الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّنْبِيهُ التَّاسِعْ
فيما يَتعلَّقُ بوضعِ الفُتيا ووَرَقةِ الإستفتاء.
ينبغي للمفتي: أن لا يَختلِفَ فلَمُه الذي يَكتبُ به الفُتيا بالدِّقَّة والغِلَظِ والتنويم في الخطِّ، فإن تنويعَه سببُ التزوير عليه بأحدِ تلك الخطوط أو بغيرِها، ويقال: هو خَطُّه، لأنَّ خطَّه غيرُ منضبط.
وأن لا يكون قلَمُه في غاية الغِلَظِ فيضيع الورَقُ على المستفتي، ولا في غاية الدِّقَّة فتَعْسُر قراءته، بل ينبغي أن يكون وسطًا بين ذلك، وأن يكون بيِّنًا للقراءة لا يَسلكُ به مسلكَ التعليق والإِدماجِ والإختصار لبعض الحروف.
وأن يتأْدَّبَ في صورةِ الوضع إِن كان معه في الفُتيا غيره ممن هو أعظمُ منه، فإِن كان الذي تقدَّمه في غايةِ الجلالة فليقل: كذلك جوابي، إِن كان يَعتقدُ صِحَّةَ ما قاله مَنْ تقدَّمَه.
ودون ذلك في التواضع: جوابي كذلك، لأنَّ تقديمَ لفظ الجواب قبلَ التشبيهِ تقديمٌ لجوابه على جوابِ من تقدَّمه الكائنِ في التشبيه، وإِن قال: كذلك جوابي، فالإِشارة بـ (ذلك) الذي دخلَتْ عليه كافُ التشبيه هو جوابُ من تقدَّمه، فيكون قد قَدَّمَ جوابَ السابق عليه قبلَ ذكر جوابه، والتقديمُ تعظيم واهتمام، فهو أدخَلُ في الأدب.
ودون هاتين المرتبتين في التواضع وأقربُ إلى الترفُّعِ أن يكتب مثلَ
الجواب بعبارةٍ أخرى، ولا يُشبِّه جوابَه بجوابِ من تقدَّمه أصلًا.
وأرفَعُ مِن ذلك وأبعَدُ عن التواضع أن يقول: الجوابُ صواب، أو الجوابُ صحيح. وهذا لا يُستعمَلُ إِلَّا لمن يَصلُحُ للثاني أن يُجيزَه في الفُتيا أو يُزكِّيه في قوله، وأن يكون معه في معنى التلميذِ والتَّبَع، لأنه أظهرَ أنَّ جوابَ السابقِ في صورةِ من يَشهدُ له هو بالصحة أو بالصواب من جهة الثاني، وهذه أدنى الرُّتَب لخلوّ اللفظِ عن التعظيم بالكلية، هذا من حيث اللفظ.
وأما من حيث الموضع الذي يَكتبُ فيه، فإِن اتَّضعَ كتَبَ خَطَّهُ تحتَ خطّ الأول، وإِن ترفَّعَ كتَبَ قِبالتَهُ في يمين الخطّ أو شِماله، وكذلك الجهةُ اليُمنى أشرَفُ من الجهة اليُسرى (1)، فالمتواضعُ يَضَعُ في اليُسرى، والذي لا يَقصِدُ التواضعَ ويقصِدُ التعظيمَ يَضَعُ في الجهةِ اليُمْنَى، لكونها يُمنى.
وينبغي للمفتي: متى جاءته فُتيا وفيها خَطُّ من لا يَصلحُ للفُتيا، ألا يَكتبَ معه، فإِنَّ كتابتَه معه تقريرٌ لصنيعه، وترويجٌ لقوله الذي لا ينبغي أن يُساعَدَ عليه وإِن كان الجوابُ في نفسه صحيحًا. فإِنَّ الجاهل قد يُصيب، ولكنَ المصيبةَ العظيمةَ أن يُفتيَ في دينِ الله مَنْ لا يَصلحُ للفتيا، إِما لقِلَّة علمِه، أو لقلَّةِ دينه، أوْ لهما معًا.
(1) قلت: هكذا كان العرف في زمن المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، تفضيلُ الجهة اليُمنى على الجهة اليُسرى، تبعًا للتوجيه الشرعي النبوي في كل عمل شريف، وانعكس الحالُ اليوم! فصارت الجهةُ اليسرى أشرفَ من اليمنى! ولعله من تقليد المسلمين غيرَهم الذين يبدأون كتابتهم من اليسار، فتكونُ الجهة اليُسرى لديهم أشرف! فإنهم عندهم - إذ يبدأون بها - بمثابة اليمين التي نبدأ بها.
ولا ينبغي للمفتي: أن يَكتب في الفُتيا ما لا تدعو حاجةُ المستفتي إليه، فإِنَّ الورق مِلكُه، ولم يأذن في الكتابة فيه إِلَّا بما تتعلَّق به مصلحتُه، وغيرُ ذلك يَحرمُ فلا يزيدُ عليه، إِلَّا أن تَشهدَ العادةُ بالزيادة اللطيفة فيكون مأذونًا فيها عادةً، نحوُ قولِ المفتي في آخرِ فُتياه:(والله أعلم)، ونحوَ ذلك.
ولا ينبغي: أن يضَعَ هذه اللفظةَ ونحوَها إِلَّا ناويًا بها ذِكرَ الله تعالى، فإِنَّ استعمالَ ألفاظِ الأذكارِ لا على وجهِ الذكر والتعظيمِ لله تعالى قلَّةُ أدبٍ مع الله تعالى، فيُنهَى عنه، بل يَنوي به معناه الذي وُضِع له لغةً وشرعًا.
وإِذا وَجَدَ في الفتيا خطأ مُجمَعًا عليه أو مختلَفًا فيه، فإن كان المفتي به مذهَبُهُ يقتضِي أنه خطأ فهو منكَرٌ تجبُ إِزالته وإِن كَرِه رَبُّ الفُتيا، لأنَّ الفتيا بخلافِ الاعتقاد حرام. وإِن كان مذهَبُ المفتي يقتضِي صِحَّتَه، وهو لا يجوزُ التقليدُ فيه لكونه على خلاف القواعدِ، أو النصوصِ، أو القياسِ الجليّ السالمِ كلِّ ذلك عن معارضٍ راجحٍ عليه، فهو منكَرٌ أيضًا تجبُ إزالتهُ. وإِن كان مما يَجوزُ التقليدُ فيه لا يَتعرَّض له وإن كان على خلافِ مذهبه.
وينبغي له: إذا وجدها منكرةً على أحدِ الوجوه، وعلِمَ أنَّ كاتبها إِذا سُيِّرتْ إِليه لا يسوؤه ذلك، وأنه يُغيرُها مع سلامةِ القلوب عن الأحقاد: فلْيَبعث بها إليه فهو أستَرُ له وأحفَظُ لعِرْضه، لئلا تَنتشرَ، أو يَقفَ عليها حاسدٌ أو عدوٌّ، فيَجدَ بذلك السبيلَ لغَرَضِه، وحسْمُ مادَّةِ الفسادِ من أوَّلها أولى. وإِن كان خَلَلًا من جهة سبقِ القلم أو نقصِ بعضِ الحروف فليُصلحْه هو بيده ولا يَبعثْ به إِليه، جمعًا بين مصلحة الفُتيا وحفظِ قلبِ كاتبها عن الألم وتعجيلًا لزوالِ المفسدة.
ولا ينبغي للمفتي: أن يَحكي خلافًا في المسألة لئلا يُشوِّشَ على المستفتي، فلا يَدري بأي القولين يأخذ (1)، ولا أن يَذكُرَ دليلًا ولا مَوضعَ النقلِ من الكتب، فإنَّ في ذلك تضييعًا للورق على صاحبه، إِلا أن يَعلمَ أنَّ الفُتيا سيُنكرُها بعضُ الفقهاء، ويقعُ فيها التنازعُ، فَيقصِدُ بذلك بيانَ وجه الصواب لغيره من الفقهاء، الذي يَتوهَّمُ مُنازعتَه، فيَهتدي به، أو يَحفظُ عِرضَه هو عن الطعن عليه. وأما متى لم يكن إِلَّا مجرَّدُ الإسترشاد من السائل فليَقتصر على الجواب من غير زيادة.
ومتى كان الإستفتاء في واقعةٍ عظيمة تتعلَّقُ بمَهَامّ الدين أو مصالحِ المسلمين، ولها تعلُّقٌ بوُلاةِ الأمور، فيَحسنُ من المفتي الإِسهابُ في القولَ وكثرةُ البيانِ والمبالغةُ في إِيضاح الحق بالعبارات السريعةِ الفهم، والتهويلُ على الجُناة (2)، والحضُّ على المبادرةِ لتحصيلِ المصالح ودرءِ المفاسد.
(1) جاء في "نهج البلاغة" 143:4 منسوبًا إلى سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: إذا ازدحم الجواب خَفِي الصواب. انتهى.
ومن كلام الإِمام أبي حنيفة رضي الله عنه: إذا كثُرَ الجواب ضاع الصواب. وجاء في وصيته الجامعة التي أوصى بها تلميذَه الإِمامَ أبا يوسف بعد اكتماله رضي الله عنه قولُه: "ومن جاءك يستفتيك في المسائل، فلا تُجبْ إِلَّا عن سؤاله، ولا تَضُمَّ إليه غيرَه، فإنه يُشوِّشُ عليكَ جوابَ سؤاله". كما في آخر "الأشباه والنظائر" لإبن نجيم ص 171.
(2)
ومن صور التهويل أن يسلك سبيل التعريض فيما يُسأل عنه، إذا رأى في ذلك مصلحه للمستفتي، لينزجر عن جنايته، مثلُ أن يَسأله إنسان عن القاتل هل له من توبة؟ ويَظهر للمفتي بقرينة أنه إن أَفتَى بأن له توبة ترتب عليه مفسدة، وهي أن القاتل يستهون القتل لكونه يجد بعد ذلك منه مخرجًا، فيقول المفتي - والحالة هذه - صح عن ابن عباس أنه قال: لا توبة لقاتل. فهو صادق في أنه صح عن ابن عباس وإن كان المفتي لا يعتقد ذلك، ولا يُوافِق ابنَ عباس في هذه المسألة، لكن السائل إنما يَفهم منه موافقتَه ابن عباس، فيكون سببًا لزجره. أفاده النووي في "شرح صحيح مسلم" 11:174.
ويَحسُنُ بسطُ القول في هذه المواطن وذكرُ الأدلَّةِ الحاثَّةِ على تلك المصالح الشرعية، وإِظهارُ النكيرِ في الفُتيا على مُلابِس المنكراتِ المجمَعِ على تحرِيمها وقُبحها. ولا ينبغي ذلك في غير هذه الَمواطن بل الإقتصارُ على الجواب.
ومتى كان للمسألة شروطٌ وتفاصيلُ منها قريب ومنها بعيد: فالمتعيِّنُ على المفتي ذكرُ الشروطِ والتفاصيلِ القريبة دون البعيدة، فإِذا سُئلَ عن مُطَلِّقٍ هل له الرَّجعةُ أم لا؟ فيَذكرُ شروطَ كونِها بعد الدخول، ودُونَ العَدَدِ المُحوِجِ لنكاح زوجٍ ثان، ويَذكُرُ عدَمَ انقضاء العِدَّة، ونحوَ ذلك. ولا يَذكرُ الرِّدَّةَ الطارئةَ على أحدِ الزوجين ونحوَها لكونِها نادرةً في الوجود. وعلى هذا المنوال يذكرُ أبدًا القريبَ دون البعيد النادر.
ولو وجَبَ على المفتي أن يَذكر جميعَ ما يتعلَّقُ بالفُتيا من الشُّروطِ والتفاصيلِ وإِن بَعُدَ لصارت الفُتيا في نحوِ المجلَّد الكبير، وهذا فسادٌ عظيم في ضياع الوقت والورقِ والفهم.
ولا ينبغي للمفتي (1): إِذا كان في المسألة قولانِ أحدُهما فيه تشديدٌ والآخَرُ فيه تخفيف: أن يُفتي العامَّةَ بالتشديد، والخواصَّ من ولاةِ الأمور بالتخفيف، وذلك قريبٌ من الفسوقِ والخيانةِ في الدّين، والتلاعبِ بالمسلمين، ودليلُ فراغِ القلب من تعظيمِ الله تعالى وإِجلاله وتقواه، وعِمارتِه باللَّعبِ وحُب الرياسة والتقرُّبِ إِلى الخلق دون الخالق! نعوذ بالله تعالى من صفاتِ الغافلين (2).
(1) هذا المقطع إلى آخره منقول في "تبصرة الحكام" 1: 51 - 52، 55 - 56.
(2)
وقد سقط كثير من المفتين، ولحقتهم الكراهة والزَّرَايةُ، من جَرَّاء تفرِقتهم =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= في فتواهم بين أن تكونَ لقريب يُراعَى أو حاكم يُرضَى، أو تكونَ لغيرهما. وقد عقد الشاطبي فصلَا في كتابه "الموافقات" 4: 135 - 140 أورَدَ فيه طائفةَ من تلك الفتاوى التي أَسقطت أصحابَها وجلَبَتْ السَّخطة عليهم. فنسأل الله الهدايةَ والصونَ والسلامةَ والعون.
وقال الإِمام ابن القيم - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في آخر "إعلام الموقعين" 4: 222، في الفصل الذي عقده لفوائد تتعلق بالفتوى: "الفائدةُ التاسعةُ والثلاثون: لا يجوز للمفتي تتبع الحِيَل المحرَّمةُ والمكروهة، ولا تتبع الرُّخَص لمن أراد نفعَه، فإنْ تتَبع ذلك فُسِّقَ، وحَرُمَ استفتاؤه، فإن حَسُنَ قصدُه في حِيلةِ جائزة لا شبهة فيها ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرجِ جاز ذلك، بل استُحبَّ، وقد أرشد الله نبيه أيوب عليه السلام إلى التخلص من الحِنث بأن يأخذ بيده ضِغْثاَ فيَضربَ به المرأةَ ضربةً واحدة.
وأرشد النبيُّ صلى الله عليه وسلم بلالاً إلى بيع التَّمْر بدراهم، ثم يشتري بالدراهم تَمْراً آخر، فيتخلَّصُ من الربا.
فأحسَنُ المخارج ما خَلَصَ من المآثم، وأقبَحُ الحِيَل ما أوقع في المحارم، أو أَسقَط ما أوجبه اللهُ ورسولُه من الحقِّ اللازم، والله الموفق للصواب". انتهى.
وما في "حلية الأولياء" لأبي نعيم 367:6، في ترجمة (سفيان الثوري):"كان سفيان الثوري يقول: إنما العلم عندنا الرُّخَصُ عن الثقة، فأمَّا التشديدُ فكلٌّ يحسنه". انتهى. فالظاهرُ أنه يعني به المَخْرَجَ المستنِدَ إلى دليل شرعي، والله أعلم.
ومن لطيف ما يُذكَر في جنب الترخص: ما قاله الإِمام ابن الجوزي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - عن نفسه، في كتابه "صيد المخاطر" 2: 304، وقد ترخص في بعض الأمور:
"ترخَصتُ في شيء يجوزُ في بعض المذاهب، فوجدتُ في قلبي قسوةَ عظيمة، وتخايَلَ في نوعُ طَرْدِ عن البَاب، وبُعْدٌ وظُلمةٌ تكاثَفَتْ.
فقالَتْ نفسي: ما هذا؟ أليس ما خرجتَ عن إِجماع الفقهاء؟ فقلتُ لها: يا نفسَ السوء! جوابك من وجهين:
أحدُهما: أنك تأوَلتِ ما لا تعتقدين، فلو استُفتِيتِ لم تُفتِي بما فَعَلْتِ. قالت:=
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لو لم أعتقد جوازَ ذلك ما فعلتُه. قلتُ: إِلَّا أنَّ اعتقادَكِ هو ما تَرْضَينَه لغيرِكِ في الفتوى.
والثاني: أنه ينبغي لكِ الفَرَحُ بما وجدتِ من الظلمة عَقِيبَ ذلكِ، لأنه لولا نورٌ في قلبكِ ما أثر مِثلُ هذا عندكِ. قالت: فلقد استوحشتُ بهذه الظلمة المتجددة في القلب. قلت: فاعزمي على الترك، وقدَّري ما تركتِ جائزاً بالإِجماع، وعُدِّي هجرَهُ ورعاً، وقد سلمتِ".