الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ
ينبغي للمفتي إِذا وقعَتْ له مسألةٌ غيرُ منصوصة، وأراد تخريجَها على قواعد مذهبه: أن يُمعِنَ النظرَ في القواعد الإِجماعيةِ والمذهبية، هل فيها ما يُوجبُ انقداحَ فرقٍ بين الصورةِ المخرَّجة والأصلِ المخرَّجِ عليه أم لا؟
فمتى توهَّمَ الفَرْقَ، وأنَّ ثَمَّ معنى في الأصل مفقودٌ في الصورة المخرَّجة، أمكن أن يُلاحظَه إِمامُه المقرِّرُ لتلك القاعدة في مذهبه: امتَنَع التخريجُ، فإِنَّ القياس مع الفَرْقِ باطل، ولأن نسبةَ المفتي إِلى قواعد مذهبه كنسبة المجتهد إِلى قواعد الشريعة، فكما يَمتنعُ على المجتهد القياسُ على قواعد الشرع مع الفارق، كذلك يَمتنعُ قياسُ المفتي مع قيامِ الفارق.
ولهذا التقرير لا يَجوزُ لمفتٍ أن يُخرِّجَ غيرَ المنصوص على المنصوص إِلَّا إِذا كان شديدَ الاستحضار لقواعدِ مذهبه وقواعدِ الإِجماع، وبقَدْرِ ضَعْفِه في ذلك يَتَّجِهُ منعُه من التخريج، بل لا يُفتي حينئذ إِلَّا بمنصوصٍ إِن كان له الاطلاعُ على منقولاتِ مذهبه، بحيث لا يَخفَى عليه غالبًا أنه ليس في مذهبه ما يقتضِي تقييدَ هذا النَّصَ المطلَقِ الذي أَفتى به، ولا يُخصِّصُ عمومَه.
فإِن لم يكن له هذه الأهليةُ ولا هذا الاطِّلاِعُ امتَنَع أن يُفتي مطلقًا، حَفِظَ نَصَّ المسألةِ أم لا؟ لأنَّ هذا النص الذي حفِظه يَحتمل أن يكون قُيِّد في المذهب بقيدٍ غيرِ موجود في الفتيا، وتَحرُمُ عليه الفُتيا حينئذ.
وهذا يقتضي أنَّ مَنْ لا يدري أصولَ الفقه يَمتنعُ عليه الفُتيا، فإِنه
لا يَدري قواعدَ الفروقِ والتخصيصات والتقييداتِ على اختلاف أنواعِها إِلَّا مَن دَرَى أصولَ الفقه ومارَسَهُ.
مسألة
كان الأصلُ تقتضي ألا تَجوزَ الفُتيا إِلَّا بما يَرويه العدلُ عن العدل، عن المجتهِد الذي يُقلِّدُه المفتي حتى يَصِحَّ ذلك عند المفتي (1)، كما تصحُّ الأحاديث عند المجتهد، لأنه نقلٌ لدين الله تعالى في المَوْضِعَيْنِ. وغيرُ هذا كان ينبغي أن يَحرُم. غير أنَّ الناس توسَّعوا في هذا العصر فصاروا يُفتون من كتبٍ يطالعونها من غير رواية، وهو خطَرٌ عظيم في الدين وخروجٌ عن القواعد.
غير أنَّ الكتبَ المشهورةَ لِشُهرتِها بَعُدَتْ بُعدًا شديدًا عن التحريف والتزوير، فاعتَمَد الناسُ عليها اعتمادًا على ظاهر الحال. ولذلك أيضًا أُهملت روايةُ كتبِ النحو واللغةِ بالعنعنة عن العدول، بناءً على بُعدها عن التحريف، وإِن كانت اللغة هي أساسَ الشرع في الكتاب والسُّنَّة، فإِهمالُ ذلك في اللغةِ والنحوِ والتصريفِ قديمًا وحديثًا، يَعْضُدُ أهلَ العصر في إِهمال ذلك في كتب الفقه بجامعِ بُعد الجميع عن التحريف.
وعلى هذا تحرُمُ الفتوى من الكتب الغريبة التي لم تَشتهر، حتى تتظافَرَ عليها الخواطرُ ويُعلَمَ صِحَّةُ ما فيها، وكذلك الكتبُ الحديثةُ التصنيفِ إِذا لم يَشتهر عَزْوُ ما فيها من النُّقول إِلى الكتب المشهورة، أو يُعلَمْ أنَّ مُصنِّفَها كان يعتمدُ هذا النوعَ من الصحة، وهو موثوق بعدالته، وكذلك حواشي
(1) هذه المسألة بتمامها منقولة في "تبصرة الحكام" 1: 54 - 55، 58 - 59، و "معين الحكام" ص 27 - 28، 32.
الكتب تَحرُمُ الفتوى بها لعدم صحتها والوثوقِ بها (1).
(1) علَّق العلامة القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 54 - 55، 58 - 59 على الجملة الأخيرة بقوله:"ومُرادُه إذا كانت الحواشي غريبةَ النقل. وأمَّا إذا كان ما فيها موجودًا في الأمهات أو منسوبًا إلى محله، وهي بخطِّ من يُوثَقُ به فلا فرق بينها وبين سائر التصانيف. ولم تزل العلماءُ ينقلون ما على حواشي كتب الأئمة الموثوقِ بعلمهم المعروفةِ خطوطُهم، وذلك موجود في كلام القاضي عياض والقاضي أبي الأصبغ بن سَهْل وغيرهما، إذا وجدوا حاشيةً يعرفون كاتبها نقلوا ذلك عنه ونسبوها إليه، وأدخلوا ذلك في مصنَّفاتهم، وأمَّا حيث يُجهَل الكاتب ويكونُ النقلُ غريبًا فلا شكَّ فيما قاله القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - ". انتهى.
ونقَلَ كلامَ القرافي أيضًا القاضي علاءُ الدين الطرابلسي الحنفي في "معين الحكام" ص 27 - 28، 32. ثم تعقبَّه بكلام ابن فرحون المذكور بالحرف دون أن يعزوه إليه! لكنه مثَّل ببعض علماء الحنفية فقال:"ولم تزل العلماء ينقلون ماعلى حواشي كتب الأئمةِ الموثوقِ بعلمهم، المعروفةِ خطوطُهم، وذلك موجود لبرهان الدين صاحب "المحيط"، وبرهان الدين صاحب "الهداية" وغيرِهما، إذا وجدوا حاشيةَ يعرفون كاتبها نقلوا ذلك عنه ونسبوها إليه، وأدخلوا ذلك في مصنَّفاتهم، وأما حيث يُجهَلُ الكاتب، ويكون النقل غريبًا فلا شكَّ فيما قاله، والله أعلم". انتهى.
وانظر - لزامًا - كتاب "الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة" للإِمام عبد الحي اللكنوي ص 59 - 65 بتحقيق العبد الضعيف، فقد استوعَبَ فيه مبحثَ النقل عن الكتبِ المروية بالإسناد، والكتبِ التي لا إسناد لها وما يقوم فيها مقامَ الإِسناد، وما يُعتمد منها وما لا يُعتمدَ، على خير وجه وأوفاه.