الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ الأَرْبَعُونْ
عن تنبيهات يَتعيَّنُ على المفتي التفطُّنُ لها (1)، وأنا أذكرُ منها إِن شاء الله تعالى عَشَرَة:
التَّنْبِيهُ الأَوَّلُ
التفطُّن للفرق بين النيَّة المُخصِّصةِ والنيَّةِ المؤكِّدة (2)، فضابط المؤكِّدةِ ما وافقَ اللفظَ، والمخصِّصةِ ما خالفَ اللفظ في بعض مدلوله.
ويَظهرُ ذلك بالمثال، فإِذا قال القائل: واللهِ لا لَبِستُ ثوبًا في هذا اليوم، فإِذا نَوى عمومَ الثيابِ، فهذه نيَّةٌ مؤكِّدة مُرادِفة لمدلول اللفظ، فنُحنِّثُه بكل ثوب، لأنه مقتَضى لفظِه ومقتَضَى نيَّتِه.
فإِن قال: نويتُ ثيابَ الكَتَّان ولم يَخطُر لي غيرُها ببال، حنَّثناه بثيابِ الكَتَّان باللفظِ والنيَّةِ، وبغيرِ ثياب الكتَّان باللفظ السالم عن مُعارَضَةِ النية،
(1) يقصدُ المؤلِّف بالمفتي هنا: من يقومُ ببيان الأحكام بصرف النظر عن كونه مُجبِرًا كالقاضي، أو مُخبِرًا كالمفتي، وقد عقد الشيخ ابن قيم الجوزية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في أواخر كتاب "إعلام الموقعين" 4: 157 - 266 فصلًا كبيرًا جدًا، ضمَّنه سبعين فائدةً تتعلق بالمفتي والمستفتي والفتوى وما إليهما، فقف عليه لِزامًا جَزْمًا، ففيه الفوائدُ العِذاب، والعِلمُ المستطاب، والعقلُ الهادي المنير، لكل مرشدٍ مستنير.
(2)
توسَّع المؤلف كلَّ التوسع في بيان هذا الفرق في كتابه "الفروق" 1/ 178 - 186، في (الفرق) 29، فيحسن مراجعتُه للمستزيد.
فإِن تَرْكَ غيرِ الكتَّان لم يَقصِد (1) لإِخراجه من اليمين ولا لتبقيته، فبقي اللفظُ الصريحُ فيه سالمًا عن مُعارضة النية فيَحنَثُ به، فتكون هذه النية مؤكِّدةً للفظِ في بعض مدلوله دون كلِّ مدلوله، وليس فيها تخصيصٌ البتة.
وإِن قال: أخطرتُ ببالي غيرَ الكتَّان وأردتُ إِخراجه من اليمين عند الحلف. قلنا: هذه نيَّةٌ مُضادَّةٌ مخالفةٌ للفظ في بعض مدلوله، فهي مُخصِّصة، لأنَّ مِن شرطِ المخصَّصِ أو الناسخِ أن يكون منافيًا، فحينئذٍ لابُدَّ أن يقول الحالفُ في النيَّة المخصِّصة: نويتُ إِخراجَ كذا عن اليمين، ولا ينفعه قولُه: نويتُ ثيابَ الكتان، ولم يَذكر أنه قصَدَ إِخراجَ غير الكتان، فالمفيدُ قصدُ الإِخراجِ لا القصدُ إِلى بعض المدلول.
وأكثرُ الذين يُفتون إنما يقولون لمن يستفتيهم: أيَّ شيء أردتَ بقولك؟ فيقول لهم: أردتُ به كذا، فيُفتونه بأنه لا يَحنث بغيره، وهو غَلَط، بل لابُدَّ وَأن يقول (2): أردتُ إِخراجَ المعنى الفلاني من نيَّتي حتى تَتحقَّق نيَّةُ التخصيص.
فإِن قالوا: ما يُريد بقوله: أردتُ ثيابَ الكتان إِلَّا الله أرادَ إِخراجَ غيرِها. قلنا: هذا في غاية البعد، فإِنَّ الفرقَ بين المخصًص والمؤكِّد إِنما يفهمه خَوَاصُّ الفقهاء، فكيف يُدَّعَى على العوامّ البُلْهِ أنهم يريدونه بلفظٍ لم يوضع
(1) هكذا ضبطتُه. وقال شيخنا الأستاذ ناجي أبو صالح - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "الصوابُ: لم يُقْصَد". فتأمل.
(2)
قولُ المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: (لابُدَّ وأن يقول)، بإدخال الواو قبل (أنْ): استعمالٌ خاطئ عربيةً، وهو موجود في عصر المؤلف وقبله، ووجهُ الخطأ فيه أن (الواو) أُقحِمَتْ بين اسم (لا) وهو (بُدَّ)، وبين خبرها وهو (أن يقول). فهي أجنبية في هذا الموضع، فينبغي الإبتعاد عن هذا الإستعمال.
له، وهل هذا إِلَّا إِلغازٌ في اللفظ.
بل ينبغي للمفتي إِذا صَرَّح له العامِيُّ بعبارةٍ صريحة أنَّ يَتفقَّد قرائنَ أحواله، وشأنَ واقعتِه، هل ثَمَّ ما يُنافي صريحَه أم لا؟ فكيف نَقنعُ منه بلفظٍ لم يُوضَع للتخصيص، ويقال: إنه أراد به التخصيص، بل نجزمُ بخلافِ ذلك من أحوالِ العوامّ، وأنهم إِنما يَخطُرُ لهم بعضُ مدلول اللفظ، ويَذهلون عما عداه، وهذا ليس تخصيصًا إِجماعًا.
فيَتعيَّنُ على المفتي أن يَتفطَّن لهذا ويَتثبَّتَ حتى يَتحقَّقه واقعًا في نفس المستفتي وحينئذٍ يُفتيه، والهجومُ على الفُتيا من غير تيقُّنِ ذلك حرام، ونعني باليقين غلبةَ الظن.