الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولم يكن مُنشِئاً لحُكمٍ مِنْ قِبَلِه ولا مُرتَّباً له برأيه على حسب ما اقتضته المصلحة، بل لم يَفعل إِلَّا مجرَّدَ التبليغ عن ربَّه كالصلواتِ والزكواتِ وأنواعِ العبادات وتحصيلِ الأملاك بالعقودِ من البِياعاتِ والهِباتِ وغيرِ ذلك من أنواع التصرُّفات: لكلّ أحَدٍ أن يُباشره ويُحصل سبَبَهُ، ويَترتَبُ له حُكمُه من غير احتياجٍ إِلى حاكم يُنشئُ حكماً، أو إِمامٍ يُجدّدُ إِذناً.
فإِذا تقررَ الفرقُ بين آثار تصرفه صلى الله عليه وسلم بالإِمامةِ والقضاءِ والفُتيا: فاعلم أنَّ تصرُّفَه عليه الصلاة والسلام ينقسمُ إِلى أربعة أقسام:
قسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرُّفٌ بالِإمامة، كالإِقطاع، وإِقامةِ الحدود، وإِرسالِ الجيوش، ونحوِها.
وقسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرف بالقضاء، كإِلزام أداء الديون، وتسليمِ السِّلَع، ونقدِ الأثمان، وفسخِ الأنكحة، ونحوِ ذلك.
وقسمٌ اتفق العلماء على أنه تصرفٌ بالفتيا، كإِبلاع الصلواتِ، وإِقامتِها، وإقامةِ المناسك، ونحوِها.
وقسمٌ وقع منه صلى الله عليه وسلم مُتردِّداً بين هذه الأقسام، اختَلَف العلماءُ فيه على أيها يُحمَلُ؟ وفيه مسائل:
المسألة الأولى
قولُهُ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أحيا أرضاً مَيِّتةً فهي له"(1)
(1) رواه بهذا اللفظ الإِمام أبو يوسف القاضي في كتاب "الخراج" ص 139، قال:"حدثني هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال شيخنا العلامة أحمد شاكر في تعليقه على كتاب "الخراج" ليحيى بن آدم ص 84 "وإسناده صحيحٌ غايةٌ في الصحة، فإن أبا يوسف من ثقات أئمة المسلمين وثقه النسائي وابن حبان". =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= ورواه بهذا اللفظ أيضاً عن سعيد بن زيد رضي الله عنه أبو داود في "سننه" 3: 178، والترمذي في "جامعه" 6: 146 وقال: حديث حسن غريب، والنسائي في "سننه، كما في "نصب الراية" للزيلعي 288:4، و "فيض القدير" للمُناوي 6: 40، وأحمد في "مسنده"، والضياء المقدسي في "المختارة" كما في "الجامع الصغير" للسيوطي. وتمامُ الحديث عندهم: "من أحيا أرضاً مَيِّتةً فهي له، وليس لعِرْقٍ ظالمٍ حَقّ".
ورواه بلفظ المؤلف دون الزيادة المذكورة الترمذيُّ عن جابر رضي الله عنه 6: 149 وقال: حديث حسن صحيح، والنسائي كما في "نصب الراية" 4: 289، والإِمام أحمد في "مسنده" 3: 363 و 381. ورواه البخاري في "صحيحه" 5: 15 عن عائشة رضي الله عنها بلفظ "من أَعمَرَ أرضاً ليست لأحدٍ فهو أحقُّ".
وسبَبُ الحديث كما رواه أبو داود في "سننه" 178:3 عن عُروة بن الزُّبير، قال:"لقد خَبِّرني الذي حدثني هذا الحديث - وأكثَرُ ظني أنه أبو سعيد الخدري - أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: غَرَسَ أحدُهما نَخْلاً في أرضِ الآخَر، فقَضى لصاحب الأرض بأرضه، وأمَرَ صاحبَ النخْل أن يُخرِج نخلَه منها. قال - أي أبو سعيد الخدري -: فلقد رأيتها وإنها لتُضرَبُ أصولُها بالفُؤوس، وإنها لنَخْل عُمُّ - أي تامةٌ في طولها والتفافِها - حتى أخرِجَتْ منها".
قال العلامة المُناوي في "فيض القدير" 6: 39 والعلامة الزُّرْقاني في "شرح الموطأ" 3: 209، في ضبطِ رواية الحديث:"ميِّتَةً بالتشديد. قال الحافظ العراقي: ولا يقال بالتخفيف، لأنه إذا خُففَ تحذَفُ منه تاء التأنيث. والميتةُ والمَوات والمَوَتان بفتح الميم والواو: الأرض التي لم تُعمَر، سُمَّيتْ بذلك تشبيهاً لها بالميتة التي لا يُنتَفَعُ بها، لعدم الإنتفاع بها بزرع أو غرس أو بناء أو نحوها".
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" 6: 15 والعلامة الزُّرقاني في "شرح الموطَأ 3: 209 في ضبط رواية الجملة الأخيرة من الحديث: "وليس لِعْرقِ ظالمِ حقٌ": رواية الأكثر بتنوين عِرْقٍ، وظالمِ نعتٌ له على سبيل الإتَّسَاع، كأنَّ العِرْقَ بغَرْسِه صار =
قال أبو حنيفة: هذا منه صلى الله عليه وسلم تصرُّفٌ بالإِمامة، فلا يجوزُ لأحدٍ أن يُحييَ أرضاً إِلا بإذنِ الإمام، لأن فيه تمليكاً، فأشبَهَ الِإقطاعات، والِإقطاعُ يَتوقَّفُ على إِذن الإِمام، فكذلك الإِحياء.
وقال مالك والشافعي: هذا مِن تصرُّفِهِ صلى الله عليه وسلم بالفُتيا، لأنه الغالبُ من تصرُّفاته صلى الله عليه وسلم فإِنَّ عامَّة تصرفاته التبليغُ، فيُحمَلُ عليه، تغليباً للغالبِ الذي هو وضْعُ الرسل عليهم السلام. فعلى هذا: لا يَتوقَفُ الِإحياءُ على إِذن الإِمام، لأنها فُتيا بالِإباحة كالاحتطاب والإحتشاش، بجامعِ تحصيلِ الأملاك بالأسباب الفعلية.
وأمَّا قولُ مالك: ما قَرُبَ من العُمْران لا بُدُّ فيه من إِذن الإِمام، فليس لأنه تصرُّف بطريق الِإمامة، بل لِقاعدةٍ أخرى، وهي أنَ إِحياءَ ما قَرُبَ يَحتاجُ إِلى النظر في تحريرِ حَرِيم البَلَد، فهو كتحرير الإعسار في فَسْخ النكاح، وكلُّ ما يَحتاجُ لنظرٍ وتحريرٍ فلا بُدَّ فيه من الحُكَّام.
= ظالماً حتى كأنَّ الفعلَ له، والظُّلمُ، راجعٌ إلى صاحب العِرق، أي ليس لذي عِرقٍ ظالمٍ حق.
ويُروَى بالِإضافة، فالظالمُ على هذه الرواية صاحبُ العِرق وهو الغارسُ، لأنه تصرَّفَ في ملك الغير، فليس له حقٌ في الِإبقاء فيها. وبالغَ الخطَّابي فغلَّط رواية الِإضافة، وليس كما قال، فقد ثبتَتْ، ووجهُها ظاهر فلا يكون غلطاً، فالحديثُ يُروَى بالوجهين" انتهى.
وفسر الحافظ ابن حجر معنى الإِحياء فقال 6: 14 و 15 وإحياء المَوَات أن يَعمِدَ الشخصُ لأرضٍ لا يُعلَمُ تقدُّمُ ملكٍ عليها لأحد، فيُحييها بالسقي أو الزرع أو الغَرْس أو البناء، فتصيرُ بذلك ملكَه. والعِرقُ الظالمُ كما قال ربيعة: يكون ظاهراً ويكون باطناً، فالباطن ما احتفره الرجلُ من الآبار، أو استخرجه من المعادن، والظاهر ما بناه أو غرسه.
وقال غيرُه: الظالمُ مَنْ غرَسَ أو زَرَع أو بَنَى أو حَفَر في أرضِ غيره بغير حق ولا شُبهة".