف الإِمامُ عز الدين بن عبد السلام - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -. كما في كتابه "الفروق" 2: 100، ولم يُصرِّح باسمِهِ هنا، لأنه سيَرُدُّ قولَه الذي نقله بعدُ، فهذا من بالغ أدبه - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ورزقنا الأدب مع الشيوخ والآباء.

ص: 214

فيه، لأدَّى ذلك إِلى تقليل الجماعات لعمومِ مواقع الإختلاف في تلك المسائل وكثرتِها، بخلافِ القسمِ الثاني، الإختلافُ فيه نادر، فمَنْعُ الإقتداءِ فيه لا يُفضِي لذلك، وهو ضعيف، فإِنَّ مصلحة الإقتداء إِن كانت لا يُبطلها الخلافُ في الإجتهاد وجب تجويزُها في الجميع، وإِلا فيَمتنع في الجميع، ولأنه فارِقٌ وبحْثٌ لا يَشهد له شاهدٌ بالإعتبار.

والجوابُ الحقُّ أن فقه المسألة أنَّ الله تعالى شَرَع لكل فريقٍ من المخالِفين في مسألة مسحِ الرأس ونحوِها ما أدَّى إِليه اجتهادُه، وجعَلَه شرعًا مقرَّرًا في نفس الأمر، كما جعَلَ الحِلَّ في الميتةِ للمضطر، وتحريمَها على المختار: حُكمين ثابتين في نفس الأمرِ للفريقينِ بالإِجماع، وجعَلَ الله تعالى الظَّنَيْنِ في حقّ المجتهدَينِ، كَالوصفينِ من الإضطرارِ والإختيارِ في حقِّ المكلَّفينِ بالنسبة إلى الميتة.

أما المجتهدانِ في القِبلة ونحوِها فقد أجمَعا على أنَّ ثَمَّ حُكمًا معتَبرًا في نفس الأمر، وهو القِبلةُ أو الطَّهُوريَّة، وأنَّ تركه خطأٌ بإِجماع الفريقين إِذا تعيَّن، فكلُّ واحدٍ من الفريقين غلَبَ على ظنّه أنَّ مخالِفَه مخالفٌ للإِجماع، ولا يَقطَعُ باعتباره، ومَنْ غلب على الظنّ أنه مخالفٌ للإِجماع امتَنع تقليدُه إِجماعًا، ولذلك يُنقَضُ ما خالَفَ الإِجماعَ المنقولَ بأخبارِ الآحاد، أو القواعدَ، أو النَّصَّ، وإِن كان ذلك مظنونًا. فهذه قاعدةٌ انعقد الإِجماعُ على اعتبارها.

وأما في مسحِ الرأس ونحوِه إِذا غَلَبَ على ظنّ المخالِفِ أنَّ مخالِفَه خالفَ معتبرًا يَظنُّ اعتبارَه ولا يَقطُع باعتباره، فهو مُعارَضٌ بظَنٍّ آخَر قِبالتَه في اعتبار ذلك المعتبَرِ من نصٍّ أو قياس.

ص: 215

وأما الإجماعُ الذي غلَبَ على ظنّنا أنه خُولِفَ في القبلة ونحوِها ليس قِبالتَه معارِضٌ البتة، فلم يُمكن تقليدُ من يخالِفُه في ظننا، وفي الأوَّل لمَّا تقابلَتْ الظنون أمكن أن يكون كلُّ ظنٍّ معتبَرًا في حقّ صاحبه، ولذلك تقرَّر شرعًا عامًا في حقِّ ذلك المجتهدِ وحقِّ من قلَّده إِلى يوم القيامة، سواءٌ فرَّعنا على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ أم لا.

ونظيرُه لو اجتمع شافعيَّان يعتقِدان نجاسةَ الأرواث، واجتهدا في ثوبٍ تنَجَّس بالأرواث، لم تَجُز صلاةُ أحدِهما خلفَ الآخر، وتجوزُ صلاتُه خلفَ المالكيّ المعتقِدِ طهارةَ ذلك الثوب، بسبب أنهما أجمعا في الأوَّلِ على عدمِ تقليدِ مالكٍ، والصلاةُ بالرَّوْثِ مع عدمِ تقليدِ من يعتقد طهارتَه باطلةٌ بالإِجماع، فامتنَع تقليدُه له، لأنه غلَبَ على ظنِّهِ أنه على خلاف الإِجماع.

وكذلك ماءٌ نَجِسٌ لم يَتغيَّر، غير أنه أُخِذَ مِمَّا دُونَ القُلَّتينِ، إِن كانا شافعيينِ امتَنعَ التقليد، أو مالكيًّا وشافعيًّا جاز.

فضابطُ هذا الباب أبدًا أنه متى كان المقلَّدُ فيه على خلاف الإِجماع في ظنّ المقلِّد امتَنَع، وإِلا جاز، وهو سِرُّ الفِقْه في المسألة، فتأمَّلْه (1).

(1) قال شيخنا وأستاذنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أكرمه الله بإِحسانِه، فيما كتبه إِليَّ تعليقًا على هذا الموضع ما يلي:

"الأحسَنُ في الجواب أن يقال: إِنَّ مسألةَ القِبلةِ هي مسألَةُ واقع، أي كونُ الكعبةِ هي في هذا الإتجاهِ أو في ذاك. ومِثلُها مسالةُ التحرِّي في الثوبِ أو إِناءِ الماءِ، المُصَابِ بنجاسة، أيُّ ثوبٍ أو إِناءِ هو من بين مجموعِ ثيابٍ أو آنِيَة، بخلاف المِقدارِ الواجبِ مَسْحُهُ من الرأس، فإِنها مسألةُ حُكمٍ مستفادٍ من نَصّ.

والتقليدُ في مسائلِ الواقع لا يجوز، كما أوضحه المؤلَّفُ نفسُه في التنبيهِ الوارد في السؤال 37، ص 195، وفي مناسباتٍ أخرى في جوابِ ذلك السؤال والذي قبلَه. أما =

ص: 216

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= الأحكامُ فهي محلُّ التقليد، فيجوزُ تقليدُ مَنْ رأيُهُ نجاسَةُ الرَّوْثِ أو عدَمُ نجاسَتِهِ، ولا يجوزُ تقليدُ من يرَى أنَّ الثوبَ المُصابَ بالروثِ هو هذا أو ذاك، بل يَتحرَّى المكلَّفُ، لأنَّ هذه قضيةُ واقع، وتلك حُكْم.

وقد سَبَق للمؤلِّفِ أن قال بأنه يجوزُ تقليدُ الإِمام مالك في أنَّ أرضَ العَنْوَةِ وقفٌ لا تُبَاع، لأنَّ هذا حُكمٌ اجتهاديّ، ولا يجوز تقليدُهُ في أنَّ أرض مِصرَ هي أرضُ عَنوَة، لأنَّ قوله في خصوصِ واقعةِ أرضِ مصر، هو كشهادةِ أيِّ شاهِدٍ في حادثةٍ معيَّنة".

ص: 217