الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروضة السابعة في المتصوفة والقصّاص
اعلم أنّ المسلمين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتّسم أفاضلهم بسمة سوى صحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم سمي من صحب الصحابة التابعين، ثم قيل لمن بعدهم أتباع التابعين. ثم اختلف الناس، فقيل لخواصّ الأمّة: الزهّاد والعبّاد. ثم ظهرت البدعة وادّعى كل فريق أنّ فيهم زهّادا وعبّادا، فانفرد خواصّ أهل السنّة، المراعون أنفاسهم مع الله، الحافظون قلوبهم عن طوارق الغفلة باسم التصوّف. واشتهر هذا الاسم لهؤلاء الأكابر قبل المائتين. وأوّل من سمّي باسم الصوفيّ أبو هاشم الثوريّ. ولولا أبو هاشم الصوفيّ لما عرفت دقائق الرياء.
سأل بعض الصوفية في منامه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التصوّف، فقال: ترك الدعاوى وكتمان المعاني. بعضهم: صدور الأحرار قبور الأسرار. بطليموس: قلوب الأحرار حصون الأسرار. قيل: حق الأسرار صونها عن الأغيار. السّهروردي، عن رابعة «1» :
إني جعلتك في الفؤاد محدّثي
…
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
…
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
قالت رابعة في مناجاتها: إلهي أتحرق قلبا يحبّك بالنار؟ فسمعت: ما كنّا نفعل هذا فلا تظنّي بنا ظنّ السّوء. سئل رويم «2» عن التصوف فقال: الصوفيّ هو
الذي لا يملك شيئا ولا يملكه شيء. قال أبو عبد الله الخفيف: جئت يوما إلى صحبة رويم ثم لما رجعت وضع يده على كتفي وقال: يا بنيّ هو بذل الروح فلا تشتغل بترّهات الصوفية. الشبلي «1» : التصوف ترويح القلب بمراويح الصفاء، وتجليل الخواطر بأردية الوفاء والتملّق بالسخاء والبشر في اللقاء. قيل: من حسن صفاؤه وجب اصطفاؤه. الجنيد رضي الله عنه: حكايات المشايخ جند من جنود الله عز وجل. وسئل ما نفعها؟ فتلا قوله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ
«2» الآية. لقّنني كلمة التوحيد الشيخ مصلح الدين قدّس سرّه. رويم: من قعد مع الصوفية وخالفهم في شيء مما يتحققون به نزع الله نور الإيمان من قلبه. سئل رويم عن الأنس فقال: هو أن تستوحش من غير الله، حتى من نفسك. وسئل عن المحبّة فقال: الموافقة في جميع الأحوال، وأنشد:
ولو قلت لي مت متّ سمعا وطاعة
…
وقلت لداعي الموت أهلا ومرحبا
لقي عمر رضي الله عنه ناسا من أهل اليمن فقال: ما أنتم؟ قالوا:
متوكّلون. قال: كذبتم بل أنتم متأكّلون «3» ، ألا أخبركم بالمتوكل، هو رجل ألقى حبّة في بطن الأرض توكلا على الله. سئل أنس عن قوم يصعقون «4» عند القراءة، فقال: ذلك فعل الخوارج. وقال: «وعظ النبيّ صلى الله عليه وسلم يوما فإذا رجل قد صعق فقال: من ذا الملبّس علينا ديننا؟ إن كان صادقا فقد شهر نفسه، وإن كان كاذبا فمحقه الله» . سئل ابن سيرين عمّن يسمع القرآن فيصعق، فقال: ميعاد ما
بيننا وبينهم أن يجلسوا على حائط فيقرأ عليهم القرآن من أوّله إلى آخره، فإن صعقوا فهم كما قالوا. قيل لعائشة رضي الله عنها: إنّ قوما إذا سمعوا القرآن صعقوا. فقالت: القرآن أكرم من أن ينزف من عقول الرجال، ولكنه كما قال الله تعالى: تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ
«1» . قال ابن السّماك للمتصوّفة: إن كان لباسكم هذا موافقا لسرائركم فقد أحببتم أن يطّلع الناس على سرائركم، وإن كان مخالفا فقد هلكتم. عمر رضي الله عنه: من أظهر للناس خشوعا فوق ما في قلبه فإنما أظهر نفاقا على نفاق.
الحسن: إن قوما جعلوا تواضعهم في ثيابهم، وكبرهم في صدورهم، حتى لصاحب المدرعة «2» بمدرعته أشدّ فرحا من صاحب المطرقة بمطرقته. قيل لبعضهم: بع جبّتك، فقال: إذا باع الصياد شبكته فبأيّ شيء يصيد؟. دخل محمد بن كعب على سليمان بن عبد الملك، فقال: ما هذه الثياب الرّثة؟
فقال: أكره أن أقول لزهد، فأطري نفسي، أو أقول لفقر فأشكو ربّي. أبو الحسين الثوريّ: التصوّف كان حالا فصار قالا «3» ، ثم ذهب الحال والقال وبقي الاحتيال. قيل: بالصوفية يضرب المثل في الأكل فيقال: آكل من الصوفية، لأنهم يعتادون بكثرة الأكل وعظم اللقمة وجودة القضم، ويأكلون أكل الغنيمة.
سئل بعض العلماء عن التصوّف فقال: أكلة ورقصة. وقيل فيهم:
جماعة نذلة خسيسه
…
همّتها الرقص والهريسه
وقيل:
أيا جيل التصوّف شرّ جيل
…
لقد جئتم بأمر مستحيل!
أفي القرآن قال الله فيكم:
…
كلوا أكل البهائم وارقصوا لي؟ «1»
بعض الصوفية: الرقص نقص. وأول من أحدث اللعب بالرقص:
السامريّ «2» ، أحدثه حين أخرج لهم عجلا جسدا له خوار، مع الدفّ والمزمار.
قال بعضهم إذ سئل عن التصوّف: تغيير الشكل لأجل الأكل. نقش بعض الصوفية على خاتمه: أُكُلُها دائِمٌ
. ونقش آخر: آتِنا غَداءَنا
«3» .
قيل:
عجبت من شيخ ومن زهده
…
يذّكر النار وأهوالها
يكره أن يشرب في فضّة
…
ويشرب الفضّة إن نالها
المأمون: أمور الدنيا أربعة: إمارة وتجارة وصناعة وزراعة، فمن لم يكن أحد أهلها كان كلّا على الناس. بعض الأكابر: قوام الدنيا والدين العلم والكسب، فمن رفضهما فقال: أبتغي الزهد لا العلم، والتوكل لا الكسب، وقع في الجهل والطمع. بعض الحكماء: بذل الجهد في طلب الحلال، وقلّة الحوائج إلى الناس أفضل العبادة. قيل:
ليس التصوّف أن يلاقيك الفتى
…
وعليه من لبس المجوس مرقّع
بطرائق سود وبيض لفّقت
…
وكأنه فيه غراب أبقع
سأل بعض شيوخ الزمان عضد الدين عن موضع ذكر المشايخ في القرآن، فقال: في جنب العلماء حيث قال الله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ
«1» . سئل بعض الصوفية عن تمزيق الثوب في السماع فقال: إنّ موسى عليه السلام وعظ في بني إسرائيل فمزق واحد منهم قميصه، فقال الله تعالى لموسى عليه السلام: قل له: مزّق قلبك لا ثوبك. بعض أهل الحقيقة: الوجد عجز الروح عن احتمال غلبة الشوق عند وجود حلاوة الذكر. قيل لأحمد بن حنبل: إنّ جماعة كذا يقومون ويرقصون. قال: هم عشّاق، دعهم يفرحوا مع الله ساعة.
خبّاب بن الأرتّ «2» رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنّ بني إسرائيل لما قصّوا هلكوا» . روي أن كعبا كان يقصّ فلما سمع هذا الحديث ترك القصص. ابن عمر رضي الله عنهما: لم يقصّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، وإنما كان القصص حين كانت الفتنة. مرّ عليّ رضي الله عنه بقاصّ فقال: ما اسمك؟ فقال: أبو يحيى.
فقال: أنت أبو اعرفوني أيها الناس. ابن أبي قلابة: ما أمات العلم إلا القصّاص. ابن المبارك: سألت الثوريّ: من الناس؟ فقال: العلماء. فقلت:
من الأشراف؟ قال: المتّقون. فقلت: ومن الملوك؟ قال: الزّهّاد. فقلت:
ومن الغوغاء؟ قال: القصّاص الذين يستأكلون أموال الناس بالكلام. قلت:
ومن السّفلة؟ قال: الظّلمة. سئل فضيل عن الجلوس إلى القاصّ يقوم مرّة ويجثو مرّة ويرفع صوته، قال: هذا ليس لله، هذا بدعة، ما كان على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا على عهد أبي بكر وعمر، قاصّ، ولكن إذا كان الرجل يذكر الله ويخوّف فلا بأس أن يجلس معه.
قيس بن جبير: هذه الصعقة التي عند القصّاص من الشيطان. بعض القصّاص: أول من يدخل الجنّة من البهائم الطّنبور. قيل له: كيف ذاك؟ قال:
لأنه يضرب بطنه ويعصر حلقه ويعرك أذنه، لا يجمع الله هذا على أحد إلا أدخله الجنة. كان بمرو قاصّ يبكي بمواعظه، فإذا طال مجلسه بالبكاء أخرج من كمّه طنبورا صغيرا وينقره ويقول: مع هذا الغمّ الطويل نحتاج إلى فرح ساعة. وهب رجل لقاصّ خاتما بلا فصّ، فقال: وهب الله لك في الجنة غرفة بلا سقف.
بعض القصّاص: اشكروا الله. فقالوا: لم هو؟ فقال: تفسون فيذهب عنكم رائحته، وتتبخرون فتعلق بكم رائحته، ألم يك هذا من الله نعمة ضافية؟ والله سبحانه وتعالى أعلم.
******