الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السُّؤَالُ الأَوَّلُ
ما حقيقةُ الحُكم الذي يقَعُ للحاكم ويَمتنعُ نقضُه (1)؟
جَوَابُهُ
أنَّه إِنشاءُ إِطلاقِ أو إلزامِ في مسائلِ الإجتهادِ المتقارِبِ فيما يقَعُ فيه النّزاعُ لمصالح الدنيا (2).
فقولُنا: (إِنشاءُ إِطلاقِ) احترازٌ من قول من يقول: إِنَّ الحُكم إِلزام، كما إِذا رُفِعَتْ للحاكم أرضٌ زال الِإحياءُ عنها، فحكَمَ بزوالِ المِلك، فإنَّها تبقى مباحةَ لكل أحد، وكذلك إِذا حكمَ بأنَ أرضَ العَنْوةِ طِلْقٌ (3)، ليست وقفًا على الغانمين كما قاله مالك ومن تابعَه (4)، والحاكمُ شافعي يَرى الطِلْقَ
(1) هذا السؤال جوابُه باختصار منقول - عن هذا الكتاب - في "تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" للعلامة القاضي ابن فرحون المالكي 1: 8، وفي " مُعين الحكام فيما يتردد بين الخصمين من الأحكام" للقاضي علاء الدين الطرابلسي الحنفي ص 6.
(2)
سيشرح المؤلف محترزاتِ هذا التعريف. ولزيادةِ شرحِه وبيان محترزاتِه وما يَتفرَّع عليها انظر ما قاله المؤلف - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الفروق" 4: 48 - 54 عند الفرق (224) الفرقِ بين الفتوى والحكم.
(3)
أرضُ العَنْوةِ هي التي فُتِحتْ بالقهر والغلبة على أهلها. وطِلْق بكسر الطاء وسكون اللام أي أنها حلالٌ مُطلَقةٌ مباحة لكل أحد. يقال: حلالٌ طِلْق ومُطلَق بمعنى واحد كما في "الأساس" للزمخشري.
(4)
في نسخة (ر): (ليست وقفًا على المسلمين).
دون الوقف، فإنَّها تتقى مباحة، وكذلك الصَّيدُ والنَّحْلُ والحَمَامُ البَرّيُّ - إِذا حيِزَ - ونحوُ ذلك إِذا حُكِمَ بزوالِ مِلكِ الحائز له أوَّلاً، فإنَّ هذه الصُّورَ كلَّها إِطلاقات، وإِن كان يَلْزمُها إِلزامُ المالكِ عدَمَ الإختصاص، لكن هذا بطريق اللزوم، والكلامُ إِنما هو في المقصودِ الأوَّلِ بالذات لا في اللوازم.
كما أنَّا نقول: المقصودُ الأوَّلُ من الأمرِ الوجوبُ وإِن كان يَلزمُه النَّهيُ عن الضدّ وتحريمُه، والمقصودُ الأوَّلُ من النَّهي التحريمُ وإِن كان يَلزمُه وجوبُ ضدٍّ من أضدادِ المنهيّ عنه. والكلامُ أبداً في الحقائقِ إِنما يقعُ فيما هو في الرتبة الأولى لا فيما بعدها.
وبسببِ الغفلة عن هذه القاعدة قال الكعبي (1): المباحُ واجبٌ؛ لأنه يُشتغَلُ به عن الحرام، وتَرْكُ الحرام واجب، فالمباحُ واجب. فجعَلَ الأحكامَ أربعة، وأسقَطَ الِإباحةَ نظرًا لما يَعرِضُ للمباح، وتَرَكَ مقتضاه في الرتبة الأولى.
والجمهورُ أثبتوا المباحَ بناءً على ما تقتضيه الحقائقُ في الرتبة الأُولى، ولولا ذلك لكان المندوبُ والمكروهُ واجِبَين، لأنهما قد يُشتغَلُ بهما عن المحرَّمات كما تقدم، ويكون الواجبُ مكروهاً لأنَّه قد يُشتغَل به عن مندوب، وترْكُ المندوبِ مكروه، ويكون الواجبُ أيضاً حرامًا لأنه قد يُشتغَل به عن واجب آخر، وتركُ الواجبِ حرام، فالواجبُ حرام!.
ويَتَّسعُ الخَرْقُ وتَتزلزلُ القواعد، ولا تَثبُتُ حقيقةٌ لحكمٍ! بل ما من
(1) هو أبو القاسم عبد الله بن أحمد الكعبي البلخي، قيل له: الكعبي نسبةَ إِلى بني كعب. وهو شيخُ طائفةِ من المعتزلة يُنسَبُون إليه فيقال لهم: الكعبيَّة، توفي سنة 317، - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -.
شيء يُقضَى به إلَّا صدَقَ القضاءُ بضده فيَبطُل! وهذا تشويشٌ كثير، فالواجبُ حينئذٍ أن يُنظَر إِلى كل حقيقةٍ من حيث هِي هِي، لا لما يَلزمُها ويَعرِضُ لها.
وقولُنا: (أو إِلزامٍ) كما إِذا حكَمَ بلزوم الصَّداقِ أو النفقةِ أو الشُّفعةِ ونحو ذلك.
وقولُنا: (في مسائل الإجتهاد) احتراز من حُكمه على خلافِ الإِجماع، فإنه لا عبرة به.
وقولُنا: (المتقارِبِ) احترازٌ من الخلاف الذي ضَعُفَ مُدْرَكُه جداً (1)، فإن الحاكم إِذا حكَمَ به لا عبرة بحُكمه ويُنقَض، فلا بُدَّ حينئذٍ من تقارُبِ المَدارِك في اعتبار الحُكم.
وقولُنا: (فيما يقَعُ فيه التنازُعُ لمصالح الدنيا) احترازٌ من مسائل الإجتهاد في العبادات ونحوِها، فإن التنازع فيها ليس لمصالح الدنيا بل
(1) وهو الخلاف الشاذّ، قال المؤلف في "الفروق" 4: 51: "وقولي: تتقاربُ مَداركُها احترازٌ من الخلاف الشاذِّ المبنيِّ على المُدركِ الضعيف، فإنه - أي الحكم بالمُدْرَكِ الضعيف - لا يَرفَعُ الخلافَ بل يُنقَضُ في نفسه إِذا حُكِمَ بالفتوى المبنيَّة على المُدرَكِ الضعيف". انتهى. وسيُصرِّح المؤلف بنحوه في جواب السؤال السابع عشر.
ولفظُ (المُدْرَك) بضم الميم وفتح الرَّاء. قال العلامة الفَيُّومي في "المصباح المنير": "المُدْرَكُ بضم الميم: يكون مصدراً واسمَ زمان ومكان. ومَداركُ الشرع: مواضعُ طلبِ الأحكام، وهي حيث يُستدَلُّ بالنصوصِ والإجتهادِ من مَدارك الشرع. والفقهاءُ يقولون في الواحد: مَدْرَك بفتح الميم. وليس لتخريجه وجه، وقد نَصَّ الأئمةُ على طَرْد الباب، واستُثنِيَتْ كلماتٌ مسموعةٌ خرجَتْ عن القياس، ولم يَذكروا المُدْرَكَ فيما خرَج عن القياس، فالوجهُ الأخْذُ بالأصول القياسية حتى يَصحَّ سماع. وقد قالوا: الخارجُ عن القياس لا يقاسُ عليه؛ لأنَّه غيرُ مؤصَّل في بابه".
لمصالح الآخرة، فلا جَرَمَ لا يدخلُها حكمُ الحاكم أصلًا (1).
(1) يُوضِّحُه ما قاله المؤلف القرافي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في كتابه "الفروق" 4: 48، في الفرق (224):"أعلم أن العبادات كلها على الِإطلاق لا يَدخلها الحكمُ البتة، بل الفُتيا فقط. فكلُّ ما وُجِدَ فيها من الإِخبارات فهي فُتيا فقط، فليس لحاكمِ أن يَحكم بأن هذه الصَّلاة صحيحة أو باطلة، ولا أن هذا الماءَ دون القُلَّتين فيكون نجِساً فيَحرُم على المالكي بعد ذلك استعمالُه، بل ما يقال في ذلك إنَّما هو فُتيا: إن كانت مذهبَ السامع عَمِلَ بها، وإلَّا فله تركها والعمَلُ بمذهبه".
ثم قال القرافي: "ويُلحَقُ بالعبادات أسبابُها وشروطُها وموانِعُها المختلَفُ فيها، لا يَلزَمُ شيءٌ من الأحكام - المترتبة على اعتبار أحدِها - مَن لا يعتقدُهُ، بل يَتبع مذهبَه في نفسه، ولا يَلزَمُه قولُ ذلك القائل بحُكم الحاكم به". انتهى ملخصًا. ونوزعَ في هذا الِإلحاق وأُيَّد، انظر محشيه ابنَ الشاط 4: 49 و "تهذيب الفروق" 4: 90.
ويُوضحُه أيضاً ما قاله الشيخُ ابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى - في "مجموع الفتاوى" 3: 238 - 240: "إنَّما يَنفُذُ حُكمُ الحاكم في الأمور المعينة التي يَختصُّ بها من الحدودِ والحقوق، مثلِ قَتْلِ أو قذفِ أو مالِ ونحوِه، دون مسائل العلمِ الكليةِ مثلِ التفسير والحديث والفقه وغيرِ ذلك، وهذا فيه ما اتفقتْ عليه الأمَّة وفيه ما تنازعَتْ فيه. والأمَّةُ إِذا تنازعتْ في معنى آيةِ أو حديثِ أو حُكمِ خَبَري أو طَلَبي: لم يكن صِحَّةُ أحدِ القولين وفسادُ الآخَرِ ثابتًا بمجرَّدِ حُكمِ حاكم، فإنه إنَّما يَنفُذُ حُكمهُ في الأمور المعينةِ دون
العامَّة.
ولو جاز هذا لجاز أن يَحكمَ حاكم بأن قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} هو الحِيَضُ أو الأطهار، ويكون هذا حُكماً يَلزمُ جميعَ النَّاسِ قبولُه، أو يَحكمَ بأن اللَّمْسَ في قوله تعالى:{أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هو الوطءُ أو المباشرةُ فيما دونه. أو يَحكمَ بأن {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} هو الزوجُ أو الأبُ أو السيّد، وهذا لا يقوله أحد.
وكذلك النَّاسُ إذا تنازعوا في باب العقيدة في غير ما هو بدعةٌ ظاهرة، تَعرِفُ العامَّةُ أنها مخالفةٌ للشريعة كبدعةِ الخوارج والروافض، وذلك كتنازعِهم في مثل قوله تعالى:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} ، وكاختلافِهم في صفةِ الإستواء ومعناه على قولين، =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= لم يكن حُكمُ الحاكم بصحةِ أحدِ القولين وفسادِ الآخر ممَّا فيه فائدة.
وكذلك في باب العباداتِ في مثلِ كونِ مَوفي الذكرِ يَنقُضُ أَوْ لا، وكونِ العَضر يُستَحبُّ تعجيلُها أو تأخيرُها، والفَجْرِ يُقنَتُ فيه دائمًا أَوْ لا، أو يُقنَتُ عند النوازل، ونحوِ ذلك.
فكلامُ الحاكم فيما ذكرنا قبلَ الولاية وبعدَها سواء، وهو بمنزلةِ الكتب التي يُصنِّفُها في العلم". انتهى بتصرف. وقد تعرض الشيخ ابن تيمية لهذا الموضوع في مواطن كثيرة من كتبه وفتاواه انظر "مجموع الفتاوى" 35: 357 - 360 و 373 - 387.
قال العلامة الشيخ أحمد الطَّحْطَاوي الحنفي - رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى -، في "حاشيته على الدر المختار" للحَصْكفِي 3: 173، في أوائل كتاب القضاء:
"القضاءُ إنَّما يكون في حادثةِ من خَصْم على خَصْم بدعوى صحيحة. فخرج ما ليس بحادثة، وما كان من العبادات. وبه عُلِمَ أنَّ الإتِّصالاتِ والتنافيذَ - جَمْعَ تنفيذ - الواقعةَ في زماننا، المجرَّدةَ عن الدعاوي: ليست حكمًا، وإنَّما فائدتُها تسليمُ الثاني للأول قضاءَه.
قال الحَمَوي في "شرحه": وبالجملة ليس في التنفيذ حُكم ولا في الإِثبات، بل هو راجع إلى الحاكِم الأول، إلَّا أن يقولَ الثاني: حكمتُ بما حَكَم به الأول، وألزمتُ بمُوجَبِه ومقتضاه. وإذا عُرِفَ هذا عُلِمَ: أن التنفيذ الواقع في ديارنا ليس من الحكم في شيء، إذْ غايتُه إحاطةُ القاضي الثاني بحكم الأولِ على وجهِ التسليمِ له، و - عُلِمَ - معنى ما سيأتي من قولِ المصنف:"وإذا رُفع إليه حُكمُ قاضِ أمضاهُ أي أَلْزَمَ الحكم به، يعني إذا حصلت خصومة من مدَّعِ على خَصْم. انتَهَى". انتَهَى. وفيه زيادة عما يتصل بالمقام، أثبتُها لما فيها من فائدة هامة في التفرقة بين (التنفيذ) و (القضاء).
هذا وقد عقَدَ العلامة القاضي ابن فرحون المالكي في كتابه "تبصرة الحاكم في أصول الأقضية ومناهج الأحكام" فصلاً مطولاً جداً 1: 81 - 87 استَوفى في بيانَ ما يَفتقرُ لحكم الحاكم وما لا يَفتقر إليه، وتَبِعَه في هذا القاضي علاء الدين الطَرابلسي الحنفي في كتابه "مُعِين الحكام فيما يتردَّدُ بين الخصمين من الأحكام" ص 40 - 42 فانظرهما.