الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الروضة التاسعة والعشرون في الطعام وألوانه والضيافة وذكر الأكل والشّبع والجوع واللذة والألم وما يتّصل بذلك
حذيفة رضي الله عنه: عنه عليه الصلاة والسلام: «من قلّ طعمه صحّ بدنه، ومن كثر طعمه سقم بدنه وقسا قلبه» . وعنه عليه الصلاة والسلام: «لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلب يموت كالزرع إذا كثر عليه الماء» .
لقمان: من احتمى من الأغذية، استغنى عن الأدوية. قيل: كل قليلا تعش طويلا. ابن سينا:
واجعل طعامك كل يوم مرّة
…
واحذر طعاما قبل هضم طعام
عليّ رضي الله عنه: كان يفطر ليلة عند الحسن وليلة عند الحسين وليلة عند عبد الله بن جعفر، لا يزيد على اللقمتين أو الثلاث. عيسى عليه السلام: يا بني إسرائيل لا تكثروا الأكل فإنه من أكثر الأكل أكثر النوم، ومن أكثر النوم أقلّ الصلاة، ومن أقلّ الصلاة كتب من الغافلين. أبو سليمان الدارانيّ: لكلّ شيء صدأ وصدأ نور القلب الشّبع. كان سليمان بن داود عليهما السلام يأكل خبز الشعير ويطعم الناس الحوّارى «1» . عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما زيّن الله رجلا بزينة أفضل من عفاف بطنه» . عمرو بن عبيد: ما رأيت الحسن ضاحكا قطّ إلا مرّة قال رجل من جلسائه: ما آذاني طعام قطّ. فقال له آخر: لو كان في معدتك حجارة
لطحنتها. فضحك. فضيل: خصلتان تقسيان القلب: كثرة الأكل وكثرة الكلام.
قيل ليوسف عليه السلام: مالك لا تشبع وفي يدك خزائن الأرض؟ فقال:
إني إذا شبعت نسيت الجائعين. دخل سفيان بن عيينة على الرشيد وهو يأكل بملعقة فقال: حدّثت عن جدّك ابن عباس في قوله تعالى: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ
«1» أي جعلنا لهم أيديا يأكلون بها. فكسر الملعقة. الأصمعيّ قال: أكل أعرابيّ بخمس أصابع فقيل له: لم تفعل هكذا؟ قال: إذا أكلت بثلاث غضبت بقيّة الأصابع. وقيل لآخر: لم تأكل بخمس؟ قال: ما أفعل؟ ليست بزائدة منها. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «أكرموا الخبز فإن الله أكرمه وسخر له بركات السماء والأرض» . كان ابن سيرين إذا دعي إلى وليمة قال: يا جاريتي هاتي قدحا من سويق فإني أكره أن أجعل حدّة جوعي على طعام الناس.
كان عمر يقول: يا بنيّ لا تخرج من منزلك حتى تأخذ من حلمك، يعني التغدي. يقال: الندامة أربعة: ندامة يوم وهي أن يخرج الرجل من منزله قبل أن يتغدّى، وندامة سنة وهي ترك الزراعة في وقتها، وندامة عمر وهي أن يتزوّج امرأة غير موافقة، وندامة الأبد وهي أن يترك أمر الله تعالى. عليّ رضي الله عنه: من أراد البقاء فليباكر الغداء، وليخفّف الرداء، وليقلّ غشيان النساء.
فقيل: وما خفّة الرداء؟ قال: قلّة الدّين. عائشة رضي الله عنها: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه البرّة السمراء حتى فارق الدنيا.
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا عليّ ابدأ بالملح واختم به، فإنّ فيه شفاء من سبعين داء» .
في الحديث: «من داوم على اللحم أربعين يوما قسا قلبه، ومن تركه أربعين يوما ساء خلقه» . قيل: اللحم ينبت اللحم، والشحم لا ينبت الشحم ولا اللحم. قالوا: إذا ألقي اللحم في العسل وأخرج بعد شهر وجد طريّا لم يتغيّر.
قيل لصوفيّ: ما تقول في الفالوذج؟ قال: لا أحكم على غائب. دعي (مزيد) إلى طعام فقال: أنا صائم. فلما قدم الفالوذج زحف نحوه وقال: أنا على صوم يوم أقدر من ترك هذا. حماد بن سلمة: دخلت على إياس بن معاوية وهو يأكل الفالوذج فقال: ادن وكل فإنه يزيد في العقل. أبو يوسف «1» : كنت أتعلّم عند أبي حنيفة فجاءت أمي وقالت: هذا صبيّ يتيم، أطعمه من مغزلي، اتركه يكسب دانقا. فقال أبو حنيفة: يتعلّم هذا لأكل الفالوذج بدهن الفستق. وقدّم إليّ هارون يوما فالوذجا بدهن الفستق فضحكت، فقال: لم تضحك؟ فأخبرته بما وقع. فقال رحمه الله: كان ينظر بعين عقله ما لا يراه بعين رأسه. الحسن:
كان على مائدة ومعه مالك بن دينار فأتي بالفالوذج، فامتنع مالك عن أكله فقال الحسن: كل فإنّ نعمة الله عليك في الماء البارد أكثر من هذا. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أنّه أكل الرّطب بالبطيخ» . عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يأكل البطيخ بالسكر. عن الحسن البصريّ: لعاب البسر بلباب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم. ابن عباس رضي الله عنهما: «سئل النبيّ صلى الله عليه وسلم: أيّ الشراب أفضل؟ قال: الحلو البارد» . قالوا: أراد العسل. ويقال: أجود الأعسال الذي إذا قطرت منه قطرة على وجه الأرض، استدارت كما يستدير الزئبق. سئل فيلسوف عما يزيد في العمر فقال: من أدام أكل العسل ودهن جسمه بالزيت زاد الله في عمره.
بعضهم: من أطعم ولم يثمر فكأنما صلّى العشاء ولم يوتر. المأمون: أربعة
من الثمار لأربعة من الأعضاء: التفاح للقلب، والسفرجل للمعدة، والتين للطحال، والبطيخ للمثانة. بزرجمهر: في البطيخ عشر خصال: هو ريحان، وتحفة، وفاكهة، وإدام مقنع، وخبيص مهيأ، ودواء للمثانة، وحرض للغمر والزهومة «1» ، ومذهب لرائحة النورة عند الاستحمام، وكوز لمن عسر عليه ما يشرب فيه، وهاضوم الثقيل من الطعام. أبو نواس: مائدة بلا بقل، كشيخ بلا عقل. ومجلس بلا ريحان، كشجرة بلا أغصان. أكل أعرابيّ في شهر رمضان، فقيل: ما هذا؟ قال: سمعت الله تعالى يقول: كلوا من ثمره إذا أثمر وينعه «2» ، وأنا خفت أن أموت قبل الإفطار فأكون عاصيا. رمدت عين صهيب فأكل التمر، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم:«أتأكل التمر وبك رمد؟ فقال: آكل بالجانب السليم. فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم» . قيل:
ثلاث هنّ في البطيخ زين
…
وفي الإنسان نقصان وذلّه
خشونة جلده والثقل فيه
…
وصفرة لونه من غير علّه
إذا قطّعته إربا تراه
…
كبدر قطّعت منه أهلّه
قيل في حقّ بعض المدغلين «3» :
كبطيخة البستان ظاهر جلدها
…
صحيح ويبدو داؤها حين تفلق
عليّ رضي الله عنه: كلوا العنب حبّة حبّة فإنه أهنأ وأمرأ. وروي عنه: إذا طبختم فأكثروا القرع فإنه يسكّن القلب الحزين.
أبو هريرة رضي الله عنه: ما شبع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهله ثلاثة أيام تباعا من
خبز حنطة حتى فارق الدنيا. عمر رضي الله عنه: «ما اجتمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إدامان إلا أكل أحدهما وتصدّق بالآخر» . عائشة رضي الله عنها: «ما كان يجتمع لونان في لقمة في فم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إن كان لحما لم يكن خبزا، وإن كان خبزا لم يكن لحما» . وعن عائشة رضي الله عنها: ما شبع آل محمد من خبز برّ حتى قبضه الله. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أكل وذو عينين ينظر إليه ولم يواسه ابتلي بداء لا دواء له» . لقمان: يا بنيّ لا تأكل شبعا، فإنك إن نبذته للكلاب كان خيرا لك من أن تأكله.
ابن عمر رضي الله عنهما، رفعه:«إذا رأيتم أهل الجوع والتفكر فادنوا منهم، فإن الحكمة تجري على ألسنتهم. سمرة بن جندب، رفعه: «من تعوّد كثرة الطعام والشراب قسا قلبه» . العرب: أقلل طعاما، تحمد مناما. قيل لحكيم: أيّ الطعام أطيب؟ قال: الجوع. كان يقال: نعم الإدام الجوع. قيل لمدنيّ: بم تتسحّر الليلة؟ قال: باليأس من فطور القابلة «1» . قيل: من ضبط بطنه ضبط الأخلاق الصالحة كلّها. قيل لسمرة بن جندب: إنّ ابنك أكل طعاما كاد يقتله. فقال: لو مات ما صليت عليه. أنس رضي الله عنه، رفعه:«من السرف أن تأكل كلّ ما اشتهيت» . عائشة رضي الله عنها: «أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشتري غلاما، فألقى بين يديه تمرا فأكل، فأكثر فقال عليه الصلاة والسلام:
المدائني: كانت العرب لا تعرف الألوان، إنما طعامهم اللحم يطبخ بماء وملح، حتى كان زمن معاوية فاتخذ الألوان وتنوّق «2» فيها وما شبع مع كثرة ألوانه
حتى مات، لدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال عليّ رضي الله عنه لرجل من بني ثعلب:
آثرتم معاوية عليّ؟ فقال: لا والله ولكن آثرنا البرّ الأحمر «1» والزيت الأصفر والقسب «2» الأسود. قيل: أوّل من صنع المضيرة معاوية، وكان أبو هريرة يستطيبها ويأكلها عنده في أيام صفين، ويصلّي خلف عليّ فسمي شيخ المضيرة.
أردشير: احذروا صولة الكريم إذا جاع وصولة اللئيم إذا شبع. كان الحسن يكره ذكر الموت على الطعام. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أكل من سقط المائدة عاش في سعة وعوفي في ولده وولد ولده من الحمق» . سئل يوسف بن أسباط عن السمن والعسل فقال: لا بأس إذا كان ثمنهما من حلال. قدّم إلى عبادة رغيف يابس فقال: هذا نسج في أيام بني أمية ولكن محوا طرازه. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الأكل في السوق دناءة» . أمّ سلمة رفعته: «لا تشموا الطعام كما تشمّه السباع» .
الأحنف: جنّبوا مجلسنا ذكر النساء والطعام، فإني أبغض الرجل أن يكون وصّافا لبطنه وفرجه، وإنّ من المروءة أن يترك الرجل الطعام وهو يشتهيه. عن النبيّ صلى الله عليه وسلم:«إذا حضر العشاء والعشاء فابدؤوا بالعشاء» . عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «من أطعم أخاه حتى يشبعه وسقاه حتى يرويه بعّده الله من النار بسبعة خنادق، ما بين الخندقين مسيرة خمسمائة عام» . أنس رضي الله عنه، رفعه:«من لقم أخاه لقمة حلواء صرف الله عنه مرارة الموقف يوم القيامة» . قالوا: الأكل ثلاثة: مع الفقراء بالإيثار، ومع الإخوان بالانبساط، ومع أبناء الدنيا بالآداب» . قال يزيد ابن أبي زياد: ما دخلت على عبد الرحمن بن أبي ليلى إلّا حدّثنا حديثا حسنا وأطعمنا طعاما حسنا. وعن كعب بن مالك: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلعق أصابعه
الثلاث بعد الطعام» . ولا بأس بأن يدخل الرجل بيت صديقه ويأكل وهو غائب، وقد «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم دار بريرة فأكل طعامها وهي غائبة» . عن محمد بن واسع وأصحابه أنهم كانوا يدخلون منزل الحسن فيأكلون ما يجدون بغير إذن، وقد «قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم والشيخان منزل أبي الهيثم بن التيهان وأبي أيوب الأنصاريّ لذلك» . كان الشافعيّ رحمه الله تعالى نازلا بالزّعفرانيّ «1» ببغداد، وكان يرقم «2» كل يوم في رقعة ما يطبخ من الألوان ويدفعها إلى الجارية، فأخذها الشافعيّ وألحق لونا آخر، فعرف ذلك المضيف فأعتق الجارية سرورا بذلك.
وعنه عليه الصلاة والسلام: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه» . تمام الضيافة التطلّق وطيب الحديث. قيل: إكرام الضيف تلقّيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بنفسه في خدمته، وقد جاء في الرواية أنّ الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: أكرم أضيافك. فأعدّ لكل منهم شاة مشويّة، فأوحى الله إليه: أكرم. فجعله ثورا، فأوحى إليه: أكرم. فجعله جملا، فأوحى إليه: أكرم. فتحيّر وعلم أن إكرام الضيف ليس في كثرة الطعام، فخدمهم بنفسه، فأوحى إليه: الآن قد أكرمت الضيف. نزل الشافعيّ بمالك فصبّ بنفسه الماء على يديه وقال: لا يرعك ما رأيت مني فخدمة الضيف فرض.
جعفر بن محمد: أحبّ إخواني إليّ أكثرهم أكلا وأعظمهم لقمة، وأثقلهم عليّ من يحوجني إلى تعاهده في الأكل. وعنه: تتبيّن محبة الرجل لأخيه بجودة أكله في منزله. عليّ رضي الله عنه: لأن أجمع قومي على صاع طعام أحبّ إليّ من أن أعتق رقبة. وعنه رضي الله عنه: إذا طرقك إخوانك فلا تدّخر عنهم ما
في المنزل ولا تتكلّف ما وراء الباب. قيل: إذا طرقت فما حضر، وإذا دعيت فلا تذر. العرب: تمام الضيافة الطلاقة عند أوّل وهلة والملاطفة عند المؤاكلة.
أعرابيّ: مما يزيد في طيب الطعام مؤاكلة الكريم الودود. وكان سنّة السلف أن يقدّموا جملة الألوان دفعة ليأكلوا كل ما يشتهى. حكيم: إذا كان خبزك جيدا وماؤك باردا وخلّك حامضا فلا مزيد. قيل: الكريم لا يحظر تقديم ما يحضر.
يقال: أحضر لإخوانك ما حضر على خوانك.
عن يونس النبيّ عليه السلام أنّ إخوانه زاروه فقدّم إليهم كسرا وجنى لهم بقلا وقال لهم: كلوا ولولا أنّ الله لعن المتكلّفين لتكلّفت لكم. وعن أنس وغيره من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين أنهم كانوا يقدّمون الكسر اليابسة وحشف التمر «1» ويقولون: ما ندري أيهما أعظم وزرا؟ الذي يحتقر ما يقدّم إليه، أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدّمه؟. في الحديث:«ترك الغداء مسقمة، وترك العشاء مهرمة» . قيل لعامر بن قيس: ما تقول في الإنسان؟ قال: وما أقول فيمن إذا جاع فزع وإذا جاع طمع؟. حبس ذو النون فلم يأكل أياما، فبعثت إليه أخت له في الله تعالى طعاما على يد السجّان فلم يأكل وقال: هو حلال، ولكن جاءني على طبق ظالم وأشار إلى يد السجّان.
سئل (فضيل) عمن يترك الطيبات من الحوّارى واللحم والخبيص للزهد فقال:
وما أكل الخبيص؟ ليتك تأكل وتتقي، إن الله لا يكره أن تأكل الحلال إذا اتقيت الحرام، انظر كيف برّك لوالديك، وصلتك للرحم، وعطفك على الجار، ورحمتك للمسلمين، وكظمك للغيظ، وعفوك عمن ظلمك، وإحسانك إلى من
أساء إليك، وصبرك واحتمالك للأذى، فأنت إلى إحكام هذا أحوج منك إلى ترك الخبيص. أمّ سلمة، رفعته:«انهسوا «1» اللحم فإنه أهنأ وأمرأ وأبرأ» .
الحارث بن كلدة: إذا تغدّى أحدكم فلينم على غدائه، وإذا تعشّى فليتخطّ أربعين خطوة. قال لقمان لابنه: كل أطيب الطعام ونم على أوطأ الفراش. أراد: أكثر الصيام وأطل القيام حتى تستطيب الطعام وتستمهد الفراش.
عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «شرّ الطعام طعام الوليمة يدعى إليه الأغنياء دون الفقراء» .
عوتب رجل على ترك إجابة الدعوة فقال: إن الذين قبلكم كانوا يدعون للمؤاخاة والمواساة وأنتم إنما تدعون للمكافأة والمباهاة. شقيق: ما بقيت وليمة ولا مأتم على السنة، ولقد ندمت على الإجابة غير مرّة، ولم أندم على ترك الإجابة مرّة.
يقال: المتزهّد إذا ضاف إنسانا حدّثه بسخاء إبراهيم عليه السلام وإذا ضافه إنسان حدّثه بزهد عيسى عليه السلام وقناعته. ثلاثة تضني: سراج لا يضيء، ورسول بطيء، ومائدة ينتظر لها متى تجيء. قيل: خير الغداء بواكره، وخير العشاء بواصره «2» . وصف لسابور «3» رجل لقضاء القضاء فاستقدمه ودعاه إلى الطعام، فأخذ دجاجة فنصّفها ووضع نصفها بين يديه فأتى عليه قبل فراغ الملك، فصرفه إلى بلده، وقال: إنّ سلفنا كانوا يقولون: من شره إلى طعام الملوك كان إلى أموال الرعايا والسوقة أشره.
الجاحظ: إذا وضع الملك بين يديك شيئا على مائدته فلعله إن لم يقصد كرامتك وإيناسك أن يكون أراد تعرّف صبر نفسك، فبحسبك أن تضع يدك عليه
أو تنتش منه شيئا، وإنما يحسن التبسط مع الصديق والعشير، فأمّا الملوك فيرتفعون عن هذه الطبقة، ومن حقّ الملك أن لا يحدّث على طعامه لا بجدّ ولا بهزل، وإن حدّث فمن حقه أن يصغى لحديثه والبصر خاشع ولا يعارض. دعا ملك رجلا إلى مائدته، فقال: أنا سوقيّ لا أحسن مؤاكلة الملوك، فقال: لتكن أظفارك مقلومة، وطرف كمّك نظيفا، وصغّر اللقمة، ولا تدسم الملح والخلّ «1» ، وكل مع من شئت. كانت ملوك آل ساسان إذا قدّمت موائدهم زمزموا ولم ينطق ناطق بحرف حتى ترفع، فإن اضطّروا إلى كلام أشاروا إشارة.
وضع معاوية بين يدي الحسن بن عليّ رضي الله عنهم دجاجة ففكها فقال له:
هل بينك وبين أمّها عداوة؟ فقال الحسن: هل بينك وبين أمّها قرابة؟. أكل عذريّ مع معاوية فرأى ثريدة كثيرة السمن فحزّها بين يديه فقال: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها
«2» فقال: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ
«3» . رأى محمق زنجيّا يأكل خبز حوّارى فقال: يا قوم انظروا إلى الليل كيف يأكل النهار. كان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: اللهمّ ارزقنا ضرسا طحونا، ومعدة هضوما، ودبرا نثورا «4» . قيل:
إذا قلّ خبز البيت ضاق بأهله
…
وإن كان بيتا واسع الطول والعرض
ويتّسع البيت الصغير لأهله
…
إذا كان فيه الخبز بعضا على بعض
وقيل:
خلق الله للحروب رجالا
…
وخلقنا لقصعة وثريد
وقيل:
إذا صوّت العصفور طار فؤاده
…
وليث حديد الناب عند الثرائد
صوفيّ: من جلس على المائدة فأكثر كلامه غشّ بطنه. قيل لحكيم: أيّ الأوقات أحمد للأكل فقال: أمّا عن قدرة فإذا اشتهى، وأمّا من لم يقدر فإذا وجد. قعد طبيب على مائدة خليفة فطلب الجبن اليابس وقال: إنه يمرىء الطعام ويلذّ الشراب وينقّي الدماغ. فقالوا: ليس بحاضر. قال: دعوه فإنه يفسد الأسنان ويورث النسيان ويثقل اللسان. قال الخليفة: بأيّ الكلامين أعمل؟
قال: بالأوّل إذا وجد، وبالثاني إذا فقد. أكل السلطان محمود مع بعض ندمائه يوما باذنجانا وهو جائع وقال: طعام طيّب، فأفرط النديم في مدحه، ثم شبع السلطان وقال: مضرّ، فبالغ النديم في عدّ مضارّه. فقال: مدحته لي الآن! فقال: أنا نديمك لا نديمه، أتكلّم بما يطيب لك. حثّ رجل رجلا على الأكل من طعامه فقال: عليك تقريب الطعام، وعلينا تأديب الأجسام. قعد صبيّ مع قوم على طعام فأخذ يبكي فقالوا: ما يبكيك؟ قال: حارّ. قالوا: فاصبر حتى يبرد. قال: أنتم لا تصبرون.
قيل لطفيليّ: لم أنت حائل اللون؟ قال: للفترة بين القصعتين مخافة أن يكون قد فني الطعام. قال طفيليّ: ليس شيء أضرّ على الضيف من أن يكون ربّ البيت شبعان. قيل لطفيليّ: فيم لذّتك؟ قال: في مائدة منصوبة، ونفقة غير محسوبة، عند رجل لا يضيق صدره من البلع، ولا يحبس نفسه من الجرع. قصد جماعة من الطفيليين وليمة فقال رئيسهم: اللهمّ لا تجعل البوّاب لكازا في الصدور، دفّاعا في الظهور، طرّاحا للقلانس، وهب لنا رحمته ورأفته وبشره، وسهل علينا إذنه، فلمّا دخلوا تلقّاهم المضيف فقال الرئيس: غرّة
مباركة موصول بها الخصب، معدوم معها الجدب، فلما جلسوا على الخوان قال: جعلك الله كعصا موسى، وخوان إبراهيم، ومائدة عيسى في البركة، ثم قال لأصحابه: افتحوا أفواهكم، وأقيموا أعناقكم، وابسطوا الكفّ، وأجيدوا اللفّ «1» ، ولا تمضغوا مضغ المتعلّلين الشباع المتخمين، واذكروا سوء المنقلب، وخيبة المضطرب، خذوا على اسم الله. قيل لطفيليّ: ما معنى قوله تعالى: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
«2» ؟ قال: أراد أهل القرية، كما نقول: أكلنا سفرة فلان، نريد ما في السفرة. قيل لطفيليّ: من أشعر الناس؟ قال: عبد الله بن المعتز لأنه قال:
ولم أر ديباجا ولم أر سندسا
…
بأحسن في دار الكرام من الخبز
رجل لغلامه: هات الطعام وأغلق الباب. قال الغلام: الواجب أوّلا غلق الباب ثم إتيان الطعام. فقال: أنت حرّ لعلمك بالحزم. أتى طفيليّ باب قوم فحجبوه فاحتال حتى دخل، وهو يقول:
نزوركم لا نكافيكم بجفوتكم
…
إنّ المحبّ إذا لم يستزر زارا
يقرّب الشوق دارا وهي نازحة
…
من عالج الشوق لم يستبعد الدارا
في وصف طفيليّ:
أراك الدهر تطرق كلّ دار
…
كأمر الله يحدث كلّ ليله
كأنك مثل عفريت جريء
…
فتدخل دارنا في ألف حيله
يقال: فلان يحاكي حوت يونس في جودة الالتقام، وثعبان موسى في سرعة الالتهام. جاء الطفيليون إلى وليمة فسدّ الباب، فعلوا على الجدار، فرماهم
صاحب الوليمة وقال: أتنظرون إلى حرمنا وبناتنا قالوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ
«1» . بنان الطفيليّ: حضرت يوما في دعوة بعض الأكابر وعنده طبق لوزية فأخذ بواحدة وأعطاني فقلت: إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ
«2» فأعطاني ثانيا فقلت: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
«3» وثالثا فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ
«4» ورابعا فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ
«5» وخامسا وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ
«6» وسادسا خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
«7» وفي السابع وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً
«8» وفي الثامن وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً
«9» وفي التاسع وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ
«10» وفي العاشر تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ
«11» وفي الحادي عشر إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً
«12» وفي الثاني عشر إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً
«13» ، ثم وضع الطبق بين يديّ وقال: إني أخاف أن تقرأ: وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ
«14» .
وأنشد أبو عمرو:
إنّ أبا عمرة شرّ جار
…
يجرّني في ظلم الصحاري
جرّ الذئاب جيفة الحمار
وأبو عمرة هو الجوع. قيل لأعرابيّ: أتعرف أبا عمرة؟ فقال: كيف لا أعرفه؟ وهو متربّع في كبدي. اتخذ بنو حنيفة إلها من حيس «1» فعبدوه سنين ثم أصابهم مجاعة فأكلوه. دعا يحيى بن أكثم عدوله فقدّم إليهم مائدة صغيرة، فتضامّوا عليها حتى كان أحدهم يتقدّم فيأخذ اللقمة ثم يتأخر حتى يتقدّم الآخر، فلمّا خرجوا قيل لهم: أين كنتم؟ قالوا: كنّا في صلاة الخوف. سئل بعض الظرفاء عن دعوة حضرها فقال: كان كلّ شيء باردا إلّا الماء. بنى بدويّ على أهله ولم يولم، فاجتمع فتيان الحيّ يطوفون بخبائه وهم يقولون: أولم ولو بيربوع، أو بقراد مجدوع، قتلتنا من الجوع. سأل رجل يزيد بن هارون عن أكل المدر قال: حرام، قال الله تعالى: كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ
«2» ولم يقل: كلوا الأرض. قيل لشيخ: ما أحسن أكلك؟ قال: عملي منذ ستين سنة. رأى المغيرة على مائدته رجلا ينهش اللحم ويتعرّق فقال: يا غلام ناوله سكينا.
فقال: سكين كل امرىء في رأسه. قيل لسعد القرقرة وهو مضحك النعمان بن المنذر: ما رأيتك إلا وكنت تزيد شحما وتقطر دما. فقال: لأني آخذ ولا أعطي ولا ألام متى أخطىء فأنا الدهر ضاحك مسرور. (القرقرة: القهقهة)، وهو معدود في الأكلة. قالوا: كلّ طعام أعيد عليه التسخين فهو فاسد، وكل غناء خرج من تحت السبال «3» فبارد. شرب أعرابيّ نبيذا عند الموصلي فقال:
شربنا شرابا طيّبا عند طيّب
…
كذاك شراب الطيبين يطيب
شربنا وأهرقنا على الأرض فضلة
…
وللأرض من كأس الكرام نصيب
قيل لبعض العرب: ما أمتع لذات الدنيا؟ قال: ممازحة الحبيب بلا رقيب.
قيل:
طوبى لمن عاش عشر يوم
…
له حبيب بلا رقيب
قيل لسقراط: أيّ الأشياء الذّ؟ قال: استفادة الأدب، واستماع أخبار لم تسمع. أفلاطون: إذا أردت أن تدوم لك اللذة، فلا تستوف الملتذّ به بل دع فيه فضلة. قيل: ما فات مضى وما سيأتيك فأين؟ قم فاغتنم اللذة بين العدمين «1» .
بعضهم:
اسكن إلى سكن تلذّ به
…
ذهب الزمان وأنت منفرد
أفلاطون: ما ألمت نفسي إلّا من ثلاث: من غنيّ افتقر، وعزيز ذلّ، وحكيم تلاعبت به الجهّال. والله سبحانه وتعالى أعلم.