المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌السؤال الثالث والثلاثون - الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام

[القرافي]

فهرس الكتاب

- ‌تقدمة الطبعة الثانية:

- ‌تقدمة الطبعة الأولى:

- ‌أصول الكتاب وعملي فيه

- ‌تسمية الكتاب وتاريخ تأليفه

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌مؤلفاته مرتبة على أوائل الحروف مشاراً للمطبوع منها

- ‌السُّؤَالُ الأَوَّلُ

- ‌السُّؤَالُ الثَّانِي

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِعُ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسُ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّانِي

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّالِثْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَال الرَّابِعْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الخَامِسْ

- ‌وَالجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّادِسْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ السَّابِعْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ الثَّامِنْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ التَّاسِعْ

- ‌وَالْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالُ العَاشِرْ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ عَشَرْ

- ‌السُّؤَالُ الْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الْحَادِي وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّوَالُ الثَّانِي وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِع وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسِ وَالْعِشْرُونْ

- ‌المسألة الأولى

- ‌المسألة الثانية

- ‌المسألة الثالثة

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالْعِشْرُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الحَادِي وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّانِي وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الرَّابِعْ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الخَامِسُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّادِسُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ السَّابِعُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الثَّامِنُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ التَّاسِعُ وَالثَّلَاثُونْ

- ‌السُّؤَالُ الأَرْبَعُونْ

- ‌التَّنْبِيهُ الأَوَّلُ

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّانِي

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ

- ‌التَّنْبِيهُ الرَّابِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الخَامِسُ

- ‌التَّنْبِيهُ السَّادِسُ

- ‌التَّنْبِيهُ السَّابِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الثَّامِنُ

- ‌التَّنْبِيهُ التَّاسِعْ

- ‌التَّنْبِيهُ الْعَاشِرُ

- ‌بيانُ رأي طائفة من علماء السادة المالكية في الِإشكال الواقع في كلام الإِمام القرافي

- ‌إلحاقةٌ متصلة بترجمة الإِمام القَرَافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى

- ‌الأستاذ الشيخ: عبد الرحمن زين العابدين الكُرْدِي(كما عَرَفتُهُ)

- ‌مواهب الشيخ عبد الرحمن زين العابدين الفريدة

- ‌المصادر والمراجع

الفصل: ‌السؤال الثالث والثلاثون

‌السُّؤَالُ الثَّالِثُ وَالثَّلَاثُونْ

أيُّ شيء يُفيدُ الِإنسانَ أهليةَ أن يُنشئ حُكماً في مَواطنِ الخلاف، فيجبُ تنفيذُه ولا يجوزُ نقضُه؟ فهل ذلك لكل أحدٍ؟ أو إِنما يكون ذلك لمن حصلَ له سببٌ خاص؟ وما هو ذلك السبب؟ وهل هو واحد أو أنواعٌ كثيرة (1)؟

جَوَابُهُ

أنه لا خلافَ بين العلماء أنَّ ذلك ليس لكل أحد، بل إِنما يكون ذلك لمن حصَلَ له سببٌ خاصٌ، وهو وِلاية خاصة، ليس كلُّ الوِلايةِ تُفيدُ ذلك.

فمن الولاياتِ: ما لا يُفيدُ أهليةَ شيء من الأحكام، ومنها: ما يُفيدُ أهليةَ الأحكامِ كلِّها، ومنها: ما يُفيدُ أهليةَ بعضِ الأحكام، ومنها: ما تكون أهليةُ الأحكامِ بعضَها، ومنها: ما يكون كمالُها وجُملتُها بعضَ أهليةِ الأحكام.

ومن الولايةِ: ما يكون صريحًا في أهلية الحكم، ومنها: ما يكون صريحًا في عَدمِ أهلية الحكم، ومنها: ما يَحتملُها (2)، ومنها: ما يَحتملُها

(1) هذا السؤال وجوابُه باختصار منقول في "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12 - 15، 13 - 16، و"معين الحكام" لعلاء الدين الطرابلسي ص 10 - 12، 11 - 14.

(2)

هذه الجملة غير موجودة في نسخة (ر)، وهو الصواب لغَنَاءِ ما بعدَها عنها.

ص: 162

من حيث الجملة.

ثم الولاية لها طرفان وواسطة، فأعلاها: الخلافةُ التي هي الِإمامةُ "الكبرى" وأدناها التحكيمُ الذي يكون منِ جهة المتنازِعينِ، وبين هذين الطرفين وسائطُ كثيرة. فأسرُدُ من ذلك خمْسَ عشرةَ رُتبةً وأُمثّلُها وأُبيّنُ أحكامَها.

الرتبة الأولى: الإِمامةُ "الكبرى" فأهليةُ جميعِ أنواعِ القضاءِ في الأموال والدماءِ وغيرِها: جُزؤها، وهي صريحةٌ في ذلك، فتَتناولُ بصراحتها أهليةَ القضاء وأهليةَ السياسة العامَّة.

الرتبةُ الثانية: الوِزارةُ للإمامة. قال ابنُ بشير من أصحابنا (1): يجوز التفويض في جميع الأمور للوزير، ويَختصُّ الإِمامُ عنه بثلاثة أحكام:

1 -

لا يَعقِدُ ولاية العهد (2)، ويعقدُها الإِمام لمن يريد فيكون إِماماً للمسلمين بعده، كما فعَلَ الصديقُ رضي الله عنه مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(1) هو أبو عبد الله محمد بن سعيد بن بشير بن شَرَاحيل المَعَافِري الأندلسي. الفقيه القاضي العادل، خرج حاجًا فلقي مالكاً عالمَ المدينة فجالسه وسمع منه، وطلب العلم بمصر أيضًا. تولَّى قضاءَ الجماعة - قضاءَ القضاة - في قرطبة، فكان حسنَ القضاء صُلباَ في الحق لا تأخذه في الله لومةُ لائم، وبعَدْلِهِ يُضرَبُ المثل. أورد له المَقريُ في "نفح الطيب" 1: 389 - 392 أخبارًا من قضائه العادل تدلُّ على سمو مكانته وقوة صلابته ومتانة شخصيته، في إقامة العدل والحق مع السلطان فمن دونه. وكان يحيى بن يحيى الليثي رئيسُ علماء الأندلس يعظمه ويكثر الثناء عليه ويقول: ابنُ بشير أهلٌ أن يقتَدَى به. وتوفىِ في قرطبة سنة 198 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

(2)

أي الوزيرُ.

ص: 163

2 -

ولا يَستعفي من الولاية (1)، وللإِمام الإستعفاء من الإِمامة.

3 -

ولا يَعزِلُ من قلَّده الإِمامُ (1). ويُسمى هذا الوزيرُ وزيرَ تفويض (2).

ثم الوزراءُ أقسام، أعلاها: وزيرُ التفويض، ويليه: وزيرُ التنفيذ، وأدناها: وزيرُ الإستشارة.

ولا خفاءَ أنَّ وِزارةَ التفويض تَشملُ أهليةَ القضاء وغيرَها، وأنها صريحة في ذلك إِذا قال الإِمام: ولَّيتُك وِزارةَ تفويض، أو: فوَّضتُ إِليك التصرُفَ، ونحوَ ذلك. وأما إِن نَصَّ على أنه وزيرُ تنفيذٍ فقط، فإِذا حكَمَ الإِمامُ بشيء نفَّذه: فهذا ليس له أهليةُ الحكم. وكذلك وزيرُ الإستشارة.

الرتبة الثالثة: وِلايةُ الِإمارة على البلادِ وبعضِ الأقاليم، كالملوكِ مع الخلفاء. وهذه أيضًا صريحة في إِفادة أهلية القضاء إِذا صادفتْ الولايةُ أهلَها ومحلها. وتشملُ أهليةَ القضاء وغيرَها، من السياساتِ وتدبيرِ الجيوش وقَسْمِ الغنائم وتفريقِ أموال بيت المال ونحوِها.

الرتبة الرابعة: وزيرُ الأميرِ المولَّى على القُطْر. قال العلماء: ليس له أن يستوزِرَ وزيرَ تفويض إِلَّا بإِذنِ الخليفة، وله أن يَستوزر وزيرَ تنفيذ، فإِن أذِنَ له أن يَستوزر وزيرَ تفويض كان القضاءُ مندرِجاً في ولايته، كوزير الخليفة إِذا كان وزيرَ تفويض.

الرتبة الخامسة: الِإمارةُ الخاصَّةُ على تدبيرِ الجيوشِ وسياسةِ الرعيّة

(1) أي الوزيرُ.

(2)

قال ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 14، 15:"وهذا مع وجود أهلية القضاء، وإلَّا فهو جاهل لا يجوز له القضاء".

ص: 164

وحمايةِ البَيْضة، دون توليةِ القُضاةِ وجبايةِ الخراج. فهذه الولايةُ أيضًا مقتضى مذهبِ مالك أنَّ القضاءَ مندرجٌ في وِلايتِهم، فإِنَّ مالكاً يقول في الكتاب (1): لا يُنقَضُ ما حَكَمَتْ به وُلاةُ المياه. وفسَّره القاضي عِياضٌ (2)

(1) أي "المدوَّنة".

(2)

هو القاضي أبو الفضل عياض بن موسى اليَحْصُبي السَّبْتي المالكي، المحدِّثُ الفقيه الأصولي المتكلِّم المقرئ المؤرّخ الأديب اللغوي النحوي النسَّابة، الورع العابد الناسك التَّلَّاء للقرآن، الشَّيخُ الرُحْلة الإِمام، قاضي الأئمة وشيخ الإِسلام، وقدوة العلماء والصلحاء الأعلام، الشائعُ الصيت في كلِّ قطر ومصر، حاملُ لواء المنثور والمنظوم، مع الإِمامة الفذة في جملة من العلوم، شُهرتُه تغني عن التعريف به، بل لقد قيل - على ما في المَغْرِبِ من أفاضِل الأئمةِ في كلِّ جِيْل -:"لولا عِيَاضْ لما ذُكِرَ المغرب".

وُلِدَ في بلدة سَبْتَة من المغرب الأقصى، ونشأ فيها وأخذ العلم عن شيوخها وعلمائها، ثم رحل إلى الأندلس ورجع إلى بلده بعلم غزير، وفضل وفير، وتولَّى قضاءها ثم قضاءَ غَرْناطة، فكان صُلْباً فيه لا تأخذه في الله لومةُ لائم. وكان على صلابته في الحق محبوباً من الخاصة والعامة، وعلى غاية من الإِجلال والإكبار والهيبة والوقار عند الأمراء والولاة، وكان إلى هذا ليِّنَ الجانب، جَمَّ التواضع لطلبة العلم والناس، سمحًا كريمًا عليهم بمالِهِ وعلمِه، حتى مات وعليه خمسُ مِئةِ دينار.

ألَّف التواليف الكثيرة النافعة الفريدة الأصيلة، وقد أربت على ثلاثين مؤلَّفاً. ومن أشهر كتبه كتابُ "الشِّفا بتعريف حقوق المصطفى" صلى الله عليه وسلم، وقد شرَّقَت شُهرتُه وغربتْ، ولا يزال يَحتل مكانتَه الأصيلة على مرّ السنين وتعاقُبِ التأليف. وكتابُ "إكمال المُعْلِم بفوائد مُسْلم" كفَل به شرحَ المازِرِي على "صحيح مسلم" المسمَّى "المُعْلِم بفوائد مسلم". وكتابُ "مشارق الأنوار على صِحاح الآثار" في تفسير غريب "الموطأ" و "الصحيحين" وضَبْطَ أسماءِ الرجال والأماكن. وقد قيل فيه:"لو كُتِبَ بالذهب، ووُزِنَ بالجوهر لكان قليلًا في حقه".

وكتابُ "التنبيهات المستنبطة، على الكتب المدوَّنة والمختلِطَة" في عشرة أجزاء، =

ص: 165

بالولاةِ الذين فُوِّضَ إِليهم أمرُ المياه وهم مقيمون عندها. ولا شكَّ أن الذين فُوِّضَ إِليهم تدبيرُ الجيوشِ وغيرِها أعظمُ منهم، فنفوذُ حكمِهم بطريق الأولى، وفيه خلافٌ بين العلماء.

الرتبة السادسة: ولايةُ القضاء. وهذه الولايةُ مُتناوِلَةٌ للحُكم (1)، لا يَندرج فيها غيرُه، بخلاف ما تقدَّم. فهي تفيد إِنشاءَ الحكم في المختلَفِ فيه، أو القابلِ للخلاف إِن كانت الواقعة لم تقع بعد، ولم يتقدم فيها فُتيا ولا قضاء، وتُفيد تنفيذَ الحكمِ المجمَعِ عليه (2).

= عليه المعوَّلُ في تفسير ألفاظ (المدوَّنة) وحَل مشكلاتِها وتحرير رواياتها وتسمية رُواتِها، جَمعَ فيه بين شرح المعاني وضبطِ الألفاظ وذكرِ من رواها من الشيوخ والحفاظ.

وكتابُ "ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك"، وهو كتاب حافل مرجع لكل من جاء بعده في تراجم السادة المالكية، وقد طبعَتْ وِزارةُ الأوقاف والشؤون الإِسلامية في المملكة المغربية هذا الكتاب العظيم، فأحسَنَتْ بذلك إلى العلم والتاريخ والعلماء وما تزالُ تُسدِي الأياديَ بطبع الكتبِ النافعةِ النادرة، وتاجُ الدرَرِ التي أخرجَتْها كتابُ "التمهيد" للإِمام ابن عبد البر، و"تفسيرُ ابن عطية" فجزاها الله خيرًا وإحسانًا، وجَزَى الله الآمِرَ بذلك عاهلَ المغرب الحسنَ الثاني توفيقاً ورِضواناً.

ولد القاضي عياض في سَبْتَة سنة 476، وتوفي في مَرَّاكُش سنة 544 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - وأجزل أجره.

(1)

في نسخة (ر): (مُسَاوِية للحكم).

(2)

قال المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في " الذخيرة": ليس للقاضي السياسةُ العامَّة، لا سيما الحاكم الذي لا قدرة له على التنفيذ كالحاكم الضعيفِ القدرةِ على الملوكِ الجبابرة، فهو يُنشئ الإِلزامَ على الملِك العظيم، ولا يَخطُر له تنفيذُه لتعذُر ذلك عليه، بل الحاكمُ من حيث هو حاكم ليس له إِلَّا الإِنشاء، وأما قوةُ التنفيذ فأمرٌ زائد على كونه حاكماً، فقد يُفوضُ إليه التنفيذ وقد لا يندرج في ولايته.

وليس له قسمةُ الغنائم، وتفريق أموال بيت المال على المصالح، وإقامةُ =

ص: 166

الرتبة السابعة: ولايةُ المظالم، وأوَّل من أحدثَها في الإِسلام عبدُ الملك بن مروان (1)، فكان يجلسُ للمظالم يومًا يَخُصُّه، ويَرُدُ مشكلاتِها لإِدريسَ الأَوْدِيِّ (2). وله ما للقُضاةِ غير أنه أفسحُ مجالاً منهم،

= الحدود، وترتيبُ الجيوش، وقتالُ البغاة، وتوزيعُ الإِقطاعات، وإقطاعُ المعادن ونحوُ ذلك، فلا يجوز لأحدٍ الِإقدامُ عليه إِلَّا بإذن إمام الوقت الحاضر" انتهى من "تبصرة الحكام" لإبن فرحون 1: 12، 13، وتعقَبه في بعض كلامه بما لا يخلو عن تمحُلٍ فراجعه.

(1)

هو أبو الوليد عبد الملك بن مروان بن الحكم الأموي القرشي، من أعاظم الخلفاء ودُهاتِهم، نشأ في المدينة، وجالس الفقهاء والعلماء، ورَوَى الحديثَ عن أبيه وجابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة وابن عمر ومعاوية وأم سلمة وبَرِيرِة مولاة عائشة وغيرهم. ورُوي الحديثُ عنه أيضًا. وكان ناسكاَ متعبداً. قال الشعبي: ما ذاكرتُ أحدًا إِلَّا وجدتُ لي الفضلَ عليه إِلَّا عبدَ الملك، فما ذاكرته حديثًا ولا شِعْراً إِلَّا زادني.

وقال الذهبي في "سِيَرِ أعلام النبلاء" 4: 247: 9 كذا قال ابن سعد، وإنما استعمل معاويةُ أباه".

استعمله معاوية على المدينة، وهو ابن 16 سنة، وانتقلت إليه الخلافة بموت أبيه سنة 65، فضبط أمورها وظهر بمظهر القوة والحزم، فكان جباراً على معانديه، قويَّ الهيبة. قال الذهبي:"وكان من رجال الدهر، ودُهاةِ الرجال، وكان الحجاجُ من ذنوبه".

ونُقلت في أيامه الدواوين من الفارسية والرومية إلى العربية، وضُبِطَتْ الحروف بالنقَط والحركات. وهو أول من صَكَّ الدنانيرَ في الإِسلام، وهذه مَنْقَبَةُ شَرَفِ وَعزة إسلاميةِ واستقلال، تَدُلُّ على نفسيته الرفيعة الأبِيَّة، وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد صَك الدراهم. وكان يقال: معاوية للحِلْم، وعبُد الملك للحَزْم. وكان نقشُ خاتمه:"آمنتُ بالله مُخلِصاً". ولد سنة 26، وتوفي سنة 86 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -. انتهى باختصار من "الأعلام" للزركلي وغيرِهِ مع زيادة.

(2)

هو إدريسُ بن صَبِيح الأودي، من كبار أتباع التابعين، ومن رواة الحديث. =

ص: 167

لأنَّ له الأخذَ بالقرائنِ وشواهدِ الأحوالِ ما لا يأخذُ به القُضاة، وله وجوهٌ كثيرة اختَصَ بها عن القضاة مبسوطة في الفقه (1). فهذا أيضًا له إِنشاء الحكمِ

= روَى عن سعيد بن المسيَّب، وروى عنه حماد بن عبد الرحمن الكلبي. وأخرج له الإِمام ابن ماجه في "سننه"، وذكره ابن حِبَّان في كتابه "الثقات" وقال "يُغرِب ويُخطئ على قلته". وقال ابنُ أبي حاتم الرازي في "الجرح والتعديل" 1: 264 "سألت أبي عنه فقال: هو مجهول" انتهى. ويعني أبو حاتم بذلك جهالةَ الحال والوصف، لا جهالةَ عينه، كما بيّنه الإِمام عبد الحي اللكنوي في كتابه "الرفع والتكميل في "الجرح والتعديل" ص 103 - 107 من طبعته الأولى وص 160 من طبعته الثانية، وص 229 من طبعته الثالثة.

(1)

قال المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الذخيرة": "والفرقُ بين نظر والي المظالم وبين القضاة من عشرة أوجه:

الأول: له - يعني ناظر المظالم - من القوة والهيبة ما ليس لهم.

الثاني: أنه أفسحُ مجالاً وأوسعُ مقالًا.

الثالث: أنه يَستعمل من الإرهاب وكشفِ الأسباب بالأمارات الدالة وشواهدِ

الأحوال اللائحة ما يؤدي إلى ظهور الحق، بخلافهم.

الرابع: أَنه يقابِلُ من ظَهَر ظلمُه بالتأديب، بخلافهم.

الخامس: أنه يتأنَّى في ترداد الخصوم عند اللبْس لِيُمعن في الكشف، بخلافهم إذا سألهم أحدُ الخصمين فصلَ الحكمِ لا يؤخرونه.

السادس: له ردُّ الخصوم إذا أعضلوا إلى وساطة الأُمناء ليفصلوا بينهم صُلحاً عن تراض، وليس للقُضاةِ إِلا برضا الخصمين.

السابع: له أن يُفسِحَ في ملازمة الخصمين إذا وَضَحَتْ أماراتُ التجاحد، ويأذَنَ في إلزام الكفالة فيما شُرعَ فيه التكفيل، لينقادَ الخصومُ إلى التناصف ويتركوا التجاحد، بخلافهم.

الثامن: أنه يَسمع شهادات المستورين، بخلافهم.

التاسع: له أن يُحلِّفَ الشهودَ إذا ارتاب فيهم، بخلاف القضاة.

العاشر: له أن يبتدئ باستدعاء الشهود ويسألهم عما عندهم في القضيَّة، بخلاف =

ص: 168

في المختلفِ فيه، وله تنفيذُ الأحكامِ المجمَعِ عليها إِذا ثبتَتْ أسبابُها.

الرتبة الثامنة: نُوَّابُ القُضَاة في عملٍ من أعمالهم أو مُطْلَقاتهم (1)

= القضاة لا يَسمعون البينة حتى يريد المدعي إحضارَها، ولا يسمعونها إِلا بعدَ مسألةِ المدعِي لسماعها". نقله العلامة القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام (113:2، 130. ثم قال عقبه: (وهذا تلخيصُ ما ذكره الماوردي الشافعي في "الأحكام السلطانية" في الكلام على ولاية الكشف عن المظالم وفي أحكام الجرائم ص 70 - 71.

ونصوصُ المذهب - أي المالكي - تقتضي أن للقاضي تعاطيَ أكثر هذه الأمور، فقد قال سُحنون: ينبغي للقاضي أن يشتدَّ حتى يستنطقَ الحق، ولا يَدَعَ مِن حق الله شيئًا، ويَلينَ في غير ضعف. نقلَه ابن بطال في "المقنع". وهذا نصٌ في استعمال القوَّة والهيبة". انتهى كلامُ ابن فرحون.

وقد ساق بعده 2: 114، 132 الشواهدَ على أن للقاضي في مذهب المالكية أن يتعاطى ما يَسُوغُ لوالي المظالم ثم قال:"فتحصلَ من هذا أن ما نقله القرافي في "الذخيرة" ليس هو مذهبَ مالك رحمه الله ". انتهى. أي بل هو مذهبُ الشافعي. وقد ذَكَرَ هذه الفروقَ العشرة بين والي المظالمِ والقضاةِ القاضي أبو يعلى الحنبلي في كتابه "الأحكام السلطانية". أيضاً ص 63 - 64 وأقرها.

ونقلَ صاحب "معين الحكام" فيه ص 169، 213 كلامَ القرافي في الفروق العشرة، ثم ذيله بعبارة ابن فرحون المذكورة هنا بالحرف دون أن يعزوه إليه! ولكنه نقَلَ المثال من كتب الحنفية فقال:"ونصوص المذهب تقتضي أنَّ للقاضي تعاطيَ أكثرِ هذه الأمور، فقد قالوا في خصال القاضي إنه يأخذُ نفسه بالمجاهدة، ويَسعَى في اكتساب الخير ويطلُبُه، ويستصلحُ الناسَ بالرهبة والرغبة، ويَشتدُّ عليهم في الحق، ولا يدَعُ من حق الله شيئًا، ويلينُ من غير ضعف، حتى قال في "المحيط": لو سلَّم عليه أحَدُ الخصمين في المجلس وسِعَه أن لا يَردَّ في أحد القولين، إبقاءً لحرمةِ المجلس. وهذا نصٌّ في استعمال القوّة والهيبة".

(1)

هكذا في نسخة (ر): (أو مُطلقاتهم). وفي غيرها (أو مطلقًا فهم

). وهذه تحريف.

ص: 169

مساوون للقُضاةِ الأصولِ في أنَّ لهم إِنشاءَ الحكم في غير المجمَعِ عليه، وتنفيذَ المجمَع عليه إِذا قامت الحججُ وتعينتْ الأسباب (1). وولايتُهم مساويةٌ لمنصبِ الحكم من غير زيادة ولا نقصان، غيرَ أنَّ الفرق بقلَّةِ العمل وكثرته من جهة كثرة الأقطار وقِلَّتها، وأنَّ الأصلَ له عَزْلُ الفرعِ بخلاف العكس،

(1) علَّق عليه القاضي ابن فرحون في "تبصرة الحكام" 1: 13، 14 بقوله:"هذا الذي قاله إن كان في النائب المستخلَف بإذن الإِمام فمسلَّم، وإلا فالمنقولُ في كتب المذهب خلافُ ذلك، ففي "وثائق ابن العطار" و"مُعين الحكام" و"المُذْهَب" لإبن راشد وغيرِ ذلك: أن القاضي إذا استخَلَف بإذن الإِمام فللمستخلف التسجيلُ، وإلا فيَرفَع إلى القاضي ما ثبت عنده ويُخبره به بمحضرِ عدلين يَثبت بهما عنده إخبارُه، وحينئذ يلزَم القاضيَ أن يُمضي فعلَه ويُسجل به للمحكوم له.

قال ابن العطار: ولا يُسجِّل مستخلَف القاضي بما ثبت عنده، فإن فَعَلَ لم يَجز تسجيلُه ويَبطل، ولا يقوم للقائم به حجة إِلَّا أن يُجيزه القاضي الذي استخلَفَه قبل أن يُعزَل أو يموت. وهذا يَدلُ على أن القاضي إذا أذِنَ لمستخلَفِه في التسجيل جاز، وهو خلافُ ما في "معين الحكام" وغيرِه.

وفي "المُتَيْطِيَّة" أن للقاضي أن يُبيح لمن قدَمه النظرَ في أموال الأيتام والغائب، والتسجيلَ في سائر الحكومات، وله أن يَحظر عليه ذلك، فيَفعَل من ذلك ما رآه باجتهاده. فينبغي أن يُحمَلَ كلامُ القرافي على أنه أذِنَ لنائبه في جميع ما تقلَّده عن الإِمام". انتهى. وذكر صاحبُ "معين الحكام" الطرابلسي الحنفي كلامَ القرافي في هذه الرتبة في ص 11، 12 منه، ثم استدرك عليه هذا الإستدراك بعبارة ابن فرحون مختصرةً دون أن يعزوها إليه.

(تكملة): المُتَيْطِيَّة اسمُ كتاب في الشروط والوثائق، لأبي الحسن علي بن عبد الله بن إبراهيم الأنصاري الأندلسي المُتَيْطِي المالكي، المتوفى سنة 570 رحمه الله تعالى، كما في ترجمته في "نيل الابتهاج بتطريز الديباج" للتُنْبكْتي ص 199، قال فيها:"ومُتَيْطَة قرية من أحواز الجزيرة الخضراء بالأندلس".

ص: 170

وهي فروق: ليست زائدةً في مقتضى الولاية.

الرتبة التاسعة: ولايةُ الحِسْبَة، وهي تَقْصُرُ عن القضاءِ في إِنشاء كلِّ الأحكام، بل يَجتهدُ (1) في إِنشاء الأحكام في الرواشنِ (2) الخارجةِ من الدور (3) وبناءِ المَصاطِب في الطُرُقِ ونحوِ ذلك مما يتعلَّقُ بالحِسبة (4)،

(1) أي المحتسِبُ.

(2)

الرواشن: جمعُ رَوْشَن، وهي الكُوة كما في "الصحاح" و"القاموس"، وقال الزبيدي في شرحه "وهي فارسية معربة".

لكنْ قولُ المؤلِّف هنا: (الرواشِنِ الخارجَةِ من الدور)، يَدُلُّ على أنه تقصِدُ بالرواشِنِ هنا: الشُّرُفاتِ البارزةَ إلى هواءِ الطريق، لا مُجَرد الكُوَى أو النوافذِ غيرِ البارزة".

أفاده أستاذنا وشيخنا العلامة الفقيه مصطفى أحمد الزرقاء أحسن الله إليه.

(3)

هكذا في نسخة (ر)، وفي غيرها:(الخارجةِ من الآدُر). قال في "المصباح المنير": "الدارُ معروفة، وهي مؤنثة، والجمعُ أدْوُرٌ مثلُ أفلُس، وتهمُز الواو ولا تُهمز، وتُقلَب فيقال: آدُر، وتُجمع أيضًا على دِيار ودُور".

(4)

انظر تفصيلًا حسنًا فيما يتعلق بالحسبة والمفارقة والموافقة بينها وبين أحكام القضاء في كتاب "الأحكام السلطانية" للقاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي ص 268 - 292. وللشيخ ابن تيمية كتابُ "الحسبة" من أنفع الكتب في بابه، وترى تلخيصَه بقلم تلميذه ابن القيم في آخر كتابه "الطرق الحكمية" - رَحِمَهُمَا اللهُ تَعَالَى -.

هذا، وقد ألِّفتْ فيها كتب خاصة مستقلة، استوفت ما يجب على المحتسب العناية به والسعي إليه، وهي كتب كثيرة قاربت الثلاثين كتابًا، فضلاً عن الأبحاث الكثيرة التي كُتبت فيها قديمًا وحديثًا، وقد استَوعَب بيانَ تلك الكتبِ والأبحاثِ الأستاذ كوركيس عواد في "مجلة "المجمع العلمي العربي بدمشق" في سنتها الثامنة عشرة ص 417 - 428 في مقال عنوانه "الحِسبةُ في خِزانة الكتب العربية". فلينظره من أراده فإنه مفيد.

ص: 171

وليس له إِنشاءُ الأحكام ولا تنفيذُها في عقودِ الأنكحة والمعاملات.

ويزيدُ (1) على القاضي بكونه يَتعرَّضُ للفحص عن المنكرات وإِن لم تُنْهَ إِليه، والقاضي لا يَحكم إِلَّا فيما رُفِعَ إِليه، ولا يَبحثُ عما لم يُرفَع إِليه. وله من السلَاطةِ ما ليس للقُضَاة لأن موضوعَه الرهْبَة، وموضوعَ القضاةِ النَّصَفَة، فصارت الحِسبةُ أعَم من القضاءِ من وجه وأخصَّ من وجه، فيها بعضُ القضاء دون كلِّه، وفيها ما ليس في القضاء.

الرتبة العاشرة: الولاياتُ الجزئية المستفادةُ من القُضاةِ وغيرهِم، كمن تولَّى العقودَ والفُسوخَ في الأنكحة فقط، أو النظرَ في شُفُعاتِ الأيتام أو عقودِهم فقط، فيُفوَّضُ إِليه في ذلك النقضُ والإِبرام على ما يَراه من الأوضاع الشرعية. فهذه الولاية شعبةٌ من ولاية القَضاء، وله إِنشاء الأحكامِ في غير المجمَع عليه، وله تنفيذُ المجمَع عليه، وذلك كلُّه فيما وَلِيَهُ فقط، وما عداه لا يَنفُذُ له فيه حكم البتة.

الرتبة الحادية عشرة: الولايةُ المستفادةُ من آحادِ الناس، وهي التحكيم، فهو مشروعٌ في الأموالِ دون الحدودِ واللعانِ ونحوه، فهو شعبةٌ من القضاء، فكل ما فيه للقُضاة، وللقُضاةِ ما ليس فيه. فهو مفيدٌ للإِنشاءِ في غير المجمَعِ عليه، والتنفيذِ في المجمَعِ عليه في الأموالِ وما يتعلَّقُ بها خاصَة. قال ابنُ يونس: قال سُحنون (2): فإِنْ حكَمَ فيما ليس من أحكامِ

(1) أي المحتسِب.

(2)

هو أبو سعيد عبد السلام بن حبيب التنوخي القيرواني المالكي، الإِمامُ الفقيه الحافظ العابد الزاهد الورع، الملقب بسُحنون - بضم السين وفتحها -. أصله شامي من حِمص، قَدِمَ به أبوه مع جُندِ أهلِ حِمص إلى القيروان، وكان مولده سنة 160. وهو من العرب صَلِيْبةَ، لُقِّبَ بسُحنون باسم طائرٍ حديدِ الذهن في المغرب، وذلك لحدَّةِ =

ص: 172

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

= ذهنِهِ وتوقدِ ذكائه.

تلقى العلم عن أئمة العلم في القيروان، ثم رحل إلى تونس من المشرق، فلقي الأئمة الكبار كابن القاسم وغيره من أصحاب مالك وغيرهم فأخذ عنهم، ثم عاد إلى بلده بعلم غزير. وكان يقول: قبَحَ الله الفقر! أدرَكْنا مالكاً، وقرأنا على ابنِ القاسم. يعني أن الفقرَ منعه أن يرحل إلى مالك في المدينة. وانتهت إليه الرئاسة في العلم، ورحل الناس إليه من المشرق والمغرب، وعُدَّ لقاؤه والأخذُ عنه من المِنَح الربانيَّة. وقد أَخَذ العلمَ عنه خلائقُ لا يُحصَوْن كثرةً.

كان فقيهَ البَدَن، والعلمُ في صدره كسُورةِ أُمِّ القرآن حفظاً. حتى قيل: لم يكن بين مالك وسُحنون أفقهُ من سُحنون. صنَف "المدوَّنة"، وعليها اعتمادُ أهل القيروان، وعنه انتشر علمُ مالك بالمغرب. وقد فصل القاضي ابنُ خَلكان كيفية تاليفه "المدوّنة" في كتابه "وفَيَّات الأعيان" 3: 181، فقال - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -:

وصنَّف كتاب "المدوَّنة" في مذهب الإِمام مالك رضي الله عنه: وأخذها عن ابن القاسم.

وكان أوَّلَ من شَرَع في تصنيف "المدوَّنة" أسَدُ بن الفُرَات، الفقيهُ المالكي بعدَ رجوعه من العراق. وأصلُها أسئلةٌ سأل عنها ابن القاسم فأجابه عنها، وجاء بها أسَدٌ إلى القيروان، وكتبها عنه سحنون، وكانت تُسمَّى: الأَسَدِيَّة.

ثم رَحَل بها سحنون إلى ابن القاسم في سنة ثمان وثمانين ومئة، فعَرَضها - أي قرأها - عليه، وأَصلحَ فيها مسائل، ورَجَع بها إلى القيروان في سنة إحدى وتسعين ومئة، وهي في التأليف على ما جمعه أَسَدُ بن الفُرَات أولًا، غيرَ مرتبةِ المسائل، ولا مرسمَةِ التراجم، فرتَب سحنون أكثرَها، وبوَبَهُ على ترتيب التصانيف، واحتَج لبعض مسائلها بالآثار" من روايته من "موطأ ابن وهب" وغيرِه، وبقِيَتْ منها بقية لم يُتمم فيها سحنون هذا العملَ المذكور. ذَكَرَ هذا كله القاضي عياض وغيرُه". انتهى.

ثم ذكر ابن خلكان رواية ثانية في شأن تأليف "المدوَّنة"، منسوبة إلى تأليف ابن القاسم، من طريقِ مبهم، وتبدو عليها آثار الصنعة والتركيب! فلا يُعَوَّلُ عليها، =

ص: 173

الأموالِ نفَذَ ويُنهَى عن العَوْد.

الرتبة الثانية عشرة: ولايةُ السعاةِ وجُباةِ الصدقة. لهم إنشاءُ الحكم في غير المجمَعِ عليه، وتنفيذُ المجمَعِ عليه في الأموال الزكَوِيَّة خاصَّة، فإن حكموا في غير ذلك لم يَنفُذ لعدمِ الولاية فيه.

الرتبة الثالثة عشرة: ولايةُ الخَرْص. فليس فيها لمُتولِّيها إِنشاءُ حُكمِ في مختلَفٍ فيه، ولا تنفيذُ حكم في مُجمَعِ عليه. وليس له غيرُ حَزْرِ مقاديرِ الثمار، وكم يكون مقدارُها إِذا يَبِسَتْ فقط.

وجعَلَ مالك حُكمَه بالمقدار إِذا تبيَّن خطؤه لا يُنقَض. والقياسُ نقضُه لأنه قد تبيَّن خطؤه قبلَ التنفيذ، والقاضي إِذا تبيَّن خطؤه قطعًا قَبْلَ التنفيذ حَرُمَ التنفيذُ إِجماعاَ فيما علمتُ، ولأنَّ إِيجابَ الزكاة بما دون النصابِ خلاف الإِجماع، أو خلافُ النصّ إِن لم يكن إجماع، وما تبيَّن أنَّ الحكمَ فيه خِلاف الإِجماع وَجَبَ نقضُهُ بالإِجماع.

= والله أعلم.

واجتمعتْ فيه خلالٌ قلما اجتمعت في غيره: الفقهُ البارع، والورع الصادق، والصرامة في الحق، والزهادة في الدنيا، والتخشُّن في الملبس والمطعم مع السماحة والكرم. وكان لا يقبل من السلطان شيئًا. أراده الأمير على تولي القضاء فأبى، فراوده عليه حولاً كاملًا حتى قَبِلَ منه، على شرطِ أن لا يرتزق على القضاء شيئًا، وأن يُنَفذَ الحقوقَ على وجهها في الأميرِ وأهلِ بيته. وكانت ولايته للقضاء سنة 234، وظلَّ فيه حتى مات سنة 240 - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

قال الزبيدي في "تاج العروس" في (سحن): "سُحنون بضم السين، ونُقِلَ فتحُها. وسُحنون بن سعد من أئمة المالكية، جالس مالكاً مدة، وقَدِمَ بمذهبه إلى إفريقية فأظهره فيها، وتوفي سنة 241". انتهى. وفيه تحريف في اسم أبيه، وخطأ في نسبة صحبته لمالك، فإنه لم يرحل إليه ولم يلقه، وفي تاريخ وفاته - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.

ص: 174

غيرَ أنَّ مالكاً رأى هذا من باب المصالح العامَّة للفقراءِ والأغنياء، أما للفقراءِ فلعدمِ إِفادةِ دعوى النقض، وللأغنياءِ بَالتمكُّنِ من المالِ يَتصرَّفون فيه كيف شاؤوا. ولولا الوثوق بتعيُّنِ ما حكَمَ به الخارصُ كنا نَحجُرُ عليهم، لئلا يأكلوا الثمرة ويقولوا: نَقَص الخَرْص.

والقواعدُ قد تُخالَفُ لمثلِ هذا، كما ضمَّن مالكٌ حاملَ الطعامِ وإِن كان الأجيرُ أمينًا لا يَضمن، وضمَّن الصانعَ المؤثرَ في الأعيانِ بصَنْعتِه كالصبَّاغ والنسَّاج ونحوِهما؛ لأنَّ مصالحَ الناس العامَّة لا تتقررُ إِلَّا بذلك، لمبادرةِ النفوسِ لتناولِ الطعام وعِظَمِ الجُرأةِ على جَحْدِ العين إِذا تغيَّرَتْ بالصنعة.

وبهذا يَظهرُ الفرق بين ولاية الخَرْص وولايةِ التقويم ونحوها، فإِن المقوِّمَ إِذا أخطأ بالزيادة أو النقص، وجبَ الرجوعُ للحق بخلافِ الخارص، لما ذكرنا من المصالح العامَّةِ التي لا تُحقَّقُ في المقوِّم ونحوِه.

الرتبة الرابعة عشرة: ولايةٌ ليس فيها شيءٌ بلا من الحكم البتة، بل تنفيذُ مصالحَ وترتيبُها على أسبابها، فأهلُها كالقُضاة في التنفيذِ لا في الإِنشاء، كالولايةِ على قِسمةِ الغنائم، وإِيصالِ أموالِ الغائبين إِليهم، وصرفِ النفقاتِ والفروض المقدَرة لمستحقيها، وإِيصالِ الزكواتِ لأصنافها، ونحوِ ذلك مما فيه تنفيذٌ ليس إِلَّا، وليس فيه إِنشاءُ حكم آلبتة.

الرتبة الخامسة عشرة: ولايةٌ ليس فيها حكم ولا تنفيذ، كولايةِ المقوِّمِ والتَّرْجُمانِ والكاتبِ والقائف، ومَن يُوضَعُ عنده المُوَاضعةُ (1) في الإِماء إِذا

(1) المُواضَعَةُ: وَضْعُ الجاريةِ عند عَدْلٍ بطلبِ أحدِ المتبايعينِ. كما يستفاد من "المصباح المنير".

ص: 175

بِيعت، والقاسمِ ونحوِ ذلك، فهذا القِسمُ أيضًا ليس له أن يُنشئ ولا يُنفّذ، ومهما حكَمَ في شيء من الأحكام لا يَنْفُذ حكمُه؛ لأنه لمَّا لم يُولَّ عليه كان كآحادِ الناس.

فقد ظهر بهذا التلخيص: ما يستفيد به الِإنسانُ ولايةَ الحكم، وما لا يستفيدُ به ذلك، وأنَّ ذلك ليس لكل أحد، وأنَّ المفيد لذلك أنواع كثيرة من الولايات، منها ما يكون ولايةُ الحكمِ بعضَه، ومنه ما لا يَسعُ ولا يَشملُ إلَّا بعضَ الحكم في شيء خاصّ، ومنها ولايةٌ تزيدُ على الحكم وتَنقصُ عنه من وجه آخر.

ص: 176