الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّوَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونْ
هل يجبُ على الحاكم أن لا يَحكم إِلَّا بالراجح عنده؟ كما يجب على المجتهد (1) أن لا يُفتي إِلَّا بالراجح عنده؟ أَوْ لَهُ أن يَحكم بأحدِ القولين وإِن لم يكن راجحًا عنده (2)؟
جَوَابُهُ
أنَّ الحاكم إِن كان مجتهِدًا فلا يجوز له أن يَحكم أو يُفتي إلَّا بالراجح عنده، وإِن كان مقلِّدًا جاز له أَنْ يُفتي بالمشهور في مذهبه، وأَنْ يَحكُمَ به وإِن لم يكن راجحًا عنده، مقلِّدًا في رجحانِ القول المحكوم به إِمامَهُ الذي يُقلِّدُه، كما يُقلِّدُه في الفُتْيا. وأما اتّباعُ الهوى في الحكم أَو الفُتْيَا فحرامٌ إِجماعًا.
نعَمْ اختلف العلماء فيما إِذا تعارضت الأدلَّةُ عند المجتهدِ وتساوَتْ، وعجَزَ عن الترجيح هل يتساقطان أو يَختارُ واحدًا منهما يُفتي به؟ قولانِ للعلماء.
فعلى القولِ بأنه يَختارُ أحدَهما يُفتي به: له أن يختار أحدَهما يَحكمُ به، مع أنه ليس أرجحَ عنده بطريقِ الأولى، لأنَ الفُتْيَا شَرْعٌ عام على
(1) في نسخة (ر): (على المفتي). وكلاهما صحيح كما تتبيَّنَه بعدُ.
(2)
هذا السؤال وجوابه منقول في "تبصرة الحكام" 1: 52، 56. وفتاوى الشيخ محمد عليش المسماة "فتح العلي المالك على مذهب الإمام مالك" 1: 58 - 59.
المكلّفين إِلى قيام الساعة، والحكمُ يختصُّ بالوقائع الجزئية الخاصَّة فتجويزُ الاختيار في الشرائع العامَّة أولى أن يجوز في الأمور الجزئية الخاصَّة، وهذا مقتضى الفقهِ والقواعد الشرعية.
ومن هذا التقرير يُتصوَّرُ الحكمُ بالراجح وغيرِ الراجح، وليس ذلك اتّباعًا للهوى، بل ذلك بعدَ بَذْلِ الجهدِ والعجزِ عن الترجيحِ وحصولِ التساوي، أمَّا الحكمُ أو الفُتيا بما هو مرجوحٌ فخلافُ الإِجماع (1).
(1) نقل العلامة الشيخ عليش - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - هذا السُّؤَالُ وجوابه في فتاواه (فتح العلي المالك) 1: 58 - 59 ثم أتبعَهُ بقوله: "فانظر وتأمل قول القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - كيف مَنَع المجتهدَ من الحكم والفتيا إلَّا بالراجح عنده، وأجازَ للمقلِّد أن يُفتي أو يَحكم بالمشهور وإن لم يكن راجحًا عنده ولا صحيحًا في نظره، مع كونه أهلاً للنظر وعارفًا بطرق الترجيح وأدلةِ التشهيرِ والتصحيح، فإذا نَظَر ورجَحَ عنده غيرُ المشهور، جاز له أن يفتي بغير الراجح عنده إن كان مشهورًا عند إمامه وإن كان شاذًا مرجوحًا في نظره، لكونه يُقلِّدُ في ترجيح المشهور إمامَهُ الذي قلَّده في الفتوى.
فإن قلت: لفظُ الجواز يقتضي أن ليس على المقلَّد من مُفتٍ أو عالم أن يُقلِّدَ إمامَه في رجحان قول من أقواله ولو رَجَحَ عنده الإِمامُ القائل، لأنه إذا لم يكن تقليده لهذا الإِمام في أصل القول لازمًا، بل له أن يُقلِّدَه أو يُقلِّدَ غيرَه وإن كان الغيرُ مفضولاً في اجتهاده - حسبما هو مختار القاضي أبي بكر وجماعةٍ من الأصوليين والفقهاء وأكثرِ الشافعية وصحَّحه ابنُ الصلاح - فيكون فيه دليل على جواز العمل بغير الراجح قضاءَ وفتوى، إذ لا زائدَ في المشهور سوى الرجحان.
قلت: لا دليل فيه على جواز العمل بغير الراجح، لأنه لا يَلزَمُ من العمل على المرجوحِ عنده الراجحِ في نظر إمامه أو عكسِه العَملُ بالمرجوح في نظرهما معًا، والله تعالى أعلم.
فإن قلتَ: قولُ شهاب الدين القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -: "أمَّا الحكمُ والفتيا بما هو مرجوح فخلافُ الإِجماع" مع قوله أولَ الكتاب في ص 44: "للحاكم أن يَحكم بأحدِ =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= القولين المتساويين من غير ترجيح ولا معرفةِ أدلة القولين إجماعًا": تدافُعٌ وتناقضٌ كما توهَّمه القاضي برهان الدينَ ابن فرحون - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "تبصرته".
وبيانُهُ بأن يقال: قولُهُ: للحاكم أن يَحكم بأحد القولين الخ
…
يقتضي أنه يجوز له الحكم بأحدهما ابتداء من غير تكليف بنظرِ في الراجح منهما. وقولُهُ: إذا تعارضت الأدلة عند المجتهد وتساوت وعجز عن الترجيح الخ
…
يقتضي أنه لا يَحكم بغير الراجح إلَّا بعد إمعان النظرِ هل في القولين راجحٌ أو لا؟ حتى يَعجزَ عن الترجيح ويَحصُلَ التساوي.
قلتُ: لا تدافُعَ بين الكلامين ولا تناقض، لأن ما كُلِّفَ فيه بالنظر إنما هو حيث يكون في القولين راجِحٌ ومرجوحٌ والمقلِّدُ أهلٌ للترجيح، وحيث أجاز الحكمَ بأحد القولين من غير نظرٍ فرَضَ القولين متكافئين لا راجحَ فيهما في نظره، فلا تدافُعَ لعدم شرطه الذي هو اتحادُ المحكوم عليه، والله سبحانه وتعالى أعلم.
فإن قلت: قولُهُ: "أمَّا الحكمُ والفتوى بما هو مرجوح فخلافُ الإِجماع". يُناقضُ قولَه: "فإن كان مقلِّداَ جاز له أن يفتي بالمشهور في مذهبه وأن يحكم به وإن لم يكن راجحًا عنده" ومُدافعٌ له.
قلتُ: الذي حُكِيَ الإِجماعُ على تحريمه ومنعه إنما هو أن لا يفتي بالراجح في نظره ولا في نظر مقلِّده وإمامه معًا، والذي جُوِّزَ فيه الحكُم والفتوى بالمرجوح إنما هو إذا كان راجحًا في نظر متبوعه مرجوحًا في نظره هو، فلم يخرج في محل الجواز عن الراجح جملة، وفي محل الإِجماع قد خَرَج عنه جملةً، والله أعلم".