الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروضة التاسعة عشرة في الحياء والسكوت والعزلة والوحدة والاختلاط
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لكلّ دين خلق، وخلق الإسلام الحياء» . وعنه صلى الله عليه وسلم:
«الحياء شعبة من الإيمان» . عليّ رضي الله عنه: من كساه الحياء ثوبه، لم ير الناس عيبه. أعرابيّ: لا يزال الوجه كريما ما غلب حياؤه، ولا يزال الغصن نضيرا ما بقي لحاؤه «1» .
يعيش المرء ما استحيا كريما
…
ويبقى العود ما بقي الّلحاء
وما في أن يعيش المرء خير
…
إذا ما المرء فارقه الحياء «2»
قيل: الوجه المصون بالحياء، كالجوهر المكنون في الوعاء. الإمام الشافعيّ رضي الله عنه، زار الإمام أبا حنيفة ببغداد، قال: فأدركتني صلاة الصبح وأنا عند ضريحه، وصلّيت الصبح فلم أجهر بالبسملة ولا قنتّ حياء من أبي حنيفة رضي الله عنه. الربيع: ما دخل الشافعيّ بغداد إلا ومشى إلى قبر أبي حنيفة وزاره ودعا عنده فقضيت حاجته. أرسطاطاليس: من استحيا من الناس ولم يستحي من نفسه فلا قدر لنفسه عنده. وهب: إذا كان في الصبيّ خلقان الحياء والرهبة، طمع في رشده. عليّ رضي الله عنه: لا تعمل الخير رياء، ولا تتركه حياء.
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رحم الله امرأ أمسك فضل لسانه، وبذل فضل ماله» .
عليّ رضي الله عنه: إذا تمّ العقل نقص الكلام. قيل: من كثر لغطه كثر غلطه.
النخعيّ: إنما يهلك الناس فضول الكلام وفضول المال. وهيب بن الورد: بلغنا أنّ الحكمة عشرة أجزاء، تسعة من الصمت والعاشر العزلة. لقمان: يا بنيّ إذا افتخر الناس بحسن كلامهم فافتخر أنت بحسن صمتك. قيل: الصمت زين العاقل وستر الجاهل. كان رجل يحضر مجلس أبي يوسف كثيرا ويطيل السكوت، فقال له يوما: مالك لا تتكلّم ولا تسأل عن مسألة؟ فقال: أخبرني أيها القاضي متى يفطر الصائم؟ فقال: إذا غابت الشمس. قال: فإن لم تغب إلى نصف الليل؟ فتبسّم وتمثّل ببيت جرير:
وفي الصمت زين للغبيّ وإنما
…
صحيفة لبّ المرء أن يتكلّما «1»
قال: ما دلّ على الأحوال كالأقوال، ولا هتك قناع العقول مثل سماع المقول. عائشة رضي الله عنها، رفعته:«عجبت من ابن آدم وملكاه على نابيه، فلسانه قلمهما وريقه مدادهما، كيف يتكلم فيما لا يعنيه؟» . لقمان:
لكلّ شيء دليل، ودليل العقل الفكر، ودليل الفكر الصمت. لما خرج يونس عليه السلام من بطن الحوت طال صمته، فقيل: ألا تتكلم؟ فقال: الكلام صيّرني في بطن الحوت. قيل: يقول اللسان كل صباح ومساء للجوارح: كيف أنتنّ؟ فيقلن: بخير إن تركتنا. فيثاغورس: أكثر الآفات تعرض للحيوانات من عدم الكلام، وللإنسان من قبل الكلام. وعنه: ينبغي أن يعرف الوقت الذي يحسن فيه الكلام من الوقت الذي يحسن فيه السكوت.
حكيم: إن أعجبك الكلام فاصمت، وإن أعجبك الصمت فتكلّم. يقال:
الكلمة أسير في وثاق الرجل فإذا تكلّم بها صار أسيرا في وثاقها. عليّ رضي الله عنه: بكثرة الصمت تكون الهيبة. وعنه رضي الله عنه: لا خير في الصمت عن
الحكم كما أنه لا خير في القول بالجهل. تحدّثوا عند الأوزاعيّ وفيهم أعرابيّ لا يتكلم، فقيل له: لم لا تتحدّث. فقال: إنّ الحظّ للمرء في أذنه، وإنّ الحظّ في لسانه لغيره. فقال الأوزاعيّ: لقد حدّثكم فأحسن. النخعيّ: كانوا يتعلّمون السكوت كما يتعلّمون الكلام.
قيل لعروة بن مالك: ألا تحدّثنا ببعض ما عندك من العلم؟ قال: أكره أن يميل قلبي باجتماعكم عندي إلى حبّ الرياسة فأخسر الدارين. وكان قتادة يقول:
لولا حبّ الحسن الرياسة لمشى على الماء. قيل للأحنف: بأيّ شيء سدت قومك؟ فقال: لو عاب الناس الماء البارد ما شربته. الربيع بن الخيثم: تفقّهوا ثم اعتزلوا وتعبّدوا. أراد الحسن الحجّ فطلب ثابت البنانيّ أن يصاحبه فقال له:
ويحك دعنا نتعايش بستر الله تعالى، إني أخاف أن نصطحب فيرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. فضيل: كان يقال: من استوحش من الوحدة واستأنس بالناس لم يسلم من الرياء. شقيق بن إبراهيم: اصحب الناس كما تصحب النار، خذ منفعتها واحذر أن تحرقك. الجنيد: سمعت من السّريّ السقطيّ قال: إنّ شيخي أبا جعفر السّماك دخل عليّ يوما فرأى عندي جماعة فرجع وقال: يا سريّ صرت مناخ البطّالين. ولم يستحسن اجتماعهم. عمر رضي الله عنه: في العزلة راحة عن خلطاء السوء.
رأى سفيان بن عيينة سفيان الثوريّ في المنام فقال له: أوصني، فقال: أقلل من معرفة الناس، ثلاث مرات. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أحبّ العباد إلى الله تعالى الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يقرّبوا، أولئك أئمة الهدى ومصابيح الظّلم» . مالك بن دينار قال لراهب: عظني. فقال: إن استطعت أن تجعل بينك وبين الناس سورا من حديد فافعل. قيل لسقراط: لم لا تعاشر الملوك؟ فقال: وجدت الانفراد بالخلوة، أجمع لدواعي السّلوة. قيل
لرجل: ما تجد في الخلوة؟ فقال: الراحة من مداراة الناس، والسلامة من شرّهم. قيل: توحّد ما أمكنك، فمن وطئته الأعين وطئته الأرجل. حكيم:
العاقل مستوحش من زمانه، منفرد عن إخوانه. حاتم الأصمّ: الزم بيتك فإن أردت الصاحب فالله يكفيك، وإن أردت الرفيق فرفيقاك يكفيانك والقرآن يؤنسك، وذكر الموت يعظك. الشافعيّ رحمه الله تعالى:
فطوبى لنفس وطّنت قعر دارها
…
مغلّقة الأبواب مرخى حجابها «1»
عبد المحسن الصّوري:
أنست بوحدتي حتى لو اني
…
رأيت الأنس لاستوحشت منه
ولم تدع التجارب لي صديقا
…
أميل إليه إلّا ملت عنه
وقيل:
ولا عيش إلّا في الخمول مع الغنى
…
وعافية تغدو بها وتروح
ابن فارس اللغوي:
إذا ازدحمت هموم القلب قلنا
…
عسى يوما يكون لها انفراج
نديمي هرّتي، وأنيس نفسي
…
دفاتر لي، ومعشوقي السراج
وقيل:
عفا الله عن هذا الزمان فإنه
…
زمان عقوق لا زمان حقوق
وكلّ رفيق فيه غير موافق
…
وكلّ صديق فيه غير صدوق
وقيل:
إن شئت أن يسودّ ظنك كله
…
فاجعله في هذا السّواد الأعظم «2»
ليس الصديق بمن يعزّك ظاهرا
…
متبسّما من باطن متجهّم
أبو إسماعيل رحمه الله تعالى:
أعدى عدوّك أدنى من وثقت به
…
فحاذر الناس واصحبهم على دخل
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
…
مسافة الخلف بين القول والعمل «1»
وقيل:
مضى الأحرار وانقرضوا جميعا
…
وخلّفني الزمان على العلوج
وقالوا لي: لزمت البيت جدّا
…
فقلت: لفقد فائدة الخروج
أبو بكر رضي الله عنه: استراحة المؤمن في خموله. وقيل: استوحش من الناس كما تستوحش من السبع. قيل: ما بقي من الناس إلا حمار رامح أو كلب نابح، أو أخ فاضح. أبو الدرداء: احذروا الناس فإنهم ما ركبوا بعيرا إلا أدبروه «2» ، ولا ظهر جواد إلا عقروه، ولا قلب مؤمن إلّا خرّبوه. قيل: استعذ من شرار الناس، وكن من خيارهم على حذر. قيل: اصطلح الناس على سقم السّريرة وزور العلانية. حكيم كتب إلى أخ له: يا أخي إياك والإخوان الذين يكرمونك بالزيارة ليغصبوا لك يومك فإنك إنما تنال الدنيا والآخرة بيومك، فإذا ذهب يومك فقد خسرت الدنيا والآخرة. عابد: إن الله غيور لا يحبّ أن يكون في قلب المؤمن أحد غير الله. عليّ رضي الله عنه: طوبى لمن شغله عيبه عن
عيوب الناس، وطوبى لمن لزم بيته، وأكل قوته، واشتغل بطاعته، وبكى على خطيئته، فكان من نفسه في شغل، والناس منه في راحة. في الحديث:
«المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس» . قيل: أجهل الناس من استأنس بالوحدة وتكثّر بالخلوة. قيل: إياكم والعزلة فإنّ في ملاقاة الناس معتبرا نافعا ومتّعظا واسعا. قيل: البيت رمس «1» ما لزمته. ولقد أحسن الذي قال:
وحدة العاقل خير
…
من جليس السوء عنده
وجليس الخير خير
…
من جلوس المرء وحده
الحكيم: ينبغي للعاقل أن يتخيّر جليسه كما يتخيّر مأكوله ومشروبه، وفي تخيّرهما صلاح البدن، وفي تخيّر الجليس صلاح النفس. قيل:
ما ضاع من كان له صاحب
…
يقدر أن يصلح من شانه
وإنما الأرض بسكّانها
…
وإنما المرء بإخوانه
قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: ادع الله أن يغنيني عن الناس.
فقال: إنّ حوائج الناس متصل بعضها ببعض كاتصال الأعضاء فمتى يستغني المرء عن بعض جوارحه؟ ولكن قل: أغنني عن شرار الناس. سمع عمر رضي الله عنه رجلا يقول: اللهم أغنني عن الناس، فقال: أراك تسأل الموت، قل:
اللهم أغنني عن شرار الناس. والله تعالى أعلم.