الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروضة الرابعة في الجهاد والقتل والشهادة والحرب والصلح والأسلحة والغارة والهزيمة والشجاعة والجبن وما ناسب ذلك
أبو هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: «تكفّل الله لمن جاهد في سبيله، لا يخرجه من بيته إلّا جهاد في سبيله أو تصديق كلمته، بأن يدخل الجنة أو يرجع إلى مسكنه الذي خرج منه مع ما نال من أجر أو غنيمة» . وعنه عليه الصلاة والسلام: «ثلاثة حقّ على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء «1» » . كتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما، حين أخرجه إلى أهل الرّدّة: اعلم أنّ عليك عيونا من الله ترعاك، فإذا لقيت العدوّ فاحرص على الموت توهب لك السلامة، ولا تغسل الشهداء من دمائهم فإنّ دم الشهيد يكون له نورا يوم القيامة. أوّل من عقدت له راية الإسلام للجهاد في سبيل الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه.
حضّ منصور بن عمار «2» على الغزو، فطرحت امرأة رقعة قرىء منها:
رأيتك يابن عمار تحض على الجهاد وقد ألقيت ذؤابتي فلست أملك والله غيرها، فبالله اجعلها قيد فرس غاز في سبيل الله، فعسى الله أن يرحمني، فارتجّ المجلس بالبكاء. النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية، فإذا
لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف» . كان النبي صلى الله عليه وسلم أشجع الناس. عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فضّلت على الناس بأربع:
بالسماحة، والشجاعة، وكثرة الجماع، وشدة البطش» . عن النبي صلى الله عليه وسلم:
«الحرب خدعة» . وقيل: إذا لم تغلب فاخلب «1» وقيل: حازم في الحرب خير من ألف فارس، لأن الفارس يقتل عشرة أو عشرين، والحازم قد يقتل جيشا بحزمه وتدبيره.
بعضهم: كن بحيلتك أوثق منك بشدّتك، وبحذرك أفرح منك بنجدتك.
قيل: المكر أبلغ من النجدة. علي بن أبي طالب رضي الله عنه لبعض بنيه: لا تدع أحدا إلى البراز، ولا يدعوك أحد إلا أجبته، فالداعي باغ، والباغي مصروع. قيل: من تفكّر في العواقب لم يشجع. قيل: تفكّر قبل أن تتقدم، فالإتيان بالتندّم لا يغني بعد التقدم. قيل: من خاصم بغير حجّة، وقاتل بغير نجدة، وصارع بغير قوة، فقد أعظم الخطر وأكثر الضرر. قيل: ترك التقدم أحسن من التندم. قيل لعبّاد بن الحصين «2» : إن جاءتك الخيل فأين نطلبك؟
قال: حيث تركتموني. قيل: لم تكن القتلى في عسكر إلا وأكثرهم من عبد القيس، ولا يكون الفتح إلا في ناحيتهم. قيل لبعض بني المهلب: بم نلتم ما نلتم؟ فقال: بصبر ساعة. قيل: إذا انقضت المدة لم تنفع العدّة. كان يقال لعمر رضي الله عنه «مفتاح الأمصار» لأنه الذي فتح أكثرها.
بعض العرب: ما لقينا كتيبة فيها علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه إلا أوصى
بعضنا إلى بعض. نظر إليه رجل وقد سبق العسكر فقال: قد علمت أن ملك الموت في الجانب الذي فيه علي رضي الله عنه. الأصمعي: سمعت أعرابيا يصف قوما فقال: ألحاظهم سهام، وألفاظهم سمام «1» ، اصطفوا كجناح العقاب الكاسر، وشدّوا شدّة الضّيغم الخادر «2» ، فما ثنوا أعنّتهم وما كفّوا أسنّتهم حتى هزموا القوم. أرقلوا «3» إلى الموت إرقال الجمل المغاضب، وانقضّوا على العدو انقضاض رجوم الكواكب. جعلوا أرشيتهم «4» الرماح فاستقوا بها الأرواح. قيل:
ما ظنكم بسيوف الله في أيدي أوليائه وقد نصرهم من سمائه، وسلطهم على أعدائه.
تميم الداري «5» رضي الله عنه: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليبلغنّ هذا الأمر ما بلغ الليل ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعزّ عزيز يعزّ الله به الإسلام وذلّ ذليل يذلّ الله به الكفر. أوصى الرشيد عبد الملك بن صالح أمير سريّته فقال: أنت تاجر الله لعباده، فكن كالمضارب الكيّس، إن وجد ربحا اتّجر وإلا احتفظ برأس المال، ولا تطلب الغنيمة حتى تحرز السلامة، وكن من احتيالك على عدوّك أشدّ خوفا من احتيال عدوّك عليك. قيل: احترس من تدبيرك على عدوّك كاحتراسك من تدبيره عليك، فربّ هالك بما دبّر ومكر وساقط في الذي احتفر، وجريح بالسلاح الذي شهر. قيل: دون نيل المعالي هول العوالي. قيل: درك الأحوال في ركوب الأهوال.
لقمان: من لم يركب الأهوال لم ينل الآمال. وعنه: العدة ليوم الشدة.
قيل: بالصبر على لبس الحديد يتنعّم بالثوب الجديد. في الصبر على النوائب إدراك الرغائب. ربّ قعدة تمنع قعدات وأكلة تمنع أكلات. قيل لعلي رضي الله عنه: بم غلبت الأقران «1» ؟ فقال: بتمكين هيبتي في قلوبهم. قيل للإسكندر:
إن في عسكر (دارا)«2» لمائة ألف مقاتل، فقال: إن القصاب الحاذق لا تهوله كثرة الأغنام. وصف رجل آخر فقال: كان ركونا للأهوال، غير ألوف للظلال.
البحتري:
مسترسلين إلى الحتوف كأنها
…
وفر بأرض عدوّهم يتنهّب «3»
الطائي:
مسترسلين إلى الحتوف كأنما
…
بين الحتوف وبينهم أرحام «4»
وصف أعرابيّ رجلا فقال: هو ابن الحرب، أرضع بلبنها، وربّي في حجرها. فيلسوف: لا تصغّر أمر من حاربت، فإنك إذا ظفرت لم تحمد، وإن عجزت لم تعذر. أشار على الإسكندر أصحابه أن يبيّت الفرس «5» فقال: ليس من الإنصاف أن يقاتل قومي عني وأنا أترك القتال عنهم.
بكر بن وائل: الحذر لا يغني من القدر. قيل: السلامة في الإقدام، والحمام في الإحجام. عظائم الترك قالوا: ينبغي للقائد في الحرب أن تكون فيه
أخلاق من البهائم: شجاعة الديك، وقلب الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب على الجراحة، وحراسة الكركيّ «1» ، وحذر الغراب، وغارة الذئب. كان لأهل مدينة قائد جيش جبان، وطبيب لم يعالج أحدا إلّا قتله. فظهر عليهم عدوّ فشاوروا الإسكندر فقال: اجعلوا طبيبكم صاحب جيشكم، وصاحب جيشكم طبيبكم. سئل أعرابيّ عن رجل فقال: هو يسرع الغارة، ويحمي الجارة. قصد الإسكندر موضعا فحاربته النساء فكفّ عنهنّ وقال: هذا جيش إن غلبناه ما لنا من فخر، وإن كنا مغلوبين فتلك فضيحة الدهر.
كيخسرو «2» : أعظم الخطايا محاربة من يطلب الصلح. قيل: الصلح بقاء الآجال، وحرم الأموال. قيل: الحرب صعبة ومرّة، والحرب أمن ومسرّة. إذا حكم السلاح حكم بالفساد والصلاح. قيل: الحرب تأخذ وتعطي، والمتعرّض لها قد يصيب وقد يخطي، والسلامة في السلم الذي لا يثمر على الدين فصما، ولا يجرّ على الملك وصما. في الحديث:«خمس بخمس: ما نقض العهد قوم إلّا سلّط الله عليهم عدوّهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله تعالى إلّا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، ولا طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات وأخذوا بالسنين «3» ، ولا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر» . عبد الله بن الحسن: إياك ومعاداة الرجال فإنك لن تعدم مكر حليم، أو مفاجأة لئيم.
زيد بن حارثة رضي الله عنه: لا تستنشروا السباع من مرابضها فتندموا، وداروا الناس في جميع الأحوال تسلموا.
قيل: الفتنة نائمة فمن أيقظها فهو طعامها. عمر بن الخطاب رضي الله عنه لعمرو بن معدي كرب: أخبرني عن الحرب. فقال: هي مرّة المذاق، إذا قلصت عن الساق. ربّ خطرة يسيرة عادت همّة كبيرة، ومن الجمرة تكون النار العظيمة. قيل: موطنان تذهب فيهما العقول: المباشرة والمسابقة. قيل:
الهرب في وقته خير من الوقوف في غير وقته. قيل: من هرب من معركة فعرف سبيل مفرّه إلى مستقرّه فهو شجاع. سأل عمرو بن العاص معاوية: إني أرى منك في بعض الأوقات إقداما فأحكم بشجاعتك، وأرى في بعضها إحجاما فأحكم بجبنك، فأخبرني. فقال معاوية:
شجاع إذا ما أمكنتني فرصة
…
وإن لم تكن لي فرصة فجبان
سئل ابن القرّية «1» عن الدهاء فقال: تجرّع الغصّة، وتوقّع الفرصة.
المهلب: الإقدام على الهلكة تضييع، كما أنّ الإحجام عن الفرصة جبن.
المتوكل لأبي العيناء «2» : إني أفرق من لسانك. فقال: يا أمير المؤمنين الشريف ذو فرق وإحجام، واللئيم ذو وقح وإقدام. افراشياب «3» قال لأخيه: إنّ الشجاع محبّب حتى إلى عدوّه والجبان مبغّض حتى إلى أمّه. قيل: الشجاعة صبر ساعة. عليّ رضي الله عنه: الصبر مطيّة الظفر. قيل: الصبر درج «4» ، تفضي بمن عرج إلى الفرج. قيل: كما يجذب المغناطيس الحديد يجذب الصبر الظفر. قيل: إنّ أقلّ الصبر ظليل، وإن مضلّه ذليل.
كتب زياد إلى ابن عباس: صف لي الشجاعة والجبن والجود والبخل.
فقال: الشجاع هو المقاتل عمن لا يعرفه، والجبان يفرّ من عرسه، والجواد يعطي من لا يلزمه حقّه، والبخيل يمنع من نفسه. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«شرّ ما في الرجل شحّ هالع، وجبن خالع» . يقال للجبان: جثم الخوف على أحشائه، وطارت عصافير رأسه إن أحسّ نبأة «1» طار فؤاده، وإن طنّت بعوضة طال سهاده، يفزعه صرير باب، وطنين ذباب، إن نظرت إليه شزرا غشي عليه شهرا، يحسب خفوق الرياح قعقعة الرماح. يقال: فرّ فرار الليل من وضح النهار. قيل لبعضهم: كيف حالك؟ قال: صارت الدنيا عليّ مثل سمّ الخياط «2» .. قيل:
الجبن حرص على تأخير الأجل المحتوم، والشّره حرص على تغيير الرزق المقسوم، ومن أسوأ حالا ممن سعى لتبديل الآجال والأرزاق، ورجا دفع ما قدّر له أنه لاق، وأن لا يقيه منه واق.
قيل لرجل تعرّض له الأسد فأفلت منه: كيف تخلّصت؟ قال: بسلامة، إلّا أنّ الأسد خري في سراويلي. أعرابيّ لابنه: كن يدا لأصحابك على من قاتلهم، ولكن إيّاك والسيف فإنه ظلّ الموت، واتّق الرمح فإنه رشاء «3» المنية، واحذر السّهام فإنها رسل الهلاك. في وصية سليمان عليه الصلاة والسلام: يا بنيّ لا تخالط السفهاء لأن انكسارهم يأتي بغتة. وعنه عليه السلام: الانكسار يتبعه الذل. لما أقبل هرمز لمحاربة بهرام قال له حاجبه: أما تستعدّ؟ قال:
عدّتي ثبات قلبي وأصالة رأيي ونصل سيفي ونصرة خالقي.
ابن الرومي رحمه الله تعالى:
لم أر شيئا حاضرا نفعه
…
للمرء كالدرهم والسيف
يقضي له الدرهم حاجاته
…
والسيف يحميه من الحتف «1»
قيل لعبّاد بن الحصين «2» ، وكان من أشجع الناس: في أيّ جنّة «3» تحبّ أن تلقى عدوّك؟ قال: في أجل مستأخر. قيل لبعضهم: أي الجنن أوقى؟ فقال:
العافية. قيل لآخر: لو احترست، فقال: كفى بالأجل حارسا. قيل: السيف حرز إذا جرّد، وهيبة إذا أغمد. قيل: الشرف مع السيف. وصفه رجل فقال:
ملك رئيس، ضحك عبوس، لهوه قطف الرؤوس، وهزله خطف النفوس.
أبو نصر في السيف:
له حسام صقيل المتن جرّده
…
كأنه ملك في كفّه لهب
كالنار بالفعل لكن ليس مشتعلا
…
كالماء بالجرم لكن ليس ينسكب
آخر:
جنين هواه أن يفارق أمّه
…
له المهد هام والقماط قتام «4»
الحجّاج: اتّقوا الغبار فإنه سريع الدخول بطيء الخروج. كان ذو الفقار «5» عند أولاد علي رضي الله عنه، يتوارثونه حتى وقع إلى آل بني عباس. قال الأصمعيّ: رأيت هارون متقلدا سيفا فقال لي: ألا أريك ذا الفقار؟ اسلل سيفي
هذا. فاستللته فرأيت فيه ثماني عشرة فقارة. قال المبرّد في كتاب الاشتقاق:
كانت فيه حزوز مطمئنة شبّهت بفقار الظهر، وهو سيف منبّه بن الحجاج، وكان صفيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق، وقيل: في غزوة بدر، والله أعلم. عبد الملك بن عمير: أهدت بلقيس إلى سليمان بن داود عليهما السلام سبعة أسياف، أحدها ذو الفقار. ثم صار لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
استطال عليّ رضي الله عنه درعا فقال: لينقص منها كذا حلقة. فقبض محمد ابن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها وبالأخرى على فضلها ثم جذبها فقطع من الموضع الذي حدّه له أبوه. عليّ رضي الله عنه: إن أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون من منيّة على فراش. قيل لأبي مسلم صاحب الدعوة «1» : في بعض الكتب النازلة: من قتل بالسيف فبالسيف يموت. فقال: الموت بالسيف أحبّ إليّ من اختلاف الأطباء والنظر في الماء «2» ، ومقاساة الداء والدواء. فذكر ذلك للمنصور فقال: صادف منيته كما أحبّ. عيسى عليه السلام مرّ بقتيل فقال: قتلت فقتلت، وسيقتل قاتلك.
لما اعتلّ خالد بن الوليد جعل يقول: لقيت كذا وكذا زحفا فما في جسدي موضع شبر إلّا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت العير «3» ، فلا نامت أعين «4» الجبناء.
ولما ارتفعت الأصوات عليه أنكر بعض الناس فقال عمر رضي الله عنه: دع نساء بني المغيرة يبكين أبا سليمان، ويذرفن دموعهنّ سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة «1» . قال خالد بن الوليد: أنا سيف الله، حين رأى بني حنيفة قد سلّوا السيف. قيل: أربعة يسرع إليها الخلف: الحرق والقتل والتزويج والحجّ.
عليّ رضي الله عنه: بقيّة السيف «2» أنمى عددا وأكثر ولدا وعوين ذلك في ولد عليّ، وولد المهلّب، فقد قتل مع الحسين عامّة أهل بيته لم ينج إلّا ابنه عليّ لصغره، فأخرج الله من صلبه الكثير الطيّب. وقتل يزيد بن المهلب وإخوته وذراريهم، ثم مكث من بقي منهم نيّفا وعشرين سنة لا يولد فيهم أنثى، ولا يموت منهم غلام. قبر الحسين بن علي رضي الله عنهما بكربلاء، ورأسه بالشام في مسجد دمشق على رأس أسطوانة. عمر بن عبد العزيز: لو كنت في قتلة الحسين وأمرت بدخول الجنّة لما فعلت حياء من أن تقع عليّ عين محمد صلى الله عليه وسلم.
جزعت عائشة رضي الله عنها حين احتضرت، فقيل لها، فقالت: اعترض في حلقي يوم الجمل. قيل لمجنون: أيسرّك أن تصلب في صلاح هذه الأمة؟
فقال: لا، ولكن يسرّني أن تصلب هذه الأمة في صلاحي. قيل لعتيبة المدني:
ألا تغزو؟ فقال: والله إني لأكره الموت على فراشي فكيف أنتجعه «3» .
قيل لرجل لم يخرج إلى الغزو وجانب العدوّ: لم لا تخرج إلى الغزو؟
فقال: والله ما أعرف واحدا منهم، ولا يعرفني أحد منهم، فمن أين وقعت العداوة بيني وبينهم؟. ولي أعرابيّ اليمن فجمع اليهود وقال: ما تقولون في عيسى؟ قالوا: قتلناه وصلبناه. فقال: لا تخرجوا من السجن حتى تؤدّوا ديته.
قيل لأعرابيّ: أيسرّك أن تكون من أهل الجنّة وأنك لا تدرك ثأرا؟ قال: بل يسرّني أن أدرك الثأر وأنفي عني العار، وأدخل مع فرعون النار. يقال: الموت في طلب الثار خير من الممات في عار. قيل لسقراط: لم لم تذكر في شريعتك عقوبة من قتل أخاه؟ فقال: لا أعلم أنّ هذا شيء يكون.
استعرض الإسكندر جنده، فتقدّم إليه رجل على فرس أعرج فأمر بإسقاطه، فضحك الرجل، فاستعظم ضحكه في ذلك المقام، فقال له: ما أضحك وقد أسقطتك؟ قال: التعجب منك. قال: كيف؟ قال: تحتك آلة الهرب وتحتي آلة الثبات ثم تسقطني؟ فأعجب بقوله وأثبته. قسم معن بن زائدة «1» سلاحا في جيشه، فدفع إلى رجل سيفا رديئا، فقال: أصلح الله الأمير أعطني غيره، قال: فخذه فإنه مأمور، قال: هو مما أمر أن لا يقطع أبدا. فضحك وأعطاه غيره. عرض عمرو بن ليث «2» عسكره، فمرّ به رجل على فرس أعجف فقال:
لعن الله هؤلاء، يأخذون المال ويسمّنون أكفال «3» نسائهم. فقال: أيها الأمير لو نظرت إلى كفل امرأتي لرأيته أهزل من كفل دابتي. فضحك وأمر له بمال وقال:
خذه وسمّن به كفل دابتك وامرأتك.
وقع في بعض العساكر هيج فوثب خراسانيّ إلى دابّته ليلجمها فصيّر اللجام في الذنب دهشا فقال: هب جبهتك عرضت، ناصيتك كيف طالت؟. نظر فيلسوف إلى رام سهامه تذهب يمينا وشمالا، فقعد في موضع الهدف وقال: لم أر موضعا أسلم من هذا. قال المنصور لبعض الخوارج بعد الأخذ: عرّفني من أشدّ أصحابي إقداما؟ فقال: لا أعرفهم بوجوههم فإني لم أر إلّا قفاهم. اجتاز
كسرى في بعض حروبه برجل قد استظلّ بشجرة وقد شدّ دابّته وألقى سلاحه، فقال: يا نذل نحن في الحرب وأنت بهذه الحالة تتقي من الحرّ؟ فقال: أيها الأمير بلغت هذا السنّ «1» بالتوقي. فضحك وأعطاه مالا. قيل لرجل: إذا انهزمت غضب الأمير. قال: أن يغضب الأمير وأنا حيّ أحبّ إليّ من أن يرضى وأنا ميت. قيل لبعض المنهزمين: من خير الناس؟ قال: من صبر أخزاه الله ومن هرب نجّاه الله.
أتي الحجّاج برجل من أصحاب ابن الأشعث»
فقال: أسألك أن تقتلني وتخلّصني. فقال الحجّاج: لم؟ قال: لأني أرى في المنام كلما نمت أنك تقتلني، وقتلة تخلّصني أهون من ذلك. فضحك وخلّى سبيله. قال سقراط لرجل هرب من الحرب: الهرب من الحرب فضيحة. فقال الهارب: شرّ من الفضيحة الموت. الحجاج: ولّيتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها، النوازع إلى أعطانها «3» ، لا يلوي الشيخ على بنيه، ولا يسأل المرء عن أخيه. سمع الجمّاز محبوسا يقول:
اللهم احفظني. فقال: قل: اللهمّ ضيّعني حتى ينقلك من ههنا، فحفظه لك أن يبقيك في الحبس. كتب رجل من أهل السجن إلى الرشيد: ما مرّ يوم من نعيمك إلّا مرّ يوم من بؤسي، والأمر قريب، والسّلام. أتي المنصور برجل جان فأمر بقتله، فقال: إنّ الله أعظم سلطانا منك وهو عاقب بالخلود لا بالفناء. فحبسه.
حكي أن يوسف عليه السلام دعا لأهل السجن فقال: اللهم عطّف عليهم الأخيار، ولا تخف عنهم الأخبار. فيقال: إنهم أعلم الناس بكلّ خبر. خرج
الحجاج يوما إلى الجامع فسمع ضجّة شديدة فقال: ما هذا؟ فقيل: أهل السجون يضجّون من شدّة الحرّ. فقال: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ
«1» . وأحصي من قتلهم سوى من قتل في عساكره فوجد مائة وعشرون «2» ألفا، ووجد في حبسه مائة ألف وأربعة آلاف رجل وعشرون ألف امرأة. وكان حبس الرجال والنساء في مكان واحد، ولم يكن في محبسه سقف ولا ظلّ من الشمس، وربما كان يستتر الرجل من الشمس بيده، من الحرّ، فيرميه الحرس من فوقه بالآجرّ. وكان أكثرهم مقرّنين في السلاسل.
عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى: لو جاءت كلّ أمّة بمنافقيها وجئنا بالحجاج فضلناهم. قيل: لمّا صلب الحجاج عبد الله بن الزبير جاءت أمّه أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهما فلما رأته حاضت مع كبر سنّها وقد بلغت مائة سنة، وخرج اللبن من ثدييها، فقالت: حنّت إليه مراتعه، ودرّت عليه مراضعه. ثم دخلت على الحجاج فقالت: أما حان لهذا الراكب أن ينزل؟ فقال الحجاج: خلّوا بينها وبين جيفتها. قيل: صلب عبد الله بن الزبير ثالث مصائب المسلمين، الأولى: قتل عثمان، والثانية: قتل الحسين، والثالثة: صلبه ورمي الكعبة بالمنجنيق وهدمه «3» واستحلال الحرم والإغارة على أهل مكة. اللهم احفظ أمّة محمد عليه أفضل الصلاة والسّلام عن أمثال هذه المصائب. مرّت امرأة جعفر ابن يحيى «4» به وقد صلب فقالت: لئن صرت اليوم آية، كنت بالأمس غاية.
والله أعلم.