الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروضة الثامنة والأربعون في الشعر والفصاحة والبلاغة
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أنا أفصح العرب بيد أني من قريش واسترضعت في بني سعد بن بكر فأنّى يأتيني اللحن» . وحين ردّته حليمة إلى مكة نظر إليه عبد المطلب وقد نما نموّ الهلال وهو يتكلّم بفصاحة فامتلأ سرورا وقال: جمال قريش، وفصاحة سعد، وحلاوة يثرب. وكان شبيب بن شيبة من أفصح الناس وهو من بني سعد. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«سيكون بعدي أمراء يعظون الحكماء على منابرهم وقلوبهم أنتن من الجيف» . وسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم من العباس عمّه كلاما فقال: «بارك الله لك يا عمّ في جمالك» أي فصاحتك. وعنه صلى الله عليه وسلم: «الجمال في اللسان» . وقال صلى الله عليه وسلم لحسّان: «قل فو الله لقولك أشدّ عليهم من وقع السهام في غلس «1» الظلام» . ويقال: أقبح الكلام إكثار تنبسط حواشيه وتنقبض معانيه، فلا يرى له أمد، ولا ينتفع به أحد. أطال خطيب بين يدي الإسكندر فزجره وقال: ليس تحسن الخطبة بحسب طاقة الخطيب ولكن على حسب طاقة السامع. حكيم: إنّ اللسان إذا كثرت حركته مرقت عذوبته.
يولّد اللؤلؤ المنثور منطقه
…
وينظم الدرّ بالأقلام في الكتب «2»
الهيثم بن صالح لابنه: يا بنيّ إذا أقللت من الكلام أكثرت من الصواب، وإذا أكثرت من الكلام أقللت من الصواب. عمر رضي الله عنه: من كثر كلامه كثر
سقطه، ومن كثر سقطه قسا قلبه، ومن قسا قلبه قلّ ورعه. قيل: من كثر لغطه كثر غلطه. سئل بعضهم عن البلاغة فقال: من عمد إلى معان كثيرة فأدّاها بلفظ قليل، أو معان قليلة ففخّمها بلفظ جليل.
يرمون بالخطب الطوال وتارة
…
وحيّ الملاحظ خيفة الرقباء
يكتب في الدعوة:
كل المآرب ما نرجوه يحضرنا
…
سوى حضورك فانعم بالمبادرة
وفي عذر عدم المجيء:
ولو قدرت على الإتيان جئتكم
…
سحبا على الوجه أو مشيا على الرأس
وفي الانقطاع:
إذا ما تقاطعنا ونحن ببلدة
…
فما فضل قرب الدار منّا على البعد؟
وفي الشوق:
لو أنّ بعض الشوق أكتب نحوهم
…
يفنى المداد وتنتهي الألفاظ
وفي تهنئة الصحة:
وما أخصّك في برّ بتهنئة
…
إذا سلمت فكلّ الناس قد سلموا
وفي التعزية:
أشركتمونا جميعا في سروركم
…
فلهونا إذ حزنتم غير إنصاف
من الأمثال:
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها
…
إنّ السفينة لا تجري على اليبس
وقيل:
ما كلّف الله نفسا فوق طاقتها
…
ولا تجود يد إلا بما تجد
وقيل:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا
…
ويأتيك بالأخبار من لم تزوّد «1»
وقّع جعفر البرمكيّ على ظهر رقعة فيها قصيدة: إذا كان الإكثار أبلغ كان الإيجاز تقصيرا، وإذا كان الإيجاز كافيا كان الإكثار عيّا. سئل عليّ رضي الله عنه عن اللسان فقال: معيار أطاشه الجهل وأرجحه العقل. قال عبد الملك لرجل:
حدّثني، فقال: يا أمير المؤمنين افتتح فإنّ الحديث يفتح بعضه بعضا.
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الشعر جدل «2» من كلام العرب يشفى به الغيظ ويتوصّل به إلى المجالس وتقضى به الحاجة» . ضجر شعبة من إملاء الحديث فرأى أبا زيد الأنصاريّ فأنشد:
استعجمت «3» دارميّ لا تكلّمنا
…
والدار لو كلّمتنا ذات أخبار
ثم قال: إليّ أبا زيد، فجاءه فتناشدا، فقال بعض أصحابه: نقطع إليك ظهور الإبل لنسمع منك الحديث وأنت تقبل على الأشعار! فغضب شديدا وقال:
أنا أعلم بالأصلح لي. قيل لجميل: لو قرأت القرآن كان أنفع لك من الشعر، فقال: حدّثنا أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ من الشعر لحكمة» . الخليل:
الشعراء أمراء الكلام يصرّفونه أنّى شاؤوا، جائز لهم فيه ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده، ومن تسهيل الفظ وتعقيده، ومدّ مقصوره وقصر ممدوده، والجمع بين لغاته، والترصيف بين صلاته، واستخراج ما كلّت الألسن عن تعقّله، والأذهان عن فهمه، يبعّدون القريب ويقرّبون البعيد، يحتجّ لهم
ولا يحتجّ عليهم. مدح الفرزدق هشاما فأجازه بأربعة آلاف، فقيل له: إنك لا تمدح المهلّب، فقال: أما علمتم أن الّلها تفتح الّلها «1» . قيل لنصيب: هرم شعرك؟ فقال: ما هرم شعري ولكن هرم الجود والكرم، لقد مدحت الحكم بن المطّلب بقصيدة فأعطاني أربعمائة شاة وأربعة آلاف دينار ومائة ناقة. بعض الشعراء:
لئن أدركت في نظمي فتورا
…
ووهنا في بياني والمعاني
فلا تنسب بنقصي إنّ رقصي
…
على مقدار تنشيط الزمان
يقال: الجود حارس العرض عن الذمّ. سيف الدولة الحمداني «2» : إعطاء الشعراء من فروض الأمراء. يقال: لكلّ شيء لسان ولسان الزمان الشعر. عمر رضي الله عنه: تعلّموا محاسن الشعر فإنه يدلّ على محاسن الأخلاق.
لولا جرير والفرزدق لم يكن
…
ذكر جميل من بني مروان
الصاحب: بدىء الشعر بملك وختم بملك. يعني امرأ القيس وأبا فراس.
عن الفرزدق أنّ سليمان بن عبد الملك سمع قوله:
فبتن بجانبيّ مفرّعات
…
وبتّ أفضّ أغلاق الختام
فقال: وجب عليك الحدّ، فقال: يا أمير المؤمنين قد درأ الله عني الحدّ بقوله: (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ)
«3» . حجر بن عمرو الكنديّ: قال لابنه امرىء القيس: يا بنيّ إنّ أحسن الشعر أكذب ولا يحسن الكذب بالملوك. بعض الفضلاء:
لا تحسبنّ الشعر فضلا بارعا
…
ما الشعر إلا محنة وخبال «1»
فالهجو قذف والرثاء نياحة
…
والذمّ عيب والمديح سؤال
وقيل:
إنّ بعضا من القريض هراء
…
ليس شيئا وبعضه أحكام
ذهب جماعة من الشعراء إلى خليفة فتبعهم طفيليّ، فلمّا دخلوا على الخليفة دخل، فقرؤوا قصائدهم واحدا بعد واحد وأخذوا العطاء، فبقي الطفيليّ متحيّرا فقيل له: اقرأ شعرك، فقال: لست بشاعر وإنما أنا رجل ضالّ، كما قال الله تعالى:(وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ)
«2» . فضحك الخليفة وأمر له بإنعام. ابن العلّاف: أتانا خادم ليلا في دار المعتضد، فقال: يقول أمير المؤمنين: أرقت بعدكم الليلة، فقلت:
ولمّا انتبهنا للخيال الذي سرى
…
إذا الدار قفر والمزار بعيد
ومن أتمّه بما يوافق غرضي فله جائزة، والشعراء حاضرون فابتدرت وقلت:
فقلت لعيني عاودي النوم واهجعي
…
لعلّ خيالا طارقا سيعود
فذهب الخادم ثم عاد بجائزة واستحسان. منع بعضهم من الدخول على بعض الأمراء فكتب:
داعيك على الباب نهاه البوّاب
…
بالردّ عن الدخول فاغتمّ وخاب
هل يرجع كالنكبة عن حضرتكم
…
أم يدخل كالدولة من غير حجاب
الشعبيّ: كنت أحدّث عبد الملك وهو يأكل فيحبس اللقمة فأقول: أجزها
أصلحك الله فإن الحديث من ورائك، فيقول: والله لحديثك أحبّ إليّ منها.
يقال: القول بحسب همّة القائل يقع، والسيف بحسب عضد الضارب يقطع.
قيل: الكلام إذا صدر من القلب وقع في القلب. العلامة: ربّ صدقة من بين فكّيك خير من صدقة من بين كفّيك. يقال: البلاغة ما رضيته الخاصّة وفهمته العامّة. سئل بعض الحكماء: ما الذي جعل الفصيح ألكن؟ قال: الحاجة.
قيل لعمر رضي الله عنه: الصمت مفتاح السلامة، فقال: نعم ولكنّه قفل الفهم. ابن عيينة: الصمت منام العلم والنطق يقظته، ولا منام إلا بيقظة ولا يقظة إلا بمنام. ابن المبارك:
وهذا اللسان بريد الفؤاد
…
يدلّ الرجال على عقله
يقال: القول لا تملكه إذا نمي «1» كالسهم لا يملكه الذي رمي.
قال لأبي دلف بعض من ادّعى الغريب من اللغة: كنت في دار الضرب فرأيت عين الأمير «2» أخرجت من النار وهي تحت المطارق، فقال بعد الخجل: أعمى الله حدقتك. فضحكوا وانصرف بالخزي. دخل رجل على عبد الله بن طاهر فقال: ما رأيناك منذ أيام، فقال: جئت إلى حضرة الأمير أعزّه الله فرأيت في حاجبه عبوسا فانصرفت مخافة من سخطه، قال: هذا خلق لم ير مني قطّ. لعلّه أراد فلانا الحاجب، فقال: المراد هذا، فضحك وقال مستهزئا: إنّ من الشعر لحكمة، ثم سقطت منزلته عنده. قال رجل يدّعي التعمق في الفصاحة لبعض الملوك وفي يده برص: يا مولاي عندي منك يد بيضاء لا أستطيع القيام
بشكرها، فقال بعد الخجل: قم واخرج فإنه شكر، الشتم أحسن منه. أنشد ذو الرمّة هشام بن عبد الملك:
وما لعينك منها الماء ينسكب
…
كأنه من كلى مفرية سرب «1»
قال: بل عينك. العلامة: ما رأيت على امرأة أحسن من شحم ولا على رجل أحسن من فصاحة. مرّ الأصمعيّ بحيّ من أحياء العرب فوجد صبيّا يلعب مع الصبيان في الصحراء ويتكلّم بالفصاحة، فقال الأصمعيّ: أين أباك يا صبيّ؟
فنظر إليه الصبيّ ولم يجب، ثم قال: أين أبيك؟ فنظر إليه ولم يجب كالأوّل، ثم قال: أين أبوك؟ فقال: فاء «2» إلى الفيفاء لطلب الفيء، فإذا أفاء الفيء فاء «3» . سقط عيسى بن عمر عن حمار فاجتمع الناس عليه فقال: ما لكم تكأكأتم عليّ كتكأكئكم على ذي جنّة، افرنقعوا عني، فقيل: إن جنّيه يتكلّم بالهنديّة.
الأحنف: سمعت كلام أبي بكر حتى مضى، وكلام عمر حتى مضى، وكلام عثمان حتى مضى، وكلام عليّ حتى مضى، لا والله ما رأيت أبلغ من عائشة رضي الله عنها. وقال معاوية: ما رأيت أبلغ من عائشة رضي الله عنها، ما أغلقت بابا فأرادت فتحه إلا فتحته، ولا فتحت بابا فأرادت إغلاقه إلا أغلقته.
******